رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة واثنين 302 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة واثنين


**فاطمة** تجمّدت عيناها على مشهدٍ لم تتخيله قط؛ ظافر الرجل النبيل الذي اعتاد أن يجلس على عرش كبريائه كان منحنياً فوق حوضٍ غارقٍ بالفقاعات يفرك الأطباق بيدين اعتادتا التسلط لا الخدمة… مشهدٌ أشبه بلوحةٍ سريالية اختلطت فيها السخرية بالشفقة، والذهول بالريبة.

ذاكرتُها عادت بها على الفور إلى خمس سنوات مضت، إلى تلك المكالمة الوحيدة التي جمعتهما، يوم حملت صوتها المرتعش وناشدته أن يُحسن معاملة **سيرين** حينها لم يترك لها سوى جدارٍ جليدي من البرود وكلماتٍ ما زالت تحفر في صدرها كخنجر:

*”ولماذا أهتم بحياتها؟ إنها لم تجنِ إلا ما تستحق!”*

تنهّدت فاطمة بمرارة؛ إذ أيقنت أن من لفظ تلك الكلمات القاسية يستحق كل ما عصف به من مآسٍ وكأن القدر لم يكن إلا مرآةً عاكسة لجموده.

صحتها لم تعد كما كانت، رئتاها تستسلمان يوماً بعد يوم لظلٍّ غامقٍ ينهشها من الداخل، زمنها يتناقص كشمعةٍ تأكلها نيران هادئة ورغم كل ذلك كان قلبها يصرّ على أمرٍ واحد:

أن تبقى بجانب سيرين حتى آخر نفسٍ لها.

خطت فاطمة نحو المطبخ بتعثرٍ كأن الأرض نفسها تتثاقل تحت قدميها وأطلقت كلماتها بسخريةٍ ممزوجة بالوجع:

“سيد ظافر… إن ضاق صدرك بالمقام هنا فالقصور لا تزال مفتوحة تنتظرك… نحن لسنا من عالمك ولن تعتاد على العيش بين جدران أسرةٍ عادية مثلنا.”

ما إن لامس سمعه ذلك الصوت العتيق حتى عرفه صوتٌ مرّ على ذاكرته حين قدمته له سيرين من قبل: **فاطمة**… المرأة التي يمكن أن تُعدّ بمثابة حماته.

استدار نحوها وملامحه مغمورة بثباتٍ لم تتوقعه:

“إذا استطاعت سيرين أن تبقى هنا، فأنا قادرٌ على البقاء أيضاً.”

تسمرت فاطمة في مكانها كأن كلمات الرجل اخترقت يقينها القديم… لم يكن هذا ذاك الظافر الذي عرفته، المتعجرف القاسي بل بدا لها شخصاً آخر غريباً، أو ربما نسخةً أرهقها العمى فحاولت التبرؤ من ماضيها لكنها وهي المرأة التي تعرّفت على قلوب الناس من ارتجاف أصابعهم لم تُسلّم بسهولة فهي توقن أنه مهما بدت ملامح التغير على وجهه فلن يستطع الاستمرار في هذا القناع طويلاً لذا آثرت أن تتركه لزمانه فهو وحده القادر على فضحه.

————-

بالرغم من أن **سيرين** كانت قد أوصت ألا تطأ أقدام غريبة عتبة هذا البيت سوى ظافر إلا أنّ القلق الذي استبدَّ بـ **ماهر** لم يترك له مجالاً للطاعة فجاء مع الفجر حين كان الصمت يخيّم على الأزقة ككفنٍ من ضباب ووقف عند شباك المطبخ يتلصص بخطواتٍ مرتجفة وما إن رفع بصره حتى وقع على مشهدٍ لم يصدقه:

**ظافر**، الرجل الذي كان يوماً سيداً على العروش غارق في رغوة الصابون يغسل الأطباق واحداً تلو الآخر كخادمٍ مطيع… لم يكن وحده في اللوحة؛ كان ظل سيرين يحوم حوله كقائدٍ يُملي أوامره في صمت مما أثار في نفس ماهر دهشةً أقرب إلى الصدمة.

وبينما كانت **فاطمة** تغفو في ركنٍ معتم وسيرين منغمسة في نغماتها تُحاول تأليف موسيقى كأنها تعزف على أوتار مصيرها، قرر ماهر أن يكسر الحظر وقفز من النافذة بخفةٍ مترددة كمن يقترف خطيئةً لا بد منها ومن ثم اقترب من ظافر وصوته يتردد بين الهمس والدهشة:

ــ “سيدي ظافر… كيف تفعل هذا؟”

قالها وهو يمد يده بإصرارٍ ينتزع بعض الأطباق ليشاركه في تنظيفها ليخفف عن سيده وقاحة المشهد.

تجهم وجه ظافر فحضور ماهر أعاد إليه ثقل ماضيه ذاب في ذاكرته:

ــ “لماذا أنت هنا؟”

أجاب ماهر وصوته يحمل خليطاً من الولاء والخوف كمن يخاطب قدَراً لا رجلاً:

ــ “قلقت عليك… لم أستطع تركك وحيداً.”

لقد مضت تسع سنوات وماهر على مقربةٍ منه؛ لم يكن مجرد سكرتيرٍ يدير الملفات بل ظلّاً يلازم خطاه، صديقاً لم يعترف به ظافر علناً قط… صحيح أنّ سيده كان قاسياً في مزاجه، بارداً في انفعالاته لكنه لم يقدم يوماً على إهانته بل إن ماهر كان يدرك يقيناً:

لولا يد ظافر التي انتشلته لبقي تائهاً على هامش الحياة يلهث وراء قوتٍ يسد به رمقه.

رفع ظافر رأسه وعيناه المعتمتان تتفحصان الفراغ بحدة وقال بصرامةٍ لا تخلو من مكر:

ــ “في هذه الحالة… احرص على أن تنظفها جيداً، وأعد كل شيء إلى مكانه… لا أريد أن تكتشف سيرين الأمر.”

ــ “بكل تأكيد، سيدي.” أجاب ماهر وهو يكبت ابتسامة غبية.

وبينما كان يشاركه العمل في صمتٍ ثقيل تسلل على لسان ماهر الخبر الذي جاء يحمله:

ــ “هناك اجتماعٌ للمساهمين بعد ظهر اليوم… سيجتمعون ليقرروا تعليقك عن مهامك.”

ظل ظافر صامتاً كأن كلمات ماهر ارتطمت بجدار داخلي من حديد ثم قال بنبرةٍ باردة كصدى رجلٍ يتكلم من هوّة سحيقة:

ــ “أفهم… بعد عودتك اجمع كل أعمالي التي أنجزتها في السنوات الأخيرة وحوّلها إلى ملفاتٍ صوتية… ثم أرسلها إليّ.”

أومأ ماهر برأسه وصوته خافت:

ــ “أوامرك… سيدي.”

كانت اللحظة أشبه بصفقةٍ غير مرئية؛ الولاء مقابل البقاء، والأوامر مقابل الطاعة لكن في العمق كان كل منهما يعلم أن الزمن تغيّر وأن اللعبة لم تعد تُدار بالعيون بل بالأصوات التي تُسجَّل في عتمةٍ جديدة لكن منذ اللحظة التي ارتجف فيها قلب ظافر بخبر حمل سيرين انعقدت في داخله عاصفة لا تهدأ إذ أقسم على نفسه أنه سيستعيد زمام حياته ولو سُلب منه بصره… كان كجنديٍ جريحٍ يصرّ على مواصلة المعركة لا ليحمي نفسه بل ليحمي الكنزين اللذين أودعهما القدر بين يديه: سيرين والطفل الذي ينمو في رحمها كسرٍّ مقدّس وهو على يقين تام إنه ابنه مهما أنكرت.

حين أنهت سيرين عملها في الطابق العلوي خطا قلبها خطواتٍ حذرة نحو الأسفل لا تنتظر من ظافر شيئًا ولا تتوقع منه أكثر من صمته المعتاد لكن المفاجآت كثيرًا ما تُخبئ نفسها في التفاصيل الصغيرة فما إن وطأت قدماها عتبة غرفة المعيشة حتى ازدادت دهشتها في صمتٍ مباغت؛ كان المكان مشذّبًا بعناية كأن يدًا خفية مرت فوقه رتّبت الأشياء بنبضٍ متأنٍ والمطبخ يلمع كمرآة، والأثاث مصطف بعناية في نظامٍ غريب عنها حتى تساءلت للحظة: هل عاد إليه بصره، أم أن البصيرة تنبت حين يُسلب البصر؟

كان ظافر يجلس على الأريكة بين يديه كتابٌ محفور بالنتوءات، أصابعه تتحسّس حروف برايل كطفلٍ يتعلم لغة جديدة وعيناه المغلقتان تتناوبان مع أذنيه في اصطياد أدقّ الأصوات فارتفع رأسه إليها فجأةً وكأن الهواء نفسه أفشى سرّ حضورها وبصوته الهادئ الذي بدا أثقل من صدى قلبه قال:

ــ “هل انتهيتِ من عملك يا سيرين؟”

ارتبكت، دهشت، ثم سألت بصوتٍ يحمل ظلّ ابتسامة:

ــ “وكيف عرفت أنها أنا وليست فاطمة؟”

ارتسمت على شفتيه مسحة من ثقة ممزوجة بعذوبة غامضة:

ــ “لكلٍّ منكما وقع مختلف حين تمشيان… خطواتكما ليست سواء.”

لم تستطع أن تُخفي إعجابها إذ بدا كمن يصغي إلى الكون بأكمله في حفيف الأقدام ومن ثم قالت متسائلة وقد علقت الدهشة في عينيها:

ــ “هل نظّفت كل هذا بنفسك؟”

تردّد لحظة كأن الكذب يتردّد قبل أن يخرج من بين شفتيه ثم أجاب بصوتٍ عميق:

ــ “نعم… أنا فعلت ذلك.”

توقفت عن الحفر في السؤال فالإجابة بحد ذاتها لم تعد مهمة أو ربما لأنها أدركت أن بعض الأفعال تتكلم بصوتٍ أعلى من الكلمات.

في هذه الأثناء كانت فاطمة غارقة في نومٍ واهن بينما جلس الصمت بينهما كضيفٍ ثالث لا يريد الرحيل إذ لم يكن لدى سيرين وحيٌ للموسيقى في تلك اللحظة فاتجهت إلى التلفاز تبحث عن أي ضجيج يبدّد السكون.

بلمسةٍ عابرة تنقّلت بين القنوات حتى توقفت عند شاشةٍ مشتعلة بالأرقام والوجوه المتجهمة قناةٌ مالية تبثّ حيًا اجتماع المساهمين لشركة آل نصران… الشركة التي يرتبط اسمها بظافر كما يرتبط الجسد بروحه.


تعليقات