رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخامس والتسعون 295 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخامس والتسعون


أصبح غضبُ ظافر أشبه ببركانٍ ثائرٍ بعد أن انتُزِع منه البصر وابتُلي بالنسيان؛ لم يعد يعرف للهدوء سبيلًا ولا للتوازن موطئ قدم.

كان كالسيف المكسور حدّه لم ينطفئ لكن قبضته تهاوت ومع ذلك ظلّ في حضرة سيرين رجلًا آخر؛ يخلع قسوته عند عتبتها ويكتسي بوجهٍ مغاير يفيض باللطف وكأنها وحدها البوصلة التي تردّه من تيهٍ مظلم.

أما شادية فكلما تذكّرت كيف يرمقها ظافر ببرودٍ متجمد استبدّ بها قلقٌ كالسوس ينخر في قلبها فالتفتت إلى ماهر وقد تغلّفت كلماتها بارتجاف خفيف:

ــ “ما الذي علينا أن نفعله كي يتقبّل الآخرين؟ كيف ننتشله من جدارٍ بناه حول نفسه؟”

ساد الصمت للحظة بينهما قبل أن ينطق ماهر بتردد كأن الكلمات ثقيلة على لسانه:

ــ “باستثناء زواجه من سيرين… وعلاقته القديمة بدينا… لم يعرف السيد ظافر أي امرأة أخرى في حياته لطالما كان مكرّسًا لمسيرته كأن العاطفة لم تكن إلا زينةً بلا قيمة في عينيه.”

عقدت شادية ذراعيها أمام صدرها وفي عينيها بريق قلقٍ متداخل مع الغيظ كأنها تبتلع حقيقةً لاذعة… تتمتم بنبرةٍ حادة:

ــ “دينا… كنت قد نسيتها… أين هي الآن؟”

تردّد ماهر ابتلع ريقه في ارتباك ثم قال بصوتٍ خافتٍ أشبه بالاعتراف:

ــ “إنها في المصحّة.”


في مكتب مدير المصحّة كان المشهد يرسم مأساةً صامتة إذ وقفت دينا بوجهٍ باهت ترتدي ثوبًا فضفاضًا بلونٍ باهتٍ كأحلامٍ ذابلة، شعرها يتناثر فوضويًا على كتفيها كأشواكٍ نافرة…. عيناها غارقتين في فراغٍ مُرعب كأنهما نافذتان مفتوحتان على هوّة لا قرار لها وما إن وقعت عيناها على شادية حتى ارتعشت ملامحها بخوفٍ وتراجعت خطوة وهي تهذي بكلماتٍ متقطعة:

ــ “أنا… أنا آسفة! لم أقصد… أقسم أنني لن أفعلها ثانية! سامحيني!”

أمسكت شادية بأنفاسها وصوتها يرتجف بدهشةٍ ممزوجة بأسى عميق:

ــ “كيف… كيف انتهى بكِ الأمر إلى هذا الحال؟”

لكن دينا لم تجب بل اكتفت بالصمت وعينيها تحومان في فضاءٍ غامضٍ بعيد… وحدها ذاكرتها السوداء كانت تنبض بالسرّ فمنذ أيامٍ قليلة قد جاء طارق يحمل في جعبته العذاب ولولا أن تظاهرت بالجنون لتذوّقت قسوة لا تُحتمل… كان جنونها درعًا أخيرًا ومهزلةً مُدبّرة للنجاة.

تنفّست شادية تُفرغ صدرها من حملٍ أثقل روحها بينما كان مدير المصحّة يقف خلفها في وقارٍ صامت لا يُبدي سوى الاحترام فهمست بصوتٍ غارقٍ في الخيبة:

ــ “يبدو أنني جئتُ إلى هنا عبثًا… لقد فقدت عقلها حقًا.”

استدارت بخطوةٍ حاسمة كمن يغلق بابًا خلفه بلا نية للعودة لكن قبل أن تبتعد انطلقت دينا فجأة تهرب من يد الممرضة التي كادت تقتادها تركض نحو شادية:

ــ “سيدة شادية… أرجوكِ! لستُ مجنونة.”

توقفت شادية تلتفت إليها بعينين صارمتين تزنها ببرودٍ قاتل ومن ثم تابعت دينا بلهفةٍ مرتجفة تخفي تحتها طمعًا متوهجًا:

ــ “رأيت الأخبار… أعلم بما يحدث مع ظافر… إن سمحتِ لي يمكنني أن أعتني به.”

ارتسمت على شفتي شادية ابتسامة ساخرة باردة وسألتها بسهمٍ مُباشر:

ــ “ظافر هو من زجّ بكِ إلى هنا… ألا يكنّ قلبك له كراهية؟”

هزّت دينا رأسها بإصرار وفي عينيها مزيج مريب من الخضوع والدهاء:

ــ “لا… أعلم أن ظافر خُدع… تلك المقاطع المصوّرة كلّها كانت كاذبة مفبركة… أنا لم أخنه يومًا ولطالما كان حبي الوحيد.”

لم تهتم شادية لصدقها أو كذبها فما كان يشغلها شيء آخر:

أن يجد ظافر من يُهدهد عزلته ومن الأفضل أن تُنجب له وريثًا يحسم صراعات الغد.

قالت شادية بلهجةٍ آمرة لا تحتمل جدالًا:

ــ “إذن… اركبي السيارة معي.”

كان صوتها قانونًا قاطعًا أجبر المدير على التراجع دون اعتراض وبخطواتٍ متعثّرة خرجت دينا من بوابة المصحّة إلى فضاءٍ مفتوح ترفع رأسها إلى السماء الزرقاء وكأنها تراها لأول مرة منذ دهر.

كانت لحظة ولادة جديدة بالنسبة لدينا… لكن الولادة هذه المرة لم تحمل طهارة البدايات بل ولادة امرأةٍ تحمل في قلبها نارًا لا تهدأ؛ نارًا قد تكون لهيبًا يلتهم كل من اعترض طريقها حتى الرماد.

حين أُغلق باب السيارة خلفهما مالت شادية نحو دينا بعينين تحملان مزيجًا من التحذير والتهديد وقالت بصوتٍ كالسيف:

ــ “لا يهمني ما خطب الماضي ولا أعبأ بذنوبك القديمة… من هذه اللحظة فصاعدًا يجب أن تكوني ظلًّا لظافر، لا تخونينه، ولا تفلتين من قبضته.”

أومأت دينا برأسها بخضوعٍ مُتكلّف وهمست:

ــ “حسنًا…”

لكن داخلها كانت عاصفة أخرى؛ فقد تجرّعت مرارة السجن في المشفى النفسي بما يكفي لتفهم أن شهرتها التي كانت يومًا تحيطها بهالةٍ براقة لم تكن سوى فقاعات أمام عصابةٍ مثل آل نصران بالنسبة إلى جبروت ظافر لم تكن أكثر من نملة يمكن سحقها بلا عناء.

وحين قادتها الأقدار إلى قصر ظافر مع شادية اكتشفت أن الزمن منحها فرصة لم تكن تحلم بها فحين سمعت أنه فقد ذاكرته وبصره غمرت السعادة أعماقها حتى كادت تُفلت ابتسامة نشوة.

ــ *ذاكرته… بصره…! لقد محا القدرُ كل آثار لخيانتي من قلبه والآن لن يبقى له سوى ما أرويه له بلساني… إنه صار كصفحة بيضاء وأنا من سأكتبها.*

كان النهار شتويًّا قارسًا والثلج يُطوّق القصر ككفنٍ أبيض لكن داخله لم يكن فيه أثر للدفء كأن البرد تسرّب إلى جدرانه وأحجاره العتيقة.

دفعت دينا الباب ببطء فصرّ مفصلُه كأنّه يشكو من الزمن… دخلت فإذا بها تراه يجلس منتصبًا على الأريكة كتلةً من صلابةٍ وهدوءٍ مهيب… كان جسده مُسندًا بوقار وملامحه الجانبية منحوتة بدقّة نحاتٍ عاشق للحجر… عيناه رغم العمى ظلّتا سوداويين غائرتين كآبارٍ مظلمة لا قرار لها، لا تُفصحان عن ضعفه بل تخفيان شيئًا غامضًا مُربكًا.

ترددت لحظة لكن صوته باغتها فجأةً، عميقًا، جافًا، حادًا:

ــ “من هناك؟”

شعرت بارتجافة، ثم ابتسمت ابتسامة مُصطنعة ناعمة كالسم في العسل، وأجابت:

ــ “ظافر… إنّه أنا.”

كان ظافر قد اعتاد منذ خروجه من المشفى أن يحفظ نبرات كل من يحيطون به فالأذن أصبحت عينه الوحيدة لكن الصوت عند الباب لم يكن من الأصوات التي يعرفها فانتفض داخله قلق غامض، يزمجر بصرامة:

ــ “من أنتِ؟!”

اقتربت بخطوة وانحنى صوتها في ادعاء حنين:

ــ “أنا دينا… كنتُ صديقتكَ يومًا ما.”


تعليقات