رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والرابع والتسعون 294 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والرابع والتسعون


أوفى ظافر بوعده؛ لم يجرؤ على الاقتراب من سيرين بعد مغادرتهما المحكمة وكأن بينهما جدارًا من صمتٍ لا يُكسر، ولم يسمح لاسمها أن يكسر سكون قصره لا على لسانه ولا في حديث من حوله.

وبينما الليل قد بلغ أشدّه والظلام يلفّ أرجاء القصر المهيب ككفن أسود لا ضوء يبدّد وحشته ولا حياة تنبض في أركانه… وفجأة انشقّ سكونه الموحش بصوت انفجارٍ زجاجيّ مدوٍّ ارتطم بالأرض كصرخة مكتومة تناثرت شظاياه كالنجوم الهاربة من مدارها فهرع أحد الحراس يطرق الباب بقلقٍ جلي يدخل مسرعاً:

ــ “سيدي ظافر، هل أنت بخير؟”

جاءه الردّ ببرودٍ قاتل كصوت يخرج من قلبٍ متجمد:

ــ “اخرج!”

تراجع الحارس كما لو صفعة أطاحت به إلى الوراء بينما في الداخل كان ظافر واقفًا وسط غرفة الطعام يده تنزف قطراتٍ حمراء اختلطت ببقايا الزجاج… لم يكن الألم يعني له شيئًا، كأن جسده صار مجرد هيكلٍ بلا إحساس فيما أصابعه تتحسس طريقها نحو الصنبور يفتحه ببطء فانهمر الماء البارد على الجرح يسيل فوق بشرته كأنه يغسل شيئًا أعمق من الدم، يغسل عجزه… وحدته… وربما لعنة ذاكرة مثقوبة لا ترحم فالأيام الأخيرة كانت سلسلة متواصلة من التحطّم لم يكسر فيها الأواني والأكواب فحسب بل كسر شيئًا في داخله كما أنه سقط عدة مرات لكنه سرعان ما كان ينهض؛ والآن قد حفظ تفاصيل المكان بحذر الكفيف الذي يرسم خارطة بيته بعقله… لم يعد يتوه لكنه ظل ضائعًا في داخله.

حين هدأ النزيف أخيرًا أغلق ظافر الصنبور بقبضة مرتجفة وترك خلفه صدى قطرات الماء يتساقط كدقات قلبٍ متباطئ ومن ثم انسحب نحو غرفة المعيشة يجلس على الأريكة وحيدًا فيما الذكريات تتسلل من بين ثقوب ذاكرته الممزقة… وصورة سيرين تجلّت أمامه كطيفٍ يتأرجح بين الحلم والوهم جالسةً على ذات الأريكة، ابتسامتها المرهقة تحمل دفئًا لم يعد موجودًا فسمع صدى صوتها في عقله ناعمًا كنسمة:

ــ “كنت أنتظر عودتك إلى البيت…”

خطواتٌ خارج القصر كسرت وهمه جعلته ينتفض بغيظٍ مفاجئ إذ ظنّ أن الحارس عاد ليتطفل على عزلته فزمجر بلهجة ملأها الضيق:

ــ “اغربوا عن وجهي!”

لم يكن القادم الذي اقتحم الباب الحارس الشخصي كما ظنّ ظافر بل كانت **شادية** تحمل في عينيها مزيجًا من القلق والعناد.

توقفت عند العتبة لحظةً يعلو جبينها عبوسٌ ثقيل وهي تحدّق في ظلام القصر الغارق في وحشته تتمتم بنبرة لا تخلو من استنكار:

ــ “لماذا لم تُشعل الأضواء؟”

لكنها ما لبثت أن عضّت على طرف لسانها حين أدركت حجم زلّتها؛ فكيف تطلب من أعمى أن يطرد العتمة بمصباح؟ العتمة لم تعد حوله فحسب بل سكنت داخله واستوطنت أعماقه.

كان الهواء في القصر باردًا كأنفاس الموتى لا دفء فيه ولا حياة فاقتربت شادية بخطوات مترددة تشعل المدفأة فانتشرت ألسنة لهبٍ متوهجة في الموقد تحاول عبثًا أن تبعث الروح في جدران تجمّدت من الصمت ثم مشت نحوه وجلست قبالته كمن يواجه وحشًا محبوسًا خلف قضبان نفسه ومن ثم قالت بصوتٍ يختلط فيه الرجاء بالحزم:

ــ “ظافر… لقد استعدتَ صحتك تقريبًا وحان وقت التفكير في المستقبل… لقد وجدتُ لك بعض المرشحات… فتيات من عائلاتٍ طيبة، جميعهن صغيرات، جميلات، ومطيعات… إنهن معجبات بك منذ صغرهن، أيمكنك أن تخصّص وقتًا للقاء إحداهن غدًا؟”

كانت كلماتها كالسكاكين تُغرز في جدار قلبه. كل واحدة من تلك الفتيات لا يتجاوز عمرها العشرين زهراتٌ غضّة تلمع في عيني أمٍ تطمح أن تحيط ابنها بجمالٍ مُسخّر وسهولة انقياد إذ اختارت لابنها نساءً يشبهن العرائس الخشبية مُهيئات ليُحرّكهن بخيوط يده إن أراد.

لكن وجه ظافر ظلّ صلدًا، برودته كجدارٍ من جليد لا يلين، وصوته خرج كصفعةٍ جافة تخلو من أي دفء:

ــ “ألم تسمعي ما قلته؟… انصرفي.”

ارتجفت شادية وكأن الكلمة لطمتها على وجهها فتراجعت للوراء وعيناها متسعتان بذهول:

ــ “لماذا تخاطبني بهذه القسوة يا ظافر؟ أنا أمّك!”

كان ظافر منذ شبابه صخرةً لا تلين وهيبةً لا يُجسر على خدشها… لم يكن يعرف عن الغضب سوى جمرٍ يخفيه تحت الرماد ولم يحدث أن رفع صوته يومًا على أمّه غير أنّ فقدانه للذاكرة بدا وكأنه نزع الغطاء الأخير عن بركانه الخامد؛ فها هو اليوم يصرخ عليها مطلقاً كلماته كسهامٍ مسمومة.

ظلّ وجهه جامدًا خالٍ من أي تعبير كقناعٍ من حجر لا يشي بما يدور في داخله، وقال ببرودٍ جليدي:

ــ “إن أردتِ أن ينحني لكِ الناس احترامًا فامنحيهم أنتِ أولًا بعض احترامك… لن أقابل تلك النساء اللواتي ذكرتِهن… الأمر محسوم… والآن غادري.”

تجمدت شادية في مكانها كأن الصمت قد صفعها كانت تظن أن فقدانه لذاكرته سيجعله أرقّ، أكثر طواعية، أقرب لظلّ الطفل الذي أنجبته لكن الواقع كان عكس ذلك تمامًا: فهو لم يُبدِ لُطفًا إلا مع سيرين أما مع الجميع فقد صار كالنصل الحاد يجرح قبل أن يُمهل… لكنها لم تستسلم بل قالت بصوتٍ متوترٍ يختلط فيه القلق بالرجاء:

ــ “ظافر… ألا تفهم؟ الشركة تتهاوى والفروع الأخرى من العائلة تتربّص بنا لذا يجب أن يكون لك ابنٌ يحفظ سلطانك ويؤمّن مكانتك.”

كان الصوت في داخلها صدى خوفها وصوت الزمن الذي يهدد بانقراض إرثهم غير أن ظافر لم يُجِب بل نهض ببطء وبدأ يصعد السلم إلى الطابق العلوي، يده تتحسس الدرابزين بإصرارٍ صامت كأنه يجرّ قدميه على سُلّم العمر كله.. يخنقه غيابها كطائرٍ مهيب قُصّت جناحاه يجلس في قفصٍ مفتوح لكنه عاجز عن الطيران… ولو لم تُبصر شادية تلك اليد المرتعشة المتشبثة بخشب الدرابزين لظنّت لوهلة أنه قد استعاد بصره فغضبه كان يحركه بخطى الواثق لا بخطى الأعمى.

وقفت مكانها مشلولة تدرك أن كلماتها تكسّرت عند قدميه كأمواجٍ ضعيفة تصطدم بصخرةٍ صامدة فلم يعد أمامها سوى الانسحاب تحمل في صدرها غصّة الأم التي عجزت عن اختراق جدار ابنها تغادر القصر فساد الصمت ولم يعد يسمع إلا طقطقة نار المدفأة كأنها تُصفّق على مأساة لا تُحكى… انتصار الشوق على كل محاولةٍ للفرقة.

حين أغلقت شاديةُ الباب خلفها وغادرت أروقة القصر انبثق ماهر من الظلام بملامح وقورة، يخطو بخطوات محسوبة نحوها، وصوته يتهدّل بالاحترام وهو يحيّيها:

ــ “سيّدتي شادية…”

التفتت نحوه بعينين يملؤهما القلق والضيق وسألت بنبرةٍ متوترة كمن تُحاصرها الشكوك:

ــ “أخبرني يا ماهر… هل كان ظافر وحيدًا في القصر خلال الأيّام الماضية؟”

أومأ ماهر برأسه في ثبات وقال بصوتٍ هادئ يخالطه إعجاب خفي:

ــ “نعم يا سيّدتي… لقد رفض السيد ظافر أن يسمح لأحد بالدخول لرعايته… كنتُ أوصل الطعام إليه بنفسي… وكنت أراقب من بعيد.”

انعقد حاجباها بدهشةٍ وامتعاض وهي تهتف كأن قلبها يصرخ قبل لسانها:

ــ “ولكنه لا يرى شيئًا! كيف له أن يبقى أسير الظلام، وحيدًا بين جدران باردة؟”

تنهّد ماهر يحاول تبديد قلقها، ثم قال:

ــ “ربما في بداية مجيئه كان كثير التخبط.. لكن على الرغم من فقدانه للبصر إلا إنه في الأيام الليلة الماضية لم يتعثّر كثيرًا ولم يصطدم بشيء… بدا وكأنه يعرف ممرات القصر كما يعرف كفّ يده… على ما أظن أنه بدأ يحفظ كل زاويةٍ فيه عن ظهر قلب… وكأن ذاكرة المكان محفورةٌ في روحه لا تمحى.”

صمتت شادية لحظة ثم ارتعشت شفتاها بغضبٍ ممزوج بالحسرة وهي تتمتم:

ــ “ظافر كان يمتلك ذاكرةً فوتوغرافية منذ نعومة أظافره… لم يكن ينسى شيئًا إلا إذا أراد هو أن ينسى… أمّا الآن فقد ضاع كل شيء خلف ستار النسيان.”

ارتسمت على محياها غمامةٌ ثقيلة من الأسى بينما عينيها تلمعان بالخذلان تنعى رجلاً كان يومًا عصيًّا على الهزيمة فصار رهين عجزٍ لا يليق به.

تعليقات