رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وستة 306 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وستة


قالت سيرين بصوتٍ حاسم كمن توقّع عهدًا مع نفسها:

ــ “لا تقلق ماثيو… لن أسمح لهم بأن يستعبدوني بظلالهم بعد الآن.”

أغلقت سيرين الهاتف لكنها لم تُغلق باب القلق الذي ظلّ مفتوحًا في صدرها كهاويةٍ بلا قرار فأسرعت إلى الاتصال بفرع الشركة الأجنبية تطلب كشفًا مفصّلًا لحسابها البنكي إذ أرادت أن تحمله بيديها كدليلٍ منقوش بالحبر تقدّمه لماثيو كدرع يحميه من خناجر الاتهام.

صحيح أن ماثيو محاميًا بارعًا لكنه ليس بمكر ليونارد لكنّه كان عقلًا قانونيًا متينًا يقود القسم القضائي لمجموعة تهامي… يعرف الثغرات ويُدرك كيف يُمسك بالخيوط حتى لا تنفرط. ومع ذلك ظلّ قلبها يختنق؛ لأن ما يُهددها لم يكن أوراقًا قانونية باردة بل ماضيًا يعود لينتفِض من تحت التراب.

بعد أن أنهت سيرين المكالمة جلست صامتة كتمثالٍ يحاول أن يتذكر أنه كان يومًا بشرًا والحيرة تنخر في أعصابها فقبل خمس سنوات فقط عاشت صراعًا مريرًا كي تقتلع نفسها من سارة لتقطع الحبل السري الذي ظل يخنقها بعد ولادتها واليوم عادت سارة ككابوسٍ يطرق أبوابها بلا استئذان.

صرخت سيرين في أعماقها بصيحة مكتومة:

*لماذا الآن؟*

لم تنتبه إلى أن باب الغرفة لم يُغلق وأن عينين تترصّدانها في صمت فالتفتت حين سمعت صوتًا رقيقًا يسألها ببراءة يقظة:

ــ “سيرين… لماذا لم تنامي بعد؟”

رفعت سيرين بصرها فرأت فاطمة واقفة على العتبة وجهها يغشاه فضولٌ طفولي ممزوج بقلقٍ دفين فابتسمت سيرين بفتور وهي تحاول إخفاء ارتباكها:

ــ “وأنتِ؟ لماذا لا تزالين مستيقظة يا فاطمة؟”

أجابت فاطمة بابتسامة دافئة كمن تُضفي بعض الضوء على ظلام الغرفة:

ــ “لقد نمت طويلًا… والآن لا أستطيع النوم مجددًا.”

هرعت سيرين إليها بخطواتٍ حنونة وأسندتها برفق قائلة:

ــ “في هذه الحالة… ما رأيكِ أن أرافقكِ في نزهة قصيرة؟”

أومأت فاطمة برضا طفولي:

ــ “بكل سرور.”

لم تُصرّ فاطمة على سؤال سيرين عمّا سمعته قبل قليل وهي تقف عند الباب إذ التقطت شذراتٍ من مكالمةٍ مشحونة… كلمات مبعثرة عن عودة أحدٍ ما وعن الحذر الواجب… لكنها لم تتدخل فهي تدرك أن سيرين لم تعد تلك الطفلة الصغيرة التي تمسك يدها أينما ذهبت لقد كبرت وصارت لها أسرارها التي تخفيها خلف نظراتٍ متعبة.

أحضرت سيرين معطفًا ثقيلاً وألبسته لفاطمة بعناية ثم مرّت سريعًا على ظافر تخبره عن خروجهما بعدها انطلقتا معًا إلى الخارج.

كانت المدينة تنام في سكونٍ ثلجي… الشوارع شبه خالية كأنها فراغٌ أبيض يستعد لرسم قصة جديدة فقد توقف الثلج منذ قليل وغطّى الطريق بطبقة رقيقة سماكتها بوصة واحدة تلمع تحت أضواء الأعمدة ككريستالٍ مكسور.

تمتمت فاطمة وهي تتأمل المشهد كمن تسترجع صورة من ألبوم قديم:

ــ “هل تتذكرين سيرين كيف كنتِ تعشقين الثلج عندما كنتِ صغيرة؟”

ابتسمت سيرين ابتسامة شاحبة وأمسكت بذراع فاطمة برفق كأنها تتمسك بظل ماضٍ لم يغب بعد:

ــ “أجل كنتُ أراه إعلانًا عن بداية جديدة… عندما يبدأ الثلج بالتساقط أعرف أن عامًا جديدًا يقترب… كنتُ أفرح بشراء ملابس جديدة وأنتظر الوليمة التي تُقام احتفالًا بالمهرجان… كل شيء كان يبدو حينها بسيطًا، نقيًا، بريئًا مثل بياض الثلج.”

لم تُبح فاطمة يومًا بسرٍّ دفين ظل يثقل صدرها كلما اقتربت عقارب الساعة من نهاية عام؛ كانت تكره رأس السنة كما لو كانت لعنةً وُلدت معها… كيف لا؟ ففي أحد أيامها عادت سيرين إلى عائلة تهامي بعد أن تربت في كنفها ومنذ ذلك اليوم لم تعد الطفلة نفسها أبدًا بل شاخت وهي لازالت صغيرة.

رفعت فاطمة بصرها إلى البعيد حيث الثلج يذوب كذاكرةٍ تُمحى ببطء وزفرت تنهيدةً طويلة حملت في طياتها خريف العمر كله ومن ثم همست بصوتٍ متهدج:

ــ “سيرين… أُمنية أخيرة أرجوها قبل أن أرحل؛ أريد أن أطمئن على قلبك بين يدي من يحسن رعايتك.”

توقفت سيرين في منتصف الطريق كمن أصابها سهمٌ غادر ثم اندفعت تعانق فاطمة بقوة تحاول أن تُطبق عليها وكأنها تمنعها من الرحيل ثم انهمرت دموعها خلسة فخرج صوتها مرتجفًا:

ــ “كفى هذا الكلام، لن تذهبي إلى أي مكان…”

لكنها نفسها لم تُصدّق كلماتها؛ فقد كانت أصداء جملة كارم لا تزال تطنّ في رأسها: *الطبيب قال إن فاطمة قد لا تعبر العام الجديد.*

ابتسمت فاطمة ابتسامة واهنة وربّتت على يد سيرين برفقٍ كمن يهدئ طفلة تبكي في حضنها ولم تُصحح الوهم فقط قالت:

ــ “يا عزيزتي… أريد أن أرى زاك ونوح يكبران أمام عيني لكن قبل ذلك أريد أن أراكِ تُزهرين في حضن رجلٍ يحبك بصدق.”

ثم استدارت بعينيها إلى المنزل كأنها تقرأ ما بين جدرانه:

ــ “ظافر ليس شريككِ سيرين… هو الآن طيبٌ معك لأنه فقد بصره وذاكرته لكن إن عاد إليه كل ما سُلب منه… سيعود ذاك الظلّ القديم الذي تعرفينه.”

“خليكي محضر خير يا حجة”

أومأت سيرين برأسها وكأنها تعترف بندبةٍ لا يمكن محوها:

ــ “أعلم ولهذا… لن أتهاون معه.”

شدّت فاطمة قبضتها على يدها بقوةٍ مفاجئة كأنها تسلمها وصية:

ــ “كارم رجل استثنائي، أرى في عينيه إعجابًا بك… وإن استطعتِ أن تمنحيه فرصة…”

قاطعَتها سيرين بهزّة رأس حاسمة:

ــ “فاطمة، لا أريد أحدًا الآن… كارم رائع أعترف لكنه ليس في قلبي وأنا لن أتزوج رجلًا لا أحبه… سيكون ظلمًا له ولي معًا.”

ساد الصمت بينهما لحظات إذ عجزت فاطمة عن الرد؛ فهي تعرف أن عناد سيرين أقسى من صخور الجبال فإذا اتخذت قرارًا لن يزحزحها عنه أحد كما أنها لم تجرؤ يومًا أن تكون أنانية حتى في حبها.

تعثرت خطوات فاطمة حين بدأ التعب ينهش جسدها فأسرعت سيرين تسندها لتعودا معًا إلى الدار ولم تلحظا العيون المتربصة بهما من بعيد؛ تلك المرأة هناك التي تقف متأنقة في الظل تحفها الهالة الباردة للثلج المتساقط وإلى جوارها شاب أنيق يُدعى سبنسر.

انحنى سبنسر قليلًا وهمس بأدبٍ مُتقن:

ــ “هل أطلب من السيدة تهامي أن تخرج لرؤيتك سيدتي سارة؟”

لكن سارة تلك المرأة التي أطلّت من الماضي كطيفٍ أسود هزت رأسها ببطءٍ بارد:

ــ “لا حاجة لذلك.”

كانت نظراتها حادة كالمشرط تنظر إلى سيرين دون اكتراث كما لو كانت عابرة طريق، فبالنسبة لها لم تكن سوى ابنة عاقة فقدت سمعها ونصف وجودها أما فاطمة تلك التي عاملتها كأم فلم تر فيها سوى جسدٍ منهك لا جدوى من بقائه.

في تلك اللحظة لم ترَ سارة في الاثنين سوى بقايا لا تستحق الالتفات.


تعليقات