![]() |
رواية عشق يحيي الفصل الثاني بقلم سلمي جاد
ـ "أنا النقيب يحيى الصياد… ابن عمك."
عدّت ثواني من الصمت ،ليلى بصّت له بعينين واسعة، فيها استغراب وتوهان، ودقات قلبها كانت بتخبط جواها لدرجة إنها خافت هو يسمعها.
ـ "حضرتك جاي تهزر؟! ابن عمي إزاي؟!"
حاول يخلي صوته حاد عشان يخبي التوتر اللي جواه، بس النبرة خرجت هادية بعد تنهيدة طويلة:
ـ "دي الحقيقة… أنا ابن عمك."
كان هيكمل كلامه، بس وقف فجأة، عقله اتشل لحظة. هي تعرف إنها متبناه؟ ولا لا؟
لو قال كل حاجة دلوقتي ممكن الصدمة تكسرها، فغير كلامه بسرعة:
ـ "أنا هحكيلك على كل حاجة، بس والدك ووالدتك موجودين؟ الكلام لازم يكون قدامهم."
ليلى رفعت حاجبها، نظرتها بقت فيها شك، خطوة لورا وقالت ببرود وهي بتكتم ارتباكها:
ـ "واضح إنك غلطان يا حضرة الضابط، أو يمكن نصّاب! أنا معرفكش ولا عمري سمعت عنك."
قبل ما يرد، صوت جه من وراهم، صوت راجل تقيل فيه حدة السن:
ـ "في إيه هنا؟ مين حضرتك يا ابني؟"
التفت يحيى بهدوء، وهو بيقول باحترام:
ـ "حضرتك الأستاذ عبد الفتاح؟"
ـ "أيوه… في حاجة؟"
يحيى وقف بثبات:
ـ "حضرتك، أنا النقيب يحيى الصياد… وجاي بكلام مهم عن بنت حضرتك."
_______________________________________________________________
في قصر عيلة الصياد
الكاميرا بتقرب من بوابة حديدية كبيرة مكتوب عليها "قصر عائلة الصياد"،
القصر ضخم، على طراز كلاسيكي راقي، جدرانه باللون الحجري الفاتح،
حواليه جنينة خضرا واسعة، وفيها نافورة صوت الميه فيها مريح،
كأن كل حاجة في المكان بتحكي عن عراقة وسنين طويلة من التاريخ.
جوه القصر، في أوضة أنيقة، فيها ست باين على ملامحها الكِبَر،
بس لسه محتفظة بجمالها وبهوقها، وعيونها فيها طيبة وسكون.
اسمها منال(والدة يحيى). قاعدة قصاد راجل كبير في السن،
ملامحه وقورة، شاربه أبيض، وصوته هادي بس كلماته دايمًا تقيلة.
هو الجد سالم الصياد.
منال بصوت مبحوح من التأثر:
ـ "مستحيل… يعني ليلى بنت لمياء لسه عايشه؟!"
دموعها نزلت قبل ما تكمل، وهي بتكتم شهقة فرح ووجع سنين:
ـ "يا رب… يا رب لك الحمد، بنت صاحبتي وأختي رجعتلي بعد العمر دا كله!"
الجد هز راسه بهدوء وقال:
ـ "اهدي يا منال… لسه بدري على الفرح. احنا لسه مش عارفين رد فعلها هيكون إيه لما تعرف الحقيقة. هي دلوقتي في بيت الناس اللي اتبنوها… ويحيى هناك بيحكيلها كل حاجة."
منال مسحت دموعها، ووشها رجع فيه النور شوية:
ـ "يارب تهديها وتجمعنا بيها قريب… يارب تيجي وتعيش معانا في بيتها اللي اتولدت فيه."
الجد بصّ لها وقال بصوت فيه أمل خافت:
ـ "إن شاء الله يا منال… إن شاء الله."
__________________________________________
في بيت عبد الفتاح
الجو في الأوضة متوتر. ليلى قاعدة قدام يحيى، ووشها مزيج بين الصدمة والتوهان،الدموع محبوسة في عيونها وهي بقرأ الورق اللي بتثبت إنها متبناه.
يحيى حكى كل حاجة من أول الحادثة اللي حصلت من خمستاشر سنة،
إزاي العربية اتقلبت، وإزاي اتخطفت وهي طفلة صغيرة واتحطت في دار أيتام…
لحد اللحظة دي وهي قدامه مش مصدقة.
كانت دموعها محبوسة في عينيها،
صوتها خرج واهي بتهمس:
ـ "يعني ايه ..... أنا متبناه؟"
يحيى سكت، لكن جواه نفسه يضمها ويخفف عنها، لكن ملوش حق في ده.
وساعتها… الصمت نزل على المكان زي الغيوم قبل المطر
ليلى كانت قاعدة متيبسة، كأنها تمثال من صدمة. ملامحها مش قادرة تستوعب كل اللي اتقال.
بصوت مبحوح، خرجت منها الكلمة:
ـ "يعني… أنا عشت خمستاشر سنة مع ناس مش أهلي؟!"
عبد الفتاح، اللي كان ساكت طول الوقت، قال بهدوء فيه حزن الدنيا كلها:
ـ "إحنا ماكنّاش ناويين نكدب يا ليلى… بس القدر هو اللي فرض علينا السكوت."
بصّت له بعينين مليانين دموع مكبوحة:
ـ "سكوت؟! ده عمر يا بابا… عمر أنا عشتُه على وهم!!
دموعها نزلت غصب عنها، وعبد الفتاح قرب منها بخطوات مترددة:
ـ "ليلى، أول ما شُفتِك كنتي طفلة صغيرة ف دار الأيتام…، وسعاد الله يرحمها أول ما شافتِك حتضنتك كإنك بنتها من سنين. إحنا كنا محرومين من الخلفة، ووجودِك في حياتنا كان رحمة من ربنا."
صوته اتكسر لما قال آخر كلمة، ومسح دمعة نزلت غصب عنه:
ـ "كنا كل يوم ناويين نقولك الحقيقة… بس كل مرة كنا بنخاف. سعاد كانت دايمًا تقول (مش دلوقتي يا عبد الفتاح، لسه صغيرة)، ولما ربنا أراد إنها تموت من خمس سنين… خفت أقولك وتكرَهيني وتسيبيني لوحدي."
ليلى كانت بتبكي، بس وسط الدموع، كانت نظرتها بتلين.
مدت إيدها بهدوء ولمست إيده، وقالت بصوت مبحوح:
ـ "أنا عمري ما هكرهك يا بابا… يمكن أنا اتصدمت، بس إنت وماما الله يرحمها ربيتوني، علمتوني، احتويتوني… أنتو كنتوا فعلاً أهلي."
حضنها عبد الفتاح بقوة، كأنه بيحاول يرجّع كل لحظة خوف عاشها.
دموعهم اختلطت، والمشهد كله بقى لوحة من وجع وحنين ودفا.
يحيى كان واقف بعيد، بيتابع اللحظة دي بصمت واحترام.
عبد الفتاح لما لاحظه، بصّ له وقال:
ـ "أنا آسف يا بني، الموقف صعب علينا كلنا، بس بستأذنك تديها شوية وقت قبل ما تاخدها من هنا."
يحيى هز راسه بتفهم:
ـ "أكيد يا فندم، اللي يريحها هو اللي هيتعمل. جدي والعيلة كلها مستنيين بس يسمعوا إنها بخير."
ليلى بصّت له لأول مرة ليحيى.
نظرتها علّقت على ملامحه… وأخيرا خدت بالها من وسامته اللي مقدرتش تنكرها ،العيون الهادية اللي فيها عمق غريب، ملامح وجهه اللي شبه ملامحها في حاجة مش عارفة تحددها. لون شعره البني نفس لون شعرها المتخبي تحت حجابها.
هيبته الطاغية في حركات جسمه الواثقة
حسّت بحاجة غريبة جواها… مزيج من ارتباك ودفا، كأنها بتفتّش في وشّه عن إجابة مش مفهومة.
ـ "القصر اللي قلت عليه… ده فين؟"
ـ "قصر الصياد…في القاهرة ،عايش فيه جدي سالم، ووالدتي ، وعمتي ميادة وجوزها وأولادها."
سكت شوية، وبعدين قال بنبرة فيها صدق:
ـ "كلهم مستنيينك يا ليلى."
عبد الفتاح بصّ لها وقال بهدوء:
ـ "خدي وقتك يا بنتي، لمّي حاجتك، واعملي اللي قلبِك يقولك عليه. بس مهما حصل… أنا دايمًا هافضل أبوكي اللي ربّاك."
ليلى نظرت له بعينين مليانين حب ووجع، وقالت:
ـ "وأنا دايمًا هافضل بنتك، يا بابا."
المشهد بينتهي وهي بتبص ناحية يحيى، والعيون بينهم فيها أسئلة كتير…
كانت الشمس بدأت تغيب، والدنيا حوالين البيت لبست لون الغروب الحزين.
ليلى خلصت تجهز شنطتها، وكل حركة منها كانت تقيلة…
كأنها مش بس بتلم هدوم، كأنها بتلم ذكرياتها كلها وتحطها في شنطة صغيرة.
عبد الفتاح كان واقف عند باب الأوضة، بيحاول يخبي دموعه بابتسامة باهتة.
قال بصوت مبحوح:
ـ "هتفضلي بنتي مهما حصل يا ليلى… الباب ده مفتوح ليكي في أي وقت، متنسيش كده أبدًا."
ليلى بصّت له والدموع مغرقاها،
ـ "هفضل أجيلك يا بابا، كل ما أشتاق لبيتي الحقيقي… اللي فيه ريحة أمي."
ضمها في حضنه بقوة، وقال وهو بيحاول يضحك رغم الدموع:
ـ "ما تبكيش يا حبيبتي، الناس الكويسين اللي ربوكي مستنيينك… وأنا متأكد إنهم هيحبوكي زي ما أنا حبيتك."
كانت لحظة وداع صعبة…
صوت شهقتها وهي بتسيب حضنه كان وجع بيمزق الصمت.
بعد عشر دقايق، كانت واقفة قدام البيت، يحيى بيحط الشنط في شنطة العربية السودا الكبيرة.
عبد الفتاح واقف بعيد، بيودعها بنظرة أب فيها حنين ووجع وخوف.
ليلى مسحت دموعها بسرعة وركبت جنب يحيى.
العربية اتحركت ببطء، وطلعت من الحارة اللي اتربّت فيها،
البيوت القديمة بتصغر وراها، والذكريات بتسيب أثرها في المراية الخلفية.
الصمت كان مالي العربية،
لحد ما يحيى كسر الهدوء بنبرة هادية:
ـ "انتي في كلية إيه يا ليلى؟"
بصّت له وهي بتحاول تخفي ارتباكها:
ـ "تجارة إنجلش."
هو ابتسم بخفة:
ـ "حلو ."
طبعًا هو كان عارف كل حاجة عنها قبل ما يقابلها،
بس كان عايز يكسر الصمت ويسمع صوتها .
وبهدوء قال:
ـ "فاكرة أي حاجة من قبل دار الأيتام؟ من قبل ما تتبني؟"
سكتت شوية، وبعدين هزت راسها:
ـ "لا… ولا حاجة. بحس إن حياتي بدأت من وأنا هناك."
ضحك بخفة، لكن في عينه حزن دفين.
ـ " تعرفي إنك كنتي متعلقة بيا جدًا زمان… مكنتيش بتنامي غير على حجري ودايما تناديني ب(يايا)."
بصّت له بدهشة وابتسامة باهتة:
ـ "يايا؟! ."
ضحك وهو بيهز راسه بتأكيد .
الصمت رجع ثواني، قبل ما تسأله بنعومة:
ـ "وباباك؟ عايش؟"
ردّ بهدوء:
ـ "لا، مات وأنا عندي خمس سنين. كان مهندس معماري، والمفروض كنت أطلع زيه… بس أنا اخترت طريق التاني، .والدك الله يرحمه كان قدوتي ، وكنت دايمًا عايز أبقى زيه، عشان كده دخلت شرطة ."
ليلى بصّت له، وقالت:
ـ "واضح إنك كنت بتحبه جدًا."
ـ "أكتر مما تتخيلي."
سكت لحظة، وبعدين قال كأنه بيكلم نفسه:
ـ "هتحبي العيلة يا ليلى، جدي طيب، وماما منال هتغرقك حنية، بس…"
وقف شوية قبل ما يكمل،
ـ "خلي بالك من عمتي سهى وولادها، الناس دي مش دايمًا نيتهم صافية."
ليلى ابتلعت ريقها، ملامحها فيها قلق وفضول،
بس قالت بهدوء:
ـ "حاضر "
يحيى بصّ قدامه عالطريق ،مسافة بين كلامهم رجعت تبعد،
هو كان متضايق… مش منها، لكن من إحساس غريب بيكتم صدره.
كان نفسه تكون فاكراه،
نفسه يسمع "يايا" منها زي زمان.
بس الواقع كان أقسى،
هي نسيت، وده منطقي… كانت مجرد طفلة خمس سنين،
لكن هو؟ كان خمستاشر، وكان شايل جوا قلبه حب طفولة بريء ولسه ساكن فيه لحد النهارده.
بعد ساعه
العربية وقفت قدام بوابة ضخمة مكتوب فوقها بخط عربي أنيق "قصر عائلة الصياد".
الأنوار اللي حوالين السور كانت بتلمع على الحجارة الفاتحة،
وصوت المية من النافورة في النص كان بيكسر سكون الليل.
ليلى بصّت من الشباك، وإيديها اتشبكت في بعض من التوتر.
قالت بخفوت:
ـ "ده… ده القصر؟"
يحيى ركن العربية بهدوء، وقال بابتسامة مطمنة:
ـ "أيوه، بيتك."
كلمة "بيتك" خبطت جواها زي نبضة غريبة…
بيتها؟ وهي لسه مش مستوعبة إنها ليها بيت غير اللي ساكنة فيه من سنين!
نزل من العربية وفتح لها الباب،
اترددت لحظة قبل ما تطلع،
وبصّت حوالينها بخوف بسيط كأنها داخلة عالم مش بتاعها.
الهواء كان فيه ريحة فخامة،
ريحة ورد وحديد قديم، ريحة عمرها ما شمتها قبل كده.
كانت خطواتها بطيئة وهي ماشية ناحية البوابة،
وكل ما تقرب أكتر، التوتر بيزيد،
فبصورة غريزية، مشيت أقرب ليحيى شوية،
كأن وجوده بيديها أمان غريب،
رغم إن النهارده أول مرة تشوفه .
حسّ بيها، بس ما علّقش،
اكتفى إنه مشي جنبها بنفس السرعة،
البوابة اتفتحت ببطء، وظهر الطريق الطويل اللي بيوصل لباب القصر،
مفروش رخام، وعلى الجنبين صفين من الأشجار الصغيرة.
البيت نفسه باين من بعيد، ضخم ومضيّ، نوره دافي.
لما وصلوا، الباب الرئيسي اتفتح،
وطلعت منه ستّ أنيقة شعرها رمادي بسيط،
وشها فيه ملامح طيبة ودموع فرحة،
كانت منال.
منال أول ما شافت ليلى، اتجمدت لحظة،
وبعدين قربت بخطوات سريعة،
وعينيها بتمسح ملامحها كأنها بتتأكد إنها حقيقية مش حلم.
مدّت إيدها بحنان، وقالت بصوت بيرتعش:
ـ "ليلى… يا حبيبتي؟"
ليلى وقفت مكانها مش قادرة تتحرك.
كانت حاسة إن قلبها بيخبط بسرعة،
ومش فاهمة المفروض تعمل إيه أو تقول إيه.
يحيى حسّ بتوترها،
فقال بهدوء:
ـ "دي ماما… ، وكانت صاحبة والدتك الله يرحمها."
الكلمة دي كسرت الحاجز اللي كان واقف بين الاتنين،
ومنال قربت واحتضنتها بحنان الأم اللي فقدت بنت أختها سنين طويلة:
ـ "سبحان من جمعنا يا بنتي… يا وجع قلبي اللي رجعلي."
ليلى كانت متوترة، بس لما حضنتها،
حست بحاجة غريبة…
أمان، ودفا، وريحة مألوفة مش عارفة جات منين.
فضلت ساكتة، بس دموعها نزلت وهي بترد الحضن بخفة.
منال مسحت دموعها وقالت بابتسامة دافية:
ـ "تعالي يا حبيبتي، جدو مستنيكي."
دخلوا الصالون الكبير،
كل حاجة فيه بتحكي عن تاريخ،
تحف، سجادة سميكة، وإضاءة هادية.
الجد سالم كان قاعد على كرسي خشب فخم،
باين عليه الوقار والهيبة،
بس أول ما شاف ليلى، ملامحه لانت، سند
على عكازه وقام بصعوبة بسبب سنه اللي اتخطى ال 80 ،عينيه دمعت وهو بيقول:
ـ "قربي يا بنتي."
ليلى مشيت بخطوات بطيئة،
ولما قربت، مدّ إيده المرتجفة ولمس كفها:
ـ "كنت فاقد الأمل أشوفك قبل ما أموت… بس ربنا كبير."
وفجأة شدها بقوة في حضنه والدموع بتجري زي الشلال على وشه ..رغم هيبته إلا إن اللحظه دي كل الهيبة راحت أول ما حضن حفيدته
ليلى حاولت تتكلم، بس صوتها اتكسر:
ـ "أنا… مش مصدقة كل ده حقيقي."
كان واقف بيتابع المشهد بصمت،
ووشه فيه خليط من راحة وغصة.
كانت لحظة مستنيها طول حياته…
بس في نفس الوقت، جواه حنين قديم بيقوله:
" معقولة رجعت…."
"في أول اليوم كانت بنت من حارة صغيرة،
بتضحك وسط ناس بتحبها.
في آخر اليوم… بقيت حفيدة عيلة كبيرة،
ساكنة في قصر، ومش عارفة حتى مين فيهم هيفرح برجوعها… ومين هيخاف منه."
قلبها مليان أسئلة،
وخوف، وحنين، وفضول…
مش عارفة إيه اللي مستنيها الأيام الجاية،
ولا القدر مخبّي لها ايه.
لكن اللي كانت متأكدة منه بس،
إن يومها انتهى… بس حياتها الحقيقية لسه بتبدأ .......
