رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والتسعون 297 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والتسعون


كانت **شادية** تدرك في أعماقها أن ولدها **جاسر** سيُصغي لها كما لم يفعل أحد من قبل فهو الابن الذي لم تلوثه المصالح بعد ولا أفسدت نقاءه ألاعيب السلطة والمال.

جلست في المقعد الخلفي للسيارة وعيناها معلّقتان ببوابة القصر المهيب حيث يُقيم **ظافر**؛ ذلك القصر الذي بدا لها اليوم كقلعةٍ مهجورة جدرانه تُخفي أنين رجلٍ يُصارع وحدته وعماه وذاكرته الممزقة.

قطعت شرودها بسؤالٍ وجّهته إلى المحامي الجالس إلى جوارها:

ــ “سيد ليوناردو… أنت من تولّى الدفاع عن **ظافر** في تلك الدعوى القضائية، أليس كذلك؟”

كان السؤال أشبه بسهـمٍ مغلّفٍ بابتسامة باردة فقد تذكّرت في تلك اللحظة عناد **ظافر** الذي رفض خططها للزواج السياسي من عائلةٍ أخرى كما رفض أن يفتح باب قلبه لـ **دينا** مهما حاولت وظلّ متصلّبًا في وجه رغباتها كجدارٍ لا يلين.

أحسّت شادية أنّ وحدته في هذا القصر قد تفتك به فمدّت خيوطها نحو **ليونارد** المحامي بارد الذكاء الذي مثّل **ظافر** في طلاقه… أرادت أن تُضيء لنفسها دهاليز تلك القضية تبحث بين ثناياها عن ثغرة تنفذ منها.

أجاب ليونارد باقتضاب وصوته يحمل حيادًا متعمّدًا:

ــ “نعم.”

مالت شادية للأمام تُحدّق في عينيه كمن يحاول أن يغرس السؤال في داخله:

ــ “هل يقع على عاتق **سيرين** أي التزام… أي مسؤولية لرعاية **ظافر** في حالته الراهنة؟”

لم تكن كلماتها تحتاج إلى تفسير… كان ذكاء ليونارد كافيًا ليلتقط الإشارة المبطّنة؛ لقد أرادت أن تُكبّل سيرين بقانونٍ لا فكاك منه.

أطرق ليوناردو رأسه لبرهة ثم قال:

ــ “بالتأكيد… إذا لزم الأمر، يمكنني مساعدة السيد **ظافر** على صياغة اتفاقية قانونية تُجبر السيدة **تهامي** على تولّي رعايته.”

ارتسمت على شفتي شادية ابتسامة صغيرة نصفها ارتياح ونصفها مكر:

ــ “جيد… أريد خطابًا رسميًا من محامٍ يُلزمها بذلك… اليوم قبل الغد… هل هذا ممكن؟”

أجاب بثقةٍ متعمدة:

ــ “بالطبع.”

تنفّست شادية بعمق كمن أنجز خطوة أولى في خطةٍ طويلة ثم أخرجت بطاقة أنيقة وقدّمتها له:

ــ “سيد ليوناردو، أود أن أدعوك لزيارة **شركة نصران**… قد تكون زيارتك ذات فائدة لنا جميعًا.”

ابتسم هو ابتسامة باهتة، أقرب إلى قناعٍ بلا روح، ثم قال رافضاً دعوتها:

ــ “أشكرك… لكنني لا أحتاج إلى ذلك.”

لم تُصغِ شادية إلى جوابه كما ينبغي، كانت أذناها مشغولتين بصوت النصر الذي يتردّد داخلها… لقد نالت ما أرادت… وما أن توقّفت السيارة أمام القصر حتى نزلت منها بخطواتٍ متزنة كملكةٍ تتهيأ لاستعادة عرشها ثم دفعت الباب لتدخل حيث يسكن **ظافر** ذلك الابن الذي بات قلبه ساحةً لمعركة لا ترحم.

كان **ظافر** جالسًا في غرفة مكتبه بين جدران صامتة تزداد ثِقَلًا عليه كل يوم كأنها تتآمر على حواسه التي خانته. حاول أن يسترجع ماضيه أن يمد يده إلى ذاكرةٍ ضبابية علّها تنقذه لكنه لم يجد سوى هاتفٍ يعرض له رسائل صوتية مكررة أما الأوراق والملفات التي تكدّست أمامه فقد صارت بالنسبة له مجرد ظلال جامدة لا يملك إليها سبيلًا كأن الحبر انمحى من تحت أصابعه.

دخلت **شادية** وعيناها تُخفيان بحرًا من التناقضات فقلبها يذوب مرارةً لرؤية ابنها الذي كان يومًا ما أسطورة بين الرجال، شامخًا كالجبال، قد انكسر أمام العمى وفقدان الذاكرة لكنها برغم ذلك ارتدت وجهها القاسي وأطلقت كلماتها كما لو كانت سكاكين.

ــ “حسنًا… لديّ ما أقوله لك.”

أغلق ظافر الملف بين يديه وأدار رأسه نحوها، صوته غارق في حذرٍ متوجس:

ــ “ما هو؟”

اقتربت بخطواتٍ بطيئة، تزن وقع كل كلمة قبل أن تطلقها ثم قالت:

ــ “نسيت أن أخبرك… **سيرين** حامل منذ شهرين.”

ضاق صدره فجأة كأن الهواء قد انكمش من حوله… لم يعرف هل كان قلبه يختنق فرحًا أم وجعًا.

تابعت شادية مستغلةً ارتباكه:

ــ “أنتما زوجان… والزوج يا ظافر لا يترك زوجته وحدها في دروب الألم.. مهما كان ما حدث بينكما ومهما كانت الخلافات التي أوصلتكما إلى هذا الحد فالآن هناك طفل، قطعة من دمك يتنفس داخل رحمها… عليك أن تعيش معها… أن تؤنس وحدتها… لا تنسَ أنك ابن شادية ولن أرضى لك أن تجلس مكتوف اليدين تُراقب حياتك وهي تتفتت أمامك.”

كانت تعرف تمامًا أنه لم يوقّع على أوراق الطلاق لأنه أعمى كما أنه لم يكن يعلم بحمل سيرين… كلماتها لم تكن عابرة بل حبالًا تُحكم شدّها حول قلبه الممزّق.

أضافت بصوتٍ يقطر إصرارًا:

ــ “كرجل، وكأب، عليك أن تعتني بها وبطفلك… سأرسل من يأخذك إليها… عاملها كما يليق بك وحينها ستُبدّل سيرين رأيها… وستعود إليك كما يريد قلبك.”

قبض ظافر على كفيه بعنف كمن يحاول أن يمسك بزمام حياته التي تنفلت من بين أصابعه… لم يعد يملك بصره لكنه يملك ما هو أخطر: حنينًا يفتك به من الداخل.

في تلك اللحظة غمره طوفان من الشوق فهو يعوزها حد الألم… يفتقدها كمن يجاهد لأجل آخر نفسٍ يتنفسه، كمن يبحث عن خيط نورٍ في ليلٍ أبدي ورغم مقاومته، كان قلبه يتوسل أن يراها الآن… في هذه اللحظة… قبل أن يبتلعه الفراغ تمامًا.

قبل أن تطأ قدما **ظافر** أرض مقاطعة *سان* كانت **سيرين** قد تلقت رسالةً تحمل في طياتها جمرًا يتوهّج تحت الرماد… رسالةٌ مختومة بخاتم القانون كأنها صكّ مقدَّر يطرق أبواب قلبها المنهك.

وما لبث أن جاءها **ليونارد** بنفسه، رجل القانون الذي يشبه في حضوره شفرةً مخبأة في غمد من المخمل.

اقترب منها بعينين هادئتين كصفحتين من ماءٍ ساكن لكن صوته كان حادًّا كسكين تُنزع من خاصرة يقول ببرودٍ قانوني وكأنه يقرأ من كتابٍ منزوع الرحمة:

ــ “سيّدة تهامي… المادة ١٠٥٩ من القانون المدني واضحة كالشمس في كبد السماء… على الزوجين واجب رعاية بعضهما… زوجكِ السيّد ظافر أعمته حادثةٌ جائرة وبات أسير ظلامٍ أبدي وهو بحاجة لعينٍ ترعاه وقلبٍ يؤنسه وإن لم تنهضي بواجبك فسأقاضيكِ باسمه.”

شعرت **سيرين** بأن الرسالة تحترق بين أصابعها قبضت عليها حتى انكمش الورق كأنه يستغيث من وطأة يدها المرتجفة ومن ثم رفعت عينيها وقد خنقتها المرارة:

ــ “هل كان هو من أرسلك؟… هل بعثك ظافر؟”

لم يتردد **ليونارد** وألقى بالحقيقة مثل حجرٍ ثقيل في بركة راكدة:

ــ “لا لم يكن هو بل السيّدة شادية… إنها تريدكِ أن تنهضي بما يمليه عليكِ الزواج، وأن تؤدي دور الزوجة الصالحة التي لا تهرب ساعة الانكسار.”

حدّقت فيه سيرين تبحث عن منفذٍ من هذا الحصار الخانق وسألت بنبرةٍ تتأرجح بين التحدي والضعف:

ــ “وماذا لو رفضت؟ ماذا لو لم أفعل؟”

ارتسمت على ثغر ليوناردو ابتسامةً لم تصل إلى عينيه كانت كقناعٍ رخامي يخفي تحت ظلاله وجهًا من حديد… اقترب منها حتى كاد صوته يُوشوش أذنها لكنه كان أبرد من رصاصة:

ــ “ألم تعترفي في المحكمة بخيانةٍ شوهت ملامح قدرك؟ إن كنتِ لا تعرفينني فاسألي كوثر… هي تعرف تمامًا ما أجيده… أستطيع أن أزجّ بكِ في السجن بتهمة تعدّد الأزواج…. وأنتِ… لا تظنين نفسك قادرة على احتمال جدران الزنزانة وأنتِ تحملين حياةً في أحشائك، أليس كذلك؟”

تصلّبت أنفاسها وتقلّصت الأرض تحت قدميها كأنها حفرة تنفتح لابتلاعها وفيما كان التوتر يلتف حولهما كأفعى تُحكم قبضتها توقفت أمامهما فجأة **سيارة ليموزين سوداء** انزلق ظلها الثقيل فوق الإسفلت كطائرٍ جارح يهبط من السماء كاشفًا عن مشهدٍ آخر على وشك أن يبدأ…


تعليقات