رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وواحد
قالت سيرين وهي تتنفس ببطءٍ أثقل من اللازم:
“سأذهب وألقي نظرة.”
هبطت الدرج بخطواتٍ حذرة كأنها تخشى أن يبتلعها الظلّ حتى وصلت إلى الطابق السفلي.
وقفت أمام باب غرفة ظافر فإذا به مغلقٌ بإحكام… حدّقت فيه طويلًا كأنها تنتظر أن يبوح بما خلفه لكنه ظلّ صامتًا كقبرٍ مطوَّق بالأسرار فتنفست بعمق ثم استدارت إذ لم تجد في نفسها دافعًا للتدخل؛ فهي واثقة بأن ظافر إن ضاق به المقام هنا سيرحل دون أن يُخبر أحدًا وهذا ما تريده.
“بقولك أساسو آني حدايا غرفة شاغرة ما تسلفيني المز تبعك مستعدة استضيفه عادشي”
وفي الصباح التالي نهضت باكرًا.. أشعلت النور في المطبخ وأخذت تعدّ وجبة الإفطار لكنها اختارت أن تصنع فطائر بالتوت الأزرق عامدةً متعمّدة فهي تعلم أن ظافر لا يطيق مذاقه وأن زكريا ورث عنه هذا النفور حتى أنه كان يرفض مجرد لمس حبّةٍ صغيرة منه وضعت طبقًا جانبًا على الطاولة والباقي خبأته بعيدًا لفاطمة التي لم تستيقظ بعد فالمكان غارق في هدوءٍ مريب.
وبينما هي تضع آخر قطعة على المائدة سمعت وقع خطواتٍ خافتة… التفتت فإذا بظافر يخرج من غرفته… بدا مختلفًا عمّا كان عليه في الأمس؛ يرتدي ثيابًا عادية متخفّفًا من الرسمية التي طالما أحاطت به لكن ما استوقفها لم يكن ملابسه بل ذلك الجرح الواضح على جبهته… كان شقًا كبيرًا يفضح حادثة ارتطامٍ عنيف حينها فقط أدركت أن الصوت الذي دوّى في الليلة الماضية كان سقوطه لا أكثر.
شدّت أنفاسها لتكبح ارتباكها وتظاهرت باللامبالاة، ثم قالت بصوتٍ بارد:
“يمكننا أن نتناول الإفطار الآن.”
أومأ برأسه وصوته جاء منخفضًا يكاد يُلامس مسامعها:
“حسنًا.”
اقترب بخطواتٍ مترددة كمن يخشى أن يغضب المكان من وجوده… لم يكن الممر ضيقًا لكن الأثاث المنتشر بعشوائية حوله بدا كأفخاخ تنتظر عثرته التالية… عيناه المطفأتان تحاولان استيعاب الفراغ وجسده المشدود يفضح خوفه من أن يصطدم بشيء آخر فيثير غضبها مرة أخرى.
في أعماقها كانت سيرين تتمنى لو يختفي بسرعة لكنها في اللحظة التي رأته فيها متواضعًا، منصاعًا، بوسامته الجريحة تلك… لم تستطع أن تقمع رعشةً خفية في صدرها لكنها سارعت إلى دفنها تحت قناع القسوة وقالت فجأة بنبرةٍ مصطنعة تُخفي ارتباكها خلف غضبٍ مزعوم:
“امشِ يسارًا قليلًا… ستصطدم بالحائط.”
توقف في مكانه بينمااحمرّت أطراف أذنيه كطفلٍ ضُبط متلبسًا بخطأٍ ساذج… ومن ثم أطاعها وخطا خطوتين نحو اليسار ثم أسرع متوجّهًا إلى الطاولة يسحب كرسيًا وجلس في صمتٍ وقور قبل أن يقول بصوتٍ متهدّج فيه شيء من الامتنان الصادق:
“شكرًا لكِ… لقد حفظتُ الطريق عن ظهر قلب.”
كانت كلماته تلسع قلبها إذ بدا مُحسنًا إلى درجةٍ تجعلها تتمنى لو أنّ ذاكرته لم تُمحَ… ذلك الفراغ في رأسه جعل من قسوتها عليه مهمةً أصعب بكثير مما تظن.
وضعت سيرين أمامها صحنًا صغيرًا به فطيرتين مستديرتين وبيضتين مقليتين يلمع صفارهما كعينين تحدقان فيه دون رحمة ومن ثم دفعت الطبق نحوه ببرودٍ متعمّد تغمغم:
“تفضّل.”
مدّ ظافر يده ببطء وصوته انساب كالماء على حجرٍ صلد:
“شكرًا لكِ… سأستيقظ أبكر بداية من الغد لأساعدكِ.”
كان صوته مبحوحًا كأن الليلة التي قضاها على فراشٍ غريب التهمت راحته وابتلعت نومه فاستيقظ متأخرًا بثقل رأسٍ لم يعتده لكن كلماتُه باغتت سيرين فأشعلت في صدرها ارتعاشة غريبة فالتفتت إليه سريعًا وقالت بنبرةٍ حادة:
“لا بأس… ثم بماذا يمكنك مساعدتي وأنت أعمى لا ترى شيئاً؟”
انقبض حلق ظافر وكأن غصّةً قد تجذّرت فيه فخفض نبرته حتى بدا صوته كاعترافٍ همس به لليل:
“لا داعي لأن تتعبي نفسك… عودي مع فاطمة إلى قصري وسأتكفّل بكما.”
كلماته ارتطمت بأذنها ارتطامَ حجرٍ في بئرٍ ساكنة فاتسعت عيناها بدهشةٍ ساخرة حتى كادت أن تختنق بلقمةٍ من الفطيرة تقول بتعالٍ:
“تتكفّل بنا؟!… لا أحتاج إليك لتعيلني، أنا قادرة على إعالة نفسي.”
لكن ظافر أخرج شيئًا من جيبه ببطء… كانت بطاقة ذهبية براقة كأنها قطعة شمسٍ مصهورة في مستطيل معدني يمدّها نحوها بيدٍ واثقة فتجمدت سيرين في مكانها وعينيها تقدحان حيرةً وغضبًا:
“ما الذي تفعله؟”
ابتسم ابتسامةً باهتة وقال بصوتٍ خالٍ من التردد:
“إنه راتبك… لقد طلبت من ماهر أن يجهزه قبل مجيئي إلى هنا… قد لا أتذكر كل شيء، لكني اكتشفت في الأيام الماضية أنني كنت مديرًا تنفيذيًا لشركة كبرى وجمعت من المال ما يكفي ليجعلني قادرًا على رعايتكما مدى الحياة.”
ازدادت ملامحها صلابة وقالت بقطيعةٍ حاسمة:
“لا أريد مالك.”
لكنه وضع البطاقة على الطاولة بينهما كحاجز ذهبي يفصل بين عالمين وقال بثباتٍ يشبه الإصرار القدري:
“ليس مهمًّا أن تريديها… ما يهم أن أعطيك إياها.”
التفتت عنه فجأة محاولة أن تطرد لمعان البطاقة من عينيها وقالت وهي تحاول استعادة جمودها:
“تناول طعامك بسرعة لديّ موسيقى عليّ أن أؤلفها.”
ظلّت البطاقة الذهبية تلمع على المائدة كندبةٍ لا تنمحي بينما رفع ظافر قطعة من الفطيرة إلى فمه وما إن مضغها حتى انكمشت ملامحه وعبس وكأن طعمها حوّل العالم في فمه إلى رمادٍ مُرّ.
رفعت سيرين بصرها نحو السقف كمن تبحث عن صبرٍ ضائع بين الشقوق وقالت بفتورٍ خفي:
“نعم… ما الأمر الآن؟”
رفع ظافر رأسه نحوها وعيناه الزجاجيتان تلتمعان بوداعةٍ غير معهودة، وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيه أضفت إلى ملامحه جاذبيةً لا تقاوم وبينما خرج صوته رقيقًا لكنه حمل طلباً يأبى الانكسار:
“هل يمكنكِ مساعدتي؟… أنا لا آكل التوت الأزرق… هل يمكنكِ أن تزيليه لي؟”
كم بدت عبارته طفولية رغم صلابته الظاهرة؛ فقد فقد ذاكرته لكنه لم يفقد ذوقه العنيد الذي ما زال يقوده كما لو كان ملكًا يأمر بلا وعي.
مدّت سيرين يدها ببرود تلتقطت الحبات الداكنة واحدةً تلو الأخرى ثم أعادت الطبق إليه دون اكتراث قائلة بنفاذ صبر:
“ها هو… يمكنك أن تأكل الآن.”
التقط ظافر قطعة أخرى من الفطيرة لكن قلقه لم يهدأ فتوقف والتفت برأسه نحو صوتها يقول بنبرةٍ فيها شيء من التردد:
“سيرين… هل أنتِ واثقة أنكِ أزلتِها جميعًا؟”
أجابت بسرعةٍ وقد ضاقت أنفاسها من تكراره:
“أجل… واثقة… ربما أفلتت واحدة فقط… إن قضمتها، فهي مجرد حبةٍ عابرة.”
ثم نهضت فجأة كمن يهرب من ثقلٍ يجثم على صدره وقالت وهي تدير ظهرها له:
“سأذهب لتأليف بعض الموسيقى… أنهِ طعامك وبعدها لا تنسَ غسل الأطباق… الحوض أمامك بخطوتين لا أكثر.”
لم تُعامله ككفيفٍ على الإطلاق بل كما لو كان رجلاً كاملًا وأحيانًا أكثر من ذلك: كما لو كان تلميذًا صغيرًا يحتاج لتعليم فلو كان هذا هو ظافر الذي عرفته من قبل لكان صرخ في وجهها وألقى بالصحن وغادر المائدة بكبرياءٍ جارح، فكيف لرجلٍ وُلد وفي فمه ملعقة فضية أن يُؤمر بغسل الصحون؟
لكن الآن… لم ينبس بكلمة بل أكل كل الفطائر حتى آخر قضمة، حتى تلك التي دسّت له بين ثناياها بقايا التوت الذي يكرهه متعمدة ثم نهض بهدوءٍ غريب واتجه نحو المغسلة ليجلي الأطباق بنفسه.
لكن حين عادت سيرين إلى غرفتها وانغمست في أنغامها المعلّقة بين أوتار القلب نزلت فاطمة بعد قليل لتفاجأ بالمطبخ مغمورًا بالفقاعات كأن البحر قد تسلل من النافذة واحتل المكان… ورجلٌ اعتاد أن يُدار له القصر برجاله ونساءه يقف الآن منحنيًا أمام حوض صغير يغسل الصحون بيديه العاريتين.