رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وسبعة
لم يخطر ببال **سيرين** أنّ **سارة** قد وطئت أرض مقاطعة “سان” أو أنّ عينيها انزلقتا على تفاصيل بيتها المتهالك الذي يتنفس بصعوبة كصدرٍ قديم أصابه السعال إذ لم تتلقَّ منها اتصالاً بل لم تسمع حتى همساً من بعيد كما أن حضور **سارة** لم يكن بدافع الحنين أو لمسةٍ من قَدرٍ يُعيد ما انكسر بل كان محض طمعٍ مسموم تقودها أنياب المال، تلهث وراء الثمانية مليارات دولار التي يملكها **ماثيو** وكأنها كُنزٌ غارق في بحرٍ مظلم لا يُنير طريقه سوى الجشع.
فقبل أيامٍ معدودة اخترق صمت **سارة** اتصالٌ من **دينا** كالسهم الذي يوقظ الغفلة وأخبرتها أنّ **سيرين** لا تزال على قيد الحياة وأنها عادت إلى المدينة متكئةً على عملها في شركة موسيقية تحت راية آل نصران ذلك الخبر كان كجرسٍ معدنيٍّ يرنّ في رأس **سارة** يعيد لها خريطة الطريق نحو ما ظنّت أنّه إرثٌ سهل فعادت إلى البلاد بعدما ظنّت أن **سيرين** عادت بوجهٍ جديد… امرأة أخرى تحمل بريقاً مختلفاً لكنها ما لبثت أن اصطدمت بحقيقةٍ أدهشتها: **سيرين** ترفع دعوى قضائية ضد **ظافر** كمن يشهر سيفه على ماضٍ مُدمى ثم تسقط في النهاية أسيرة البؤس ولمّا أبصرت **سارة** قُرب **سيرين** من **فاطمة** ورأت حياتهما بين جدران بيتٍ متآكلٍ كذاكرةٍ مثقوبة لم تتردد وأمرت سائقها ببرود:
“خُذني إلى المدينة.”
وفي الطريق أخرجت هاتفها من حقيبةٍ فاخرة واتصلت بـ **تامر** ينسكب صوتها عبر الأثير بارداً كحدّ السكين:
ـ “رأيتُ **سيرين** اليوم… قطعاً المال ليس لها كما قال ماثيو هذا واضح… عليك أن تجد طريقةً لتجتثّه من بين يديها.”
لقد كان اليقين يسكن قلبها: لو أنّ لتلك الفتاة ثمانية مليارات لما ارتضت لنفسها سقفاً يتهالك فوق رأسها.
ردّ **تامر** مطمئناً وصوته يختلط بالفضول:
ـ “لا تقلقي يا أمي… لكن هل قالت شيئاً حين رأَتكِ؟ هل عرفت شيئاً عن أبي… وعن أختي؟” تامر لم يكن يقصد **سيرين** حين قال “أخته”.
ارتسمت على شفتي **سارة** ابتسامة باردة وأجابت بلا اكتراث:
ـ “بالطبع لا… ولن أخبر **زوي** يوماً أنّ لها أختاً لا تساوي شيئاً… سيرين ظلّاً عديم الفائدة.”
ما لم تُدركه **سارة** أنّ **سيرين** لم تكن كما توهّمت صحيحٌ أنّها لم تَسطع كالشمس في سماء المجتمع لكنها لم تكن مفلسة… كتبت موسيقى جعلت القلوب تُرهف سمعها… ألحاناً تحولت إلى ذهب حققت منها ثروةً متينة فـ سيرين قد عرفت الفقر حين كان ينهشها مع **فاطمة** في صباها… يومها لم تستطع حتى شراء سماعةٍ لأذنها العليلة كما عرفت تماماً كيف يكون الإرهاق حين يُثقل البيت وجود شخصٍ يصارع ضعف السمع لهذا لم يغمض لها جفن قبل أن تخصّص جزءاً من مالها للأطفال الذين يتألمون كما تألّمت هي يوماً.
كما أنها اختارت البقاء في بيت **فاطمة** المتهالك ليس لعدم قدرتها على الرحيل بل لأن الجدران تلك تحمل دفء طفولتها، تحمل صدى ضحكاتٍ قديمة، وبكاءً مرّ، وذكرياتٍ محفورة كالنقوش على الحجر.
أما **سارة**… فأنّى لها أن تفهم كل هذا؟ أنى لها أن تدرك أنّ البيت المهترئ قد يكون في عين صاحبه قصراً من حنين، وأن المال مهما تضخّم لا يشتري ذاكرةً ولا قلباً.
في تلك الليلة وبعد أن أسدلت **سيرين** الغطاء برفقٍ على جسد **فاطمة** الواهن خرجت من غرفتها بخطواتٍ متثاقلة تحمل بين طيّاتها صمتاً يضجّ بالقلق… فاتجهت إلى المطبخ كمن يبحث عن ملاذٍ في ضجيج الأدوات ورائحة الطعام وبدأت تُعدّ العشاء لنفسها ولـ **ظافر** متعمّدةً أن تضع على المائدة ما تعلم أنه يثير ضجره وعلى رأس القائمة: **الجزر** ذلك العدو الطفولي الذي لم يتصالح معه يوماً فلم يكن أمام **ظافر** العاجز عن خدمة نفسه سوى الاستسلام لسلطة يديها وبعدما جلست أمامه مدّت نحوه الصحن كأنها تمدّ له اختباراً صامتاً وقالت بابتسامة تحدٍ تبرز رهبة المعلّمة:
ـ “كُل المزيد من الجزر إنه مفيد لجسدك.”
انعقد حاجباه للحظة كطفلٍ يواجه مرارة الدواء ورغم أن كراهيته للجزر متجذّرة فيه منذ صباه إلّا أنّ نبرة صوتها اخترقت عناده وجعلته يتجرّع اللقمة تلو الأخرى وهو يرفع رأسه نحوها وقال باستسلامٍ مطيع:
ـ “حسناً.”
في تلك اللحظة بدا كأنه رجلٌ يضع سيفه جانباً أمام سطوة امرأة، يختار الخضوع لا لضعفٍ فيه بل لهيمنةٍ خفيةٍ في روحها.
أما **سيرين** كانت تراقبه بعينٍ دقيقة فلاحظت أثر إصابة جديدة على جبينه كأثر من معركة لم يُفصح عنها فلمستها شفقة مباغتة لكنها لم تُظهرها بل قالت بنبرةٍ عابرة:
ـ “تذكر أن تغسل أطباقك بعد أن تنتهي من الطعام.”
التقط **ظافر** الخيط فجأة كأنه يُدير دفة الحديث:
ـ “هل يمكنني أن أشتري غسالة أطباق؟”
لم يمنحها وقتاً للتفكير وأردف سريعاً وصوته مشوبٌ بالتصميم:
ـ “وأريد أن أقتني روبوت تنظيف أيضاً… وإذا كان ممكناً سأوظّف عدداً من الخادمات بدوام جزئي.”
كان يعرف تماماً ما يفعل لم يكن طلباً بريئاً، بل خطة خفية صاغها بدهاء. وضع أمامها عدة اختيارات يعرف مسبقاً أنّها سترفض أقساها وتقبل بعضها فيُخلي لها ميدان القرار ظاهرياً بينما يقودها هو حيث يريد كطفلٍ ماكر يكرر لعبةٍ قديمة فعل كما فعل **زكريا** مع **كوثر** من قبل وهو على يقينٍ أنها ستقع في الفخ نفسه ولا يعلم أن چينات المكر خاصته قد ورثها عنه زكريا ذاك الشبل الصغير بل وربما بتركيز أعلى.
تنهدت **سيرين** وفي عينيها لمعة من لا تدرك تلك المكائد الصبيانية التي تختبئ تحت قناع الرجولة ثم قالت بحزمٍ لطيف:
ـ “يمكنك أن تحصل على غسالة الأطباق وعلى المكنسة الكهربائية الآلية… لكن خادمات بدوام جزئي؟ كلا… لا أحب أن يدوس غرباء أرض هذا البيت.”
ابتسم **ظافر** ابتسامةً صغيرة لم تكن فرحةً بانتصارٍ مباشر بل بتأكيدٍ داخلي أن لعبته أتت أُكُلها فبالرغم أنه منحها مركز القيادة لكنه ظلّ هو الموجّه من خلف الستار.
أما سيرين قد داهمتها ذكريات الماضي فمنذ أن عبرت عتبة قصره بعد الزواج وجدت نفسها غارقة في بحرٍ من الأعمال المنزلية كمن ألقت بها الأقدار في معركة لا سلاح لها فيها سوى صبرها إذ كانت تنوء بحملٍ يتجاوز حدود طاقتها وحين ضاقت بها الأيام جمعت شجاعتها وسألته بنبرةٍ تحمل رجاءً ممزوجًا بالإنهاك:
ـ “ألا يمكننا أن نوظّف مدبّرات منزل بدوام جزئي؟”
رفع **ظافر** رأسه إليها بعينين تضيقان كنافذتين موصدتين وصوته يقطر برودةً قاسية:
ـ “لا أحبّ وجود غرباء في بيتي… أنت وحدك تتخطّن حدودي بوجودك هنا… إن لم تقدري على أعباء المنزل… فعودي إلى حيث أتيتِ.”
ارتجف قلبها لحظة سماعها كلماته كمن تلقّى طعنة في خاصرته وهو يتظاهر بالتماسك إذ لم يكن كرهه للغرباء حقيقيًا بل كان سيفًا يشهره في وجهها كعقابٍ صامتٍ يُمارسه بوعيٍ تام فلم يكن الأمر نفورًا من الخدم بل رغبة في إذلالها في أن يتركها أسيرة التعب والوحدة.
سألت نفسها في صمتٍ ساخر:
*إذا كان لا يطيق مدبرات منزل.. فكيف عاش ماضيه؟ أكان يغسل صحونه بيديه؟* لا… بل كان يترك غيره يفعل عنه كل شيء، وهو في بداية زواجهما اختار أن يجرّدها من ذلك.
وما لبث أن جاء رده ببرودة الصخر:
ـ “حسنًا.”
كلمة قصيرة لكن وقعها في قلبها كان كأغلالٍ تُحكم حول معصميها وفي لحظةٍ من التحدي مدت يدها وأخرجت بطاقة مصرفية ووضعتها بقسوة في كفّه ومن ثم قالت ببرودٍ يخفي في طياته غضبًا مكتومًا:
ـ “كلمة المرور: 247967.”
تجمّد **ظافر** مكانه وارتباكٌ نادر ارتسم على ملامحه حين أدرك ماهية ما تحمله أصابعه: بطاقة مصرفية… رفع عينيه إليها محاولًا استعادة كبريائه:
ـ “يمكنني أن أشتري ما أريد بنفسي.”
لكن **سيرين** لم تمنحه حتى متعة الإنصات إذ قطعت حديثه كمن يصفع بالكلمة لا باليد:
ـ “البطاقة بها مليون ومئتا ألف دولار ومن الآن فصاعدًا سأحوّل إلى هذه البطاقة المبلغ ذاته شهريًا ولن أقبل أن تنفق فلسًا من مالك عليّ وإن ابتعت شيئًا دوّن كم أنفقت… مالي لا ينبت على الشجر.”
كانت كلماتها كأنها شفرات من نار لا توجَّه إلى سمعه بقدر ما تُلقى على كبريائه مباشرة كدروسٍ أليمة وكأنها تقول له: *كما علمتني يومًا قسوة الحياة سأعلمك اليوم قسوة البقاء معي.*
