رواية امرأة العقاب الخاتمة 2 بقلم ندى محمود توفيق


 رواية امرأة العقاب الخاتمة 2 

_ أنا آسفة
هيمن عليه السكون للحظات وبقت هي تنتظر رده حتى وجدته يهتف بصوت غليظ :
_ على إيه ؟
تابعت جلنار وهي تتطلع إليه هذه المرة :
_ أنا زودتها في الاجتماع ومكنش ينفع اتصرف كدا .. وكمان كنت متعصبة ومكنتش عارفة أنا بقول إيه ، متزعلش مني أنا آسفة
بقى ساكنًا دون أن يتفوه ببنت شفة فقط يتمعنها بتدقيق وحين لم تجد منه أجابة تابعت برقة وبسمة ناعمة :
_ أنا كنت ناوية من أمبارح اتأسفلك ونتصالح بس أنت رجعت متأخر
ابتسم باستنكار وتمتم في خشونة وضيق ملحوظ :
_ امممم واضح وعشان كدا خليتي الولاد يناموا جمبك
أدركت مقصده فورًا وهتفت مسرعة محاولة تصحيح الموقف :
_ لا أنا مكنش في نيتي كدا أبدًا والله .. كنت بذاكر لهنا ويزيد كان قاعد معانا وهما تعبوا وناموا جمبي وأنا فضلت مستنياك بس النوم غلبني ونمت جمبهم من غير ما أحس
تنهد بقوة ثم هدر وهو يهم بالاستدارة :
_ طيب خلاص ياجلنار إنتي غلطتي وعرفتي غلطك واتأسفتي ، خلاص نقفل على الموضوع ده بقى
قبضت على رسغه تمنعه من الرحيل وهمست بعبوس طفولي :
_ بس أنت لسا زعلان مني !
رسم بسمة خافتة على ثغره وأجابها بلين :
_ لا مش زعلان

 

 

اقربت منه بجرأة وثبتت نظرها بعيناه ثم همست بخبث :
_ اثبلتي !
تجول بنظره على وجها وجسدها وهو يبتسم بمكر بعدما فهم تملحيها الجرئ ثم رد بذكاء وثبات وهو يغمز لها بعينه :
_ تؤ مليش مزاج
اتسعت عيناها بصدمة وتشنج وجهها بغيظ ، أما نظراتها له فكانت نارية وقابلها هو بضحكة عالية ثم استدار وغادر وتركها وهي تتوعد له ! .
***
داخل منزل هشام ……
فتح عيناه ببطء على أثر صوت ناعم وجميل يدندن بكل رقة .. تلفت حوله يبحث عنها لكنها لم تكن بالغرفة ، سكن قليلًا يستمع لصوتها مع ابتسامة عاشقة بدأت ترتفع تدريجيًا لوجهه ، اعتدل في نومته وهب واقفًا ثم غادر الغرفة بخطوات هادئة تمامًا حتى لا يشعرها بوجوده ، وجدها تجلس على الأريكة داخل غرفة عمله الخاصة وبجوارها تجلس ابنته تشاركها في الغناء برقة تشبه أمها .. وقف عند الباب خلفهم يتابعهم بصمت وهو يبتسم بحب حتى تسلسل بحذر خلفهم وانحنى على ابنته اولًا يلثم وجنتها ثم انتقل لزوجته ، ابتسمت زينة له بعاطفة وهمست :
_ صباح الخير ياحبيبي
_ صباح النور ياروحي
استقامت الصغيرة واقفة وارتمت على أبيها تعانقه بشوق وحنو فضمها إليه أكثر وهو يلثم شعرها بقبلات متتالية وسط همسه المحب لها :
_ وحشتيني ياحبيبة بابا
ردت بصوت طفولي تحاول أخراج الكلمات صحيحة هذه المرة دون خطأ :
_ أنت تمان ( كمان ) يابابا
هشام بنظرة دقيقة :
_ فطرتي ولا لسا ؟
هزت رأسها بالنفي فأجابت زينة بلطف :
_ أنا مجهزة الفطار وكنا مستنينك تصحى بس
ابتسم ونظر لابنته ثم هتف :
_ طيب اسبقيني على الصالة بقى يالولو يلا وأنا هاجي وراكي عشان نفطر
اماءت له بالموافقة واسرعت للخارج حيث طاولة الطعام وجلست تنتظر والديها .
بينما بالداخل فانحنى هشام على زينة من الخلف ولثم وجنتها بقبلة مطولة وهو يتمتم بهيام :
_ أنا دايمًا اسمع عن اللي بيصحى على صوت الكناري أول مرة أجربه
استقامت واقفة وردت بدهشة وحزن :
_هو صوتي صحاك !
غمز لها بحب وتمتم :
_ صحيت على أجمل صوت
ابتسمت بخجل واجابته بدلال :
_ طيب يلا روح اجهز لغاية ما احضر الفطار ، أنت مش معاك عملية النهاردة في المستشفى
رد دون وعي وهو يدنو منها كالمغيب :
_ أمممم معايا
تراجعت برأسها للخلف وهي تبتسم بتعجب وتهتف :

_ طيب روح يلا ياهشام عشان متتأخرش وأنت لسا هتفطر
رأته ينظر لها باسمًا بشوق وكأنه لم يسمع ما تفوهت به من الأساس ، وإذا بها تجده يغلق الباب بقدمه ويمد ذراعه لخصرها ثم يجذبها إليه ودون أي إنذار غاص معها في لحظات غرامية خاصة بهم ، لم يفقهم منها سوى صوت ابنتهم وهي تصيح بضجر :
_ بابا .. ماما
انتفضت بعيدًا عنه بزعر وردت على صغيرتها بصوت مرتفع :
_ حاضر ياروحي جايين أهو
ثم نظرت لهشام ولكزته في صدره برفق هامسة :
_ بلاش قلة أدب ياهشام الله
رد باسمًا بغرام :
_ أعمل إيه مراتي بحبها ووحشتني
ضحكت مغلوبة ثم اقتربت منه ولثمت وجنته برقة لتقول بغنج :
_ وأنا كمان بحبك
طالعها بعشق جارف وجذبها لصدره يلثم شعرها ويهتف في حب : _ربنا يخليكي ليا أنتي وبنتي
زينة بمشاعر جيَّاشة :
_ ويخليك لينا ياحبيبي
***
في تمام الساعة السابعة مساءًا من ذلك اليوم …….
يقف أمام السيارة بحديقة المنزل الواسعة وعيناه عالقة على باب المنزل وبجواره يقف ابنه الصغير الذي هو أيضًا بدوره يتابع الباب في انتظار خروج أمه وشقيقته ، أنطلق صوت زفير عاليًا من عدنان الذي قال بنفاذ صبر من طول الانتظار :
_ وبعدين يايزيد هي أمك وأختك بيعملوا إيه ده كله .. يارب الصبر!
هز الصغير كتفيه بجهل دون أن يتحدث ولم تكن سوى دقائق معدودة حتى خرجت جلنار وبجوارها ابنتها ، استقرت عيني عدنان على ابنته التي ترتدي بنطال قصير يصل إلي فوق ركبتيها وبالأعلى كنزة بأكمام طويلة ويعلوها جاكيت صيفي من نفس اللون تضعه فوق أكتفاها دون أن تدخل ذراعيها به وتترك العنان لشعرها الحريري ليتطاير بانسيابية فوق ظهرها .
تابعها بنظره وهي تسير نحوه بكل ثقة ودلال كأمها بالضبط حتى وصلت إليه ووقفت أمامه ثم استدرات حول نفسها بحركة دائرية تستعرض مظهرها أمام أبيها وتسأله برقة :
_ إيه رأيك يابابي ؟

 

 

لم يجيب وقسمات وجهه كانت جامدة وربما مريبة بعض الشئ تنم عن ضيقه لكنه تصرف بلطف وهتف في حنو :
_ قمر ياحبيبتي ، بس البنطلون ده مش قصير حبتين !
هنا بتلقائية ونعومة تليق بها :
_ لا هو كدا ، مش قصير يابابي
رفع حاجبه باستنكار وأجابها بنظرة قوية :
_ ليه هو في أقصر من كدا ؟!
تنحنحت جلنار بخفوت ثم اقتربت منه ومالت على أذنه تهمس برزانة:
_ خلاص ياعدنان متزودهاش دي طفلة !
التفت لها بنظرة مشتعلة وفي ظرف لحظة تفحصها من الأعلى للأسفل ثم التفت لابنته وقال بمضض :
_ روحي اركبي العربية يلا ياهنا أنتي واخوكي
ردت هنا بكل طواعية وبسمة عريضة :
_ حاضر يابابي ، يلا يايزيد
اسرعوا الصغار لمقعد السيارة الخلفي واستقلوا به ، أما جلنار فاستدرات وكادت أن تستقل هي أيضًا بالسيارة لكنه اوقفها بقبضته على ذراعها وهمس وهو يتجول بنظره على جسدها وذلك الثوب الضيق الذي ترتديه :
_ يعني الدولاب مليان هدوم وفساتين ملقتيش غير ده اللي تلبسيه !
ابتسمت وأجابته بكل بساطة :
_ عشان عاجبني وشكله حلو وكمان مناسب لحفلة تخص الشغل
رمقها بنظرة مميتة ثم أردف بصوت مريب :
_ هعديها ياجلنارعشان احنا أساسًا اتأخرنا ومليش مزاج لخناق
كتمت ضحكتها وتصرفت بثبات متصنع وهي تكتفي بابتسامتها الساحرة ، بقت تتابعه وهو يلتف حول السيارة ويستقل بمقعده المخصص للقيادة ولحظات معدودة حتى لحقت هي به واستقلت بجواره لينطلق هو بالسيارة يشق الطرق بها .
بينما كان عدنان منشغل بالقيادة سمع صوت ابنته وهي تهتف بكل حماس :
_ بابي أنت هتيجي الحلفة اللي في school بعد بكرا صح ؟
ضيق عيناه باستغراب وهتف :
_ حفلة إيه دي ياحبيبتي ؟
شهقت الصغيرة بصدمة وهدرت :
_ أنت نسيت يابابي !
التفت إلي جلنار وهز رأسه لها بعدم فهم وعلامات استفهام تعتلي معالمه فردت جلنار مسرعة محاولة إنقاذ الموقف :
_ لا ياهنون بابي منسيش ياحبيبتي وهيجي طبعًا
طالعها باستغراب فتنهدت هي وردت برقة وابتسامة واسعة ترسل له إشارات منذرة بعيناها :
_ بعد بكرا في المدرسة في حفلة وهنا هتطلع تغني وهتشارك في عرض play ( مسرحية ) كمان
ضرب على جبهته بضيق وقال مسرعًا بعدما تذكر :
_ طبًعا منسيتش ياهنايا .. أنا فاكر ياحبيبتي
أجابت بعد أن عاد الحماس يلمع في عينيها مرة أخرى :
_ يعني هتيجي يابابي صح ؟
عدنان وهو يومئ برأسه في حنو :
_ أن شاء الله ياروح بابي
قفزت الصغيرة في مقعدها وهي تصيح فرحًا ليسمعوا همسة يزيد وهو يقول بحزن :
_ وأنا ؟!

 

 

ردت هنا بذكاء طفولي وحب أخوي نقي :
_ أنت هتيجي برضوا يايزيد وهتقعد مع بابي ومامي تتفرج عليا وأنا بغني
ابتسم الصغير بفرحة ، وبعفوية ارتمى على شقيقته وعانقها لتبادله هي العناق بحب ثم ابتعدت عنه ورفعت نظرها لأمها تسألها بلمعة أمل :
_ مامي هو ينفع يزيد يطلع يمثل ويغني معايا ؟
ضحكت جلنار وتبادلت النظرات الدافئة مع عدنان الذي كان يتابع حديثهم بصمت وهو يبتسم ، أما جلنار فردت على أبنتها بحنو :
_ لا ياحبيبتي مينفعش عشان هو لسا صغير
عبست هنا قليلًا بيأس لكن سرعان ما ابتسمت والتفتت نحو أخيها تقول له بدفء :
_ لما تكبر وتبقى زي وتدخل المدرسة يايزيد هنبقى نغني مع بعض في حلفة المدرسة
اماء الصغير بالموافقة رغم أنه لا يفهمها جيدًا ، بينما جلنار فانحت على المقعد الخلفي وطبعت قبلة حانية ومطولة فوق جبهة ابنتها ، قبلة حملت كل مشاعرها الأمومية وسعادتها بحب ابنتها وحنوها على أخيها ، ثم انتقلت بعد ذلك لصغيرها تقبله بالمثل .
***
توقفت السيارة أمام ساحة الحفل وسبق بالنزول عدنان ثم تبعته جلنار ومن بعدهم الأولاد ، سار الصغار بالمقدمة جنبًا إلي جنب وخلفهم والديهم .
علقت جلنار ذراعها بذراع عدنان وهي تبتسم له بدلال .. فأرسل لها غمزة أمتزجت ببسمته الماكرة ثم مال عليها وهمس بأذنها في نبرة لعوب :
_ أنا شايفك بتتصرفي عادي وكأن مفيش أي حاجة بينا ! ، أنتي عرفتي إزاي إني مش زعلان ؟
فهمت أنه يلمح لجملته الأخيرة بالصباح الذي اثارت جنونها ، فرمقته شزرًا وحاولت نزع ذراعها من ذراعه لكنه احكم قبضته عليها وانفجر ضاحكًا ليكمل وهو يغمز لها بلؤم :
_ لما نرجع البيت هثبتلك
اخفت بسمتها وتصرفت بعلو وهي تتعمد عدم النظر إليه وتقول :
_ مش عايزة ، أساسًا مش فارق معايا
عدنان ببسمة جانبية كلها مكر :
_ متأكدة يارمانتي !

 

 

هزت بالإيجاب في عناد ليكمل هو باسمًا :
_ تمام خليكي فاكرة أن أنتي اللي قولتي مش عايزة بقى
تصرفت باعتزاز وعدم مبالاة له وفور دخولهم لمحت كل من مهرة ونادين يقفون بأحدى الزوايا فهتفت له :
_ أنا هروح لمهرة ونادين
اماء لها بالموافقة لتبتعد عنه وتقود خطواتها نحوهم والصغار يلحقون بها بعد أمر والدهم أن يلحقوا بأمهم .
***
اخذت عيناه تتجول بين ضيوف الحفل يبحث عنها عندما استقرت نظراته على مهرة ونادين ولم يجدها معهم ، وبينما يبحث عنها التقطتها عيناه ليراها تقف بعيدًا عن الضجيج وتتحدث مع حاتم ، ظل يتابعها بعيناه في سكون مريب ولم يدم صموده أكثر من ثلاث دقائق حيث التفت برأسه نحو رجال الأعمال الذي يتبادل معهم أطراف الحديث بخصوص العمل وابتسم لهم بجدية هاتفًا :
_ عن اذنكم !
قاد خطواته الهادئة نحوهم واضعًا كفيه في جيبي بنطاله ، وقبل أن يصل ابتعد حاتم وذهب لكي يجيب على اتصال الهاتف ، استدرات هي لتعود لطاولتها لكنها توقفت حين رأته يتقدم نحوها وانتظرته حتي وقف أمامها مباشرة وسأل باهتمام :
_ حاتم كان بيقولك إيه ؟
أردفت بهدوء تام :
_ مقالش حاجة هو شافني وكان بيسلم عليا عادي
اماء برأسه في تفهم دون أن يتفوه بكلمة واحدة واكتفى بنظراته الحانقة لحاتم لتتنهد هي الصعداء وتجيبه بعدم حيلة :
_ هتفضل تغير عليا منه لغاية امتى ؟
عدنان بنظرة ثاقبة :
_ لغاية ما أعرف اثق في الناس من تاني وده مش هيحصل
ضيقت عيناها بتعجب وسألته :
_ يعني ؟!
استطرد بصوت غليظ وقوي :
_ يعني أنا اتعلمت أني مثقش في حد في جلنار
رفعت حاجبها ببسمة حزينة وتمتمت باستنكار :
_ حد ! .. وأنا من ضمن الحد دول كمان ولا لا ؟!!
رفع كفه ومسح على وجهه وهو يتأفف مغلوبًا من سؤالها السخيف وكأنها لا تعرف الإجابة ! .. ليجيبها بنظرة ثابتة كلها ثقة :
_ مش معنى أن أنا وحاتم بقت علاقتنا كويسة وبقينا شبه أصدقاء ابقى اثق فيه أو في أي حد تاني .. مش هقدر ياجلنار ، لكن سؤالك ده إيه لازمته وإنتي عارفة الإجابة
لمعت عيناها بالعبارات وقالت باسمة بثبات مزيف :
_ اعتبرني معرفش الأجابة ! .. أنا برضوا مبتثقش فيا ياعدنان ؟
تأفف بصوت مرتفع وهو يستغفر ربه بنفاذ صبر ثم هتف بضيق :
_ أنتي ليه بتقلبي في الدافتر القديمة دلوقتي !

 

 

تمالكت زمام دموعها وردت :
_ أنت اللي فتحتها مش أنا
القت بعبارتها واندفعت بعيدًا عنه تعود لطاولتها حيث ينتظرها أبنائها وكذلك نادين ومهرة ، لتتركه هو متصلب بأرضه يتخبط بين ندمه وانزعاجه ، يفهم جيدًا ما دار بعقلها ولكنها كالعادة تسيء الظن به ! .
***
بعد مرور ساعتين تقريبًا …..
توقفت السيارة داخل حديقة منزل الشافعي لتهتف هنا بلهفة وتعجب :
_ احنا ليه جينا عند تيتا يابابي ؟
أجاب ابنته بحنو وهو يفتح باب السيارة لينزل :
_ تيتا عزمانا عندها ياحبيبتي وهنبات الليلة دي معاها
نزلت هنا من السيارة بفرحة وحماس وهي تسأل أبيها مجددًا :
_ وعمو آدم وسليم موجودين كمان ؟
رأته يومئ لها بالإيجاب فقفزت فرحًا واسرعت ركضًا نحو الداخل ويلحق بها أخيها الصغير ، بينما هو فبقى واقفًا يتابع جلنار وهي تخرج من السيارة وحين التقت نظراتهم واجهته بنظرة كلها شجن على عكس نظرته الممتلئة بالعتاب ، لم تتحدث الألسن واكتفت الأعين بنظراتها .
استدرات وقادت خطواتها الرقيقة نحو باب المنزل ولحق هو بها بعد لحظات قصيرة .
استقبلت أسمهان جلنار أولًا بترحيب حار وعانقتها بود هامسة :
_ اهلًا وسهلًا ياحبيبتي ، عاملة إيه ياجلنار ؟
ابتعدت جلنار عنها ورسمت بسمة متصنعة لم تصل لعيناها التعيسة ثم ردت بصوت محتقن :
_ الحمدلله بخير يا أسمهان هانم
رمقتها أسمهان بحيرة وسرعان ما اختفت إشراقة وجهها بعدما رأت معالم وجهها المنطفئة ولم تلبث لحظة حتى رأت ابنها يقترب منها ولم يكن حاله أفضل من زوجته لكنه حاول التصرف بطبيعية وانحنى عليها يعانقها ويقبّل رأسها بحنو متمتمًا :
_ عاملة إيه ياست الكل ؟
أسمهان بعين انطفأ بريقها وصوت حزين :
_ الحمدلله بخير ياحبيبي .. ادخل ياعدنان ادخل
تلفت حوله يبحث عن أخيه وهو يسأل :
_ آدم لسا مجاش ولا إيه ؟

أسمهان ببسمة دافئة :
_ وصل ياحبيبي هو ومراته وكلنا كنا مستنينكم جوا عشان العشاء
بادلها البسمة الحانية ثم تحرك بخطواته نحو غرفة الصالون حيث يوجد الجميع وفور دخوله سمع أخيه يحدثه مازحًا :
_ حمدلله على السلامة يا Boss .. حرام عليك ده الأكل برد واحنا مستنينك يا راجل
اقترب عدنان من الأريكة يجلس بجوار كل من زوجته وأمه ويجيب على أخيه بخبث باسمًا:
_ مهو أنت لو مكنتش سبتني مع ضياء سلام بتاع المشروع وحدي واحنا بنتكلم في الشغل مكنتش اتأخرت ولا إيه !
اتسعت عيني آدم بدهشة وأكمل مزاحه وهو يهتف بجدية مزيفة :
_ أنت بتسيحلي قدام الكل .. مكنش العشم يا أخويا والله
قهقه عاليًا وأجابه بغمزة ماكرة من بين ضحكه :
_ هو أنا قولت حاجة ! .. بس خلي الطابق مستور احسن
التفت آدم إلي أمه وهتف بضيق مزيف وهو يكتم ضحكته بصعوبة :
_ الله أنت جيباني هنا عشان تهزقيني أنتي وابنك الكبير ولا إيه يا أسمهان هانم
اقتربت منه أسمهان وضمته لصدرها بحب وهي تهتف ضاحكة :
_ ما عاش ولا كان اللي يهزقك ياحبيب أمك .. بعدين هو في حد بيحبك اكتر مني أنا وأخوك ياولا
هتف بمرح بعدما ابتعد عن أمه وانحنى مقبلًا ظهر كفها :
_ مفيش في الدنيا دي أجمل من حنان الأم
هيمنت أجواء المرح بين الجميع وتعالت أصوات ضحكهم ومزاحهم باستنثاء جلنار التي كانت نادرًا ما تشاركهم بالضحك عاليًا وكانت تكتفي فقط ببسمة واسعة ورقيقة منها .. ولم يغفل عن أسمهان وضع ابنها وزوجته وهم يتفادون النظر لبعضهم عمدًا أو حتى مجرد توجيه الكلام .
فور انتهاء طعام العشاء وصعود كل من آدم ومهرة لغرفتهم وكذلك الأطفال بغرفتهم ، حتى أن جلنار صعدت لغرفتها ولم يتبقى بالصالون سوى عدنان فقط الذي يلازم مقعده ويتطلع في اللاشيء بشرود وعينان بائسة ، تحركت أسمهان نحوه ثم جلست بجواره وهمست :
_ مالك ياعدنان ؟
تمتم بخفوت يحمل الهموم :
_ مفيش ياماما مشاكل شغل وضغوط بس
ابتسمت له بدفء ثم مدت يدها تملس فوق كتفه برفق هامسة في حنان أمومي :
_ ربنا يعينك ياحبيبي ويقويك
تنهد بعمق ورد بصوت نابع من صميمه :
_ أمين
بقت كما هي دون أن تتحرك أنشًا واحدًا تتمعنه بترقب وهو لا ينظر لها فقط يحدق في الفراغ مهمومًا .
لحظات معدودة وزينت ثغرها بسمة ثقة وحكمة ثم تمتمت :
_ قوم صالحها

 

 

التفت لها وحدقها بريبة ثم سالها بعدم فهم :
_ وعرفتي إزاي أن أنا اللي مزعلها !
أجابته باسمة بمكر وصوت رزين :
_ هو لو جلنار اللي غلطانة كنت هتقعد كدا مهموم ومضايق ؟! .. بعدين أنا شايفة وملاحظة من أول ما جيتوا الدموع في عينها وهي بتبصلك كل شوية بلوم وكأنها مستنياك تصالحها وتطيب خاطرها بكلمة
طالت نظرته لأمه وهو يفكر بكلماتها ثم قال :
_ تلاقيها نامت دلوقتي بكرا ابقى اكلمها
ابتسمت بسخرية من ابنها وقالت بجدية :
_ لا منامتش لسا
عدنان باستغراب :
_ وأنتي إيه عرفك ؟
أسمهان بنفاذ صبر :
_ اسمع مني قولتلك منامتش ياعدنان .. يلا روحلها اخلص
تنهد الصعداء مطولًا ثم استقام واقفًا وهتف قبل أن يستدير ويغادر :
_ تصبحي على خير
أسمهان بحب :
_ وأنت من أهله ياحبيبي
***
فتح باب الغرفة ببطء ودخل ثم اغلقه خلفه ووقف للحظة يطالعها بعاطفة وهي ساكنة في الفراش تولى ظهرها للباب ، لوهلة ظنها نائمة لكن حين اقترب منها وجلس بجوارها على الفراش سمع شهقة خافتة انطلقت منها ، عبس وجهه أكثر وانحنى عليها يلثم كتفها وشعرها هامسًا :
_ احنا مش اتفقنا من زمان أوي أننا مش هنقلب في الدفاتر القديمة ابدًا ولا هنجيب سيرة الماضي وننساه خالص
لم يجد منها إجابة سوى صوت شهقاتها التي بدأت تزداد فحاوطها بذراعه وتابع بنبرة تفيض عشقًا :
_ أنتي الوحيدة اللي بثق فيها ياجلنار .. صدقيني مفيش حد بثق فيه قدك ومفيش بني آدم اقرب ليا منك ، أنتي ملجأي الوحيد اللي بلجأ له دايمًا لما الدنيا بتضيق عليا .. أنا لو واقف على رجلي دلوقتي ووقوى وصلب فده بسبب وجودك جمبي أنت وولادي
سالت دموعها بغزارة فوق وجنتيها وبدأ صوت بكائها يرتفع لكنه تابع بنبرته الممتلئة دفء وغرام :
_ قوليلي أنتي عايزاني أعمل إيه يعني لما اشوف راجل واقف معاكي ! .. وبالأخص حاتم أنا ميخصنيش هو وضعه إيه دلوقتي معاه بنت ولا معهوش وبيحب مراته ولا لا ، فكرة أنه كان بيكنلك مشاعر وعايزك تتطلقي مني عشان يتجوزك دي كفيلة أنها تجنني

 

 

ثم سكت لثواني معدودة واكمل بضيق :
_ أنا بقيت بحس إنك بتقفيلي على الواحدة ياجلنار ومستنية تمسكي عليا غلطة أو كلمة !!
اعتدلت في نومتها أخيرًا واستقامت جالسة ثم التفتت له وقالت بوجه ممتلئ بالعبارات :
_ بس أنت اللي فتحت الماضي وده دليل أنك منستهوش
مد أنامله لوجنتيها ومسح دموعها بكامل اللطف هامسًا :
_ مين قالك ! .. بالعكس أنا نسيته ومسحته كمان ، كان ورقة وقطعتها ورميتها في الزبالة .. بس ده ميمنعش أني اتعلم منه واللي اتعلمته منه أني مثقش في حد ولا أديله الأمان .. هو ده كان قصدي اللي أنتي فهمتيه أني بشك فيكي أنتي !!
غامت عيناها بالعبارات مجددًا وقالت بحزن طفولي وهي تتطلعه برقة :
_ أنا حتى لما اعتذرت منك وصالحتك فضلت زعلان مني ومكلمتنيش
ضحك بصمت وغمغم بنظرة ماكرة :
_ عشان أنتي غلطانة وغلطك مش هين ، وكنت حابب ادوخك شوية لكن أنا أساسًا مكنتش زعلان منك
وسط دموعها وعبوس وجهها الطفولي لمعت عيناها بسعادة وقالت في لهفة ودلال انثوي :
_ بجد ؟ .. يعني أنا لسا رمانتك اللي بتحبها
ابتسم باتساع وبنظرة تفيض حبًا دنى منها ولثم جانب ثغرها هامسًا بصوت يذيب القلب :
_ لسا طبعًا وهتفضلي رمانة قلبي اللي ماخدة عقلي وقلبي دايمًا .. العٌقاب ملك ليكي يا رمانتي
تأمتله بعينان عاشقة وثغر مبتسم بسعادة ، نظراتها كانت تحكي الكثير من رجاء وعشق واعتذار ، ولم تعرف من أين أتتها الجرأة لتقترب منه بكل ثبات وشوق هكذا فتبحر معه في رحلة بدأتها هي واختارت نهايتها وكان هو ربان السفينة الذي يقودها باحترافية !!! …
***
تحركت بخطواتها الهادئة تجاه المطبخ وسط السكون التام الذي يهيمن على المنزل والظلام الذي يغلف الأركان ، دخلت المطبخ ورفعت يدها بجانب الباب واضاءت النور ثم تقدمت من المبرد وفتحته لتخرج زجاجة مياه باردة ثم جذبت كأس وسكبت المياه به ورفعته لفمها تشرب وهي عيناها عالقة على الفراغ وعقلها شارد في اللاشيء ، ودون أي سابق انذار انتفضت واقفة بزعر حين شعرت بيدين تقيدها من الخلف ، استدرات بسرعة للخلف فوجدته ينظر لها بتعجب مبتسمًا .. زفرت الهواء من بين شفتيها وهي تقول بعتاب ناعم :
_ حرام عليك يا آدم وقفت قلبي !
ابتسم وحاوطها بذراعيه يجذبه إليه وهو يهمس بغمزة ماكرة :
_ بتفكري فيا ولا إيه ؟!
ضحكت بغنج ورفعت ذراعيها تلفهم حول رقبته متمتمة بلؤم أنثوي :
_ ولو مش بفكر فيك هتعمل إيه ؟
لوى فمه بنظرة شيطانية وغمغم في خفوت وهو يميل بوجهه إليه :
_ وقتها الكلام والفعل هيختلف
رفعت حاجبها بخبث وأجابته بهمسة جريئة كلها دلال امتزجت ببسمتها الساحرة :
_ يعني ؟!!
دنى منها أكثر متطلعًا إليها بعين مليئة بالحب والرغبة وهمس أمام ثغرها مباشرة :
_ يعني هخليكي متفكريش غير فيا وبس وبطريقتي
وقبل أن تتطور اللحظة أكثر من ذلك انتصب في وقفته فورًا مفزوعًا على أثر صوت والدته وهي تقول باسمة :
_ أحم !
أطرقت مهرة رأسها ارضًا خجلًا بينما هو فابتسم لأمه محاولًا تخطي المشهد الحميمي الذي كانت على وشك أن تشهده بعيناها وقال بإخراج ملحوظ :
_ منورة ياست الكل .. أنتي إيه اللي مصحيكي لغاية دلوقتي ؟

 

 

حاولت اسمهان التحكم بضحكتها وأجابته بهدوء متصنع :
_ كنت بتكلم مع أخوك شوية وقولت اشرب مايه وبعدين اطلع أنام
هز رأسه بتفهم وهو يزفر بحرارة ثم قال مبتسمًا باتساع :
_ اه طيب عن أذنك بقى ياماما احنا هنطلع الأوضة ، عايزة حاجة ؟
أجابته بالنفي وهي تضحك بصمت :
_ لا ياحبيبي هعوز إيه ، عايزة سلامتكم اطلعوا اوضتكم
تقدم تجاه الباب وعند مروره بجانب أمه انحنى على رأسها وقبلها بحنو فرتبت هي على يده بحب ثم ابتعد عنها وغادر ، كانت خلفه مهرة التي تستحتي ان ترفع عيناها بعين اسمهان واكتفت بهمستها الخافتة وهي تمر بجوارها :
_ تصبحي على خير يا أسمهان هانم
أسمهان بود وهي مستمرة بالضحك عليهم :
_ وأنتوا من أهله ياحبيبتي
فور خروجها وجدته ينتظرها أمام الدرج فلكزته في صدره بخفة هامسة بخجل شديد :
_ عاجبك المنظر اللي شافتنا فيه أمك ده !
لمعت عيناه بخبث وهمس في وقاحة وهو يضحك :
_ أنتي اللي جرتيني للرذيلة !
مهرة ببسمة ساخرة :
_ لا والله !!
دنى منها وهمس بلؤم غامزًا بعينه :
_ بقولك إيه ما تيجي نكمل الرذيلة فوق ؟
التفتت خلفها بتوتر تجاه المطبخ ثم عادت برأسها له وهمست بخجل وهي تضحك :
_ آدم احترم نفسك امك في المطبخ وممكن تسمعك
ضحك بخفة وإذا بها تراه يميل بجزعة للأمام عليها ويحملها فوق ذراعيه هامسًا :
_ خلاص يبقى نطلع فوق وهي مش هتسمعني
شهقت بصدمة ثم قالت وهي تضحك بنعومة :
_ آدم نزلني مينفعش كدا ، ممكن حد يشوفنا .. نزلني بقى عشان خاطري
زينت شفتيه بسمة جانبية وهو يتمتم بدهاء :
_ طب ما تسمعيني واحدة بحبك كدا أصل من بدري مسمعتهاش منك !
تنهدت بعدم حيلة واقتربت بوجهها منه تلثم وجنته برقة هامسة بدلال غير مقصود :
_ بحبك أوي

 

 

_وأنا كمان يامهرتي
مهرة برجاء :
_ يلا بقى نزلني اديني عملت اللي أنت عايزه
قهقه بصوت مرتفع نسبيًا وهتف بعبث :
_ بس أنا مقولتلكيش قولي كدا وهنزلك ، بعدين احنا وصلنا اوضتنا أهو ياحبيبتي خلاص
ولم تلبث للحظة ووجدته يدفع الباب بقدمه ويدخل بها ثم يغلقه مرة أخرى بطرف قدمه ليتوارى العشاق خلف ستار مملكتهم الخاصة …


تعليقات