رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثالث والتسعون
لم تهتزّ **سيرين** وهي تقرأ الأخبار المتداولة على الشاشات؛ كأن الضجة كلها لم تكن تعنيها من قريبٍ أو بعيد… لم يَعُد الأمر يستحق أن يسلبها راحة قلبها… ما يشغلها اليوم هو أن تُمسك بخيوط حياتها، أن تبقى واقفة في وجه العاصفة غير آبهة بما يتساقط حولها من حطام… صحيحٌ أنّها لم تفلح في الحصول على الطلاق لكن بعد أن غرق **ظافر** في عتمة العمى وضباب النسيان، صار الطريق مفتوحًا لها لتغادر لذا قررت أن تشدّ الرحال إلى الخارج لتلتقي **فاطمة** وأولادها:
**نوح** و**زكريّا**.
لكن في الليلة السابقة لسفرها جاءها اتصالٌ كصفعةٍ باردة على خدّها… كان صوت **كارم** عبر الهاتف جادًا، متوترًا، والكلمات تخرج من بين شفتيه بصعوبة:
“سيرين… **فاطمة** في المستشفى.”
ارتجف قلب سيرين وانقبض صدرها كزهرة داستها قدمٌ غليظة.
“ماذا حدث؟” سألت بصوتٍ متقطع.
أجاب **كارم** بعد تنهيدةٍ ثقيلة:
“الطبيب يقول إنها تعاني أمراضًا شائعة بين كبار السن… لكن الفحوصات كشفت ظلًّا غريبًا في رئتيها يُرجّح أنّه خلل خطير.”
ثم صمت قليلًا، قبل أن يُتمّ:
“على الأرجح إنها لن تعيش أكثر من عام.”
لم يتبقَّ سوى شهرين حتى يُقبل العام الجديد وإذا بالخبر يجتاح روح **سيرين** كالمطرقة فتمايل جسدها وكادت تسقط أرضًا لكنها تمالكت نفسها بصعوبة تتمتم متلعثمة:
“سأعود حالًا—”
لكن **كارم** قاطعها بنبرةٍ هادئة حاسمة:
“سيرين، أرى أنّ فاطمة ترغب في العودة إلى مسقط رأسها.”
كانت تلك الحقيقة التي يعرفها الجميع: من يغادر وطنه يظلّ قلبه معلقًا به ومهما أنكر كبار السن حنينهم فإن تصرفاتهم تفضحهم دائمًا.
جف حلق **سيرين** وهي تقول بصوتٍ مخنوق بالدموع:
> “أشعر بذنبٍ لا يُغتفر… لقد جعلتها تعاني الكثير… سأجيء إلى هناك وسأعيدها إلى مقاطعة **سان** فورًا… كنتُ على وشك العودة لمتابعة بعض المشاريع على أي حال… وسأصحبها معي.”
كان **كارم** مطلعًا على مأساة **ظافر** ومع ذلك أضاف بصوتٍ واثق:
“الأطفال أيضًا يرغبون في العودة.”
ازدادت غصّة **سيرين** ففكرة أن تبقى **فاطمة** هناك دون الأولاد كانت تؤرقها ككابوسٍ يقظ… لكن الأهم أنّ **ظافر** وقد فقد ذاكرته وبصره لن يطلب الأطفال ولن يعرف حتى كيف يفتّش عنهم لذلك قالت بحسمٍ تقاوم به ارتعاش قلبها:
“أرجوك يا كارم، اصحب الأطفال معك.”
جاءه صوتها كرجاءٍ ووصيةٍ في آنٍ واحد فما كان منه إلا أن أجاب على الفور:
“حسنًا… سيكون الأمر كما تريدين.”
في تلك الليلة غلب السهرُ على جفون سيرين وكأن النوم قد خاصمها عن عمد يراقب عجزها عن إطفاء نيران الذكرى.
ظلّت مستلقيةً تحدّق في سقف الغرفة تستعيد وجوهًا بعيدة وصوتًا حنونًا كان يربّت على طفولتها المرتجفة… لم تكن فاطمة مجرّد مربية أو ظلّ عابر في حياتها بل كانت الأم البديلة، الحضن الذي ضمّها حين قصّرت أمها سارة في عطفها…. كانت فاطمة بالنسبة لها شمسًا صغيرة تضيء عتمة الروح وتسكب دفئها في المسافات الباردة من عمرها.
مع أول خيط للفجر نهضت سيرين بملامح متعبة لكنها ممتلئة بإصرارٍ عميق على ردّ بعض الدين لذلك القلب الذي لم يبخل عليها يومًا فرتبت أغراض فاطمة بعناية ثم جهّزت الملابس والأحذية للأطفال وأعدّت أكياس البقالة وكأنها تعدّ وليمة لقاءٍ طال انتظاره وفي كل قطعة تضعها كانت تُخبّئ دعاءً صامتًا ورجاءً يائسًا ألا تخونها الأيام مجددًا وحين تدحرجت عقارب الساعة إلى منتصف النهار قادتها خطواتها الملهوفة إلى المطار.
هناك، وسط ازدحام القادمين ودموع اللقاءات المتناثرة في الأرجاء لمحَت فاطمة قادمة بخطوات مثقلة وظهرها أكثر انحناءً من ذي قبل كأن العمر قد وضع يده الثقيلة على كتفيها… كان شعرها قد غزاه الرماد ولكن عينيها بقيتا تلمعان بالحنان ذاته الذي عرفته سيرين منذ طفولتها.
تقدّمت فاطمة بابتسامة متماسكة تحمل في يدها كيسًا صغيرًا وقالت بصوتٍ مبحوح يخفي وجعه:
ــ “سيرين، جئتُك ببعض ما تحبّين من هناك.”
فتحت سيرين الكيس لتجد أنواعًا شتى من الوجبات الخفيفة التي لا تعرف كيف استطاعت فاطمة الحصول عليها وهي التي لا تجيد حرفًا من لغة البلاد الغريبة.
كان الكيس في عينيها أكثر من مجرد طعام؛ كان رسالة صامتة تقول: “لم أنسَكِ يومًا”.
ابتلعت سيرين غصّةً حادة وحاولت إخفاء ارتعاشة شفتيها بابتسامة عريضة ثم ارتمت بين ذراعي فاطمة قائلة:
ــ “أنتِ الأم الأفضل دائمًا.”
أما كارم فوقف على مقربة يراقب بصمتٍ ذلك العناق الذي بدا وكأنه يعيد كتابة طفولة بأكملها واضعًا يده على كتفي الطفلين اللذين احتميا به من صخب المكان وحين وطئت أقدامهم عتبة المنزل الذي استأجرته سيرين بدت الجدران كأنها تتنفس ارتياحًا لعودة الحياة إليها.
استلقت فاطمة على أريكة في غرفة المعيشة يجاورها الطفلان وقد أرهقهم السفر بينما غلّف سكونٌ مهيب المكان كستارة حريرية تحجب صخب الخارج فاقترب كارم، بصوته المتزن الذي يحاول أن يخفف من ثقل الخبر، وقال:
ــ “الأطباء أكّدوا أن لا جدوى من علاج إضافي… بقاؤها في المستشفى لن يزيدها إلا ألمًا، الأفضل لها أن تحيا ما تبقّى بين وجوه تحبها.”
غاص الكلام في أذنَي سيرين كحجارة تُلقى في بئرٍ عميق فشعرت أن حلقها صار مسرحًا لسكاكين حادة تمزق قدرتها على النطق… أرادت أن تقول الكثير، أن تحتج، أن تتوسل، لكن الكلمات خانتها وذابت في غصّة موجعة.
أضاف كارم بهدوء، وهو يحدّق في عينيها:
ــ “اقضي وقتًا معها ما دمتِ تستطيعين.”
أومأت برأسها والدمع يترقرق خلف أجفانها دون أن يجرؤ على الانهمار وتمتمت بصوتٍ واهن وكأنها تعاهد نفسها أكثر مما تخاطبه:
ــ “نعم… لقد تحدثتُ مع صاحب البيت… غدًا سنرحل… سنعود إلى مقاطعة سان كعائلة واحدة كما ينبغي.”
من زاوية عينيه لمح كارم شحوب ملامح سيرين كأن الحياة انسحبت من وجهها وتركت خلفها قناعًا من تعبٍ قديم… فتح فمه مرات عديدة ثم أغلقه يتردّد بين الرغبة في السؤال والخوف من إيقاظ جرحها وأخيرًا تجرّأ قائلاً:
ــ “وكيف تسير الأمور… مع ظافر؟”
تنفست سيرين ببطء كمن يستعد لانتزاع شظايا مدفونة في صدره فهي تعلم أن رامي قد أسرّ له ببعض التفاصيل لكنها اختارت أن تُخرج الحقيقة كاملة:
ــ “كنتُ على وشك رفع دعوى طلاق… لكن الحادث غيّر كل شيء… تعرّضنا لحادث سيارة وأُصيب ظافر بجروحٍ بالغة، بل وفقد بصره وذاكرته معًا لذا المحكمة حكمت ضدي… وخسرتُ القضية.”
ساد صمتٌ ثقيل كأن الزمن توقف احترامًا لمأساتها بينما شعر كارم أن الأقدار كثيرًا ما تتلذذ بخداع البشر تمنحهم ومضة أملٍ لتسلبها منهم بغتة… يقول بنبرة مترددة:
ــ “إذن ما العمل الآن…”
لكن سيرين لم تدعه يكمل قطعت حديثه بابتسامة مشقوقة بالألم، وقالت:
ــ “الأمور بخير… لقد أخبرني ظافر أنه لن يزعجني بعد الآن.”
كانت كلماتها كستار حريري رقيق يخفي وراءه عاصفة كاملة كأنها تحاول إقناع نفسها قبل أن تُقنعه.
