رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثامن والتسعون
التفت **ليونارد** نحو الليموزين السوداء التي توقفت أمام البيت وكأنها سفينة داكنة جاءت من أعماق ليلٍ غامض إذ انعكس بريق المصابيح على عينيه فرأى **ماهر** يترجل منها بخطوات محسوبة، يتبعه رجال الحراسة بملامح جامدة كالتماثيل، وخادمات يحملن حقائب وأغراضًا كأنهن يحملن أثقال قدرٍ لا مفر منه.
لم ينبس ليونارد بكلمةٍ أخرى بل اكتفى بابتسامة باهتة انطفأت سريعًا ثم انسحب إلى سيارته وغاب كطيفٍ أتى ليؤدي مهمته ويرحل تاركًا خلفه هواءً مشبعًا بالتهديد والانتظار.
في الداخل خرجت **فاطمة** بخطوات متعثرة متكئة على جسدٍ أثقلته السنوات بينما ارتجف صوتها وهي تسمع ضجيج الخارج متسائلة:
ــ “سيرين… من هؤلاء؟!”
اقتربت منها **سيرين** تمدّت يدها نحوها كما تمد شجرة غصنها لتحمي ثمرة ضعيفة وقالت بحنان يخالطه القلق:
ــ “فاطمة… ادخلي… لا أريد أن يلفحك البرد… سأشرح لكِ كل شيء لاحقًا.”
ترددت العجوز قليلًا ثم أومأت برأسها بخضوعٍ هادئ وعادت إلى الداخل منحنية الظهر.
سحبت سيرين الباب الأمامي ببطء كمن تغلق وراءها آخر ملاذ آمن ثم التفتت لتواجه المشهد الداهم إذ تقدّم **ماهر** نحوها بينما عيناه تتفحّصان جدران المنزل المتهالك التي تآكلت أطرافها بفعل الزمن والرطوبة فأحسّ بضيقٍ يجثم على صدره وهو يتخيّل سيده ظافر حبيس هذا المكان… ذاك الرجل الذي عاش عمره في القصور والترف، أيستطيع أن يعتاد على جدران كهذه تضيق بالظلام والرطوبة؟
اقتربت سيرين وعيناها تفتشان بين الوجوه عن الطيف الذي يفتك بذاكرتها ليل نهار فلم ترَ ظافر بينهم فتساءلت بصوتٍ ارتجف رغم جديته:
ــ “سيّد ماهر… ما الأمر؟”
أجابها بلهجةٍ رسمية لكنها تخفي ارتباكًا:
ــ “السيّدة شادية أمرتني أن أحضر جميع ملابس السيّد ظافر وبعض حاجياته إلى هنا.”
ارتجفت أنفاس سيرين وأيقنت أن ما قاله ليونارد لم يكن تهديدًا فارغًا بل فصلًا من خطةٍ محكمة فعلى ما يبدو أن شادية عازمة بالفعل على تكليفها برعاية ظافر وإن رفضت فالقانون سيهوي عليها كسيفٍ مسلّط.
تصلّب وجهها وألقت بسؤالٍ حادٍّ كالسهم:
ــ “وأين ظافر؟”
انحنى ماهر قليلًا كمن يتهيّب من وقع الكلمة ثم قال:
ــ “السيّد ظافر في طريقه… سيصل قريبًا.”
ثم التفت إلى رجاله وأصدر أوامره بهدوء قاسٍ:
ــ “أدخلوا الأغراض.”
لكن صوت سيرين اخترق صمت اللحظة كصرخة مبحوحة:
ــ “انتظروا!… لا يمكن لظافر أن يعيش هنا!”
توقّف الرجال في أماكنهم ونظروا إلى ماهر الذي ظهر الارتباك على محيّاه، ثم قال بصوتٍ يحمل في داخله ثِقَل الرسالة:
ــ “السيّدة شادية أوصتني أن أقول لكِ: إن رفضتِ أن يبقى السيّد ظافر هنا فعليكِ العودة إلى قصره لرعايته… وإن رفضتِ حتى ذلك… فأنا واثق أن السيّد ليونارد قد أوضح لكِ المصير.”
سقطت كلمات ماهر على قلب سيرين كسياطٍ لا ترحم هي تدرك أنّها لن تُزجّ في السجن الآن ما دام في أحشائها طفل لكن الوقت يمضي… وبعد الولادة سيقتادها القدر إلى الجدران الباردة، إلى ظلامٍ آخر أشدّ وحشة من عمى ظافر.
اشتعلت النار في صدر **سيرين** فقبضت يديها حتى غاصت أظافرها في راحتيها والغضب يعصف بروحها كما الرياح العاتية بأغصان شجرة عتيقة حتى كادت أن تتمزق من الداخل فلم تعد تدري ماذا تفعل؛ كان الغضب أكبر من قدرتها على السيطرة والخذلان أعمق من أن يُوارى.
رأى **ماهر** الشرر المتطاير في عينيها ولم يستطع إلا أن يهمس بصدقٍ حمل انكسارًا داخليًا:
ــ “سيّدة تهامي… لا بل سأسمّيكِ بواقعكِ الحقيقي… سيّدتي **نصران**… أرجوكِ، اعتني بالسيّد ظافر… إنه يعيش وحيدًا في قصرٍ كأن جدرانه تُطبق عليه، يرفض أي يدٍ تمتد نحوه أنتِ لا تعلمين كم من الجروح نالت منه… هو نادم أقسم لكِ… ما زال يحبكِ حبًا ينهشه من الداخل… لقد اشترى منزل آل تهامي وأعاد بناء برج العائلة وأوشك البناء أن يكتمل لولا الحادث… كل ذلك لأجلكِ.”
ارتجفت أنفاس سيرين… كانت تلك أوّل مرة تسمع أحدًا يلقبها بـ **”السيّدة نصران”** والوقع كان كالسكين؛ حادًا، جارحًا، غريبًا.
ارتسمت على وجهها ابتسامة مُرّة كمن يتذوّق طَعم الملح في جرحٍ مفتوح وقالت بنبرة تمزج السخرية بالألم:
ــ “ماهر… أتعلم ما أشدّ قسوتكم؟ لقد كنتُ زوجته أعوامًا طويلة، لم يرَ أحد منكم فيّ يومًا أكثر من ظلٍّ في حياته… لم تُنادوني بـ (السيّدة نصران) إلا الآن… الآن فقط بعدما صار أعمى بعدما انهارت مملكته.”
ثم رفعت عينيها إليه والدموع تتلألأ في أطرافها كخناجر بلّلتها النار:
ــ “تقول إنه يحبني… لكنني لم أعد أحبه… أخبرني لو كنتَ مكاني… لو كنتَ أنتَ من عاش أعوامًا في الظل ثم قيل له فجأة إن من أهانه يحبّه… كيف ستشعر؟”
صمت ماهر وانطفأت الكلمات على شفتيه كشمعةٍ عاجزة أمام عاصفة ولم يجد ما يقوله فبقي واقفًا متجمّدًا بين ذنبٍ لا يحمله وولاءٍ لا يستطيع خيانته.
كانت الرياح تلفح وجه **سيرين** كصفعاتٍ جليدية تهبّ من عمق الليل بلا رحمة ورغم ثقل الملابس التي التحفت بها بدت نحيلة كغصنٍ جافٍّ يتمايل تحت وطأة الثلج المتساقط.
رقاقات بيضاء انهمرت فوق كتفيها كأن السماء نفسها تُصرّ على تذكيرها ببرودة العالم من حولها.
لم يبق أمامها سوى الاستسلام… فانحنت شفتيها بنبرةٍ جليّة كأنها تقطع حبلاً سريًا بين قلبها والذكرى:
ــ “يستطيع ظافر أن يأتي إن أراد… لكن ليتذكّر أنّ هذا البيت لي لا بيته لذا لا يُسمح له أن يجلب شيئًا من هناك.”
كانت كلماتها صلبة كحجر ألقي في بئرٍ خاوٍ وفي أعماقها ارتجفت ذكرى قديمة:
يوم دخلت قصر آل نصران لم يكن معها سوى حقيبة سفر وحيدة تفيض بأغراض شخصية باهتة… يومها قال لها **ظافر** ببرود لا يقل عن برودة تلك الليلة:
*”هذا منزلي، لا تُدخلي إليه شيئًا من ماضيك.”*
وها هو الزمن يدور دورته القاسية؛ ولم تخرج منه سوى ببعض الملابس الضرورية وبقلبٍ مثقل بالخذلان وكذلك سيدخل ظافر بيتها.
فتح **ماهر** فمه مترددًا عينيه معلّقتين بالمنزل المتهالك الذي بدا كجسدٍ عجوز يئنّ في صمت:
ــ “لكن—”
لم تتركه سيرين يكمل بل قطعت عليه الطريق بصلابةٍ لم تخلُ من مرارة:
ــ “إن رفض آل نصران هذا المكان فلن يكون أمامي سوى أن أطلب من ظافر أن يغادر.”
لم يجد ماهر ردًّا فانحنى لثقل اللحظة وأخرج ملابس ظافر، وحذاءه، وبعضًا من ضرورياته اليومية كان يستعد لحملها إلى الداخل لكن يد سيرين امتدت وأخذتها منه بحزمٍ لا يقبل نقاشًا.
ــ “أعطني إياها… إن كنتم تريدونني أن أعتني به… فليكن واضحًا: من الآن فصاعدًا لا يدخل أحد هذا البيت دون إذني سوى هو.”
تراجع ماهر بخطوةٍ صامتة وارتسم على وجهه ظلّ من الإحراج فلولا أن سيرين أوقفته لكان قد اتصل بفريقٍ لتجديد المنزل في الحال.
ــ “ومتى سيأتي؟” سألت وصوتها ينزلق ببطء كحجرٍ على جليد.
ردّ ماهر بصوتٍ منخفض وكل كلمة تخرج من صدره تحمل عبء اعترافٍ لم يُذنِب به:
ــ “في العاشرة مساءً… أي بعد أربع ساعات من الآن.”
سكنت اللحظة والثلج يتساقط بلا توقف كأنه يعدّ أنفاسهم واحدةً تلو الأخرى منتظرًا أن يكتمل اللقاء القادم.