![]() |
رواية قلوب لا ترمم الفصل الثاني بقلم نورهان موسي
«وقد تتحدث العيونُ بما لا يشتهي اللسانُ قوله»
كانت الأجواء مشحونة بالتوتر، وكأن ظهور "علياء" قد نكأ جرحًا قديمًا لم يُشفَ بعد. تسارعت نبضات الجميع حين أطلت بطلّتها المهيبة، وكأنها شبح من ماضٍ لم يُنسَ، يعيد الذكريات التي دفنوها تحت رماد النسيان.
أما هي، فبداخلها كان يشتعل إعصار من المشاعر المتضاربة. كلما مرّت صورة من الماضي أمام عينيها، شعرت بقلبها يهتز بعنف، وكأن ما جرى بالأمس لم يكن إلا لحظة مضت لتخنق أنفاسها اليوم. كيف كانت بذلك الضعف؟ كيف صدقت يومًا أنه أحبها؟!
استفاقت من شرودها فجأة، لتسحب قناع البرود على وجهها من جديد، وتخفي خلفه كل ألم دفين، تمامًا في اللحظة التي دوى فيها صوت منظم المؤتمر عبر الميكروفون، معلنًا اسم الشركة التي تصدرت قائمة النجاح:
_ "ودلوقتي يا جماعة، رئيس مجلس إدارة شركة A.M هتطلع تتكلم بنفسها."
تجمّدت ملامح "بدر"، واتسعت حدقتا عينيه في ذهول، كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة. تجمّدت الكلمات في حلقه، وكأن صاعقة ضربت صدره، ليكتشف أخيرًا من تكون صاحبة الشركة التي انتزعت منه صفقة العمر... والكرامة.
رآها تتقدّم بين الحضور بخطوات واثقة، وكأنها تسير على عرش صنعته من دموعه القديمة. نظراتها كانت سيوفًا مسنونة، تطعن بلا رحمة، وابتسامتها... تلك الابتسامة الخبيثة التي زينت شفتيها، لم تكن سوى إعلان صريح بالانتصار والانتقام.
وقفت أمام الجميع، وصوتها ينساب بثبات أشعل النيران في صدره:
_ "مساء الخير... أنا عليا أكرم الحسيني، رئيس مجلس إدارة شركة A.M جروب. سعيدة بوجودي معاكم في المؤتمر النهاردة."
كلماتها خرجت بلهجة ناعمة، لكنها كانت كالرصاص، موجهة نحوه وحده دون أن تذكر اسمه. لم يكن أحد بحاجة للتفسير... كل كلمة قيلت كانت له، وكل نظرة كانت نحوه، وكل انتصار هو هزيمته.
اشتعلت النيران في صدر "بدر"، وغلت الدماء في عروقه، كأن بركانًا على وشك الانفجار. لم يكن يتخيل يومًا أن تكون هي من تقف في مواجهته، منافسته، وقاهرته. كان يدقق النظر في ملامحها، يبحث عن تلك الفتاة التي أحبها يومًا، فلم يجد إلا سيدة قوية، صارمة، تلبس الانتقام كدرع، وتلوّح بابتسامتها كأنها خنجر مسموم.
إلى جواره، كانت هناك عيون أخرى تتابع "علياء"... عيون امتلأت بالغيرة والضغينة، تشتعل حقدًا من أناقتها اللافتة وجمالها الذي يأسر العقول. امرأة كانت تظن نفسها محور اهتمامه، فإذا بها ترى نظراته تسرق إليه من جديد، وكأن الزمن عاد به إلى الوراء دون إذن.
أما "علياء "، فكانت تشعر بذلك. كانت تحترق من الداخل، لكنها كانت تعلم أن اللحظة لحظتها، وأن الضعف لم يعد مكانه في قلبها. رفعت رأسها عاليًا، وأكملت عرضها بثقة المنتصر، بينما في أعماقها… كانت تتصارع آلاف الأحاسيس التي لم تهدأ منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها حياته.
*************
صرخ بانفعال ممزوج بالغضب، وهو يتحرك في الغرفة جيئة وذهابًا كأنما أسد حُبس في قفص ضيق:
_ "أنا مش فاهم... ليه مُصرة تعاملني كأني طفل؟!"
كان يمرر كفّيه على خصلات شعره بعنف، يكرر الحركة المرة تلو الأخرى حتى كاد أن يقتلعها من جذورها، وكأنما يحاول انتزاع الألم من رأسه بالقوة.
اقتربت منه "حياة" بخطوات مترددة، ثم أمسكت بيديه المرتجفتين وقبّلتهما بحنانٍ عميق، محاولة امتصاص انفعاله بصوتها الرقيق:
_ "حبيبي، ممكن تهدأ شوية؟ علياء مش بتعمل كده عشان تقلل منك، هي بتحبك، وكل اللي بتعمله ده من خوفها عليك. هي قالت بنفسها إن كل حاجة هتظهر في الوقت المناسب."
تنهد بمرارة، وصوته يخرج مثقلاً بالحزن:
_ "بس لحد إمتى؟! أنا تعبت... وهي كمان. لازم تبدأ تشوف حياتها، تعيش سنها، تستمتع زي باقي البنات. ضحّت عشاني كتير... وجيه الوقت اللي أضحي أنا عشانها."
نظرت إليه "حياة" بعينين متسائلتين، عقدت حاجبيها بقلق وسألته:
_ "مش فاهمة قصدك إيه بأنك هتضحي عشانها؟"
أفاق من شروده على وقع صوتها القلق، استدار نحوها، وابتسم ابتسامة دافئة، ثم سحبها برفق إلى أحضانه، وهمس بنبرة مطمئنة:
_ "ما تخافيش يا حبيبتي... مفيش حاجة تقلق أبداً."
ثم أردف بنبرة ماكرة، وهو يغمز لها بعينه:
_ "بس في موضوع خطير جداً... عايزك فيه حالاً."
ابتعدت عنه فجأة وهي تهتف بجديّة، وقد احمرّ وجهها خجلًا:
_ "انسَ قلة الأدب اللي في دماغك! ابنك موجود يا بابا!"
رفع حاجبيه بدهشة وهو يكرر كلمتها الأخيرة باستنكار ساخر:
_ "بابا؟!"
اقترب منها ببطء، حتى التصق جسده بجسدها، وارتدّ ظهرها إلى الحائط، ثم همس قرب أذنها بنبرة تفيض عشقًا ودفئًا وهو يطبع قبلة خفيفة على عنقها، صاعدًا بشفتيه إلى فمها المرتجف:
_ "بحبك... يا حياة قلبي."
كانت لمساته كالسحر، تتسلل إلى أعماق روحها وتذيب كل مقاومة بداخلها. انمحى العالم من حولها، لم تعد تسمع شيئًا سوى خفقات قلبها المتسارعة، ولم ترَ سوى عينيه الغارقتين بالشوق.
شهقت بصوتٍ منخفض حين رفعها بين ذراعيه ووضعها على الفراش برفق، وكأنها كنز يخشى أن ينكسر... ثم غابا معًا في جنة عشق تملؤها الحميمية، حيث لا وجود إلا لهما وحدهما، وكل شيء آخر بات مجرد صدى بعيد لا يُذكر.
************
انتفض "فريد" كمن صُفع على وجهه، وقد حاول جاهدًا استيعاب ما سمعه للتو. اتسعت حدقتا عينيه في ذهول، وجحظتا وكأنما رأى كابوسًا يتجسد أمامه. جاهد لإخراج صوته من بين شفتيه اليابستين، فخرج مبحوحًا متقطعًا:
_ "أنت... عرفت منين؟!.. طيب، جهّز الرجّالة، أنا جاي على طول... مش هتأخر."
أغلق الهاتف بعنف، بينما كان قلبه يخفق بسرعة تكاد تفتك بصدره. جلس مطأطئ الرأس، يُخفي وجهه بين كفيه، يئنّ داخليًا كبركان مكبوت.
دخلت زوجته في تلك اللحظة، لتجده غارقًا في دوامة من الغضب والذهول. حدقت فيه بقلق، وقد شعرت بثقل أجواء المكان ونذر الخطر تحوم حوله، فهتفت بتوجّس:
_ "حصل إيه يا فريد؟! وليه كنت بتزعق كده؟!"
رفع رأسه ببطء... وكأنما كشف الغطاء عن ملامح رجل آخر، لا تعرفه. ملامحه كانت مشدودة، قاسية، يغمرها الشر... عيناه تبرقان بحقدٍ أسود. نظر إليها بغضب مكتوم، ورد بنبرة تنذر بالعاصفة:
_ "بنت أكرم كانت بتضحك عليا السنين دي كلها... والله، لأخلّيها تندم! هتندم إنها لعبت معايا... وهتاخد جزاها، وهآخد منها كل اللي أنا عايزه!"
ارتعد جسدها من وقع كلماته، وانكمشت ملامحها خوفًا من النظرة الحارقة التي سكنت عينيه. نهض من مجلسه بعنف، وكأن قوة خفية تدفعه، وكأنه لا يرى أمامه.
تابعته بعينين مذعورتين، وهتفت بنبرة تخالطها الدموع:
_ "رايح فين؟! استنى بس... فهّمني إيه اللي حصل؟!"
استدار نحوها بحدة، كمن فقد السيطرة على نفسه، وردّ بنبرة كالصاعقة أفزعتها:
_ "لازم آخد حقي... وأفهمها إنها اختارت الطير الغلط... مش كل طير يتاكل لحمه!"
ثم التفت وغادر كعاصفة هوجاء، تاركًا إياها خلفه ترتعش من الخوف، قلبها يطرق صدرها بقوة. أمسكت بهاتفها بيد مرتجفة، وراحت تتصل بـ"علياء" مرارًا وتكرارًا، محاوِلة تحذيرها مما هو آتٍ... لكن بلا فائدة، لا رد.
************
كانت تقف إلى جوار الوزير، تشكره بابتسامة هادئة على تلك الاستضافة الخاصة، فيما كان هو يرد عليها بنبرة يغلفها الإعجاب:
_ "بجد أنا بحييكي على النجاح الكبير للمشاريع اللي اتنفذت على أرض الواقع. المشاريع دي هتخلق فرص عمل محترمة لعدد كبير من الشباب، وكمان هتفيد المجتمع كله."
ابتسمت له بثقة وثبات، وقالت بعزيمة واضحة:
_ "العفو يا فندم، دي أقل حاجة أقدر أقدمها لبلدي. أنا بنت البلد دي، وخدمتها شرف ليا."
ثم أشار الوزير بيده نحو بدر المنياوي، الذي كان يقف غير بعيد، يوليهم ظهره، يتحدث مع أحد شركائه، فيما كانت رغده تلتصق به عن عمد، ترسل رسالة صامتة أن بدر لها وحدها.
قال الوزير وهو يبتسم:
_ "تعالي أعرّفك على بدر المنياوي... راجل أعمال ناجح زيك كده، وممكن تعملوا شغل جامد مع بعض."
شعرت علياء بتوتر خفي يجتاح أوصالها، لكنها جمعت شتات قوتها وتقدمت بثبات، تخفي عاصفة قلبها الذي كان يدق بعنف كلما اقتربت أكثر. ومع كل خطوة، كانت عيناها تلمعان بالاشتياق والمرارة حتى انقلب هذا الشعور إلى غضب عارم، حين رأت رغده تمسك بيده بتملك واضح.
صرخ الوزير بابتسامة:
_ "بدر، أعرّفك على مدام علياء الحسيني."
استدار بدر ببطء، وما إن وقعت عيناه عليها حتى تصلب جسده كصخرة صماء. التقت نظراتهما، اشتعلت بينهما نيران دفينة. حاول بدر أن يخفي اضطرابه خلف ابتسامة مصطنعة، وقال موجهاً حديثه للوزير:
_ "أهلاً بيك يا معالي الوزير."
ثم التفت نحوها، يحدق فيها كأنما يحفر ملامحها داخله، وقال بنبرة خشنة:
_ "اتشرفت بمعرفتك يا مدام."
هزت علياء رأسها بإيماءة مقتضبة، تخفي الزلزال الذي اجتاحها، وشريط الذكريات يمر أمام عينيها بلا رحمة.
استأذن الوزير وغادر بعد مكالمة هاتفية عاجلة، ليتركهما في مواجهة محتدمة. اقترب بدر منها وانتزع يد رغده بعنف وهو يقول بحدة:
_ "خليكي هنا وارجعي ع الترابيزة."
ثم قبض على ذراع علياء وسحبها بعيدًا عن الأعين. حاولت أن تفلت ذراعها، نجحت للحظة، لكنه جذبها من جديد، لصقت بصدره الذي يهتز مع أنفاسه المضطربة. اقترب من أذنها، وهمس بخشونة لاذعة:
_ "جاية ليه تاني؟ مش كفاية اللي حصل؟ ولا ما اتعلمتيش الدرس؟! أنا بمنتهى البساطة أفضحك قدام الناس اللي جوه... اللي فاكرينك ست عظيمة وملاك!"
اهتز جسدها من شدة الألم والقهر، وضباب كثيف غطى عينيها. رفعت ذراعيها بعنف ودفعت صدره لتبتعد عنه، وقالت بصوت متهدج تخنقه الدموع:
_ "صدقني يا بدر، هتندم... هتندم على كل كلمة قلتها، وكل إهانة وجهتها ليا. وهتعرف كويس مين اللي كان بيحبك بجد، ومين اللي خانك بجد!"
ارتبك بدر للحظة، وتلعثم قبل أن يقول بنبرة مترددة، يحاول أن يخفي اضطرابه:
_ "تقوليلي قصدك إيه؟ وضحي كلامك."
ابتسمت بسخرية مؤلمة، وعيناها تلمعان بمرارة وقالت بنبرة لاذعة:
_ "بكرة تعرف كل حاجة... كل حاجة في وقتها يا بدر بيه."
استدارت وغادرت بخطوات غاضبة، وصدرها يعلو ويهبط من شدة الانفعالات، فيما تركته خلفها غارقًا في صدمة لا يعرف لها مخرجًا.
استدارت علياء تغادر، ظهرها مشدود، وكتفيها يرتجفان رغم محاولتها التماسك.
كان صدرها يعلو ويهبط بعنف، وكأنها تخوض معركة ضد دموعها التي كانت تملأ عينيها، تهدد بالانهيار في أي لحظة.
أما بدر، فظل واقفًا مكانه، يتابعها بنظرات مشتعلة بالذهول والمرارة.
قبضته ارتجفت بجانبه لا إرادياً، حتى أظافره غرزت في راحة يده من شدة الغضب المكبوت.
عينيه كانت تائهة، تطارد خطواتها وكأنها آخر طوق نجاة ضاع منه دون رحمة.
شفتيه كانت ترتجف، وعروق عنقه بارزة من فرط الانفعال، وكأنه يحبس صرخة حارقة داخله.
حاول أن ينطق، أن ينادي عليها، لكن الكلمات علقت في حلقه، خانته كما خانته مشاعره.
علياء كانت تتمايل بخطوات مرتبكة فوق الأرض الرخامية، كأن الأرض تهتز تحت قدميها.
بين الحين والآخر كانت ترفع يدها المرتعشة تمسح دمعة خائنة انسابت رغماً عنها.
عينيها كانت مشتعلة بمزيج رهيب من الغضب والحزن، تحمل في نظراتها وعدًا بالانتقام... وانتظار الحقيقة.
شعر بدر وكأن المسافة بينه وبينها تبتلع أنفاسه.
كل حركة من حركاتها كانت تطعن قلبه طعنة أعمق.
ورغم كل شيء، رغم جرح الكرامة والخذلان، وجد نفسه يتمنى لو يستطيع أن يركض خلفها، يحتضنها ويكسر كل هذا الجليد الذي تراكم بينهما.
لكن كبرياؤه كان أقسى من قلبه.
شد قامته بقسوة، كأنما يحتمي بها من الانهيار.
أغلق عينيه لثوانٍ يحارب بها نوبة وجع جارفة، قبل أن يفتحهما مجددًا وقد خبا لمعان الشر فيهما، وتحولتا إلى حفرتين من الألم المكبوت.
وبينما كانت تختفي علياء وسط الزحام، همس بدر لنفسه بمرارة بالكاد سُمعت:
_ "بكرة... بكرة أعرف كل حاجة..."
ثم استدار، وهو يشعر أن خطواته أصبحت أثقل من أن يحملها جسده، وكأن قلبه نفسه قد صار مقيدًا بقيود من ندم وأسرار لا يعرف لها مخرجًا.
***************
على الجانب الآخر، داخل القاعة، كانت علامات الدهشة ترتسم جليًا على وجوه أفراد عائلة بدر، وقد اتسعت أعينهم وارتفعت حواجبهم في ذهول واضح مع عودة علياء المفاجئة إلى الساحة.
بدأت الأحاديث الجانبية تتصاعد بينهم همسًا، نظرات مترقبة وفضولية تتنقل بينها وبين بدر، وكأنهم يحاولون قراءة ما خفي عنهم من أحداث وأسرار.
أما رغده، فقد جلست في أقصى طرف الطاولة، كتفيها مشدودان، وشفتيها معقودتان بامتعاض بالغ.
كانت قبضتاها مشدودتين فوق حجرها حتى ابيضت مفاصلها، ووجهها احمرَّ من شدة الغيظ والانفعال.
كانت تتذكر تركه لها بتلك الطريقة المهينة، وكيف جذب علياء دون أن يكترث بوجودها أو بمشاعرها المتقدة.
راحت تزم شفتيها بقوة، وعيناها تلتمعان ببريق حاقد، تكاد شرارات الغضب تتطاير منهما.
في داخلها، كانت تغلي كالمرجل، تتوعد لكل من تسبب في إذلالها، تخطط في صمت لأن ترد الصفعة مضاعفة، لا رحمة فيها ولا شفقة.
شعرت كأنها تبتلع غصة خانقة كلما رأت نظرات الإعجاب الخفية التي لاحقت علياء من بعض الحاضرين.
كانت تشعر أن كبرياءها الجريح ينزف بلا توقف، وأقسمت في داخلها أنها لن تسمح لهم بالانتصار عليها... أبداً.