رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة
حين عادت **سيرين** إلى المنزل كانت عقارب الساعة قد تجاوزت التاسعة يخيَّل إليها أن الليل يزحف بثقله ليُطبق على صدرها أكثر فأكثر.
دخلت المخزن القديم ذاك الركن الذي طالما اعتبرته زاوية منسية فأفرغته وأعدّته على عجل ليكون مأوى لضيفٍ ثقيل… فرشته بأثاث متواضع لا بريق فيه ولا دفء لكنه يحتوي على حمّامٍ خاص يكفي لأن يُبقي ظافر بعيدًا عنها وعن **فاطمة** بل بعيدًا عن نبض بيتها وحميميته.
حلّ الليل كوشاحٍ أسود وسكنت الأزقة أصوات البشر إلى أن انشقّ الصمت عند تمام العاشرة على هديرٍ مكتوم لسيارةٍ فارهة توقّفت أمام باب المنزل… سيارة **مايباخ** كتلك بلمعانها الغريب وسط الحي البائس بدت ككائنٍ دخيل يرفض الانتماء إلى هذا المكان.
في المقعد الخلفي جلس **ظافر** عيناه الزجاجيتان تتجهان إلى الفراغ، خاويتان من أي بريق كبحيرتين جمدتهما قسوة الشتاء… لم يظهر على ملامحه أي انفعال كأن وجهه صار قناعًا من حجر.
ترجّل السائق **مارتن** بخطوات مترددة واقترب من نافذة السيارة بانحناءة خفيفة تحمل الاحترام الممزوج بالشفقة، ثم قال بصوتٍ خافت:
ــ “سيدي ظافر، لقد وصلنا… سأستدعي السيدة نصران لتأخذك.”
كان ظافر وحيدًا كما أرادت.. لم يصطحب معه حرسًا ولا خدمًا فقط مارتن… ظلٌّ صامت يمشي في إثره.
في داخله عادت تتردّد كلماته الأخيرة لـ **سيرين** حين خرجا من المحكمة:
*”لن أزعجكِ مجددًا.”* لكن القدر لم يكن يملك الاستماع لوعدٍ كهذا.
فتح ظافر الباب ببطء ينزل بخطى ثابتة كأنه يرفض الاعتراف بضعفه ومن ثم رفع رأسه وقال بصلابةٍ مجروحة:
ــ “خذني إلى هناك.”
مدّ مارتن ذراعه بتردد كمن يقدّم طوق نجاة لرجلٍ يغرق لكن ظافر أبى المساعدة إذ تراجع كبرياؤه أمام فكرة أن يكون عالة على يدٍ تمسك به فقال بصوتٍ حادٍ فيه بقايا من سلطانٍ مضى:
ــ “لا تلمسني… فقط دلّني… أخبرني أي اتجاهٍ أسلك.”
كان ظافر يشعر بأن لمس الآخر له يذكّره بضعفه يزرع في صدره شعورًا بكونه عديم الفائدة لذا اختار أن يمشي وحيدًا، أن يجرّ خطواته وسط العتمة وكأنها سلاسل تُقيّد قدميه لكنه يمضي بها رغمًا عن كل شيء.
ــ “على ما يرام يا سيدي.”
قالها مارتن وراح يوجّهه بالكلمات خطوةً تلو الأخرى حتى بلغ الباب الأمامي.
هناك، ارتسمت المفارقة المؤلمة:
بابٌ مغلق، لا أحد ينتظره، لا دفء يستقبله. في حين كان مارتن يتوقع أن يجد **سيرين** واقفة تُطالع مجيء سيده بوجهٍ جامد على الأقل لكنها لم تفعل بل ظلّ الباب موصدًا في وجههما كما لو كان جدارًا من الصمت يرفض الانكسار.
لم يجد مارتن بُدًّا من أن يطرق الباب طرقات مترددة كسقوط قطرات مطرٍ على صفيحٍ بارد… لحظة طويلة مرّت امتدت كعُمرٍ كامل قبل أن يُسمع أخيرًا صرير القفل وحين فُتح الباب ظهرت **سيرين** واقفة بعينين متحفّظتين كأنها تقف عند حدودٍ فاصلة بين ماضيٍ مُثقل بالحُب الجريح وحاضرٍ لا يمكن التراجع عنه.
هبَّت نسمةٌ باردة كأنها سكينٌ شفافة تتسلل من شقوق الليل إلى صدر المنزل فارتجفت **سيرين** وجذبت ثوبها حول كتفيها بإحكامٍ لتصدَّ غزوة الريح ولم ترفع عينيها إلى وجه **ظافر**… لم تلتفت حتى إلى حضوره كأن الظلام وحده هو من دخل معها ومن ثم قالت ببرودٍ يقطّر جفاءً:
ــ “ادخل إذن.”
تبعها **ظافر** بخطواتٍ مترددة يتلمس الهواء كمن يبحث عن خيطٍ يقوده فيما وقف **مارتن** عند العتبة متسمّرًا لا يملك أن يعبر حدود ذلك البيت الذي يفيض توترًا يدرك أن دوره ينتهي هنا لكنه لم يجرؤ على المغادرة فورًا فشيئًا داخلي أجبره على الترقب.
وفي اللحظة التي استدار فيها مارتن لينسحب دوّى في أذنه صوتٌ حادّ كتحطّم زجاجٍ صامت جعل قلبه يقفز من مكانه فالتفت بفزعٍ إلى الداخل ليرَ ما لم يكن يتمنى أن يراه:
**ظافر** وحيدًا في عماه يصطدم بزاوية الأريكة بعنفٍ يتخبّط في فراغٍ لا يرحم… أما **سيرين** فقد مضت أمامه بظهرٍ مستقيم كأنها لا تسمع ولا ترى تاركةً إيّاه أسير وحدته، غريبًا في بيتٍ كان من المفترض أن يكون بيته.
فتح **مارتن** شفتيه ليقول شيئًا، ليعترض، ليذكّرها بأن هذا الرجل رغم كل شيء ما يزال زوجها لكن الكلمات خنقها الحياء والرهبة فما بينهما ليس شأنه وما خفي من جراحٍ بين زوجين أعمق من أن يقتحمه غريب لذا اكتفى بأن زفر تنهيدةً طويلة أثقلتها الذكرى وحين عاد إلى مقعده خلف المقود هاجمته صور الماضي فقد تذكّر كم من مرة كان يقود فيها سيارة **ظافر** وهو يراه يُلقي على **سيرين** كلماتٍ أشد قسوة من السكاكين، وكم من مرة رآها تُطأطئ رأسها في صمتٍ جريح أما الآن وهو يرى سيده يتعثّر في عماه شعر بوخزة في قلبه: فقَسوةُ الأمس انقلبت على صاحبها… لذا أقسم مارتن في نفسه وهو يشدّ يديه على عجلة القيادة:
*لن أسمح لزوجتي يومًا أن تشعر بما شعرت به سيرين… ولن أكرر أخطاء رجلٍ عاش كل شيء ثم فقد كل شيء.
داخل المنزل حدّقت سيرين بعينيها في ظافر الذي ارتطم بالأريكة كمن يتلمّس طريقه وسط عتمةٍ بلا نجوم ثم قالت ببرودٍ يتسلّل من بين شفتيها كسهمٍ مكسور:
“ألا يمكنك أن تكون أكثر حذرًا وأنت تتجوّل؟ إنّ أفخم ما في هذا البيت تلك الأريكة ومع ذلك لم تسلم منك.”
لكنّ صوته جاءها هادئًا، عميقًا، يحمل شيئًا من الاستسلام المؤلم:
“سأتذكّر ذلك.”
ارتبكت كأنّ الصوت الذي ارتطم بأذنها قد حرّك شظايا من ذاكرةٍ كانت تظنّها قد دفنت وليكتمل العجب أردف ظافر بصوتٍ أكثر خفوتًا فيه رائحة اعتذار لم تعهده:
“لا تغضبي… سأطلب من أحدهم أن يحضر أريكة جديدة غدًا.”
تشنّجت أنفاسها؛ فهي لم تكن معتادة على أن تراه متواضعًا، منكسراً على هذا النحو… كانت على وشك أن تُمعن في توبيخه لكنّ الخجل باغتها كصفعةٍ ناعمة فقالت بنبرةٍ قاطعة وكأنها تحاول أن تبني جدارًا بينها وبينه:
“لا أريد أغراض منك… ولا يُسمح لك بتوصيل اي شيء إلى هنا… اتبعني إلى غرفتك.”
مدّ يده المرتجفة نحو ذراعها لكنّها سحبت يدها سريعًا كمن يهرب من جمرةٍ مشتعلة تقول بجفاء:
“لن أعتني بك… إن أردت البقاء هنا فعليك أن تعتمد على نفسك.”
ارتفعت تفاحة آدم في عنقه ثم هبطت كما تهوي صخرة في بئرٍ عميق وقال بصوتٍ مبحوح:
“حسنًا.”
لم يكن قد خطرت له يومًا فكرة أن يضع نفسه عبئًا عليها لكنه في تلك اللحظة بدا كمن يبتلع هزيمةً بلا صوت… فلم يكن أمامه سوى أن يرهف سمعه لوقع خطواتها فتبِعها نحو المخزن الضيق الذي أعدّته له.
توقّفت أمامه وهي تشير كمن يرسم حدودًا صارمة:
“أمي بالتبنّي، فاطمة، تعيش هنا أيضًا… احذر حين تتحرّك في هذا البيت ولا تغادر غرفتك إلا إذا اضطررت.”
أومأ برأسه كطفلٍ مذعن وصوتها يرنّ في أذنه كوصيةٍ صارمة، يجيبها:
“حسنًا.”
كان وجهه شاحبًا كصفحةٍ بيضاء فقدت كل سطورها؛ ذاكرته الممحوة جعلته يبدو رجلاً آخر غريبًا حتى على نفسه لكنه رقيق وهش بل وجذاب أيضاً.
حين أيقنت سيرين أنّ لا شيء آخر يستدعي بقائها معه وأنّ الليل قد ابتلع ما تبقّى من صبرها استدارت وغادرت إلى غرفة فاطمة وأخبرتها أنّ ظافر سينام في الطابق السفلي، وما كادت أن تنهي حديثها حتى ارتجّ صمت البيت على وقع صوتٍ قويٍّ انبثق من الأسفل كأنّ الأرض ذاتها قد لفظت أنينًا مكتومًا.
يا كبد أمك يا ظافر، منك لله يا بت سارة يجيلك ويحط عليكي يا بعيدة.