رواية قلب السلطة الفصل السابع والعشرون 27 بقلم مروة البطراوي


 رواية قلب السلطة الفصل السابع والعشرون 

لم تتحرّك ليلى من مكانها، كأن الأرض جذبت قدميها بقوة لا تُرى. الأوراق مبعثرة أمامها، والهاتف صامت لكنه ما زال يثقل الجو بما تركه من أثر. نظرت إلى رائد تبحث في عينيه عن مخرج، لكنه ظلّ ساكنًا، كجبلٍ يُخفي خلف صلابته عاصفةً لا تهدأ.

ــ "رائد… قولّي إيه اللي بيحصل؟"
جاء صوتها مرتجفًا، أقرب إلى رجاء منه إلى سؤال.

أجابها ببرودٍ محسوب، كمن يعرف أن كل كلمة منه تُحسب بالميزان:
ــ "مش وقته يا ليلى… لسه في حاجات لازم تتكشف قبل ما تفهمي الصورة كاملة."

مدّ يده وجمع الأوراق ببطء، وكأنه يخشى أن يلتقطها الهواء فيفضح أسرارها قبل أوانها. ثم رفع نظره نحوها بابتسامة غامضة، نصفها اطمئنان ونصفها تحذير:
ــ "بس اللي متأكد منه… إنك دلوقتي جزء من اللعبة، سواء رضيتِ أو ما رضيتِ."

ارتجفت ليلى، شعرت أن الغرفة تضيق عليها، وأن الجدران تُصغي لنبضها المتسارع. شيءٌ ما في الجو كان يوحي بأن القادم لن يمنحها فرصة للعودة إلى الوراء، وأن الباب الذي فُتح لن يُغلق إلا بعد أن يُكمل دوره.

وفجأة، دقّ باب المكتب ثلاث طرقات متتالية، متزنة لكن مشوبة بعجلة، لتعلن بداية فصلٍ آخر من المجهول…

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

ثلاث طرقات متتابعة حطمت الصمت، تبعتها لحظة قصيرة من ترقّب. تبادل رائد وليلى النظرات، قبل أن يرفع رائد صوته بثبات:
ــ "ادخل."

فتح الباب رجل ضخم، ببدلة أنيقة قاتمة، ملامحه جامدة لا تفصح عن شيء. كان أحد رجال رائد المقرّبين، ممن لا يظهرون إلا في الأوقات الفاصلة.
اقترب بخطوات محسوبة، ثم انحنى قليلًا ووضع ملفًا جديدًا على الطاولة، فوق الأوراق المبعثرة، كأنه يضيف طبقة أخرى من الغموض.

ــ "سيدي… المستندات اتأكدنا من صحتها. واللي بعت الرسالة… لسه بيتتبع خط سيرك."

تشنجت ملامح ليلى، حاولت أن تستوعب المعنى، لكن الغموض ازداد كثافة. التفتت إلى رائد تنتظر تفسيرًا، إلا أن نظرته بقيت محايدة، متحكمة كعادته.
ــ "سيب الملف… واطلع."

انحنى الرجل في احترام، وغادر بهدوء كما جاء، تاركًا وراءه أثرًا من القلق.

أمسك رائد الملف الجديد دون أن يفتحه، ثم ألقى به بجانب الظرف الأول، ورفع بصره إلى ليلى كأنما يتعمد إطالة لحظة الانتظار:
ــ "شايفة يا ليلى؟ حتى القريب بقى بعيد… وحتى اللي معايا، ما يعرفش نص الحقيقة."

تسارعت أنفاسها، وكأنها أمام لغزٍ تتساقط قطعُه ببطء، لا تمنحها إجابة، بل تثير مزيدًا من الأسئلة.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

ظلّ الملف مسندًا على الطاولة، كضيف ثقيل يفرض وجوده، لكن لا أحد يجرؤ على لمسه.
عين ليلى لم تفارقه، كأن أوراقه تُصدر همسًا لا يسمعه سواها. شعرت بأن الكلمات المكتوبة داخله أثقل من جدران الغرفة، وأن فتحه قد يغيّر مصيرها إلى الأبد.

أما رائد، فبقي جالسًا في مكانه، ذراعه مستندة على حافة الكرسي، ونظره مُعلّق عليها، لا على الملف. كان هدوؤه قناعًا يخفي ما تحت السطح، وكأن معركة كاملة تدور داخله دون أن ينطق بكلمة.

تململت ليلى في مقعدها، أرادت أن تسأله، أن تُجبره على كشف ما يخفيه، لكن لسانها انعقد. لم يبقَ سوى صوت عقارب الساعة، تتساقط ثوانيها فوق صدرها كالحجارة.

وفجأة… انطفأت الإضاءة للحظة خاطفة، كأن الظلام نفسه أراد أن يشاركهم اللعبة، ثم عادت الأضواء، ليبقى الملف في مكانه، أكثر غموضًا من ذي قبل، وأشد ثقلًا على صدريهما.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

بقي الملف على الطاولة، ساكنًا لكنه يضغط على كل نفس يتردد في الغرفة. ليلى تتأمله كأنها على وشك أن تمد يدها، لكن شيئًا خفيًا كان يمنعها. ورائد… ثابت لا يتحرك، كأن الزمن توقف عنده.

لكن فجأة… صرير الباب قطع هذا الصمت.
لم يكن أحد رجال رائد هذه المرة، بل وجه آخر لم تتوقعه ليلى أن تراه هنا.
امرأة، ملامحها حادة كحد السكين، ترتدي معطفًا داكنًا يضفي عليها هيبة غريبة، وخطواتها ثابتة كأنها تعرف أن وجودها وحده كفيل بخلط كل الأوراق.

تجمّدت ليلى في مكانها، عيناها تراقبان القادم الجديد بدهشة وارتباك، بينما رائد لم يبدُ عليه أي اندهاش، فقط انحنى قليلًا في مقعده، كأن دخولها كان متوقعًا.

ابتسمت المرأة ابتسامة باهتة، ثم قالت بصوت هادئ، لكنه نافذ:
ــ "واضح إن الوقت ما بقاش في صالحك يا رائد… حتى الملف ده، مش هينفع تخبيه أكتر من كده."

ارتجف قلب ليلى، وكأن الكلمات لم تكن موجهة لرائد وحده، بل إليها أيضًا.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

دخلت المرأة كأنها صاحبة المكان، لم تنتظر إذنًا، ولم تلقِ التحية. وقفت أمام الطاولة، نظرت إلى الملف ثم إلى رائد بعينين ثابتتين لا تهتزّان.

ليلى التفتت نحوه في ذهول:
ــ "مين دي؟"

لكن رائد لم يُجبها، بل ظل يراقب المرأة في صمت، كمن يعرف أن الكلام معها لا يُختصر في تعريف عابر.

رفعت المرأة يدها، وأخرجت من حقيبتها الصغيرة بطاقة تعريف داكنة اللون، عليها ختم غريب لا يشبه أي جهة مألوفة. وضعتها بجانب الملف قائلة:
ــ "أنا ماجدة… ومهمتي من النهارده تبدأ معاك. الملف ده ما عادش ملكك لوحدك يا رائد، دلوقتي بقى جزء من خطة أكبر… وصدقني، اللي جوّاه مش أقل خطورة من اللي لسه هتشوفه."

سرت قشعريرة في جسد ليلى، أحست أنها انتقلت فجأة من لعبة غير مفهومة إلى حرب تُدار خلف ستائر كثيفة، حرب لا تعرف أين ستضعها في النهاية.

ابتسم رائد نصف ابتسامة، تلك الابتسامة التي تعرفها ليلى جيدًا، ابتسامة تحمل في طياتها التحدي والرفض معًا، ثم قال بصوت منخفض لكنه واثق:
ــ "لو اللعبة اتغيرت… يبقى القواعد هتتكتب من جديد. بس على طريقتي."

سادت لحظة صمت متوتر، قبل أن ترد ماجدة بابتسامة أكثر غموضًا:
ــ "ده اللي هنشوفه."

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

وقفت ماجدة لحظة صامتة، عيناها تتنقلان بين رائد وليلى، قبل أن تمد يدها وتغلق الملف بخفة، كأنها تُعلن أنها صاحبة اليد العليا الآن. ثم استدارت لتغادر، لكن عند الباب توقفت فجأة.

التفتت نحو ليلى مباشرة، نظرتها اخترقتها كالسهم، ثم همست بنبرة باردة لكنها مشبعة بالمعنى:
ــ "مش كل الأسرار بتتكتب على الورق… في أسرار بتتعلق بالدم."

ثم ابتسمت ابتسامة غامضة، وغادرت ببطء، تاركة وراءها فراغًا يملؤه الخوف والفضول.

تسمرت ليلى مكانها، وكأن الكلمات التصقت بذاكرتها، تهز كيانها أكثر من أي ورقة أو صورة. رفعت عينيها المرتبكتين نحو رائد، تبحث عن تفسير، لكنه لم يقل شيئًا… فقط أشعل سيجارة جديدة، وأطلق دخانها في الهواء، تاركًا الغموض يزداد ثِقلاً.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

ظلّت ليلى غارقة في صدى كلمة "الدم"، عيناها معلقتان بالباب المغلق خلف ماجدة، بينما رائد انحنى للأمام، أطفأ سيجارته بقوة في الطفاية، ثم أمسك بالهاتف الموضوع على الطاولة.

ضغط أرقامًا سريعة، وصوته خرج ثابتًا، لا يشوبه ارتباك:
ــ "عايز كل الفريق يتجمع خلال ساعة… في المكتب الرئيسي. ومحدش يتحرك خطوة من غير أوامري."

توقف لحظة، كأن عقله يسبق كلماته، ثم أضاف بصرامة:
ــ "وبالنسبة للي بعت الرسالة… عايز أوصاله قبل ما يوصلني. بأي ثمن."

أغلق الخط دون انتظار رد، وألقى الهاتف جانبًا. التفت نحو الملفين الملقى أحدهما فوق الآخر، لم يفتحهما، لكنه مد يده وثبّتهما أسفل يده كما لو كان يسيطر عليهما بالقوة.

ليلى همست بصوت واهن، تحاول اقتحام صمته:
ــ "رائد… إنت بتخطط لإيه؟"

رفع رأسه نحوها، نظرة عينَيه كانت حادة كحد السيف، لكن صوته ظل هادئًا:
ــ "أنا بخطط… إن اللعبة ما تكونش ضدّي."

وقف من مقعده، عدّل من بدلته بخطوات محسوبة، ثم مضى نحو الباب.
التفت إليها في آخر لحظة، نظرة خاطفة حملت ما بين التهديد والوعد:
ــ "خليكي مستعدة يا ليلى… اللي جاي مش هيرحم حد."

وغادر، تاركًا خلفه فراغًا يملؤه الملفان وكلمة "الدم" التي ما زالت تنخر في روح ليلى كالسهم.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

حلّ الليل، وعاد "رائد" بعد ساعاتٍ من الانشغال والاتصالات. كان وجهه متماسكًا كعادته، لكن في عينيه بريق قلقٍ متواري خلف صلابته. جلس الجميع على المائدة، تناولوا الطعام في صمتٍ ثقيل، كأن كل واحد يخشى أن تفضحه نظراته.

وما إن انتهوا من الطعام، حتى نهض "رائد"، مشيرًا بيده بثقةٍ لا تحتمل نقاشًا:
ــ "تعالوا نشرب قهوتنا برا في البلكونة… الجو محتاج نفس واسع الليلة."

تحركوا جميعًا إلى الخارج، حيث تسلل النسيم البارد يداعب الوجوه المتعبة. جلست "نيفين" بجوار "رائد"، بينما اختارت "ليلى" أن تظل واقفة عند السور، عيناها معلقتان بالبعيد، يحمل بريقهما خليطًا من الخوف والحزن.

اقترب منها "رائد"، صوته خرج همسًا خافتًا:
ــ "مستنية إيه؟"

لم تلتفت، فقط شدت وشاحها حول كتفيها، وهمست بصوت مبحوح:
ــ "مستنية نفسي ترجع… لو كانت لسه موجودة."

تأملها طويلًا، كأنه يقرأ سطورها المخفية، ثم قال بخشونةٍ مموهة بعطفٍ نادر:
ــ "خليكي هنا… كل حاجة هتتزبط."

ابتسمت بسخريةٍ مرة، وعيناها ما زالتا معلقتين بالأفق:
ــ "مش كل حاجة بتتزبط يا باشا… في حاجات بتتكسر، ومهما عملت، عمرها ما هتلحم تاني."

مد يده ببطء، وضعها على كتفها بخفة، صوته خرج صارمًا لكنه يحمل وعدًا دفينًا:
ــ "أنا مش هسمحلك تكسري… فاهمة؟"

ارتجفت أنفاسها، أرادت أن تصرخ أو تبكي، لكنها اكتفت بإيماءةٍ صامتة، موجعة أكثر من أي كلمات.
ظل المشهد معلقًا بينهما… صمتٌ يتحدث نيابة عن كل ما لم يُقال، وأسرارٌ أثقل من أن تُفتح الآن.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

بعد رحيل "شامل"، ظل الصمت يلف المكان، كأن الجدران تخاف أن تُصدر أي صوت. توتر الجو ما زال معلقًا في الهواء، ورائحة الغضب لم تتبدد بعد. في زاوية بعيدة عن الأعين، كان "أوس" جالسًا متكئًا على الكنبة، وجهه متورم قليلًا، وشفتيه متشققتين من أثر الضربة.

اقتربت منه "نيرفانا" بخطوات مترددة، عيناها محمرتان من الدموع التي حاولت كتمها أمام الجميع. جلست بجواره، ثم مدت يدها تتحسس وجهه المرتجف، وصوتها خرج متهدجًا:
ــ "أوس… إنت كويس؟!"

أجبر نفسه على ابتسامة واهنة، وهمس بصوتٍ بالكاد يخرج من بين شفتيه المكدومتين:
ــ "نيرفانا… أنا كويس يا حبيبتي… بليز، ماتعيطيش."

لم تتحمل، اقتربت منه أكثر، والدموع انزلقت من عينيها رغمًا عنها:
ــ "شامل ده متوحش… مش إنسان! 

ضحك "أوس" ضحكة متهالكة، ممزوجة بالمرارة أكثر من أي شيء:
ــ "ده كده كان بيطبطب عليا… بالمقارنة برائد بيه. إنتي ما شفتيش أبوكي عمل فيا إيه يوم خطفك
بصراحة… أنا انتفخت من العيلة دي. حاسس إني عمري قصير وأنا حواليكم."

شهقت "نيرفانا" بمرارة، ثم ألقت بنفسها في أحضانه، تضمه بقوة كأنها تخشى أن يتلاشى من بين ذراعيها:
ــ "محدش يقدر يعملك حاجة تاني… ماتخفش، أنا معااك."

ربت على ظهرها بيده المرتعشة، وهمس بنبرة حانية رغم ألمه:
ــ "أنا مش خايف… وماتقلقيش. أهم حاجة إن باباكي  في صفنا

رفعت رأسها تنظر إليه بعينين دامعتين، ثم مسحت دموعها بكم كنزتها، وقالت بإصرار:
ــ "أيوه، عندك حق…   

ثم أردفت بغضبٍ مكتوم:
ــ "بس شامل ده… أنا مش هسكتله! لازم أخلي دادي يطرده."

أسرع "أوس" بالكلام، صوته متوتر كأنه يخشى ما قد تفعله:
ــ "لأ يا حبيبتي… الله يخليكي، ما تفتحيش الموضوع تاني.  باباكي  في صفنا المرة دي… ماينفعش نخسره."

زمت "نيرفانا" شفتيها بعنادٍ طفولي، قبل أن تتنهد في النهاية، وتقول باستسلام:
ــ "أوك… عشان خاطرك. بس بعيد عني… أنا مش هكلمه خالص."

ابتسم "أوس" ابتسامة واهنة، وقال بخفةٍ يحاول أن يخفف بها الجو:
ــ "ماشي يا ستي… طب ممكن تمدي إيدك الجميلة في جيب البنطلون، وتطلعيلي موبايلي؟ مش قادر أروح  وأنا كده."

نظرت إليه بجديةٍ مغموسة بالقلق، ثم قالت برجاءٍ طفولي:
ــ "خليك هنا النهاردة… نام هنا… دادي مش هيقول حاجة."

ضحك بخفوت وهو يهز رأسه:
ــ "لأ ونبي… عايز أروّح من بيت الرعب ده. لو قعدت شوية كمان… هموت!و لا اتسجن تاني .

شهقت بخوف، وضمت وجهه بين كفيها:
ــ "بعد الشر عنك، يا حبيبي!"

ابتسم لها بحبٍ صادق، وهمس وهو يمرر يده في شعرها:
ــ "إنتي حياتي… يا مزتي الجميلة."

ضحكت رغم ألمها، وردت بدلالٍ طفولي:
ــ "وأنا بحبك أكتر من أي حد."

رفع حاجبه، وسأل بمرحٍ متهالك:
ــ "أكتر من بابا؟"

ابتسمت بثقة، وشبكت أصابعها في أصابعه:
ــ "أكتر من بابا… ومن أي حد في العالم كله."

ساد بينهما صمت دافئ، لحظة مسروقة من وسط الفوضى. لحظة بدت كأنها أمان مؤقت، قبل أن يذكّره "أوس" بخفة:
ــ "طب هاتي الموبايل، قبل ما أبوكي يفتكرني خطفتك!"

ضحكت بخفة، وأخرجت هاتفه بحركة مرحة:
ــ "حاضر… بس ما تتأخرش عني."

أخذ الهاتف منها، اتصل بسائق تاكسي بصعوبة، بينما عينيها لم تفارقه، نظرة مفعمة بالحب والقلق في آنٍ واحد. في تلك اللحظة، بدا لهما أن العالم كله قد انكمش، ولم يبقَ فيه إلا قلبان صغيران… يخفقان بالحب، والخوف مما سيأتي.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

بعد أن خفت الضحكات المصطنعة على الطاولة، وانشغل كل واحد بإخفاء ما يدور في صدره، كان "مهاب" واقفًا بعيدًا قليلًا، كأنه يبحث عن زاوية آمنة يتوارى فيها. عيناه لم تفارقا السيد صالح، الذي جلس بهدوء مهيب، تتحرك أنامله على الطاولة بخفة غريبة، كأنها ترسم خطوطًا في الهواء لا يراها أحد سواه.

شعر "مهاب" أن المشهد قد خرج عن المألوف. تسللت إلى نفسه أسئلة لا حصر لها:
ــ "هو شايف إيه بالظبط؟! المناظر دي طالعة منين؟! هل ممكن يكون بيشوف بعين غير عينينا؟!"

اقترب خطوة، كأن خيطًا خفيًا يشده إلى تلك الأصابع، همس لنفسه بصوت واهٍ:
ــ "يمكن بيحلم… يمكن قلبه هو اللي بيشوف!"

لم يلتفت السيد في البداية، كأنه غارق في صمته، يحاور شيئًا غير مرئي. ثم رفع رأسه فجأة، بعينين عميقتين يختلط فيهما الصفاء بالغموض، وقال بهدوء يقطع الصمت:
ــ "مالك واقف ساكت كده يا مهاب؟ مش عاوز تسألني؟"

ارتبك مهاب، ترددت كلماته على لسانه قبل أن ينطق:
ــ "بصراحة… أنا مش فاهم. إنت بتشوف إيه وإحنا بنشوف إيه؟! المناظر اللي قدامك مش زي الدنيا حوالينا."

ابتسم السيد صالح ابتسامة خفيفة، كأن السؤال لم يفاجئه، ثم رد بنبرة تحمل الحكمة:
ــ "العين مش كل الحكاية يا ابني… القلب هو اللي بيشوف، والخيال هو اللي يكمل الصورة."

ازدادت حيرة مهاب، لكنه تمسك بخيط الرجاء:
ــ "يعني إنت بتشوف بعين تانية؟… بعين القلب؟"

ضحك السيد ضحكة قصيرة دافئة، وقال:
ــ "قلب الإنسان لما ينضف ويتصفى… يشوف اللي غيره مش شايفه. يشوف الحلم جوه الحقيقة… والحقيقة جوه الحلم."

ارتعشت أنفاس مهاب وهو يحاول استيعاب المعنى، كأن الأرض تحت قدميه تغيرت. أشار السيد بيده نحو الأفق من النافذة، صوته يشبه التراتيل:
ــ "شايف هناك؟… فوق التلال؟"

شد مهاب نظره، فلم يرَ إلا سرابًا متموجًا. تمتم باعتراف صادق:
ــ "مش شايف حاجة يا سيدنا."

ابتسم السيد وهو يحدّق بعيدًا:
ــ "لما تيجي في يوم وتبص بعين القلب… ساعتها هتشوف كل حاجة."

ساد بينهما صمت ثقيل، لم يقطعه سوى حفيف النسيم العابر. شعر مهاب أن الغرفة نفسها تحبس أنفاسها، كأنها تنتظر من يجرؤ على الرؤية الحقيقية. في داخله تساءل:
ــ "يا ترى… اليوم ده هييجي؟ ولا دي أبواب مش مفتوحة لكل الناس؟"

لكنه لم يتكلم، وظل واقفًا في ظل السيد صالح… بين الحقيقة التي يراها الجميع، والحلم الذي لا يعرف طريقه إلا القليل.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

بعد أن تفرّق الجميع وعمّ الصمت في أرجاء القصر، صعدت "ليلى" بسرعة إلى الطابق العلوي. ما زالت كلماته في البلكونة ترن في أذنها: "أنا مش هسمحلك تكسري." شعرت أن كل خلية في جسدها تتمرد، لكن عجزها كان أعتى من غضبها.

أغلقت باب الغرفة خلفها بعنف، وألقت بنفسها على الأريكة الصغيرة، تسحب الغطاء فوقها كأنها ترسم جدارًا وهميًا يحميها من اقترابه.

لم تمض دقائق حتى فتح الباب بهدوء مقصود، ودخل "رائد". وقف للحظة يراقبها بنظرة متفحصة، ثم ابتسم ابتسامة مائلة تحمل في طياتها السخرية:
ــ "إنتي بتعملي إيه هنا يا حبيبتي؟"

شددت الغطاء حتى ذقنها، ونطقت بحدة:
ــ "من النهارده هنام هنا. مش عايزة أي احتكاك بيني وبينك… وأحسنلك ما تكلمنيش وإحنا لوحدنا."

اقترب بخطوات واثقة، انحنى قليلًا وهمس في أذنها:
ــ "الكنبة دي صغيرة وناشفة قوي عليكي… وأنا ما بعرفش أنام بعيد عنك."

شهقت، شدّ غضبها أنفاسها، فصرخت:
ــ "ابعد عني! أنا مش هتحمل أكتر من كده… والله هــنفجر!"

ضحك بخفة، ضحكة استفزازية كالسوط:
ــ "بعد الشر عليكي يا حياتي… بس لو هتنفجري، انفجري في حضني."

وبحركة مباغتة، انقضّ عليها، رفعها عن الكنبة بسهولة كأنها لا تزن شيئًا. صرخت وهي ترفس الهواء وتلكمه بيديها على صدره:
ــ "إنت بتعمل إيه؟!"

أجاب ببرود وهدوء مرعب:
ــ "بعمل الصح… معقول أسيب مراتي تنام بعيد عني وإحنا لسه في شهر العسل؟"

ألقاها على السرير، جلس بجوارها، وصوته صار أشبه بالتحذير:
ــ "بليز خليكي هادية الليلة… مامتك نايمة هنا في القصر. مش ناقص فضايح تاني زي إمبارح."

تجمّدت الكلمات في حلقها، عضّت شفتها السفلى بقسوة تكتم غليانها. هو مد يده يدلك عنقها بحركة تحمل مزجًا غريبًا بين الحنان والسيطرة.

تمتمت بنبرة مشتعلة، والدموع تلمع في عينيها:
ــ "إنت لو عندك ذرة كرامة… كنت بعدت عني. إنت جبلة ما بتحسش!"

ابتسم ببرود لاذع، وعيناه تعلقان بعينيها:
ــ "بالظبط… جبلة وما بحسش. وده اللي مخليكي لسه هنا معايا."

ارتجفت، لكنها تشبثت بكرامتها، همست بغضب:
ــ "مش هرتاح غير لما أشوفك مذلول… نهايتك على إيدي، وده وعد."

ضحك بثقة لم تهتز:
ــ "أوك… هديكي الفرصة. لو عندك دليل واحد ضدي، بلّغي عني. لكن الليلة… في دليل تاني لازم تشوفيه."

ثم جذبها بين ذراعيه بقوة، ألصق شفتيه بوجنتها ثم شفتيها، يهمس فوق خصلاتها:
ــ "إنتي ملاكي… ومش هاسمحلك تكسري. عمري."

ظلت عيناها مغمضتين، تحاول أن تدفن اللحظة كلها في ظلام النسيان… لكن حضوره كان طاغيًا، أثقل من أن يُمحى.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

شدها بين ذراعيه بقوة، يطبع قبلاته على وجنتها ثم شفتيها، وصوته يلهب أذنها بالهمس:
ــ "إنتي ملاكي… ومش هاسمحلك تكسري. عمري."

أطبقت جفنيها بقسوة، تتوسل لصمتٍ داخلي أن يبتلع وجوده، لكن عبثًا… كان حاضرًا كالشمس في كبد النهار، لا يختفي ولا يلين.

ظلّت تتشنج بين يديه، حتى خارت قواها، بينما ضحكته الخافتة تتردد في الغرفة، تلتصق بالجدران كما لو كانت ختمًا لا يمحى.

ارتجفت شفتاها بكلمة مكتومة لم تجرؤ على إطلاقها، وسال دمعها على الوسادة صامتًا، وحينها فقط أدركت:
أنها سجينة، ليست في القصر… بل في حضنه.

وتأسّف الليل على نفسه، وهو يغلق ستائره الثقيلة على الغرفة، تاركًا المشهد الأخير… صراعًا مكتومًا بين ملاك مقيد، وشيطان لا يعرف الرحمة.

ستارة.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

استيقظت "ليلي" على خيوط الشمس المتسللة بخبث من بين ستائر الغرفة الثقيلة. كانت عيناها متورمتين من البكاء، وشفتيها ما تزالان تحملان أثر معركة ليلية لم تختَر أن تخوضها.

حاولت أن تنهض بهدوء، لكن يده الثقيلة كانت قد استقرت فوق خاصرتها، تثبتها كقيدٍ لا يُكسر. التفتت إليه في غيظٍ صامت… كان نائمًا بملامح مطمئنة، كطفلٍ غارق في أحلامه، بينما هي تغرق في كوابيسها.

همست في نفسها:
ــ "إزاي ينام كده؟! كأنه ما عملش حاجة…"

وقبل أن تتحرك لتزيح يده، فتح "رائد" عينيه فجأة، نظر إليها بابتسامة نصف نائمة، وقال بصوته الأجش:
ــ "صباح الخير يا ملاكي… شكلك مصدعة شوية."

ابتلع ابتسامته الباردة، ثم مد يده يرفع خصلة شعر عن وجهها، وأكمل بهدوء آسر:
ــ "أنا محتاج أشوفك بتضحكي أول ما تفتحي عينيكي… دي أوامر."

ارتجفت أنفاسها، بين الغضب والانكسار، بينما هو جلس في سريره واعتدل ببطء، كأنه يملك الأرض وما عليها.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
مدّ "رائد" يده إليها، أمسك بذقنها برفقٍ مُصطنع، ورفع وجهها ليقابل عينيه مباشرة.
قال بنبرة آمرَة، لكنها مُغلفة بلمسة من الحنان:
ــ "إوعي تنزلي تفطري مع ماما  بالشكل ده. امسحي دموعك الأول… إنتي مراتي، ولازم يبان عليكي إنك بخير."

حاولت أن تزيح يده، لكنها وجدت أصابعه أقوى من مقاومتها. همست بمرارة مكتومة:
ــ "أنا مش بخير… ومش هبقى بخير طول ما إنت موجود."

ضحك بخفة، كأن كلماتها مداعبة لا تهديد، ثم جذبها ناحيته فجأة، حتى ارتطمت بكتفه العريض، وقال بصوت منخفض عند أذنها:
ــ "ممكن تلعبي دور المتمردة قدام نفسك زي ما تحبي… بس أنا الوحيد اللي عارف الحقيقة: إنتي مش قادرة تبعدي عني."

ارتجفت، وشعرت بحرارة أنفاسه تخترق جلدها، فدفعت صدره بكل ما أوتيت من قوة. تراجع نصف خطوة، لكنه لم يتركها، بل أمسك بمعصمها بقوةٍ لافتة، ثم ابتسم ابتسامة مشبعة بالثقة:
ــ "إوعي تفتكري إنك تقدري تهربي… ده بيتك، وأنا مالك مفاتيحه."

صاحت بانفعال مكتوم، محاولة افتكاك يدها:
ــ "سيبني يا رائد! إنت خانقني… أنا مش لعبة في إيدك!"

اقترب أكثر، حتى شعرت بظله يبتلعها، وقال بخشونةٍ دافئة:
ــ "لأ، إنتي مش لعبة… إنتي أغلى حاجة عندي. عشان كده مش هفرّط فيكي أبداً."

ثم، في لحظةٍ خاطفة، رفعها من على الأريكة كما لو كانت ريشة، وألقاها فوق السرير، مثبتًا جسده فوقها دون أن يترك لها مساحة للحركة.
عيناه كانتا تتوهجان بلهيب السيطرة، بينما هي تغالب دموعها، تدرك أن كل مقاومة لا تزيده إلا إصرارًا.

همس في أذنها وهو يضغط على معصميها ليلصقها بالوسادة:
ــ "كل مرة تقاومي… بتخليكي غالية عندي أكتر."

كانت أنفاسها متقطعة، بين الخوف والغضب والاضطراب… لكنها أدركت أن المعركة لم تنتهِ بعد، بل بدأت للتو.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

جمدت يقين في مكانها، مصعوقة لا تكاد تصدّق ما تسمعه. ارتسمت على وجهها ملامح ذهول ممتزج بمرارة القهر، ثم انفجرت صارخة بصوت يقطر ألمًا:

ــ "يعني إنت رايق وبتخطب لبنتك، وأنا أرمي نفسي في ستين داهية؟!
بنتك اللي خربت حياتي، وضيعت أعزّ أصحابك، ولحستلك عقلك يا رائد!"

تجمّد رائد لحظة، ثم هدر صوته الغاضب، كأنه الرعد:

ــ "يقين! اكتمي خالص! بتعلي صوتك عليا؟ احمدي ربنا إنك أختي، ولا كان زمانك مدفونة مطرحك!"

ارتجف الجو بينهما، لكن يقين لم تتراجع، بل رفعت رأسها متحدية، وقالت بحزم يشبه السيف:

ــ "أنا قررت، يا رائد… أنا هتجوز شامل."

تسمرت ملامحه، صوته خرج متقطعًا بين الغضب والخذلان:
ــ "هتتجوزوه؟! من غير ما تفكري في اللي حواليكي؟! شامل ده خطر… مش بس على قلبك، على حياتك كلها!"

اقتربت منه خطوة، وجهها يلمع بالإصرار:
ــ "يمكن تشوفه خطر… لكن أنا شايفة فيه اللي يحميني ويقف جنبي. مش زيك… تتحكم وتخنق."

تنفس رائد ببطء، كل كلمة منها تصفعه، ثم صرخ أخيرًا:
ــ "فاكرة إن الحب كفاية؟! إنك تختاري وخلاص؟! كل خطوة ليها ثمن، يا يقين!"

أجابته بثقة، عيناها لا تهتزّان:
ــ "عارفة… ومستعدة أدفع ثمن اختياري."

وقف رائد مشدوهًا، مدركًا أن صلابتها أقوى من كل محاولاته لردعها. بدا كأنه يبتلع الهزيمة، لكنه ترك تحذيره يتسرب بنبرة ثقيلة:
ــ "خدي بالك… اللعبة اللي دخلة فيها مش سهلة."

لم ترد. اكتفت بابتسامة قصيرة، مزيج من التحدي والمرارة، ثم أدارت ظهرها وغادرت بخطوات حاسمة، كأنها تمشي نحو مستقبل رسمته بيديها.

ظل رائد واقفًا، عينيه تلاحقها، قلبه يختلط فيه الغضب بالخوف، والخذلان باعتراف صامت: أنه لم يعد قادرًا على التحكم في إرادتها.

...
وفي تلك اللحظة، في  زاوية الغرفة المجاورة ، حيث جلست "نيرفانا" صامتة، تتابع كل ما حدث بعينين متسعتين. كان قلبها يخفق بعنف، كأنها التقطت للتو الخيط الذي سيغيّر كل شيء.

انحنت قليلاً، أطبقت شفتيها على ابتسامة غامضة، وعيناها لمعتا بتصميم طفولي ممزوج بدهاء خفي.
همست مع نفسها بصوتٍ لا يسمعه سواها:

ــ "ما دام لسه في وقت… يبقى لسه في أمل."

ثم أمالت رأسها برفق، وأطلقت نظرة جانبية نحو الباب الذي خرجت منه يقين، قبل أن تعود لتغرس عينيها في وجه أبيها الغارق في صمته الثقيل.
في داخلها كانت الخطة تنسج خيوطها الأولى… خطة لن يتوقعها أحد.

---

💜 قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

---
مع أول خيوط الصباح، بدا البيت وكأنه يلتقط أنفاسه بعد ليلة من العواصف.
الممرات ساكنة، لكن خلف الأبواب المغلقة، كل قلب يغلي على طريقته.

في غرفة نيرفانا، جلست أمام المرآة، تمشط شعرها ببطء غير معتاد، وعيناها تائهتان في انعكاسها. لم تكن تفكر في شكلها بقدر ما كانت ترسم في ذهنها خطوط خطة صغيرة… خطة لم تجرؤ بعد على البوح بها.

مدّت يدها إلى درج المكتب، أخرجت ورقة صغيرة، طوتها بعناية، ثم خبأتها في حقيبتها المدرسية. ابتسمت ابتسامة واهنة، تحمل في طياتها شيئًا من البراءة… وشيئًا آخر لم يعرفه أحد.

تعليقات