رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وثلاثة 303 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وثلاثة 


كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة تمامًا والقاعة الكبرى في مبنى الشركة الأم تضجّ بالوجوه المتوترة إذ اجتمع كل أفراد عائلة نصران، كبارًا وصغارًا، شيوخًا وشبابًا، إلى جانب ثِقَلٍ من المساهمين الذين حضروا وكأنهم شهود على محاكمة تاريخية بينما انغرست الكاميرات وأعين الصحفيين كخناجر في المشهد تنتظر لحظة الإعلان الحاسمة:

من سيرتدي تاج الإدارة بعد أن تهاوى ظافر؟

جلس عدنان في مقعده بثباتٍ مصطنع يراقب بحذر بينما كان زيدن ينهش أظافره في قلقٍ مكتوم أما مارلين فارتدت قناعًا باردًا يخفي ما يعتمل بداخلها من طموحٍ شرس وخلف تلك الوجوه كانت تختبئ شهوة القوة وكلٌّ يمدّ عينيه إلى الكرسي التنفيذي كمن يمد يديه إلى قطعة خبز في صحراء قاحلة.

لكن رغم كثرة الشباب الموهوبين في العائلة لم يضاهِ أحد منهم سطوة ظافر ولا حضوره الطاغي؛ لكن بعد أن أصابه البلاء وفقد بصره بدا لهم أن العرش قد شغر وأن الوقت قد حان لتقاسم الغنيمة لذلك انطلقت شرارة الجدل في بداية الاجتماع ارتفعت الأصوات واحتدم النقاش كمعركة لا تعرف سوى المنتصر والخاسر غير أن الغائب الأبرز كان شادية التي لم تحضر فظنّ الجمع أنها عزفت عن المشاركة استسلامًا لفكرة أن سقوط ظافر صار أمرًا محتوماً وأن اسمه سيُمحى عن لوحات الشركة لكن… وبعد عشر دقائق فقط من ضجيج الأصوات المبحوحة ارتجّ الباب فجأة فالتفّت الرؤوس كجنود استنفرهم هدير الطبول، واندفعت الكاميرات تتزاحم على المشهد.

دخلت شادية أولاً بوجهٍ يحمل هدوءًا يسبق العاصفة، عينان متقدتان بالصلابة كجمرتين لم يبردا بعد.

ثم… ظهر هو.

ظافر.

يرتدى بدلة أرماني داكنة التصق قماشها بجسده كدرعٍ أسطوري، يمشي بخطوات ثابتة تُخفي تحتها إعصارًا فبدا كمَلكٍ منفيٍّ عاد فجأةً من غياهب عصور غابرة، مكللًا بهالةٍ لم يمحها العمى بل زادها غموضًا وجلالًا ملامحه منحوتة على صخر الكبرياء وصوته الذي دوّى في القاعة لم يحتج إلى صراخٍ ليُخيف:

ــ “أنا، ظافر نصران… الرئيس التنفيذي لشركة آل نصران، أعلن رفضي لهذا الاجتماع… هل يجرؤ أحدكم على الاعتراض؟”

صمتٌ بل ثقلٌ رهيب خيّم على القاعة كأن الهواء نفسه توقف عن الحركة بينما ارتجفت جباه زيدن ومارلين وتصبّب العرق من وجهيهما كمن وُضِع تحت محاكمة مستبدة… وحدها الكاميرات كانت شاهدةً على الحدث تُسجّل لحظة سقوط الأقنعة وعودة ملكٍ لم تفلح الظلمات في إقصائه.

لم يجرؤ أحد أن ينبس بكلمة كأن صوته الجهوري قد صبَّ في القاعة لعنةً أسكتت الحناجر وجمّدت الدماء في العروق وهكذا انفضّ اجتماع المساهمين بالقوة لا بقرار مجلس ولا بتصويت بل بهيبة رجل واحد.

خرج الشباب الموهوبون في صمتٍ مطبق رؤوسهم مطأطأة وكأنهم جندٌ مهزومون في معركة لم تبدأ أصلًا.

وفي الخارج كانت عدسات الصحافة ترتجف حماسةً تنقل الخبر إلى العالم كمن يذيع نبوءة:

ــ “ظافر نصران حضر الاجتماع بنفسه… عيناه بخير!”

ــ “شركة نصران كوربوريشن أُجبرت على فض اجتماعها السنوي بوجوده!”

اشتعلت مواقع التواصل كأرضٍ يابسة لامستها شرارة تتوالى التعليقات في هيستيريا جنونية أصابع تكتب وكأنها فقدت عقولها أمام الصورة المنقولة عبر الشاشات:

ــ “كما هو متوقع من أسطورة آل نصران… إنه مذهل!”

ــ “أريد أن أنجب أطفاله!”

ــ “كفاكم انبهارًا إنه وغد، لا تُمحى خطاياه بجمال ملامحه!”

كانت التعليقات تتناسل كالعاصفة بين عشقٍ أعمى وكرهٍ دفين، بين عبادةٍ لهيبته ورفضٍ لتاريخه.

لكن… في ركنٍ آخر من المدينة جلست سيرين أمام التلفاز وعيناها تتسعان كمن رأى شبحًا يعود من قبره.

شهقت في صمت كأنها سقط في بئرٍ بلا قرار وكلمة واحدة تتردد على لسانها:

مستحيل…!

الرجل الذي تراه الآن على الشاشة بوقفةٍ مهيبة ونظرةٍ تُشعل الرهبة لم يكن ظافر.

استدارت بجزعٍ إلى الرجل الجالس بجوارها فوجدته هناك مطأطئ الرأس غارقًا في أوراق برايل يُلامس النقاط البارزة بأصابعه في صبرٍ طفل يتعلّم أبجديته الأولى… لم يرفع رأسه للحظة كأن العالم كله خارج هذه الأوراق لا يعنيه… عندها أدركت سيرين الحقيقة المرعبة الرجل الذي يملأ الشاشة ليس ظافر… بل هو **جاسر**… اللعنة!! أو ربما العكس!!

لقد مضت عشرة أعوام كاملة كأنها دهور أرهقت الروح وأكلت من أعمار مَن مرّوا على جمرها وفي تلك اللحظة التي بدت كمعجزةٍ مباغتة وقعت عينا **سيرين** أخيرًا على **جاسر** فتفصّلت ملامحه عن ظلال أخيه **ظافر** كما لو أن القدر قد نسج لهما وجهًا واحدًا بروحين متناحرتين فلو وقفا متجاورين لعجزت العيون عن التفرقة بينهما؛ هما صورة طبق الأصل كنسخةٍ انعكست في مرآة الزمن.

تسارعت أنفاس سيرين وقلبها صار كطبول حرب تضغط قبضتيها حتى ارتعشت أصابعها… ينتابها شوقٌ عارم يدفعها لأن تهرع نحوه لتصرخ باسمه، لتنتزع من بين يديه عمرًا ضاع سدى غير أنّ رنين الهاتف شقَّ عليها اللحظة كخنجر يوقظها من حلمٍ جميل.

رفعت الهاتف فسمعت صوت **كوثر** متلعثمة بدهشةٍ لم تفلح في إخفائها:

ــ *”سيرين… أليس ظافر أعمى ويعيش معكِ الآن؟ إذن من هذا الذي يتصدر نشرات الأخبار؟”*

ارتجف صوت سيرين وهي تجيب:

ــ *”ذلك ليس ظافر… إنه جاسر شقيقه التوأم.”*

صمتت كوثر برهة ثم شهقت كمن رأت شبحًا واتسعت عيناها حتى غمرهما الفزع:

ــ *”ماذا؟! توأم؟ لم يخبرنا أحد…!”*

ابتسمت سيرين بمرارة وكأنها تكشف عن سرٍ ثقيل، وأومأت:

ــ *”نعم… لديه أخ توأم.”*

لم تصدّق كوثر وأخذت تكرر السؤال وكأنها تبحث عن يقينٍ لا يأتي:

ــ *”وماذا عن ظافر؟ أريني إياه الآن… أريد أن أراه بعيني.”*

استسلمت سيرين لفضول صديقتها تلتقط صورة خفية لظافر وهو جالس في ركن غرفة المعيشة متأملًا في صمته الأعمى ثم أرسلتها إليها.

تجمدت ملامح كوثر أمام الشاشة وعيناها تدوران بين الحزن والدهشة، قبل أن تهمس:

ــ *”يا إلهي… ما زال وسيماً رغم انطفاء بصره… إذن هل استعانت عائلة نصران بشقيقه ليحل مكانه؟”*

أومأت سيرين وقد غلّفت كلماتها بغلالة من الأسى:

ــ *”نعم… لقد فعلوا.”*

ساد صمت مثقل بالخذلان قبل أن تنطق كوثر ببطء وصوتها مبحوح بالعطف:

ــ *”لماذا أشعر وكأنني أرثي له؟”*

نزلت كلماتها كطعنات على قلب سيرين… فالحقيقة القاسية أن ظافر لم يكن أعمى فحسب؛ بل أعماه القدر وخذلته العائلة كما تخلوا عنه كزهرة ذابلة تلقى على قارعة الطريق ثم جاؤوا بأخيه ليملأ فراغه وكأن وجوده صار فائضًا عن الحاجة.


تعليقات