رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والحادي عشر
ما إن تفوه مالك بتلك الكلمات حتى سرى في داخله شعور بالندم غير أن الكلمة إذا نطقت لا سبيل إلى استعادتها.
حاول أن يرمم ما بدر منه فاصطحب زكريا سرا إلى موضع منعزل ثم تسللا من الباب الجانبي إلى صومعة ظافر ذلك الحصن الذي كان يوما منيعا.
حين وصلا كان قلب مالك الصغير يخفق كطائر مذعور في قفصه الصدري وعلى وجهه ارتسمت ملامح الفخر الممزوجة بالتوجس يقول مبتسما
أرأيت هذا بيت عمي.
ألقى زكريا نظرة فاحصة على المكان فاستوقفه مشهد الغرفة الشرقية الفخمة وأعمدتها الخشبية اللامعة تشهد على عراقة البناء.
وفجأة قبض زكريا بيده على بطنه وارتسم الألم على ملامحه يقول متأوها
آه... بطني! لم أعد أحتمل أحتاج إلى دورة مياه!
وقبل أن ينبس مالك ببنت شفة اندفع زكريا مهرولا نحو الشرق.
ارتبك مالك وصاح بقلق طفولي
لا تذهب إلى هناك! هناك غرفة عمي!
ولم يكد يكمل عبارته حتى ظهرت أمامه خادمة القصر وجهها ممتقع بالغضب فلما تعرفت عليه رفعت صوتها بنبرة حادة
ما الذي تفعله هنا يا سيد مالك لقد نهيت عن الدخول! السيد ظافر لا يحب الأطفال اخرج فورا قبل أن أبلغه!
تجمد مالك في مكانه لحظة وعيناه تبحثان
عن زكريا الذي اختفى تماما ومع ازدياد خوفه من أن تفي الخادمة بتهديدها قرر الفرار وقبل أن يولي هاربا التفت إليها وقد بدت على وجهه ملامح التحدي ومد لسانه ساخرا وقال
انتظري فقط! عندما أكبر سأطردك من هنا!
ابتسمت مدبرة المنزل بازدراء خافت وهي تراقب الطفل يلوح بوعوده الطفولية كان مالك لم يتجاوز الخامسة من عمره بعد فكيف لتهديده أن يخيفها وهي تعلم في قرارة نفسها أنه حين يكبر ستكون قد غادرت هذا المكان منذ زمن بعيد.
عادت الخادمة إلى الغرفة لتكمل تنظيفها دون أن يخطر ببالها أن الصغير الآخر زكريا قد تسلل خلسة إلى غرفة ظافر نفسها.
كانت الغرفة أشبه بقطعة من الجليد يغلب عليها طابع الأحادية في اللون جدرانها وأثاثها يتنفسان برودة صاحبها حتى الهواء فيها بدا خافتا كهيبته.
راح زكريا يتجول داخلها بحذر وفضول يقلب في الأركان والأدراج يفتش عن أي شيء يمكن أن يدين ظافر أو شبيهه هذا كانت عيناه تبرقان بحماسة طفل يلهث خلف مغامرة كبرى.
لكن بحثه انتهى بلا جدوى وما إن هم بمغادرة المكان حتى سمع وقع أقدام في الطابق السفلي فارتجف جسده وارتبك قلبه واختبأ على عجل خلف خزانة ضخمة.
اقتربت الخطوات
أكثر فأكثر ثم ظهر رجل يعلو نعلاه صوتا خفيفا على الأرضية الخشبية كان جاسر الذي رفع نظره إلى الغرفة بنظرة فاحصة فرأى أن بعض الكتب على الطاولة قد تحركت عن مواضعها عندها ارتسمت على وجهه إشارة إدراك مبهمة قبل أن تستقر عيناه على شيء غريب عند طرف الخزانة... يد صغيرة تبرز من خلفها.
تراجع جاسر خطوة إلى الوراء دون أن ينطق بكلمة وأغلق الباب في هدوء متعمد ثم قال لمدبرة المنزل بصوت متمهل
سأخرج نصف ساعة لا تدعي أحدا يدخل الغرفة.
أجابته باحترام آلي
نعم سيدي.
ما إن خفت وقع الخطوات وابتعد صداها حتى تنفس زكريا الصعداء وخرج ببطء من خلف الخزانة شعر للحظة أن قلبه عاد إلى موضعه بعد أن كاد يقفز من بين أضلعه.
لكن ما لبث أن سقط عليه كتاب من أعلى الرف فارتطم بالأرض محدثا صوتا مكتوما انحنى زكريا ليلتقطه فإذا بصورة مطوية بين صفحاته فتحها بحذر وإذا بها تظهر ظافر وسيرين في ريعان شبابهما بابتسامة تحمل ملامح ماض لم يعد موجودا.
تجمد لحظة يتأمل الصورة ثم استعاد حذره والتقط لها صورة بسرعة بساعته الذكية قبل أن يعيدها إلى موضعها داخل الكتاب كما كانت وقبل مغادرته الغرفة دس كاميرا صغيرة في مزهرية
موضوعة على شرفة الغرفة بعناية تحاكي عمل محترف ثم انسحب بهدوء كما جاء.
لم يتواصل زكريا مع مالك إلا بعد أن ابتعد تماما عن منزل ظافر وأجابه بعبارات مقتضبة على أسئلته الكثيرة محاولا ألا يثير الشك وما لم يكن يدركه الاثنان أن جاسر كان يتتبعهما بصمت من سيارة تقف على مقربة منهما عيناه ترصدان حركاتهما وصوته الهادئ يخرج عبر الهاتف
راقب هذا الطفل جيدا.
في البداية ظن جاسر أن الأمر لا يعدو صدفة لكن حين تأكد أن زكريا تسلل فعلا إلى غرفة ظافر أدرك أن ما يجري أعمق بكثير مما يبدو.
بعد مضي ساعة عاد زكريا إلى شقة كوثر المستأجرة بينما كان جاسر وقد علم أن كوثر هي والدة زكريا تسلل بدوره إلى غرفة ظافر لينتزع الكاميرا الصغيرة من المزهرية بهدوء ودهاء.
في الوقت ذاته كان زكريا جالسا أمام حاسوبه يراقب التسجيلات بعينين مشدوهتين ثم زم شفتيه ساخطا
يا له من محتال بارع... لا يصدق أنه اكتشفها بهذه السرعة!
أغلق حاسوبه بقلق وألقى نظرة على الصورة التي التقطها سابقا قبل أن يفتح الباب فجأة وتطل كوثر برأسها قائلة بنبرة دافئة
هل أنت غافي يا زكريا
ارتبك زكريا في مكانه وأغلق ساعته على عجل محاولا
إخفاء توتره خلف ابتسامة متكلفة.
