رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وتسعة
لم تكن **سيرين** تتخيّل للحظة أنّ **ظافر** سيباغتها بهذا الشكل كل شيء بدا وكأنه حدث بخفة برق، سريعة خطواته إلى درجة أربكتها؛ لقد سبقها إلى الصباح وأعدّ المائدة بنفسه.
اقتربت بخطوات مترددة وعيناها تجوسان فوق الطاولة كعيني طفلة تتفحّص صندوق كنزٍ مفتوح… كان هناك **دقيق شوفان** يتصاعد منه بخارٌ خفيف و**خبز طازج** يلمع قشره كأنه مُدهَن بضوء الشمس و**حليب** أبيض ناصع يفيض بدفءٍ حميمي وألوان الفاكهة تتناثر فوق الصحون كأنها جواهر مرصوصة بعناية في صدر البحر حيث بدت الطاولة ممتلئة حتى حوافها كمسرح صغير يعرض فيه ظافر فصلاً من رواية غريبة لم يسبق لها قراءتها.
وما إن سمع وقع خطاها حتى رفع رأسه فهو يستشعر حضورها قبل أن يراها وقال بابتسامة شاحبة:
ــ *”لم أعرف ما الذي تفضلينه… لذلك قررت أن أشتري قليلًا من كل شيء… وهذه الإيصالات لتطمئني أنني لم أتجاوز ما اشترطتِ.”*
مدّت يدها نحو الأوراق وأصابها ذهول صامت لم تصدّق أنّه استمع إليها بجدّية هذه المرّة.
نظرت إليه مليًا ثم قالت بلهجةٍ تحمل شيئًا من الدهشة الممتزجة بالتهكّم:
ــ *”ألستَ أعمى؟ كيف اشتريت كل هذا؟”*
وضع كوبًا من الحليب أمامها برفقٍ مُباغت كأنّه يُهديها قطعةً من دفئه ثم قال بهدوءٍ رزين:
ــ *”أستخدم هاتفي… أكتب بالنص الصوتي وبذلك أطلب ما أحتاجه.”*
لم تجد في نبرته ثغرةً للشك فرفعت الكوب إلى شفتيها… دفء الحليب سرى في جسدها كما ينساب نهرٌ صغير في أرضٍ عطشى فابتلعت رشفةً ثم اقتطعت لقمة من الخبز قبل أن تتعمد وضع حجر آخر في طريقه:
ــ *”لكنني لست معتادة على الطعام الجاهز…”*
ارتبك ظافر لحظتها كأن كلماتها صفعت وجهه بلا إنذار، ثم تمتم مذهولًا:
ــ *”لكنني… لا أجيد الطبخ.”*
لم تعلم أنه استيقظ باكرًا وتردّد طويلًا بين أواني المطبخ التي بدت له كألغازٍ صمّاء إذ حاول أن يعدّ الإفطار بنفسه لكنه لم يعرف من أين يبدأ وكأن الوصفة الوحيدة التي يتقنها قد مُسحت من ذاكرته.
سألته سيرين ببرودٍ يخفي خلفه سيفًا من الفضول:
ــ *”إذن، لماذا كنت تجيد الطهي في الماضي؟”*
ظلّت صورتها حاضرة في ذهنها تلك الصورة التي أرسلتها **دينا** قبل زمن؛ كان فيها ظافر واقفًا بجوارها يصنع أطباقًا تفوح منها نكهة المهارة والاعتياد.
جفّت شفتاه وصُدم بوقع السؤال ثم أجاب بعد صمتٍ ثقيل:
ــ *”أعتقد… أنني نسيتُ الطبخ.”*
كلماته بدت كسطرٍ مبتور من ذاكرة ممزّقة، كأن عقله يحمل طبقات من الغموض لا يكشفها إلا حين يشاء.
رفعت **سيرين** الكوب مرة أخرى إلى شفتيها وابتلعت رشفةً طويلة من الحليب تحاول أن تبتلع معها ارتباك اللحظة ثم تمتمت بصوتٍ خافت أشبه باعترافٍ تائه:
ــ *”حتى أنا… لم أكن أجيد الطبخ في الماضي… كنتَ أنتَ من تقول إن الطعام الخارجي سمّ بطيء وإن البيت بلا رائحة طعامٍ كالبحر بلا ملح.”*
أجابها ظافر بسرعةٍ لافتة والكلمات خرجت من بين شفتيه قبل أن يفكّر محمّلة بإصرارٍ طفولي غريب:
ــ *”يمكنني أن أتعلم الطبخ.”*
توقفت للحظة وحدّقت فيه بعينين تحملان قسوةً متعمدة فيما قلبها يتقلب كصفحة ماءٍ في مهب الريح ثم قالت بجمودٍ مصطنع:
ــ *”حسنًا… إذن تعلّم جيدًا.”*
لم ترغب أن تُظهر أي ضعف لذا انشغلت بإفراغ الصحون من الطعام وتناولت كل ما كان على الطاولة دون ترك أثر ليس حبًا بالجوع بل هروبًا من الحوارات المعلقة في الهواء بينهما وقبل أن تنهض التفتت نحوه بنبرةٍ تحمل رقةً عفوية لم تستطع كبحها:
ــ *”إياك أن تحرق نفسك وأنت تطبخ.”*
لم تكن سوى جملةٍ عابرة قالتها كما يقول المرء شيئًا على سبيل العادة لكن وقعها على ظافر كان مختلفًا كأنها منحت قلبه إكسيرًا نادرًا يعيد إليه الحياة فابتسم بفرحٍ لم يستطع أن يخفيه، فرحٌ يشبه ابتسامة طفلٍ اكتشف أن العالم لا يزال يحتويه.
بعد أن تعلّم لغة **برايل** بعنادٍ لا يُكسر اتخذ قرارًا لا عودة فيه: أن يتقن فنّ الطبخ كما لو كان يروي ذاكرته بيديه.
وبعد بضعة ساعات جلس في ركنه مع هاتفه يُقلّب الصفحات كمن يفتح أبواب عالمٍ مجهول.
وفي مساءٍ غامض بينما كان صوت المقلاة يتهامس مع نقرات أصابعه على الشاشة سمعته **فاطمة** و**سيرين** يردد الوصفات بصوتٍ متهدّج يتبع التعليمات كما يتبع المريد طقوس صلاةٍ خفية فتبادلت المرأتان نظراتٍ صامتة وفي عينيهما ذهول ممزوج بصدمةٍ عميقة… إذ لم تتخيلا أن الرجل الذي كان يومًا رمزًا للصلابة صار يتعلّم من جديد أبسط ما يُعدّ في بيت.
——————
في تلك الأثناء، كان **جاسر** يقيم في الغرفة التي طالما كانت تحمل بصمة أخيه **ظافر** بعد أن عاد إلى قصر **نصران** الذي يزخر بأسراره كما تزخر الجدران القديمة بندوبها المخفية وذلك بعدما أحسنت **شادية** التمويه حتى إن أقرب الرجال إلى العائلة ــ **عدنان** و **زايدن** ــ لم يعرفوا أن من تقمّص شخصية وريث آل نصران لم يكن في الحقيقة إلا شبحًا آخر يحمل ملامحه بينما ظلّ **ظافر** الحقيقي أسير عتمته.
أما **جاسر** ذلك الفتى الذي وُلد ضعيف الجسد فقد عانى قبل بلوغ سن الرشد علّةً فتاكة أبقته طريح الفراش كزهرةٍ تذبل قبل أن تكتمل لذا لم يتوقع أحد أنه سيأتي يومًا يعود فيه واقفًا على قدميه بعدما نُفي إلى الخارج طلبًا للعلاج فانطفأت حوله كل الآمال كشمعة تُركت لتذوب في صمت والآن ها هو يجلس على كرسي وثير في غرفة أخيه يستمع إلى والدته **شادية** وهي تحكي له آخر المستجدات بحماسةٍ مشوبة بالقلق… صحيح أن ملامحه تشبه **ظافر** إلى حدٍّ يثير الاضطراب لكن في عينيه وداعة لم يعرفها وجه أخيه يومًا وفجأة قطع حديثها الممزوج بحماسٍ زائف وسألها بصوتٍ يشوبه وجع عميق:
ــ “أمي… هل تريدين مني أن أعيش حياته كاملة؟ أن أكون بديلًا له إلى الأبد؟”
ارتجفت **شادية** للحظة رغم حرصها على إخفاء اضطرابها تقبض على كفيها بقوة حتى غارت أظافرها في لحمها ثم قالت بصرامةٍ تحمل بين طياتها يأسًا دفينًا:
ــ “جاسر… لقد قال الأطباء إن **ظافر** قد فقد بصره إلى الأبد وإن استعاد ذاكرته فلن تقبل مجموعة نصران برجلٍ أعمى على رأسها… عليك أن تفهم… نحن لا نملك رفاهية الاختيار.”
كانت كلماتها كسياطٍ تنهال على قلبه تحمل بين طياتها حكمًا مؤبدًا لم يختره.
ظلّ واقفًا قليلًا ثم رفع رأسه كمن يبتلع مرارة الحقيقة بصمت، وقال دون أن يلتفت:
ــ “فهمت.”
نهض بعدها بخطوات بطيئة متوجهًا إلى الباب فارتعش صوتها وهي تسأله وقد دبّ الرعب في عينيها:
ــ “إلى أين تظن أنك ذاهب؟ لا يمكنك أن تُرى الآن، قد يشك الناس.”
ارتسمتعلى ثغره ابتسامة هادئة شابها بعض الانكسار وأجابها:
ــ “لا تقلقي… لن أبتعد… أردت فقط أن أتنفّس قليلًا… أن أستشعر الهواء بعد سنواتٍ قضيتها حبيس المرض.”
اقترب من النافذة وألقى ببصره نحو الخارج حيث الثلج يتساقط ببطء كأسرابٍ من الأرواح البيضاء يغطي الأرض وكأنه يمحو آثار كل ما مضى يهمس لنفسه وهو يتأمل المشهد:
ــ “لقد دفعت ثمنًا باهظًا من عمري أمي… والآن كل ما أريده أن أعيش لحظةً واحدة خارج حدود سجني.”
وما هي إلا لحظات، حتى وقعت عيناه على مشهدٍ رائع؛ طفلان صغيران يركضان وسط الثلج يضحكان بأصواتٍ تخرق صمته الداخلي كجرسٍ يذكّره بالحياة التي ظلّت بعيدة عنه لسنوات طويلة… عندها فقط شعر قلبه يتحرك لأول مرة منذ زمن كما لو أن الحياة تهمس في أذنه:
“أنت ما زلت هنا.”
ترى هل سيستسلم جاسر لرغبة شادية؟ أم سينتفض ظافر ليسترجع ما سلب منه عنوة؟
والأهم ماذا سيحدث إن ألقى القدر جاسر في طريق سيرين وما سيكون موقفها تجاهه؟
بل ماذا لو استعاد ظافر بصره وذاكرته معاً؟
