رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وخمسة 305 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وخمسة 


في مقاطعة “سان” كان الصمت ينسج حول المكان ستارًا واهنًا فيما انعكست أنفاس سيرين المتقطعة على زجاج النافذة البارد ومن ثم التفتت نحو ظافر بعد أن أنهت مكالمتها… كان جالسًا بهدوء ينغمس بعينيه المطفأتين في سطور بارزة من كتاب “برايل” يحاول أن يتلمّس حروفًا لا يراها بعينيه بل يحفرها بأصابعه في ذاكرته الجديدة فلم تستطع منع نفسها من السؤال وبصوت متردد يحمل ظلال القلق سألته:

ــ “هل كنتَ على علمٍ بما حدث من قبل؟”

رفع رأسه قليلًا لكن ملامحه بقيت جامدة وصوته انساب هادئًا:

ــ “أجل… أحدهم ينتحل شخصيتي.”

ابتلعت ريقها ثم أعادت تساؤلها وكأنها تبحث في صمته عن رد آخر:

ــ “ألا يثير ذلك اهتمامك؟”

تنهد بعمق وأطبق كفيه على الكتاب وكأنه يتشبث بحياة جديدة يريد أن يبنيها:

ــ “سيرين… كل ما أريده أن أعيش حياة هادئة معكِ كما أريد أن أتقن لغة برايل لا من أجل نفسي فقط بل من أجل أن أستطيع رعايتك أنتِ… ورعاية طفلك.”

كلمة *الطفل* سقطت كحجر في قلبها فامتدت يدها لا إراديًا لتلامس بطنها قبل أن تهمس بدهشة مرتجفة:

ــ “أي طفل؟”

ابتسم ابتسامة باهتة وقال بجدية:

ــ “أمي أخبرتني أنكِ حامل.”

ثم واجهها رغم عماه وصوته يتشح بحزمٍ غريب:

“لا تقلقي… مع أنني كفيف، لن أسمح أن تعاني أنتِ ولا الطفل.”

ارتجفت ملامحها فهي لم تتوقع أن تبوح شادية بالسر وبينما الغضب والسخرية يتناوبان في صدرها قالت بنبرة لاذعة كالسهم:

ــ “الطفل الذي أحمله… ليس ابنك.”

تجمدت أصابعه فوق الورق لكن وجهه لم ينفجر كما توقعت لم يزمجر ولم ينهَر وبرغم ظاهره فداخله يصرخ “أنت كاذبة” فكان كل ما فعله أنه قبض على الكتاب بقوة حتى كاد يمزق صفحاته ثم سأل بصوت بارد غارق في الغموض لا تشكيك بل لينتزع منها اعتراف أبوة:

ــ “لمن إذن؟”

خفضت عينيها تحاول الفرار من نظراته التي لم ترَها لكنها شعرت بها تخترقها… لم ترغب في استخدام اسم *كارم* كدرع جديد يقيها المواجهة فقالت بصوتٍ متهدج:

ــ “ليس ابنك… وحسب.”

امتدت يده يبحث عن يدها فلما لامسها قبض عليها بإصرار وقال بصوت يقطر غربة وعناد:

ــ “بما أنكِ لا تعرفين والد الطفل… فسأعتبره ابني… سأكتبه باسمي وأحميكما معًا.”

تسمرت في مكانها مذهولة… هي لم تقل قط إنها تجهل من أبوه لكنها صُعقت من تفسيره الغريب الذي التقط من كلماتها ما لم تنطق به وحين همّت بالاعتراض قاطعها صوته وهو يكتسي بوقارٍ حاد:

ــ “لا تقلقي… لقد أدرتُ إمبراطورية كاملة قبل أن تسلب ذاكرتي… حتى وإن أظلمت عيناي لن أدعكِ أنتِ والطفل تغرقان في العوز أو الألم.”

عندها نزعت يدها من قبضته بقوة فشعرت وكأنها تحررت من قيد غير مرئي… وللغرابة هي لم تعد تملك الرغبة في التبرير أو التفنيد فقالت بهدوء قاتل وهي تبتعد:

ــ “لا داعي لذلك… اعتنِ بنفسك فقط.”

قالتها ثم انسلت سيرين إلى الطابق العلوي بخطوات سريعة كمن تهرب من ثقلٍ يطاردها وجلست أمام آلة البيانو خاصتها تحاول أن تغزل من أنغامها خيطًا يربطها بالحياة… أصابعها تنساب على المفاتيح لكنها بدت مرتبكة كطائر فقد توازنه في فضاء لا قرار له بعد كلماته التي حملت تمسك غريب بها… وشيء آخر ضج به رأسها فرغم ما تملكه من ثروة طائلة كان المستقبل أمامها غامضًا أشبه بمرآة غائمة لا تُظهر سوى ملامح مبهمة… كيف لا؟ وقد علّمتها الأيام أن الأصول العملاقة التي كانت تتباهى بها عائلة تهامي والتي بلغت قيمتها مئات المليارات لم تمنع سقوطها المدوّي في هوة العدم فالمال مهما بلغ لا يكفي ليُسكِت أوجاع الخسارة حين يتآمر القدر على اقتلاع كل ما تملكه.

وبينما كانت تبحث عن انسجامٍ مفقود بين نغماتها رن هاتفها فجأة ليقطع سكون الغرفة كسهم يخترق ستار الليل فالتقطته ببطء لتجد اسم *ماثيو* يضيء الشاشة… همست بفتورٍ تخفي خلفه ارتباكًا:

ــ “مرحبًا ماثيو.”

جاء صوته عبر السماعة متلهفًا يحمل ارتعاشة انتظارٍ طال أمده:

ــ “أخيرًا وصلتُ إليكِ يا سيرين… لقد حاولت مرارًا حتى عثرت على رقمك الجديد.”

تذكرت فجأة كمن لدغتها ذاكرة نائمة أنها كانت قد طلبت منه إعادة المال إلى ظافر لكنها وسط انشغالها وتوهانها نسيت أن تتابع الأمر فقالت بصوتٍ يحمل شيئًا من الندم:

ــ “أعتذر، نسيت أن أتواصل معك.”

أجابها ماثيو متنهدًا كأنه يحمل صخرة على صدره:

ــ “بل كان ينبغي لي أنا أن أعتذر.”

تجعد جبينها وهي تسأل وقد أدركت أن وراء كلماته ما هو أعمق:

ــ “ما الأمر؟”

قال ببطء، كأنه يخشى وقع كلماته عليها:

ــ “لقد طلبتِ مني إعادة المال إلى ظافر… لكنه لم يُرِدْه لذا كنت أنوي أن أعيده إليكِ غير أن شيئًا ما حدث…” ثم انقطع صوته لحظة قبل أن يزفر تنهيدة طويلة وتابع بعدها بنبرة مكسوة بالأسى:

ــ “قبل أيام قليلة عادت والدتكِ السيدة سارة ومعها تامر… لا أدري كيف علمَا بالأموال التي في حوزتي لكنهما حرّكا دعوى قضائية ضدي زاعمين أنني اختلستُ أصول السيد تهامي والنتيجة تم تجميد الثمانية مليارات دولار.”

انقبض صدر سيرين كمن شرب جرعة مُرّة إذ لم يخطر ببالها أن سارة وتامر سيعودان إلى المدينة بعد سنوات من الاختفاء كأشباحٍ تستيقظ فجأة من سباتها وإن صدقت المحكمة دعواهما فالمسألة لن تقتصر على خسارة المال فقط بل قد يقبع ماثيو خلف القضبان فقالت بسرعةٍ وهي تحاول أن تُغرق قلقها بصلابةٍ مصطنعة:

ــ “لا تقلق يا ماثيو لديّ الدليل على أن المال ملكي… لن يستطيعوا الانتصار في المحكمة.”

لكن صوتها ارتجف قليلًا وهي تتذكر الحقيقة:

أن معظم تلك الأموال جاءت من مستثمر أجنبي مجهول حتى الآن، لم تستطع فك لغز هويته، وكأن المال نفسه يحمل سرًّا لا يريد أن يُكشف.

ومع أن ماثيو كان يشرح بقلق الموقف القانوني إلا أن قلبه كان منشغلًا بشيء آخر… بها هي… فقال بعد لحظة صمتٍ مشحونة:

ــ “سيرين… حين رأيتُ السيدة سارة وتامر شعرت بشيء غريب… بدا الأمر أكبر من مجرد قضية لذا يجب أن تكوني حذرة ولا تسمحي لهما بالتحكم فيكِ بعد الآن ولا تدعيهما يعيدانكِ إلى قيود الماضي.”

كلماته اخترقت قلبها كجدارٍ يهتز تحت ضربات مطرقة… لم يكن قلقه على المال وحده بل على وجودها كله… على كيانها المهدد بالانهيار من جديد.


تعليقات