![]() |
رواية قلوب لا ترمم الفصل الثالث بقلم نورهان موسي
«عندما نظرتُ إلى عينيكِ، أيقنتُ أنني أقف أمام كل ما تمنّيته يومًا.»
في مساء اليوم نفسه
أُقيم حفل فاخر احتفالًا بنجاح المؤتمر، حيث تزينت القاعة بأضواءٍ مبهرة وأنغامٍ موسيقية تملأ الأجواء بهجة.
كان الجميع يتابع فعاليات الحفل بحماس، بينما جلس بدر إلى جوار عائلته، عيناه تجولان بلهفة بين الحضور بحثًا عنها، وكأن روحه لا تهدأ دون رؤيتها.
مرّت ثوانٍ معدودة قبل أن تتجمد نظراته، واحتقن وجهه بالغضب، واحمرت عيناه حتى كاد الشرر يتطاير منهما.
كاد الدم يغلي في عروقه وهو يراها تسير برفقة مراد، تمسك بذراعه برفق، مرتدية فستانًا أحمر عاري الكتفين، يلتصق بجسدها بإغواء فاضح، يزيدها فتنةً وسحرًا حتى سلبت أنفاسه.
نهض فجأة من مقعده، يكاد ينفجر من الغيظ، إلا أن يد جده امتدت بثبات وقبضت على ذراعه، يهز رأسه بالنفي، في إشارة صامتة لكبح جماح غضبه.
بصعوبةٍ بالغة، عاد بدر إلى مقعده، والنيران تشتعل في صدره أكثر، يعتصر كفيه فوق ركبتيه محاولًا أن يخفي الانفجار الكامن داخله.
على الجانب الآخر من القاعة،
كان مراد يبتسم برقة وهو يتحدث مع زين الصغير، ينحني نحوه يمازحه بحنان، بينما تراقبهم عليا، تغمرها سعادة خفية لرؤيتهما يتبادلان الضحكات.
مالت نحوه مبتسمة، تقول بتساؤلٍ دافئ:
_ "حياة مجتش معاك؟! حصل حاجة بينكم؟"
رفع مراد بصره إليها، وهز رأسه نافياً، مجيبًا بهدوء:
_ "لا خالص، هي بس تعبانة شوية وعندها دور برد، فحبت ترتاح... وأنا خدت الباشا ده أهو يغير جو شوية."
ابتسمت علياء بحنو وهي تهز رأسها تفهمًا، غير أن حواسها التقطت نظرات ثاقبة مشتعلة بالغضب تلاحقها من بعيد...
تجاهلت ذلك عمدًا، وأرادت زيادة النار اشتعالًا في صدره.
مالت على مراد تقبله على وجنته برقة واضحة، وهمست له وهي تبتسم بمكر، متعمدة أن يراها بدر:
_ "أنا فرحانة قوي إنك مبسوط في مصر، يا حبيبي."
اشتعل الغضب في عيني بدر أكثر، وقد شعر وكأن الدم يفور في عروقه.
أمسك مراد يديها بحماس حقيقي وهو يردف بلهجةٍ مفعمة بالحيوية:
_ "فرحان؟! دي كلمة قليلة... إنتي مش متخيلة كنت مخنوق قد إيه! كأني كنت عايش في سجن وطلعت للنور."
تسللت لمسة من الحزن إلى قلب علياء، وهي ترى في عيني شقيقها الصغير انعكاسًا لكل الألم الذي عاشه بعيدًا عنها.
ضغطت على يده بحبٍ أخوي صادق، تخفي دمعة حبيسة خلف ابتسامتها القوية، وواصلت متابعة فعاليات الحفل، فيما كانت المشاعر تتقلب داخلها كعاصفة لا تهدأ.
ورغم محاولات علياء للتماسك، إلا أن عينها لم تستطع أن تمنع نفسها من التسلل إلى حيث يجلس بدر، تراقبه خلسة.
كان يجلس صامتًا، جسده مشدود، يكاد يطحن أسنانه من شدة الغضب، وكفيه ينقبضان فوق ركبتيه بقوة بالغة حتى ابيضّت مفاصله.
لم تكن بحاجة لأن تسمع صوته كي تعرف مدى اشتعاله، فقد كانت نظراته وحدها كافية لإشعال الحريق في أي مكان تقع عليه.
ورغم كل ما يحترق بداخله، ظل يحبس غضبه خلف قناع صلب من الجمود، وكأنما يخوض معركة شرسة مع نفسه كي لا ينهض ويطيح بكل شيء.
أما رغده، التي كانت تراقب الموقف بعينين جاحظتين من الطرف الآخر للطاولة، فقد اشتعلت غيرتها وغضبها حتى كاد وجهها أن ينفجر من الاحمرار.
كانت قبضتاها مضمومتين بقوة فوق حجرها، تكاد أن تخترق أظافرها جلدها من شدة الغيظ، وهي ترى عليا تسرق أنظار بدر وقلبه دون أن تبذل جهدًا يُذكر.
وهي تتذكر كيف تركها بدر في لحظة غضبٍ قبل قليل، توعدت لهما في داخلها، أقسمت ألا تترك هذه الإهانة تمر مرور الكرام، وكانت نار الحقد تشتعل في صدرها بلا رحمة.
في تلك اللحظة، كان الشرر يتطاير من عيني بدر، ونظراته الحادة تكاد تفتك بما تقع عليه من شدة الغضب، حتى انتفرت عروق رقبته وتصلبت عضلاته من فرط التوتر، وهو يراها تبتسم بسعادة وتطبع قبلة خفيفة على وجنة مراد.
ازدادت نيران غيرته اشتعالًا، لكنه فجأة تجمد مكانه، وتبدلت ملامحه الغاضبة إلى صدمة وحيرة، حين وقعت عيناه على ذلك الطفل الصغير الجالس بجوارها، نسخة مصغرة من ملامح ذلك الرجل.
غاص في بحار أفكاره، يفتش عن إجابة تشفي لوعته:
هل من الممكن أن يكون هذا الطفل ابنها؟ هل تحمل ملامحه سرًا كانت تخفيه عنه طوال تلك السنوات؟
أفاق من دوامة أفكاره على صوت رغده، وهي تهمس بجوار أذنه بنبرة ممتلئة بالغضب والمرارة:
ــ "كفاية تبص عليها! معقول لسه بتحبها بعد كل اللي عملته فيك؟ طب على الأقل احترمني قدام الناس!"
التفت بدر إليها ببطء، كوحش جريح، وانطلقت كلماته بصوت خفيض لكنه يحمل شراسة بثت الرعب في أوصالها:
ــ "انتي عارفة إني عمري ما حبيتك... واتجوزتك بس عشان جدي، وعشان الشكل قدام الناس. أنتي جزء من الصورة اللي كنت محتاج أكملها مش أكتر، وظنّي إنك وافقتِ عشان تبقي مرات المليونير بدر المنياوي. فبلاش تمثيل وحركات فاضية."
شحب وجه رغده، وتراجعت خطوة إلى الخلف كأن كلماته صفعتها، لم تصدق أنها تسمع تلك القسوة منه علنًا، أمام الجميع.
اهتزت أنفاسها في صدرها من شدة الغضب والإهانة، قبل أن تنهض من مقعدها متصنعة الابتسامة، ثم اعتذرت للحاضرين متعللة بأنها تشعر ببعض الإرهاق مع اقتراب موعد ولادتها.
غادرت القاعة والخزي ينهشها من الداخل، وعيناها تقدحان شررًا من الغضب والحقد وهي تراقب عليا بطرف عينيها.
لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير بمرارة:
رغم كل ما فعلت... رغم كل ما خططت له... يظل يعشقها هي فقط.
في أحد الفنادق القريبة من موقع الحفل، كان يجلس فريد وهو يلهث بغضبٍ مكتوم، يشعل سيجارته بأنامل ترتجف قهرًا. تطاير الدخان الكثيف حوله، فيما عيناه تحدقان في الفراغ بنظرة شاردة يملؤها الحقد والكراهية.
أزاح رأسه إلى الجانب متنهداً بعمق، يحاول كتم الغليان الذي يجتاح صدره، حين دلف الحارس الخاص به إلى الغرفة.
التفت فريد إليه ببطء، قبل أن ينهض بخطوات متزنة ويجلس متقاطع الساقين، تتلألأ عيناه ببريق شيطاني، وهتف من بين أسنانه بصوت بارد متجمد:
ــ "حضّرت كل حاجة؟ والراجل اللي هينفذ جاهز؟"
أومأ الحارس برأسه بالإيجاب، وأجاب بثقة مصطنعة تخفي اضطرابه:
ــ "كل حاجة جاهزة زي ما حضرتك أمرت بالظبط."
نهض فريد بغتة، ليقف أمامه بانفعال ظاهر، وعروقه نابضة بالغضب، وصاح بلهجة تحمل التهديد القاتل:
ــ "المرادي مش عايز أي غلطة... فاهم؟! أي خطأ هيحصل مش هيكفيني عمرك كله!"
ازدرد الحارس ريقه بخوف ظاهر، وهو يعلم جيدًا أن هذا الرجل لا يعرف للرحمة طريقاً، وأجابه متلعثمًا:
ــ "ما تقلقش يا باشا... المرة دي مش هتفلت مننا أبداً."
أشار له فريد بيده يأمره بالانصراف، ثم جلس مرة أخرى، وأسند ظهره إلى المقعد بتثاقل، وهو يغوص في ذكرياته السوداء.
«فلاش باك»
كان يسير يومها في ممرات المشفى، والغضب والخوف ينهشان صدره، قلبه يخفق بعنف، وإن كان السبب مختلفًا عما كان يُظهره.
اقترب من غرفة العمليات، فوجد علياء تقف هناك، تضم شقيقها مراد الصغير إلى صدرها، وعيناها تفيضان بالدموع.
سار نحوهم، متقمصًا دور القلق والخائف، وهتف بصوت مشوب بالتوتر المصطنع:
ــ "إيه اللي حصل يا علياء؟ طمنيني، أخويا عامل إيه؟"
التفتت إليه علياء، واندفعت نحوه تبكي بحرقة، وارتمت بين ذراعيه تبحث عن بعض الأمان.
ربت على ظهرها بحنان زائف، وهمس لها بنبرة مطمئنة:
ــ "اهدي يا حبيبتي... إن شاء الله هيكون بخير."
تحررت علياء من حضنه، والرجفة تسري بجسدها، بينما شهقت بالبكاء وهي تقول بصوت مخنوق:
ــ "أنا خايفة قوي... الدكاترة بيقولوا حالته خطيرة جداً."
شعر بسعادة خبيثة تتفجر بداخله، لكنه أخفى ذلك ببراعة، ليواصل تظاهره بالطيبة وهو يزيل دموعها برفق مصطنع:
ــ "أنا واثق إنه هيبقى كويس... أخويا قدها وقدود."
أومأت برأسها بتردد، وعيناها لا تزالان تغرقان بالدموع، ثم عادت إلى مراد، تحتضنه بقوة كأنها تخشى أن تفقده هو الآخر.
مر الوقت ببطء خانق، حتى خرج الطبيب أخيرًا، ملامحه غارقة في الحزن، رأسه منكس إلى الأرض.
ركض الجميع نحوه بلهفة، بينما انقبض قلب عليا من ملامحه، وهتفت بانفعال شديد:
ــ "طمني... بابا عامل إيه دلوقتي؟!"
أجابها الطبيب بتوتر وخيبة:
ــ "الحادثة كانت صعبة جداً... حاولنا ننقذه بكل الطرق... بس أمر الله نفذ... البقاء لله."
ساد الصمت القاتل المكان، قبل أن ترتفع صرخة مدوية من حنجرة علياء، لتسقط بعدها فاقدة للوعي بين ذراعي شقيقها مراد، الذي أجهش بالبكاء بلا توقف.
أما فريد، فكان يقف يراقب المشهد، وقلبه يرقص فرحاً من الداخل، وإن بدا ظاهريًا حزينًا كسائر الحاضرين.
مرت الأيام تجرّ خلفها الحزن، وأقيمت مراسم العزاء، حتى جاء المحامي الخاص بالعائلة لينهي إجراءات الميراث.
حينها، حلّت على فريد صدمة مدوية؛ إذ اكتشف أن شقيقه قد سجل كل ثروته باسم ابنته عليا، ولم يترك له سوى المنزل الذي يسكنه.
امتلأ قلبه بالحنق والضغينة، وبدأت خيوط مؤامراته تُنسج بخبث، يفكر في التخلص من عليا ومراد ليظفر بالثروة كاملة.
خطط لحادثٍ مدبر أودى بحياة مراد ظاهريًا، بينما فشلت محاولاته المتكررة للنيل من علياء.
واليوم، وبعد كل هذه السنوات، يكتشف أن مراد حيٌّ يُرزق، وأن وفاته كانت مجرد كذبة حيكتها عليا ببراعة لحمايته.
«نهاية الفلاش باك»
عاد إلى وعيه على صوت اهتزاز هاتفه، نظر إليه ليجد عشرات المكالمات من زوجته، لكنه أغلق الهاتف ببرود وألقاه بعيداً.
أسند رأسه إلى الوراء، وسحب نفسًا عميقًا من سيجارته، بينما عيناه تشتعلان بالحقد والغضب وهو يغرق من جديد في دوامة خططه الشيطانية.
******
بعد انتهاء الحفل، عادت علياء إلى غرفتها بخطوات متثاقلة، وكأن جسدها يحمل فوقه جبالًا من الأحزان. دلفت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها، ثم ارتمت على الفراش بإنهاك، تغمرها الذكريات من كل جانب.
استلقت في سكون، تحدق بالسقف بعينين ذابلتين، بينما تتوالى أمامها مشاهد لم تفارق مخيلتها... نظرات بدر نحوها التي امتلأت بتساؤلات موجعة، ورغده التي كاد بطنها البارز يعلن عن اقتراب موعد ولادتها، لتشعر علياء بوخز حاد في قلبها، واختناق يحاصر صدرها.
أغمضت عينيها بقوة، محاولة إبعاد الذكريات، لكن عقلها خانها، وسحبها إلى ذكرياتٍ أليمةٍ لكنها دافئة في آنٍ واحد...
(فلاش باك)
كانت تسير بجواره على الشاطئ، يدها الصغيرة تحتضن يده الكبيرة بحب، تشعر بأمانٍ لا يوصف. جلسا معًا على إحدى الصخور، يتابعان غروب الشمس، حين تلوّنت السماء بألوان البرتقال والذهبي، في مشهد ساحر ينبض بالسكينة.
التفتت علياء حين سمعت ضحكات طفلة صغيرة تركض بجوار والديها، لترتعش مشاعرها فجأة بحزنٍ دفين؛ فطيف الاشتياق لطفلٍ يملأ حياتها كان يطاردها ليلًا ونهارًا.
مرت بأناملها المرتجفة على يد بدر، التي لم تفلتها لحظة، وقالت بصوت خافت متردد:
ــ "بدر... أنا عايزة أروح للدكتور."
انتفض بدر بجانبها على الفور، وارتسم القلق على ملامحه، وردد بتوجس:
ــ "ليه، مالك يا حبيبتي؟ حاسة بحاجة؟"
ابتسمت له بمرارة ممزوجة بحنان، وضمت جسده إليها وكأنها تستمد منه قوتها، وهمست تطمئنه:
ــ "مفيش حاجة، متخافش. كل الحكاية إن الحمل اتأخر... وكنت عايزة أطمن، بس مش أكتر."
اقترب منها بدر أكثر، ثم طوقها بين ذراعيه بحنان يغمره التملك، ودفن وجهه في عنقها، يشتم عبيرها كمن يحاول أن يسرق منها الأمان. مرت يده على ظهرها ببطءٍ وعشق، ثم قال بصوت دافئ عميق:
ــ "تمام يا روح بدر... روحي واطمني، بس عايزك تعرفي إنك مهما كانت النتيجة، هتفضلي أغلى حاجة في دنيتي كلها."
(عودة للواقع)
هربت الدموع من عيني علياء رغمًا عنها، تتساقط على وجنتيها بصمت موجع. شعرت وكأن روحها تتمزق من الداخل، وكأن قلبها يُعتصر بيدٍ غليظة من الألم والغضب.
كيف له أن يقسو عليها بهذا الشكل؟! كيف لم يمنحها فرصة واحدة لتبرر له، أو لتدافع عن نفسها؟!
مسحت دموعها سريعًا بكفها المرتجف، وكأنها تريد أن تمحو معه كل ذكرياتها معه. نهضت من مكانها بثقل، واتجهت إلى المرحاض، علّ الماء البارد يغسل عنها شوائب هذا اليوم الثقيل.
اغتسلت تحت رذاذ الماء، تاركة له أن يهدئ ارتجاف جسدها ويطفئ نار قلبها.
وبعد أن انتهت، عادت إلى غرفتها، استلقت على الفراش بجسدٍ متعب وعقلٍ مثقل بالهموم، لتستسلم أخيرًا للنوم، وقد أغرقت أفكارها في بحور الألم والحنين.
******
في صباح اليوم التالي، هبطت علياء إلى الطابق السفلي متوجهة إلى المطعم الخاص بالفندق، حيث كان مراد وحياة ينتظرانها لتناول الإفطار.
خطت نحو طاولتهما بخطوات متزنة، وألقت عليهما التحية بابتسامة مجهدة قبل أن تجلس برفق، تحاول أن تخفي توترها الداخلي.
التفتت نحو حياة، وسألتها بعفوية مشوبة بالقلق:
ــ "عاملة إيه دلوقتي يا حبيبتي؟ بقيتي أحسن؟"
أومأت حياة برأسها، وردّت عليها بابتسامة دافئة:
ــ "الحمد لله يا لولو، بقيت كويسة جدًا."
ابتسمت علياء لها بحنان، ثم مالت برقة نحو زين، ذاك الطفل الذي أسر قلبها ببراءته، وطبعَت قبلةً خفيفة على وجنتيه الممتلئتين، مرددة بمشاعر جياشة:
ــ "حبيب عمتو يا ناس... إيه الجمال دا كله؟!"
ثم تابعت بحماس طفولي، محاولة أن تبث الفرح في الأجواء:
ــ "عايزاك تخلص كل الأكل دا عشان هاخدك ونروح نلعب في البحر!"
صفق الصغير بسعادة بريئة، وانهمك في تناول طعامه، بينما تبادل الجميع الابتسامات وأكملوا تناول الإفطار وسط أجواء هادئة.
مرت لحظات قليلة، قبل أن تتجمد علياء مكانها وهي ترى رغده تدخل المطعم، تسير بجوار بدر، بينما كانت الأخيرة تتعمد التشبث بذراعه محاولة إثارة غيرتها.
رفعت علياء حاجبيها بدهشة ساخرة، تقاوم رغبتها العارمة في النهوض والانقضاض عليها، لكنها تماسكت بقوة، محاوِلة تجاهل المشهد المهين.
جلس بدر بجوار رغده، وأمسك بقائمة الطعام، يحاول التركيز في اختياراته، لكن عينيه خانتاه، والتفت دون وعي يبحث عنها...
رآها، كما عهدها دومًا... تجلس بالقرب منه، بجوار امرأة غريبة تطعم طفلًا صغيرًا كان قد رآه في الحفل بالأمس.
تسارعت دقات قلبه بشكل مؤلم وهو يراها تبتسم للصغير، تغمره بحنانٍ وسعادة لم يرها من قبل في عينيها.
حاول بدر أن يعود بعينيه إلى القائمة التي بين يديه، أن يحبس ضعفه في صدره، لكن عقله كان يدور بألف سؤال وسؤال... من هذا الطفل؟ ومن تكون هذه المرأة؟ ولماذا لم تخبره عليا بشيء؟!
على الجانب الآخر، كانت علياء تشعر بنظراته الحارقة تخترقها بقسوة، فتململ قلبها بارتباك مؤلم.
حاولت أن تغرق في الحديث مع حياة ومراد، تحتمي بكلماتهما من تلك النظرات التي تزلزل كيانها، لكنها لم تنجح تمامًا... ظلت تشعر به يراقبها، كأنما يريد أن ينطق بعينيه بكل ما أخفاه لسانه.
مرت دقائق ثقيلة، حتى وصلتها فجأة رسالة على هاتفها...
فتحتها، لتخرج عيناها من محجريهما من شدة الصدمة. شحب وجهها حتى غدا كالأموات، ثم انتفضت واقفة بفزع وهي تصرخ بنبرة مرتعشة:
ــ "مراد! اطلع بسرعه، لم هدومك إنت وحياة... هنرجع دلوقتي! ومش عايزة أي نقاش، يلا!"
لم تنتظر ردًّا، بل هرعت إلى المصعد وصعدت إلى غرفتها، تلتقط أغراضها بسرعة مضطربة، كأنها تهرب من شيء يطاردها.
جلست تنتظر مراد وهي ترتجف من فرط التوتر، وما هي إلا دقائق حتى جاء يدق بابها بقوة.
فتحت له، لتقابل عينيه الغاضبتين، وهو يقول بلهجة ممتلئة بالحدة:
ــ "أنا خلصت... في أوامر تانية؟"
رسمت على وجهها قناعًا من القوة المزيفة، وأجابته بجمود:
ــ "وأنا كمان خلصت... يلا بينا."
سارت أمامه بخطى ثابتة ظاهريًا، بينما كان قلبها يتخبط داخل صدرها كالطير المذبوح.
هبطوا معًا إلى حيث السيارة، لكنها توقفت فجأة حين سمعت صوته القوي يناديها... تجمدت في مكانها، وجسدها ينتفض من القشعريرة التي سرت في أوصالها.
اقترب منها بدر بخطوات سريعة، وأمسك بيديها بقوة لم تستطع الفكاك منها، وحدق في عينيها بغضب متأجج وهو يوجه كلامه نحو مراد بتحذير:
ــ "أنا عايز أتكلم معاكي."
نزعت يديها بعنف من قبضته، ورمقته بنظرة مشتعلة بالغضب والقهر، وقالت بانفعال مكتوم:
ــ "مفيش بينا كلام يا بدر... خلاص، كل حاجة انتهت."
استدارت تمسك بيد مراد، وهمّت بالصعود إلى السيارة، لكن بدر لم يتحمل الموقف...
قبض بيده القوية على ذراع مراد، وجذبه نحوه بعنف، ثم سدد له لكمة قوية أسقطته أرضًا أمام الجميع.
تجمد المشهد، وساد الذهول وجوه الحاضرين.
أسرعت علياء نحو مراد تهرع للاطمئنان عليه، لكنها صُدمت حين قبض على يدها يمنعها، ثم صرخ في وجهها بغضب مهتز:
ــ "بكل بجاحة تخونيني... ودلوقتي جايه قدام الكل معاه؟!"
شهقت علياء من وقع اتهامه الظالم، ثم أمسكته من مقدمة قميصه بعنف، وعينيها تلمعان بالدموع والقهر، وهتفت بانفعال خانق:
ــ "أنا مش خاينة يا بدر!
اللي انت بتتكلم عنه دا... دا أخويا!
أخويا اللي إنت ما اديتنيش فرصة أقولك مين، ونزلت فيا ضرب، ورميتني قدام القصر بتاعك وأنا بنزف من كل حتة!"
تسمر بدر في مكانه كالصنم، كأن صاعقة ضربته في قلبه.
شحب وجهه فجأة، وأحس أن الأرض تهتز من تحته، ولسانه انعقد داخل فمه وهو يحاول أن يتكلم بصعوبة بالغة:
ــ "إزاي...؟!"
أجابته بصوت متحشرج، تحاول السيطرة على دموعها التي لم تعد تحتمل:
ــ "مش مطلوب مني أبررلك أي حاجة...
إنت خلاص، بقيت برا حياتي."
ابتعدت عنه بخطوات ثابتة رغم الألم الذي يكاد يفتك بها، تاركة إياه خلفها غارقًا في صدمة لم يعرف لها مثيل.
من بعيد، كان هناك شخص يراقب المشهد من خلف منظار قناص.
ثبت البندقية بين يديه بثبات قاتل، ثم حدد هدفه بدقة...
أطلق الرصاصة، لتنطلق صافرة الموت... وتصيب...