رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة واربعة 304 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة واربعة


كانت **كوثر** ما تزال متشبثة بخيط الحديث عبر الهاتف تتلمّس منه المزيد من التفاصيل عن العاصفة التي اجتاحت عالم صديقتها فجأة لكن القدر لم يمهلها؛ إذ فُتح باب غرفة المعيشة على حين غرة ليطلّ منه **زكريّا** كنسمة باغتت ستارًا مغلقًا عندها أغلقت المكالمة بسرعة، كمن يخفي سرًا عن الأعين.

قالت كوثر محاولةً إخفاء ارتباكها:

ــ *”زاك… لماذا عدت الآن؟ هل انتهت المدرسة مبكرًا؟”*

رمقها الصغير بنظرة تنضح بما يفوق عمره فقد كان واقفًا خلف الباب منذ زمن يسمع شذرات الحديث الذي جرى وأدرك أخيرًا ببراءةٍ موجعة أن **ظافر** سيبقى في حياة **سيرين** بعدما ابتلع العمى نور عينيه وسرقت الضبابية ذاكرته ثم قال بصوتٍ طفولي:

ــ *”أجل، يا كوثر… قال معلمونا إننا نستطيع العودة مبكرًا أيام الجمعة لأن الطقس صار أكثر برودة… ألم يكتبوا ذلك في مجموعة الصف؟”*

وضعت كوثر يدها على جبينها كمن لامسها ثقل النسيان وتنهدت بأسى:

ــ *”آه… نسيت تمامًا أن أتحقق من الرسائل.”*

كان زكريّا، وقد حُرم من سائقٍ يوصل خطاه بعدما غضب والد كوثر عليها وقرر حرمانها من كل مزية كانت تتمتع بها في كنفه جراء رفضها الزواج من طارق قد سار بمفرده عائدًا إلى البيت وحين اقتربت منه كوثر خنقها شعورٌ بالذنب فابتسمت على استحياء وقالت:

ــ *”تعال يا حبيبي دعني أُقبّلك اعتذارًا.”*

لكن كلماتها وقعت في قلبه الصغير كحجرٍ في ماء راكد فانعكست على وجهه ملامح اشمئزازٍ غريب على براءة طفولته وتراجع بخطوة سريعة:

ــ *”لا… لا أريد.”*

ارتجفت ابتسامتها وتكسرت على شفتيها ككأس زجاج هش ولم تجد سوى أن تهمس بصوتٍ واهن:

ــ *”حسنًا…”*

التقط زكريّا حزنها على الفور كأنه يرى من خلال دموعها المخفية فاقترب منها وقال بجدية لا تليق بطفل:

ــ *”كوثر، إن كان قلبك مثقلًا، فخذيني إلى مقاطعة سان هذا الأسبوع. أريد أن أقضي بعض الوقت مع أمي…

أراد زكريا أن يطمئن على ظافر أيضًا ولا يعلم لما آلمه هذا الشعور ولكنه لم يفصح عن ذلك… لم تكد كلماته تستقر في الهواء حتى ارتجفت ملامح كوثر واشتعلت في عينيها نظرة قاطعة أشبه بباب أُغلق خلفه ألف سرّ:

ــ *”مستحيل.”*

نطقت الكلمة كرصاصة لا رجعة فيها، حادة، حاسمة. فهي كانت قد أقسمت في أعماقها ألا تسمح لزكريّا أن يقترب من ظافر تنفيذًا لوعد قطعته لسيرين ولأنها تعلم أن اقتراب الطفل سيشعل نيرانًا لا قِبَل لهم بإخمادها.

قال **زكريّا** بصوتٍ هادئٍ يحمل في نبراته من الحكمة ما لا يليق بطفلٍ في عمره:

ــ *”قبل أيام قليلة… قرأت خبرًا عن صبيٍّ لم يتجاوز الخامسة خرج عائدًا إلى بيته وحيدًا فابتلعه الطريق في حادثٍ مفاجئ… وهناك طفل آخر في السادسة اختُطف وهو يحاول العودة بمفرده… تخيّلي يا كوثر لحظةً واحدة فقط تغيّر مصير حياة كاملة.”*

تجمّدت الكلمات في حلق **كوثر** وارتعش جسدها كمن تلقت صفعة من الحقيقة ذاتها إذ شعرت أن الصغير يحاول أن يغرس في قلبها شعورًا بالذنب كأنه يُحاكمها بعينيه البريئتين فارتبكت ثم رفعت يدها إلى صدرها تحاول تهدئة خفقانه وأقسمت بصوتٍ يائس:

ــ *”أعدك يا زاك… لن أسمح لنفسي أن أنسى اصطحابك من المدرسة أبدًا أقسم لك.”*

لكن الطفل لم يتراجع بل تقدّم خطوةً أخرى في لعبته البريئة التي تخفي دهاءً صغيرًا وضغط عليها بمكرٍ طفولي:

ــ *”حسنًا… في هذه الحالة أريد أن أزور زميلي في الصف في عطلة نهاية هذا الأسبوع.”*

تنفست كوثر بارتياحٍ كمن وجد مخرجًا من زنزانة ضيقة وأجابت بسرعةٍ تكشف عن رغبتها في إرضائه:

ــ *”بالتأكيد… لا مانع عندي.”*

لم تعلم أنها بهذا القبول فتحت بابًا خفيًا لما كان يُدبّره عقل الصغير ففي البداية كان **زكريّا** يتمنى أن يطلب منها العودة إلى مقاطعة سان حيث تنسج خيوط الحنين نحو والده لكنه كان أن طلبه سيلقى رفضًا صارمًا كما في المرة السابقة فأدار اللعبة بدهاءٍ يشبه مفاوضات الكبار إذ طرح رغبته الكبرى أولًا فرفضتها ثم جاء بطلبٍ أبسط، عابرٍ، لا يُثير الحذر وهكذا كما تجري قواعد المساومة في الأسواق القديمة وافقت دون أن تدري أنها أُسرت بخطّته… إذ أخذ يتردّد في ذهن **زكريّا** صدى ذلك الصباح حين عاد إلى روضة الأطفال بعد غيابٍ طويل فالتفّ حوله الصغار كأسراب العصافير تنهال عليه الأسئلة عن سبب اختفائه فأجابهم بابتساماتٍ باهتة وكلماتٍ سطحية لا تعكس شيئًا مما يعتمل في صدره يُخفي خلف بساطته جدارًا من الأسرار… لكن صديقه **مالك** اقترب منه هامسًا وصوته يحمل ثقل سرٍّ لا يُقال على الملأ:

ــ *”ليس لديك أدنى فكرة يا زكريّا… عمتي الكبرى بحثت عنك بجنون بل قلبت الدنيا رأسًا على عقب بعد أن اختفيت… حتى أنها عثرت على والدك مؤخرًا.”*

ارتجف قلب زكريّا وتوهّجت في ذهنه آلاف الأسئلة كشررٍ يتطاير من نار. *هل يُعقل أن تكون شادية قد كشفت الحقيقة؟ هل أدركت أنه ابن ظافر؟*

سأل زكريا بلهفةٍ حذرة يحاول أن يمسك بأنفاسه:

ــ *”هل أخبرتك من هو والدي؟”*

هزّ مالك رأسه نافيًا ثم أضاف بعينين تتلألآن بالانبهار:

ــ *”لا… لكنها عندما قابلته رأيته بعيني… كان طويل القامة… وسيماً، مهيبًا، كأنه خرج من صفحات رواية.”*

أحسّ زكريّا باضطرابٍ يزحف في داخله فلو كان مالك يعلم أن المقصود هو **ظافر** لما أطلق عليه هذا الوصف؛ فهما يعرفان بعضهما فأيقن أن صديقه قد أخطأ الفهم لكن ذلك الخطأ زاد ارتباكه غموضًا فوق غموض فسأله زكريا متردّدًا:

ــ *”هل يعيش في بيتكم؟”*

أجابه مالك وهو يعقد حاجبيه في تفكيرٍ بريء:

ــ *”لا… لكنه زار العمة الكبرى شادية مؤخرًا… غريب أمرك يا زكريّا، ألا تعرف أين يسكن والدك؟”*

تنفّس الصغير تنهيدة ثقيلة لا تليق بطفلٍ في عمره وكأنها خرجت من فم رجلٍ شاخ قبل أوانه ثم قال بصوتٍ مثقلٍ بمرارة السنين:

ــ *”لقد تخلّى عني وعن أمي يوم وُلدت… لم أرَ وجهه قط.”*

ساد الصمت بينهما لحظة ثم قطعه مالك بحماسةٍ صافية:

ــ *”إذن، تعال لزيارتي غدًا في منزلي… ربما تصادف حضوره هناك… من يدري؟”*

كان العرض عابرًا في نية مالك لكنه أصاب زكريّا في الصميم إذ ارتجف داخله شعور بالترقب وابتسم ابتسامةً واثقة كمن وجد منفذًا نحو الحقيقة التي شاعت عبر وسائل الإعلام بعودة ظافر، وأجاب بسرعةٍ لم تحتج إلى تفكير:

ــ *”بالتأكيد، سأأتي.”*

هكذا حين عاد إلى البيت طرح على **كوثر** فكرة الذهاب إلى مقاطعة سان، وهو يعلم يقينًا أنها سترفض دون تردّد لكنه لم يكن يخطط إلا لشيءٍ واحد: أن يُسقط طلبه الأول الكبير، لتضطر إلى منحه تعويضًا صغيرًا… وهو زيارته لصديقه **مالك نصران**.

كان عقله الصغير يضجّ بحسابات الكبار؛ فكرة أن عائلة نصران باتت تحت سيطرة رجلٍ آخر كانت تحرقه من الداخل فبالرغم من أنه لم يحب **ظافر** بل ربما كرهه أحيانًا لكنه رفض أن يرى إرث ذلك الرجل يُنهب ببساطة ففي نظره إذا سقط ظافر ذات يوم فلن يرثه الغرباء بل **هو، وسيرين، ونوح** أحق بماله ومن أجل ذلك… كان عليه أن يضع قدميه في قلب الحكاية بنفسه ليتقصّى الحقيقة التي تُطبِق على صدره كقيدٍ لا يُكسر.


تعليقات