رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والتسعون 299 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والتسعون


بعد أن أرسلت **سيرين** ماهرًا مع الحرّاس الشخصيين والخادمات عادت إلى غرفتها وقد أثقل قلبها عبء لم تعد تطيق حمله.

كان الصمت يلفّ المكان ككفنٍ يخبئ تحته أنينًا مكبوتًا بينما عقلها يتأرجح بين الواجب والخوف، بين الحاضر وما يخبّئه الغد.

كانت قد رتّبت بعناية أمر إدخال **نوح** إلى المستشفى أما **زكريّا** فكان غارقًا في عالمه الصغير يقرأ في غرفة الأطفال ببراءة لا يدرك معها عواصف الكبار لكن المسألة التي نكأت جرحها الأعمق والتي لم تعد تحتمل تأجيلها هي:

كيف ستُخبر زكريّا بقدوم **ظافر** ليعيش بينهم؟ كيف تُدخل هذا الاسم الثقيل كقدرٍ مُعلّق في رقابهم جميعًا إلى حياة صبيين لم يعرفا من أبوهما إلا ظلًّا مبتورًا؟

خطت سيرين نحو غرفة **فاطمة** أولًا كمن يبحث عن سند في بحرٍ هائج ودخلت إليها تروي ما حدث والكلمات تتساقط من شفتيها كما الحطب في نارٍ تزداد اشتعالًا.

مدّت فاطمة يدها وأمسكت بكف سيرين برفقٍ ممزوج باليأس وقالت بصوتٍ خافتٍ:

ــ “عليكِ أن تعتني بي وبالأطفال وحدكِ… كيف ستجدين في صدركِ متّسعًا للاعتناء به أيضًا؟ عائلة نصران جبل لا يُزحزحه قلب امرأة واحدة.”

كانت فاطمة فيما مضى تظن أن الأثرياء أكثر سخاءً من سائر الناس وأن القصور تخفي خلف جدرانها قلوبًا أرحب من قلوب الفقراء لكن التجارب صفعتها؛ فاكتشفت أن الثروة لا تزيد أصحابها إلا جفاءً وتدقيقًا في الحسابات وأن الذهب حين يلمع يحجب خلفه أرواحًا خاوية.

قالت سيرين وهي ترفع وجهها المرهق:

ــ “لن أهتم بظافر وإذا جاء فسأجعله يعتمد على نفسه في كل شيء.”

لكنّ الحقيقة التي تقضّ مضجعها كانت أكبر من ذلك بكثير فهمست بفزعٍ مكتوم:

ــ “زاك ونوح لا يعلمان بعد من هو أبوهما… وإذا جاء ظافر ليعيش هنا لا أعرف كيف سأفسّر لهما الأمر… نوح رآه من قبل وربما سيسهل عليّ خداعه خصوصًا وهو يقضي معظم وقته في المستشفى الآن… لكن زاك… زاك أذكى من أن تُخدع عيناه… أخشى أن يكتشف الحقيقة.”

تجمدت ملامح فاطمة وعيناها تعكسان عجزًا يوازي عجز سيرين نفسها.. لم يكن في جعبتها جواب فقد كانت تعرف جيدًا أن **آل نصران** قساة القلوب لا يعرفون رحمةً ولا عاطفة ولو علموا بأن زكريّا ونوح هما ابنا ظافر لانتزعوهما منها دون أن يرفّ لهم جفن.

فجأةرنّ الهاتف فاهتزّت عزلة **سيرين** وهي تنظر إلى الشاشة فإذا بها **كوثر**… تنهدت سيرين قبل أن تردّ وكأنها تستعد لمواجهة عاصفة أخرى جاءها صوت كوثر:

ــ “سيرين… هل يمكنني أن أستعير **زاك** لبعض الوقت؟”

تجمدت سيرين لبرهة فترددت الكلمات على لسانها بنبرة استغراب:

ــ “تستعيرينه؟!”

تنفست كوثر بعمق ثم خرج صوتها مثقلاً بالقهر كمن يجرّ وراءه خيبةً ثقيلة:

ــ “أتدرين ما حدث؟ لقد عاد **ليونارد** إلى خطيبته القديمة… إنهما يستعدان للزواج من جديد، بل تجرأ وأرسل إليّ دعوة زفاف،٪ كمن يسكب الملح على جرحٍ لم يندمل.”

صمتت لحظة قبل أن تتابع وقد انكسرت ملامح صوتها:

ــ “أليس هذا مثيرًا للسخرية؟ أريد أن آخذ زاك معي إلى الحفل… سيُقام بعد يومين… إن صبيًا متمرّدًا عبقريًا مثل **زكريّا** سيكون حضوره كشوكة في حلق ليونارد وسيعكّر عليه صفو مسرحيته البائسة.”

بينما كانت سيرين تُصغي كان عقلها يتخبّط بين هواجس أخرى لقد كانت تحاول أن تجد اللحظة المناسبة لتُخبر زكريّا بأمر **ظافر** ذلك القدر الثقيل الذي سيطرق أبواب حياتهم…وهكذا ربما يكون طلب كوثر فرصة للهروب من مواجهة الحقيقة لبعض الوقت.

أجابت سيرين بنبرة مترددة لكنها واضحة:

ــ “حسنًا… لكن عليكِ أن تعلمي أنّ **ظافر** سيأتي للعيش هنا قريبًا.”

ساد صمت مُطبق للحظات ثم دوّى صوت كوثر ممتلئًا بالاستنكار:

ــ “أيُعقل هذا؟ كيف يُلقي **آل نصران** برجلٍ أعمى على كاهلكِ ويطلبون منكِ أن تكوني له عكّازًا؟! أي ظلمٍ هذا؟”

أغلقت سيرين عينيها قليلًا محاولةً أن تُسكت ارتجاف قلبها قبل أن تقول بثباتٍ مصطنع:

ــ “لا تقلقي… لن يبقى طويلًا… لديّ خطتي الخاصة.”

سحبت كوثر أنفاسها كمن استسلم لفوضى قدرٍ لا يُقاوَم ثم قالت بلهجةٍ عازمة:

ــ “سآتي الآن… لأخذ زاك… لا وقت لنضيّعه، لقد قررت.”

ترددت سيرين كمن يقف عند مفترقٍ من الخوف والرضوخ ثم أجابت بسرعة وقد غلّفت صوتها بالعملية:

ــ “حسنًا… سأوصله إلى منتصف الطريق، نلتقي هناك، فالأمر لم يعد يحتمل التأجيل.”

ارتخت نبرة كوثر فجأة كأنها وجدت متنفسًا وسط الاختناق وقالت برحابةٍ تخفي ما في داخلها من غليان:

ــ “على ما يرام.”

وانطفأ الخطّ تاركًا وراءه ثِقلاً جديدًا في صدر سيرين كأنّ الكلمات لم تكن حوارًا بين صديقتين بل طعناتٍ متبادلة من الأقدار.

ما إن توصّلوا إلى اتفاق حتى أسرعت **سيرين** تخبر **فاطمة** ثم انطلقت بخطواتٍ متوترة إلى غرفة ابنها كمن يتهيأ لاقتلاع جزءٍ من قلبه وحزمه في حقيبة إذ أخذت تجمع أمتعته الصغيرة على عجل والدمع يوشك أن يخون عينيها فيما كان **زكريّا** جالسًا إلى جوار النافذة، عيناه تلتقطان مشاهد اليوم المتشابكة كما لو كان شاهدًا على مسرحية لم يختر حضورها.

لم ينبس بكلمة ظلّ واقفًا بخنوعٍ يليق بطفلٍ اعتاد أن يحمل أثقالًا أكبر من عمره وعندما اقتربت منه سيرين رفع رأسه بابتسامةٍ واهنة وقال بصوتٍ خافتٍ يشبه همس وصية:

ــ “أمي… أنتِ وجدتي ستعتنيا بأنفسكما في المنزل، أليس كذلك؟”

ضغطت سيرين على أنفاسها كي لا تنهار وأجابته وهي تحاول أن تغلّف ارتجافها بالثبات:

ــ “سنفعل يا حبيبي… سنفعل.”

ثم انحنت إليه تطوقه بذراعيها وكأنها تحاول أن تُخفيه في صدرها عن العالم كلّه لكن قلبها كان ينزف صامتًا كجدارٍ تُخدشه الرياح ولا يملك سوى الصمود.

قادته حتى منتصف الطريق وهناك كانت **كوثر** في انتظارهم بعينين يكسوهما القلق.

صعد زكريّا إلى السيارة دون جدال بينما ظلّت نظرات سيرين معلّقة به حتى ابتلعته المسافة.

طوال الرحلة كان صمت كوثر ثقيلاً حتى قطعه زكريّا فجأة بصوتٍ ناعمٍ فيه حكمة أكبر من عمره:

ــ “كوثر… هل مررتِ بانفصالٍ عاطفي؟”

التفتت إليه مذهولة كمن سمع اعترافًا غريبًا من فم طفل:

ــ “كيف تقول ذلك؟! لم أعش تجربة حبٍ أصلاً.”

ابتسم زكريّا بهدوء كنسمة في قلب عاصفة وقال بثقة طفل يعرف لغة القلوب أكثر من الكبار:

ــ “إذا شعرتِ بالحزن لا تكتمي دموعك… ابكي واتركي ما في صدرك يرحل مع البكاء.”

تزلزل قلب كوثر مع كلماته وغصّت بعبرتها كأن هذا الصغير مرآة تعكس جرحها العميق تتمتم وهي تحاول أن تخفي ارتجاف صوتها:

ــ “زاك… هل ستكبر لتصبح رجلًا سيئًا؟”

أجاب بعد لحظة صمتٍ قصيرة كمن يفكر بعمرٍ يفوق أعوامه:

ــ “لا أدري… لكن حتى لو أصبحت سيئًا، سأظل أعاملكِ وأعامل أمي بالخير.”

ارتعشت ملامح كوثر وغمر الدمع عينيها كفيضٍ لم يعد يحتمل الحبس فحاولت أن تخفف وطأة لحظتها بالسخرية تقول وهي تمسح دموعها سريعًا:

ــ “يا إلهي! كيف تكون بهذه الرقة في سنّك الصغير؟! ستغدو بالتأكيد زير نساء حين تكبر.”

ابتسم زكريّا بهدوء ثم رفع يده الصغيرة ليمسك بيدها:

ــ “كوثر… ستجدين من يهتم بكِ يومًا ما… وإن لم تجديه فسأكون أنا وأمي لكِ ذلك.”

تساقطت الكلمات في صدرها كبلسم على جرح مفتوح فأحنت رأسها قليلًا وقالت بامتنانٍ متألم:

ــ “شكرًا لكما… أنتما دائمًا إلى جانبي… أعِدني إذا احتجتُك يومًا ما ستكون سندي.”

شدّ زكريّا على يدها بجدية تفوق سنّه وقال بعزم:

ــ “أعدكِ، ولن أتراجع أبدًا.”

عندها أدرك زكريا فجأة أن كوثر لم تكن سوى طفلة كبيرة تختبئ خلف أقنعتها وتفتعل المواقف فقط لتسمع من شفاهه كلماتٍ تُعيدها للحياة من جديد.


تعليقات