رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وثمانية
قبل سنوات بعد أن انعقد رباطها بـــ **ظافر** استدعى الأخير **ماهرًا** وأعطاه بطاقة مصرفية ليوصلها إليها كانت البطاقة تحمل في جوفها سرًا أثقل من وزنها:
**مليون ومئتا ألف دولار**، مبلغٌ أشبه بدمية ذهبية تلمع فوق طاولة من جمر حينها قال ماهر وهو يمد البطاقة نحوها كأنما يُسلِّمها رسالة مشفرة من عالم آخر:
ـ “هذا المبلغ مليون ومئتا ألف دولار هو مصروفكِ الشهري… السيد ظافر أوصاني أن أبلغكِ أن ماله لا ينبت على الأشجار… لذلك عليكِ أن تُسجلي كل ما تنفقينه قرشًا بقرش وأن تخبريه به في كل مرة تشترين شيئًا.”
توقفت **سيرين** عند الكلمات كأنها صدى قادم من زمن مضى إذ رفرفت في ذاكرتها صورٌ ماضية لعائلة نصران، لحظات إذلالٍ سابقة كلّها تتساقط أمامها مثل أوراق شجرة يابسة.
*ليذق ما ذقتُه* فكّرت في صمتٍ يشوبه مرارة الانتقام… *ليتجرّع دواءه الذي سقاني إياه فربما حينها تنفجر ذاكرته المطموسة من أعماقه وتعود إليه صور الماضي القاسي.*
كانت تتوقع أن يُهشم كبرياءه هذا الشرط، أن يصرخ داخله الغضب مثل نمر حُشر في قفص وهو الذي اعتاد أن يحيا حُرًّا متفردًا لا يخضع لمساءلة أحد. كيف لرجلٍ مثله بسمعته ومكانته، أن يقبل أن يُبلغ امرأة بما ينفق؟ أليس في ذلك مساس بعرش كبريائه؟
لكن المفاجأة لم تكن في الفعل بل في ردة الفعل حين قبض **ظافر** على البطاقة ولم يعصف الغضب بعينيه ولم ينفجر كبراكينٍ خامدة على العكس ارتسمت على شفتيه ابتسامة، ابتسامة غامضة كمن يُخفي سرًا في أعماقه وقال بصوت هادئ:
ـ “سيرين… أخبريني فقط إن احتجتِ شيئًا… وسأشتري لكِ كل ما تشتهين.”
شعرت **سيرين** أن الكلمات كانت كالخناجر الملفوفة بالحرير… كيف يرد باللين في موضعٍ أرادت أن ترى فيه صلابته تتشقق؟ فلم يزدها رده إلا حيرةً وغضبًا مكتومًا تتمتم وهي تبتلع صدمتها:
ـ “لا أحتاج إلى أي شيء.”
ثم نظرت إليه بحدة تريد أن تمزق قناع التظاهر عن وجهه ولسان حالها يقول:
*إلى متى ستستمر في لعبتك هذه يا ظافر؟ إلى متى ستختبئ خلف ابتسامتك المريبة؟*
عادت **سيرين** إلى غرفتها تبحث عن لحظة استراحة وسط دوّامةٍ من الصراع الصامت الذي يتناوب على قلبها وما إن أغلقت الباب خلفها حتى جاء **ماهر** يؤدي بعض الأعمال المنزلية عن سيده بخطواتٍ مترددة كأن الأرض نفسها تتثاقل تحت وقع قدميه إذ كان ذهنه مشغولًا بما سمعه في اجتماع المساهمين لا يكاد يصدق أن الأحداث التهمت بهذا الشكل مستقبل **ظافر** وحين استعاد صوت **شادية** وهي تطلب منه ألّا يعود هو أو ظافر إلى مجموعة *نصران* حينها شعر بمرارةٍ غريبة ليس من أجل نفسه وحسب، فظافر –مهما حدث– يبقى ابنها والدم لا يُمحى من الجسد مهما حاولت القسوة أن تُنكر وجوده.
أنهى ماهر ما بيده من أعمال وإذا بظافر يناديه بصوته الرخيم كي يصعد معه إلى السيارة وما إن جلس حتى مدّ له ظافر بطاقةً لامعةً فتساءل ماهر بدهشة:
ــ *”ما هذا يا سيّد ظافر؟”*
ابتسم ظافر ابتسامةً واسعة لكنها كانت أقرب إلى بلاهةٍ بريئة تسكن وجهه:
ــ *”لقد منحتني سيرين بعض المال وقالت إن بوسعي أن أشتري غسّالة أطباق ومكنسة كهربائية آلية… هل تتخيل؟”*
ارتبك ماهر كأن الكلمات اصطدمت بجدار عقله قبل أن يتمكن من استيعابها في حين أن ظلّ ظافر يتحدث بمرح طفولي غريب:
ــ *”إنها قلقة من كوني بلا مال… حين أعطيتها بطاقة ذهبية منذ بضعة أيام رفضتها تمامًا.”*
لم يكن في صوت ظافر أي ظلّ للغضب بل كان يحمل حلاوة عجيبة وكأنه طفل يفتخر بلعبته لكن ماهر كان يتفحّص ما وراء الحكاية فحين عرف أن سيرين سلّمته البطاقة بعد ظهر اليوم تساءل بينه وبين نفسه عن شعورها الحقيقي. أحقًا قلقة؟ أم أنها تدير لعبةً أعقد مما يبدو؟
فسأله متردّدًا:
ــ *”سيدي… كم أعطتك السيدة سيرين؟”*
قال ظافر ببراءةٍ لم يعتدها أحد فيه:
ــ *”مليون ومئتا ألف دولار… وأخبرتني أنها ستدفع لي المبلغ ذاته كل شهر.”*
ارتجف قلب ماهر المبلغ بدا مألوفًا حدّ الألم… ثم تذكر… نعم! لقد كان نفس المصروف الشهري الذي اعتاد ظافر أن يطلب منه تحويله إلى سيرين قديمًا… إنها تعيده الآن إليه لكنها تعيده في صورة مرآة مقلوبة… تُطعمه من نفس الكأس التي كان يُسقيها منها.
ابتسم ماهر ابتسامةً خافتة متألمة إذ كان على يقين أن سيرين تنتقم ولكن بطريقة مخملية، هادئة، قادرة على تفكيك كبرياء ظافر قطعةً قطعة ولحسن الحظ –أو لسوءه– أن ظافر لم يفهم اللعبة بعد.
مدّ ظافر البطاقة مجددًا وقال بلهجة الآمر العطوف:
ــ *”احتفظ بها جيّدًا ولا تلمس المال الذي فيها… فقط اجعل أحدهم يشتري المكنسة وغسالة الأطباق من مالي الخاص… ولا تنسَ أن تُبلغني بالمبلغ الذي أنفقته… مفهوم؟”*
انحنى ماهر مطيعًا:
ــ *”نعم… سيدي.”*
وبينما قبض على البطاقة بيده كان سؤالٌ واحد يعصف بداخله:
ماذا لو استعاد ظافر ذاكرته يومًا ما؟ أي عاصفة غضبٍ ستنفجر حينها؟
بعد أن فرغ **ظافر** من توزيع المهام على **ماهر** ظلّت عيناه مسمرتين كمن يفتّش في صمت عتمته عن جوابٍ ضائع، ثم سأله بهدوء:
ــ *”ما حال الشركة؟”*
تنهّد ماهر وكأن أنفاسه تحمل ثِقلَ ما جرى وأجابه بنبرةٍ ممزوجة بالخذلان:
ــ *”بما أنّ السيّد جاسر قد حلّ محلك فقد طُردتُ أنا وبعض المقرّبين منك… ومع ذلك لم أقلق فأنت تملك ثروة تفوق ما يتصوّره الناس وأنا واثق أن رزقي لن يُقطع ما دمتُ إلى جوارك سيدي.”*
ظلّ ظافر صامتاً كأنّ عقله يحاول استعادة مشاهد مطموسة من فيلمٍ قديم بينما تابع ماهر اعترافه بصوتٍ مبحوح:
ــ *”هذا كل ما أعرفه يا سيّدي… أما البقية فلن تنكشف إلا عندما تعود إليك ذاكرتك.”*
لكن الحقيقة التي يدركها الجميع ولا يجرؤ أحد على قولها أنّ **قدرات ظافر** لم تكن يومًا سطحًا أملس كما تبدو؛ بل هاوية سحيقة تبتلع من يقترب حتى ماهر نفسه لم يُسمح له بملامسة أسرارها.
ابتسم ظافر ابتسامةً خفيفة لكنها أشبه بحدّ شفرة، ثم قال بصوتٍ لا يقبل الجدل:
ــ *”ابحث عن عمل الآن يا ماهر… وفي المرة القادمة، كن أكثر حذرًا، لا تدع أحدًا يعرف أنك على صلة بي، دعهم يظنون أنني انتهيت حقاً.”*
وفي صباح اليوم التالي فتحت **سيرين** عينيها على أنفاس ضوءٍ باكر يتسلل عبر الستائر فنهضت بخطى مثقلة لتكتشف أنّ **ظافر** قد سبقها إلى اليقظة وما إن دخلت الصالة حتى اصطدمت بمشهدٍ لم تتوقعه:
طاولة عامرة بأنواع الإفطار تتلألأ فوقها الأطباق كجواهر معروضة في خزنة زجاجية. وعلى الأرض انطلقت **مكنسة كهربائية روبوتية** تدور بانتظام كراقصة ميكانيكية بينما جلست إلى جانبها **غسالة أطباق** جديدة تشعّ كبريق قطعةٍ من الكريستال.
وفوق المائدة رُصّت الإيصالات بدقةٍ متناهية كأنها أوراق اعتراف تُسجّل شهادة عصرٍ جديد أو كأنها صكوكٌ معلّقة على جدار ذاكرة لا ترحم.
توقفت سيرين أمام المشهد وعيناها تحملان مزيجًا من الدهشة والريبة كأنها واقفة على بوابة حلمٍ غامض لا تدري أهو بداية لنعيمٍ مُترف أم فخّ مُحكم تضيّق حلقاته من حولها ببطء.
