رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وعشرة 310 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة وعشرة

في ذلك اليوم تقدم زكريا بخطوات ثابتة خلف مالك حتى وصل إلى قصر نصران ذلك المبنى المهيب الذي يخفي بين جدرانه حكايات أثقل من الحجر نفسه إذ كان زكريا قد تذرع برغبته في رؤية والده المزعوم الذي قالت شادية أنها وجدته. غير أن الحقيقية لم تكن سوى غطاء إذ كان قلب زكريا مشدودا إلى غاية أخرى أن يعرف من سيكون الوريث الحقيقي ومن الذي جلس على العرش الذي ظل يتأرجح بين الظلال.
وقف مالك عند بوابة القصر وزفر بعمق وكأن صدره الصغير يضيق بعالم أكبر من سنه يقول بنبرة مثقلة بالخذلان
أظنه لن يجيء اليوم يا زاك... لن نراه هذه المرة.
في داخله كان مالك يخطط لشيء آخر لقد أراد أن يواجه الرجل الذي هجر زوجته وابنه أن يقتص منه بيديه الصغيرتين انتقاما لصديقه لكنه حين التفت إلى زكريا لم يجد سوى ملامح باردة كأن لا شيء يعنيه ومع ذلك تظاهر الأخير بالاهتمام وقال بصوت جامد يخفي وراءه ما لا يفصح
إذا صادفته يوما ما... عليك أن تخبرني فورا.
ابتسم مالك ابتسامة مشوبة بطفولة عنيدة ثم ربت على صدره وكأنما يقسم يمينا لا رجعة فيه
حسنا... وعندما أصبح الرئيس التنفيذي لمجموعة نصران سأجعل أحدهم يعاقبه. سأجعله يدفع ثمن كل شيء.
كانت عيناه تلمعان بشرارة مبكرة من الظلم الذي لم يعشه بعد لكن بدا كأن المستقبل يصوغ بين ضلوعه طاغية صغيرا يتغذى على الحلم بالانتقام ولا أحد يعلم من أين تسللت تلك القسوة إلى روحه

الناشئة.
ظل زكريا يرد بإجابات سطحية يرمي الكلمات إلى الفراغ دون أن يعيرها اهتماما غير أن القدر لا يترك مسرحه خاويا طويلا... وفجأة وقع بصرهما على رجل مهيب القامة يقترب بخطوات بطيئة كظل خرج لتوه من أعماق جدار قديم فقد ارتدى جاسر معطفه الأسود كطيف طويل القامة يقف متأملا الدنيا الملبدة بالثلج ظهره منتصب كعمود حجر في ريح صافية فلم تغب ملامحه عن أنظار الطفلين اللذين كانا يلهوان فقد بدا لهما كصورة مألوفة خرجت من إطار قديمشبه لوجه ظافر لا يخفيه غطاء الرأس الأسود لكن زكريا كان له حدس آخر لم يكن تمييزه أمرا طفوليا فحسب فوجود ظافر في مقاطعة سان آنذاك كان حقيقة معلومة كما أن زكريا نفسه يملك توأما ولذلك أحاطت به قدرة إدراك مبكرة. شعر بأن ذلك الرجل ليس ذاك هناك هواء يتحرك حوله مختلف نبرة صمت لم تعتدها وجوه نصران القديمة.
لم تمض إلا لحظات حتى التفت جاسر إلى الأطفال ووقف أمامهم كما إذا أنه يختبر حرارة العالم الذي رآه للتو. حين لمح مالك اقترابه من المقصد ظن الصبي الصغير أن ما سمعه للتو من حديث عن منصب مقلوب قد استدعى انتقاما أو حسابا فمله إليه بوقار طفولي وقال
أهلا عمي ظافر.
رد جاسر بصوت بارد يهمهم كمن يمرر لحنا نصف ناضج ثم وجه نظره إلى زكريا وسأله مباشرة
ومن هذا
أجاب الطفل بأدب مطواع يفوح ببراءة لا تتلون
مرحبا سيدي أنا زكريا تهامي.
ركز زكريا بصره على وجهه مترصدا أي نبضة
تكشف عن هوية حقيقية. لاحظ أن جاسر لم يظهر أي اهتزاز فوري بالرغم من الشبه كان الحضور مختلفاكما لو أن صورة قد نقشت على ورق أبدلت بإطار آخر.
لم تستمر الأسئلة طويلا فعندما تلفظ جاسر باسم عائلة تهامي انقبضت حدقتاه قليلا كما تنقبض فتحة عدسة عند وهج ضوء. ثم مال على الطفل بنظرة لا تسأل عن الطفولة بل عن ذاكرة ربما اهترأت
هل التقينا من قبل
رد ببراءة مقصودة حاول بها أن يخفف من حدة اللحظة
لا أذكر.
ابتسم زكريا ابتسامة هادئة كما لو أنه يهمس بسر صغير لأذن الزمان ثم قال بنبرة مرحة لكنها تحمل دروس منكبرة
يا سيدي ذاكرتك ضعيفة احرص ألا يعلم أحد بذلك.
بقيت الكلمات معلقة في الهواء البارد كشرارات صغيرة تتلون على وجه الثلج كل من الطرفين وقف على حافة معرفة لم تولد بعدواحد يخفي ذاكرة والآخر يكتم سرا والعالم حولهما يتربص بصمت.
كان زكريا ينسج في كلماته خيطا آخر لم يقصده ظاهرا إشارة خفية تتوارى خلف براءة الصبي غير أن جاسر التقطها لوهلة. ارتسمت على محياه دهشة عابرة لكن سرعان ما محاها كمن يطفئ شمعة في مهب ريح. فبالنهاية زكريا ليس سوى طفل وما يرمز إليه لم يكن جديرا بالقلق في نظره لذا ترك الفكرة تنزلق من بين أصابعه الثقيلة.
ارتبك مالك حين أدرك أن جاسر لم يوله اهتماما فبادر بلهجة مرتجفة
أرجوك لا تغضب يا عمي ظافر كنت أمزح فقط بما قلته آنفا.
لكن جاسر لم يفهم سبب اعتذاره المفاجئ وكأن الولد
يعتذر عن خطيئة لم ترتكب
حسنا اركضا الآن معا الوقت ما زال لكما.
حاضر!
قالها مالك بسرعة ثم قبض على يد زكريا كمن يهرب من ثقل لا يريد أن يحمله. غير أن زكريا وقبل أن يستسلم للمغادرة التفت بنظرة أخيرة نحو الرجل الغريب الماثل في الثلج. كان بداخله عزم يشتعل أن يحفر في ماضي هذا الوجه الذي يشبه ظافر إلى حد الارتباك أن يعرف أي خديعة يحيكها هذا الدخيل.
وعندما التقت عيناه بعينيه للحظة ارتجف قلب جاسر ذكرى قديمة نفض عنها الغبار فجأة. خيل إليه أنه يسمع صوتها الدافئ من زمن بعيد صوت سيرين وهي تناديه في طفولته
زاااف!
أطبق شفتيه بعنف كأنما يخشى أن يتسرب صوته فيفضح اضطرابه. لم يتحرك إلا بعدما تلاشى ظل الطفلين في بياض الثلج.
أما زكريا فالنهاية لم تكتب بعد في ذهنه. لم يكن يملك سببا للكره بعد لكنه شعر أن هذا اللقاء بداية طريق مظلم يحتاج أن يتبعه حتى نهايته. مال نحو مالك وهمس بدهاء طفولي
مالك ألم تقل إنك ستصبح الرئيس التنفيذي لمجموعة نصران يوما ما فلم ترتجف من عمك إذن
احمر وجه مالك كزهرة قطفت على عجل وارتبك من الحرج
هذا محض هراء! أنا لا أخشاه أمي نفسها قالت إنه غير مؤهل لتلك المهمة وسأكون أنا من يرعاه في المستقبل أيضا.
ابتسم زكريا بخبث بريء صوته يتقاطر فضولا
إذن هل تجرؤ على أن تصحبني إلى بيته
أجاب مالك باندفاع كأنه يدفع عن نفسه تهمة الضعف
بالطبع! ولم لا!
كانت الكلمات أشبه ببوابة
فتحت على مغامرة لم يدرك أي منهما بعد عواقبها.


تعليقات