رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والتسعون
هل كانت **دينا** فعلاً صديقةً له يومًا ما؟ تلاقت في صدر **ظافر** غمزةٌ من إنكارٍ فعبَس بوجهٍ قد نسجته الخُدوش أكثر مما كتبه العمر.
تقدمت **دينا** بخطواتٍ مترقّبة كأنها تقترب من شرفةٍ زلِقة أرضها، وقالت بصوتٍ رقيقٍ مُدّعٍ للحنان:
ــ “ظافر، رأيت الأخبار… أعلم أن **سيرين** تطلب الطلاق… لطالما كانت أنانيةً دائمًا فلا تبكُ لأجلها.”
أراد **ظافر** أن يطردها لكن ذكر اسم **سيرين** أدار كومًا من الفضول في صدره فسمع نفسه يسأل بلا طاقة:
ــ “هل تعرفينها؟”
ارتسمت على ثغرها ابتسامةٌ ماكرة، ابتسامةُ من يعرف كيف يكسو الطمعَ ثوبَ الحنو فأجابت بجفاءٍ منمق:
ــ “نعم… كُنّا زميلتين منذ الابتدائية وحتى الجامعة وكثيرًا ما جئتُ إلى بيتها ونحن صغار.”
لم تفصح **دينا** عن الحقيقة الأعمق: أنها لم تكن سوى مستفيدةٍ ولم تذكر أنها تلقت مساعداتٌ مالية من عائلة **تهامي**.
اقتربت دينا نحو الأريكة، جلست وقد لامست الهواء بجوار **ظافر** كمن يغازل مصباحًا مطفأ ونظرت إلى وجهه بتأملٍ قاسٍ؛ الندوب على خده لا تزال طريةً من جرح شظايا الزجاج.. امتدّت يدُها لتلمسه لكن **ظافر** تفتّ منها كما لو أنّ لمسهما قد يتحوّل إلى شرارة تشعل لهيبًا حارق.
تصلّبت يدا **دينا** وقالت بصوتٍ متحجّرٍ تحت قناع الدمعة:
ــ “ظافر، دعْني أبقَ وأعتنِ بك، أنا لستُ مثل **سيرين**… فمهما صار لن أخنك مثلها.”
في قلبها لم يكن هناك سوى محبةٍ ملوّنة بالدهب؛ كانت تحبّ ثروته، وتعرِف أن لا رجلٍ آخر يمكن أن يُعادل طاقته الغامرة حتى بعمى أعقبه لكن **ظافر** رفضها ببرودٍ جعله كصيحةٍ ساحقة في ليلةٍ بلا نجوم:
ــ “يمكنكِ المغادرة الآن.”
تصلّب وجهُ **دينا** لحظةً كقناعٍ تهيأ للسقوط فلم يكن أمامها إلا أن تنهض بعدما طُردت وعند الباب وقفت **شادية** تحدّق بها بازدراءٍ لا يخفى وقالت بصوتٍ يتذمّر قليلًا:
ــ “كنت أعلمُ أنّها لن تفيد.”
بقيت **دينا** مشوشة ثائرةً داخليًا من جرْح الرفض فكان الخجلُ يلهث في طرقات صدرها لذا لم تكن ترغب في مواجهة **شادية** مجددًا فخرجت خائبةً من القصر لكنها لم تخرج خالية اليدين؛ فقد احتفظت بثروةٍ جمعتها خلال شهرتها كنقشٍ سريّ يبقِيها صانعةً لفضائحٍ قادرةٍ على الدفع أو الابتزاز.
وما إن عبرت بوابة القصر حتى اتصلت **شادية** بـ«لاورا» مساعدتها، وهمست أن تأتي لتأخذها وما إن جلست **شادية** في السيارة حتى استعرت فيها لهجةٌ سوداء من العزم؛ ضمّت شفتيها وهمست في سِرٍّ لا يراه سوى نفسها:
ــ “سيرين… انتظري فقط… سأفاجئك قريبًا جدًا.”
كانت الهمسة كسهْمٍ ملفوفٍ بمخاوفٍ أعمق:
لا وصفٍ من الندم بل كتابة قواعد الانتقام.
بعد أن ارتدت جدران بيت **فاطمة** القديم في مقاطعة *سان* حلّةً جديدة فقد أعادت إليها **سيرين** بعض الروح إذ حملت أطفالها إليها لتسكن بينهم وبين الذكريات غير أنّ الحي بدا كمدينةٍ لفظها الزمن؛ بيوت خالية، شبابيك مغلقة، وأرصفة تئنّ تحت وطأة الصمت.
في أولى الأيام كانت **فاطمة** تقضي جلّ نهاراتها غارقةً في النوم، تهرب من وجعها إلى حُلمٍ مُشوّه وحين كانت تستفيق لا تجد ما يشغلها سوى هاجس الأمومة الذي يأبى أن يخمد في صدرها تجاه سيرين… ظل الألم يسري في عظام فاطمة كخيطٍ بارد لكنّها كلما وجدت بعض القوة نهضت لتعدّ الطعام لـ **سيرين** وأطفالها كأنّها تترك لهم أثرًا حميميًا يُذكّرهم بها بعد رحيلها تدرك في صمتٍ أن ساعة الفقد قادمة وحينها سيتناقص عدد الذين يحنون قلوبهم على **سيرين**.
جلس الأطفال في غرفة المعيشة يحدّقون في الشاشة غارقين في ألوانٍ متحركة لا تدرك براءتهم معناها بينما خرجت **فاطمة** مع **سيرين** تحملان صحن الفطائر الساخنة تفوح منها رائحة الزبدة والسكر ليتقاطع المشهد مع صوت المذيع الذي شقّ الصمت بنبرةٍ رسمية:
ــ “ستدعو شركة *نصران* غدًا إلى اجتماع للمساهمين لإعادة انتخاب رئيس مجلس إدارتها.”
توقفت **فاطمة** تمسح يديها المرهقتين بمنديل وحدّقت في الشاشة وعيناها تلمعان ببريقٍ عجب بينما كان المذيع يكمل:
ــ “وقد تأكّد أنّ السيد **ظافر** لن يحضر الاجتماع.”
ارتجفت شفتا فاطمة وهي تتمتم بنصف دهشةٍ ونصف حكمةٍ مجروحة:
ــ “الحياة مليئةٌ بما لا يُتوقّع.”
أما **سيرين** فقد أصابها الكلام كالطَعن وللآن لم تُصدّق أن الرجل الذي شاد بيديه إمبراطورية *نصران* بات غريبًا حتى عن موائد المساهمين كأنّه صار ظلًا باهتًا في حكايةٍ هو من خطّ سطورها الأولى.
وفجأةً وخوفًا من أن ينسلّ خبر طلاقهما إلى مسامع الصغار سارعت **سيرين** إلى تغيير القناة وقلبها يختنق بهواجس لا تليق بعمر الطفولة؛ لذا أرادت أن تقيهم من همساتٍ جارحة قد تطفئ نور براءتهم.
ظلّت يدها على جهاز التحكّم للحظة كأنّها تُمسك زمام قدرٍ لا تستطيع تغييره فيما راحت عيناها تتبعان الشاشة التي تحوّلت إلى عالمٍ آخر خالٍ من أخبارٍ تفوح منها رائحة الفقد والخيانة…
.……………..
بينما في الحين الذي عادت فيه **شادية** إلى المدينة ارتطم قلبها بواقعٍ لم تحتمله؛ شركة **نصران** ذلك العرش الذي شيّده ابنها **ظافر** من صخر طموحه ودمائه كانت على شفا أن تُنتزع من بين يديها وتُلقى في حضن غريبٍ لا يعرف شيئاً عن عرق وليدها الذي سُفح ليبنيها وقد أحاطت بها مشاعر العجز كأغلالٍ من حديد لا فكاك منها ولا مفر.
مدّت شادية يدها إلى الهاتف الذي رن جرسه فجأة علّها تجد خيط نجاة… كان **لوك** على الطرف الآخر بصوته البارد الذي خلا من أي رحمة:
ــ “بما أنّ **ظافر** لم يعد يرى فلا بدّ أن يتنحّى… فلا مكان للأعمى على عرشٍ يحتاج عيونًا حادّة.”
سقطت الكلمات على أذنها كسكاكين تُغرس في لحمٍ حيّ إذ لم تستطع أن تتقبّل أن كل ما بناه ابنها، كل جهدٍ ودمعة وقطرة عرق، قد يُسلَّم ببرودٍ إلى آخر كأنّ ظافر لم يكن يومًا سوى ظلّ عابر في تاريخ هذه الشركة.
وفي لحظةٍ كانت فيها شادية على شفا الانهيار اهتزّ الهاتف من جديد… نظرت إلى الشاشة، فارتجف قلبها وهي تقرأ الاسم: **جاسر**.
ــ “أمّي… لقد نجحت العملية… قال الأطباء إنني بخير… أستطيع العودة إلى البيت اليوم.”
كان صوته ناعمًا، دافئًا، كنسمةٍ تهبّ على قلبٍ متصدّع… فشدّت **شادية** قبضتها على الهاتف وخفّضت صوتها كمن يخشى أن يسمعه القدر ذاته:
ــ “جاسر… هل تستطيع أن تساعدني؟”
على الطرف الآخر ارتجفت عيناه اللطيفتان كغيمتين تجمدتا في السماء وهو لا يزال مُمدّدًا على سرير المشفى أنبوب المحاليل يتدلّى بجانبه ورائحة المطهّرات تُخيّم على أنفاسه… لم يسألها عمّا تريد، لم يناقش، لم يتردّد بل أجاب بصوتٍ وُلد من عُمق اليقينٍ:
ــ “حسنًا.”
كانت تلك الـ “حسنًا” أشبه بقَسمٍ، بوعدٍ غامضٍ أُلقي في قلب العاصفة يُنبئ بأن الرياح ستتغيّر مهما طال ليلها.
