رواية قلب السلطة الفصل الثاني والثلاثون
انحنت "يقين" قرب "ليلى"، تضغط على ساقها بيدها بقوة، ودموعها تتساقط رغم صلابتها. كل تأوه منها كان كالسهم يخترق قلبها.
ــ "مش هسيبك تموتي… أقسم بالله مش هيقدر يلمسك تاني… أنا هنا معاكي… فاهمة؟"
الطاقم الطبي حولهما يتحرك بسرعة جنونية، أصوات الأجهزة تصدح، الممرضون يركضون بين النقالات والأجهزة، والأوامر تتلاحق:
ــ "حضّروا غرفة العمليات فورًا!"
ــ "نقل دم، جهزوا المعدات!"
ــ "خيطوا الجرح مؤقت!"
"ليلى" تئن بين الحين والآخر، لكنها ترفع رأسها نحو "يقين" لتلتقط قليلًا من الأمان.
في مدخل الطوارئ، وقف "رائد" جامدًا، جسده مشدود، عيناه معلقتان على باب غرفة العمليات. كل خلية فيه تصرخ بالذنب والخوف والجنون.
اندفع "شامل" نحوه، صوته يعلو بالغضب:
ــ "إنت مجنون؟! عملت فيها كده ليه؟! دي مابانش عليها كدبت ولا خبّت عنك كلمة… إزاي تسمح لنفسك ترفع سلاح على ست؟!"
رائد لم يرد، رأسه مائل، عيناه تغرقان باللوم على نفسه وهمس بصوت خافت:
ــ "مهاب…"
"يقين" تحدق في رائد بعينين صارمتين:
ــ "لو حصل حاجة… حتى لو فقدت رجليها… مش هتكون النهاية ليك. دي هتكون البداية… وأنت عارف مين أول واحد هيجيلك."
الصمت سيطر للحظة، كل شيء متجمد: صرخات الألم، أصوات الأجهزة، حركة الممرضين، كل شيء معلّق بين الماضي والحاضر، بين الألم والخوف، بين الذنب والانتقام القادم.
بعد دقائق، هدأت حركة الطاقم الطبي قليلًا، النزيف بدأ يثبت، ووجه "ليلى" استعاد بعض اللون، لكن عيناها ما زالت تحملان تلك النظرة الصارمة الممزوجة بالخوف.
"يقين" جلست بجانبها، تضغط على يدها، وتحاول تهدئتها:
ــ "خدي نفس… أنا معاك… مفيش حاجة هتحصل… هتعدي… فاهمة؟"
في الخارج، جلس "رائد" على كرسي بعيد عن الطوارئ، يده على رأسه، يفكر في كل تصرفاته الأخيرة، صوته الداخلي يزداد ثقلًا:
ــ لو حصل أي حاجة… مهاب… إزاي هواجه؟ إزاي؟"
أما "شامل"، فظل واقفًا متوترًا، يراقب كل حركة وكل نظرة، يشعر بالغضب والارتباك، لكنه يعلم أن الوقت ليس مناسبًا للحديث، وأن الأمور أكبر من مجرد صراخ أو لوم.
مع مرور الوقت، بدأ شعور المؤقت بالراحة يتسلل: "ليلى" نجت من الموت هذه المرة، لكن الطريق أمامها طويل، والمعركة الحقيقية لم تبدأ بعد.
في تلك اللحظة، أدرك الجميع أن ما حدث لم يكن مجرد حادث، بل بداية لعاصفة أكبر، وأن كل قرار وكل ثانية من الآن فصاعدًا ستقلب حياتهم رأسًا على عقب.
رائد رفع رأسه أخيرًا، نظر إلى "يقين" و"ليلى" في غرفة العمليات، وهمس لنفسه:
ــ لازم أكون جاهز… مهما حصل…"
وهكذا، بقي كل واحد منهم غارقًا في أفكاره ومخاوفه، مستعدًا لما سيأتي، غير مدرك أن العاصفة الحقيقية بدأت للتو.و كالعادة استعان بشامل للتغطية علي الحادث و عدم إبلاغ الشرطة .
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
ذهبت "يقين" الي "ليلى"، وأمسكت بيدها بإحكام، كأنها تمنحها القوة بدلًا عنها.
ــ "اسمعي… أنا مش هسيبك دلوقتي، هفضل جمبك لحد آخر لحظة."
رفعت "ليلى" عينيها المرهقتين نحو يقين ، همست بصوت ضعيف:
ــ "حاسّة إني مش هطلع من هنا… خايفة أوي."
أجابت "يقين" بحزم:
ــ "مفيش خوف… احنا هنعدي ده سوا… متقلقيش على حاجة."
خارج الغرفه ، وقف "رائد" صامتًا، عيناه تراقبان المشهد، وداخله صراع مرير بين الندم والمسؤولية:
ــ أنا غلطت… ومين هيسامحني بعد كده؟"
فجأة، اقتحم "شامل" الغرفة الخارجية، صوته حادّ كالسيف:
ــ "فاكر إن كل حاجة هتتنحل بكلمة أسف؟ دي مش لعب… دي حياة ست!"
نظر "رائد" إلى "شامل" بعينين مثقلتين، وهمس:
ــ "عارف… ومش عايز كلام… عايز أتصرف صح قبل ما الأمور تتدهور أكتر."
اقتربت "يقين" منه بخطوات ثابتة، نظراتها صائبة، وصوتها محمل بالجدية:
ــ "خليك واعي… كل خطوة ليها ثمن… ومين محتاج حمايتك دلوقتي."
ردّ "رائد" ببطء، كأن الكلمات تخرج بعد عناء:
ــ هاعمل كل اللي أقدر عليه… مهما كلفني."
داخل الغرفة، مدت "ليلى" يدها لمسة خافتة نحو يد "يقين"، وقالت:
ــ "مش عارفة كنت هعمل إيه من غيرك… شكراً ليكي."
ابتسمت "يقين" بحنان:
ــ "مافيش حاجة ليها تمن… المهم إنك تعرفي إنك مش لوحدك."
وعلى الرغم من هدوء الليل خارج المستشفى، كان القلق يملأ القلوب، والضغط يثقل النفوس، فقد شعر الجميع أن القادم لن يكون هادئًا، وأن كل قرار وكل خطوة من الآن فصاعدًا ستغير حياتهم إلى الأبد.
-------
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
خرجت "ليلى" من المستشفى، جسدها ضعيف وعينها متعبة، لكن عزيمتها لا تزال حية. "يقين" كانت إلى جانبها، تدعم كل خطوة، وتربت على ظهرها بلطف:
ــ "خليكي واثقة… كل حاجة هتتظبط، ومفيش حاجة توقفنا دلوقتي."
"ليلى" نظرت إليها، صوتها خافت لكنه مليء بالإصرار:
ــ "حاسّة بعبء كبير… بس معاك أحس إن في أمل."
في الخارج، "رائد" وقف يراقبهم من بعيد، قلبه مثقل بالأسئلة والخيارات الخاطئة:
ــ لازم أعدل اللي حصل… قبل ما أي حاجة تخرج عن السيطرة."
وقف "شامل" أمامه، صوته صارم لكنه خفيّ الحزم:
ــ "اللي حصل النهارده مش أي كلام… كل خطوة من دلوقتي لازم تكون محسوبة."
رفع "رائد" رأسه، عيناه مليئتان بالعزم:
ــ "عارف… المرة دي هافكر قبل أي خطوة… ومش هسيب أي شيء للصدفة."
في السيارة، هدأت الأجواء قليلًا، لكن كل واحد منهم كان مدركًا أن القادم أصعب، وأن أي خطأ صغير قد يقلب الموازين.
رفعت "ليلى" يدها لتضم أصابع "يقين"، وابتسمت بصوت هادئ:
ــ "دلوقتي محتاجة قوتنا أكتر من أي وقت… الطريق لسه طويل."
ردّت "يقين" بحزم:
ــ "معاك… ومش هسيبك تواجهِي حاجة لوحدك."
تحركت السيارة، تحمل معها النفوس المثقلة بالقلق والتوتر، وكل لحظة تقربهم من مواجهة جديدة، حيث الحقيقة والسلطة والانتقام سيتشابكون بطريقة لا تعرف الرحمة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
جلست "ليلى" على مقعد السيارة، عينها تتأمل الطريق، لكنها لم تحرك الجسد الذي صارثه الألم والخوف.
ــ "أنا راجعة بيت أهلي… مش هقدر أعيش هنا دلوقتي." قالت بصوت ثابت، رغم ضعف جسدها.
تراجع "رائد" خطوة، وجهه مليء بالغضب والذهول، صوته يرتجف:
ــ "إزاي يعني؟! بعد اللي حصل… وإنتي لسه ضعيفة… مش هسيبك تمشي لوحدك."
اقترب "شامل" بخطوات حازمة، محاولًا تهدئة الموقف:
ــ "ليه كده يا ليلى؟ ده مكانك دلوقتي… إحنا محتاجينك جنبنا… البيت ده مش هيضرّك."
هزت "ليلى" رأسها بعزم:
ــ "مش فاهمة… حاسة إن كل حاجة هنا هتقتلني… محتاجة أروح لمكان يحسّني بالأمان، وبيت أهلي ده المكان الوحيد."
قفزت "يقين" أمامها، صوتها صارم لكن مفعم بالدفء:
ــ "ليه تتخلي عننا دلوقتي؟ إحنا معاك… هنحميكي… ومش هسيب أي حاجة تضرك."
نظر إليها رائد، عينيه تلمع بالغضب والحزن معًا:
ــ "يعني كل اللي حصل اليوم مش كفاية؟! مش هسيبك تمشي وتسيبينا في نص المعركة… دي مش مجرد بيت، ده المكان اللي لازم تكوني فيه."
ابتسمت ليلى، لكن ابتسامتها كانت حزينة:
ــ "أنا مش ضدكم… بس مش هقدر أعيش في خوف… محتاجة أرجع للي أعرفه وأحس فيه بالأمان."
سكت الجميع لوهلة، صمت ثقيل يملأ السيارة، ثم أخذ شامل نفسًا عميقًا وقال:
ــ "خدي خطوة ورا خطوة… البيت ده بيتك، بس إحنا محتاجينك تكوني معانا… مش لوحدك."
هزت ليلى رأسها، عيونها مليئة بالعزم والخوف معًا:
ــ "أنا محتاجة وقت… بس هفكر في كلامكم."
ابتسمت يقين، وضغطت على يدها بحنان:
ــ "بس متأكدي… مهما حصل، إحنا مش هنسيبك تمشي لوحدك… وإنتي تعرفي ده."
تحركت السيارة ببطء، وكل واحد منهم غارق في صمت يملؤه القلق، يعلمون أن القرار القادم سيكون حاسمًا، وأن قلب "ليلى" سيحدد مسار ما سيحدث بعد ذلك.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في ركنٍ قصي من البيت
جلست "يقين" بجانب "ليلى"، تمسك بيدها بإحكام، تحاول أن تجد الكلمات التي تهدئها، لكن كل شيء بدا بلا جدوى أمام الألم والقلق. همست أخيرًا، بصوت خافت ومليء بالحرقة:
ــ "أنا آسفة… سامحيني… هو مش عارف… و… والله هنقف جنبك… ونحميكي، مهما حصل."
ارتعشت "ليلى" عند سماع العبارة، ثم نظرت إلى يقين بعينين ممتلئتين بالألم والمرارة:
ــ "يعني دا كان وعيه… قبل كده؟"
لم تجب "يقين"، اكتفت بنظرة طويلة نحو الباب، حيث وقف "رائد" متهالكًا، متكئًا على الحائط، والندم لأول مرة يطل من عينيه، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب.
سكت المكان لبرهة، كل شيء حولهما يلمح ثقل اللحظة… أصوات القلب والهواء وكأنها تشاركهم التوتر، وكل واحد منهم يعرف أن القادم سيكشف حقيقة كل شيء.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان الليل قد خيم على البيت، والصمت يغلف الجدران، إلا من همسات الرياح التي تداعب الستائر. جلس "رائد" على المقعد الوثير، السيجار يوشك أن ينطفئ بين أصابعه، يفكر في كل ما حدث، في النزيف، في ليلى، وفي القرارات التي لم يجرؤ على مواجهتها بعد.
رن الهاتف فجأة، رنينه ثقيل كأنما يطرق على صدره مباشرة. التقطه ببطء، صوت الموظف من إدارة المستشفى جاء واضحًا ومباشرًا:
ــ "سيد رائد… نتيجة التحاليل وصلت… زوجتك … ليلى… حامل، والفترة الأولية حساسة جدًا."
جمد رائد للحظة، كأن صدى الكلمات صدمه في عمق جسده. قبض على الهاتف بقوة، سيجاره يكاد يسقط من بين أصابعه، وقال بغضب مكتوم:
ــ "إيه ده… مش وقته دلوقتي… مش دلوقتي خالص!"
وقف "شامل" أمامه، وجهه متصلب، صوته يعلو تدريجيًا، كل كلمة تتنفس غضبًا لا يطاق:
ــ "إنت فاهم إيه يا رائد؟! كل اللي بتعمله غلط في غلط! كل يوم بتزود فيها النار بدل ما تطفيها… ليه مش شايف إن الليلة دي أهم حاجة؟!"
أما "رائد"، فقد انزوى بعد العاصفة في ركن مكتبه، يجلس وحده أمام كأس نصف ممتلئة، يحدّق فيها كما لو كانت مرآة تكشف له وجهًا لا يريد أن يراه. عيناه جامدتان، غاب عنهما كل دفء، وصار صوته حين خرج أشبه بحديدة باردة تخدش الصمت.
رفع نظره إلى "شامل" الذي ظلّ واقفًا أمامه لا يلين، وقال بسخرية ثقيلة:
ــ "يعني بعد كل اللي حصل، ولسه حامل؟! أهو حظها حلو أوي بقى... مش كده؟"
اشتعلت ملامح "شامل" بالغضب، واحمرّ وجهه كمن صُفع بالكلمة، فاندفع صوته غاضبًا:
ــ "إنت بتتكلم إزاي يا رائد؟! دي مراتك... ستّ في بطنها روح من دمك! حتى لو قلبك مات معاها، ابنك المفروض يصحي فيك ضمير! ده أضعف الإيمان يا راجل!"
نهض "رائد" دفعة واحدة من خلف مكتبه، عيناه تقدحان شررًا، وصوته ينفجر كالرعد:
ــ "مافيش عندي غير بنت واحدة! نيرفانا... هي وريثتي، وهي كل حياتي. أي حاجة غير كده ما تعنينيش، لا ابن ولا غيره. ليلى دي... وجودها نفسه بقى عبء!"
هزّ "شامل" رأسه ببطء، وعيناه تمتلئان مرارة، وقال بنبرة ممتزجة بالعتاب والاشمئزاز:
ــ "إنت ظلمتها كتير، وظلمت نفسك أكتر. اسمعها مني يا رائد: اللي بتعمله ده آخرته خراب. وافتكر كلامي، إنت اللي هتخسر."
حاول رائد أن يهدأ، لكن الكلمات تخرج مشوشة:
ــ "أنا… أنا… مش قادر أفكر دلوقتي… مش الوقت."
اقترب شامل منه، صوته صارم، عيناه تحدقان في عينيه كمن يريد أن يقلب قلبه على الحقيقة:
ــ "مش الوقت؟! يا رائد… دلوقتي بالذات لازم تفكر صح… مش وقت اللعب بالقوة ولا التحكم. اللي عملته لحد دلوقتي كله هيروح لو ما بصتش على الشيء الصح دلوقتي!"
سكت رائد، قلبه يثقل، وكل نفس يلتقطه كأنه يسحب منه جزءًا من قوته. شعور بالذنب والارتباك يغلفه من كل جانب، وعلم أن كل خطوة لاحقة ستحدد مصير ليلى والجنين، وأن الوقت لن ينتظر أحدًا.
وقف شامل لوهلة، ثم قال بصوت أخفض لكنه لا يقل شدة:
ــ "افتكر، كل يوم إنت بتقضي فيه في التحكم والقسوة، بتبعد عنها… وبتبعد عن نفسك. القرارات اللي هتاخدها دلوقتي، هي اللي هتحميها… أو تدمرها."
رمق رائد شامل بنظرة مليئة بالحيرة والضغط النفسي، وأخذ نفسًا عميقًا، وكأن الليل كله ينتظر قراره القادم، قراره الذي لن ينساه أحد، ولا سيما هو نفسه.
استدار بعنف، وخرج تاركًا خلفه أبواب البيت تئنّ من شدّة الغضب الذي طرقها.
بقي "رائد" وحيدًا، يغلي صدره بأنفاس متقطّعة، صرخ فجأة صرخة مكتومة، ثم ركل الطاولة الصغيرة بجانبه. تطاير الكأس وانسكب الشراب على الأرض، تكسّرت الزجاجات الصغيرة وتناثر الزجاج كأن البيت نفسه يشارك في انهياره.
تقدّم بخطوات متعثرة، قبض بكفّيه على جانبي رأسه، وهمس بصوتٍ منكسر يختلط فيه الهذيان بالوعي:
ــ "حامل؟! دلوقتي؟! دلوقتي يا رب؟! خلاص... قفلت عليا من كل ناحية!"
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
ركل الطاولة مرة أخرى، فانبعث الصدى في أرجاء الغرفة كأن البيت كله يئنّ معه. وبينما يتنفس باضطراب، تسلّل إلى أذنه صوت خافت، مرتعش، من خلف الباب:
ــ "نَعَم يا رائد؟ قفلت؟ طب قبل ما تقول قفلت... سألت نفسك أنا كنت عاملة إزاي؟!"
انتفض جسده، التفت ببطء، عروقه مشدودة، عيناه متسعتان.
وبحركة ثقيلة، فتح الباب، فإذا "ليلى" واقفة هناك، شاحبة الجسد، لكن عينيها تلمعان بوميض غريب لا يشبه الضعف.
دخلت بخطوات بطيئة لكنها ثابتة، ووقفت أمامه، وقالت بصوت متهدج لكنه حادّ:
ــ "كنت لسه بفكّر... يمكن لما تعرف إني حامل، قلبك يحن. يمكن تراجع نفسك، وتفتكر إني بني آدمه مش خصم. بس غلطانة. أنا كمان اتخدعت فيك."
لم يستطع أن يرد، فظلّ يحدّق في الفراغ، كأن الكلمات تحجّرت في حلقه.
رفعت يدها المرتجفة نحو بطنها وقالت:
ــ "ده ابنك... أمانة في رقبتي. بس اسمعني كويس: مش هتوسللك علشان تهتم بيه. من النهارده، أنا اللي هقف لنفسي... ولوحدي."
توقفت لحظة، واغرورقت عيناها، لكنها مسحت دمعتها سريعًا وأضافت:
ــ "وإن كنت فاكر إنك كسرتني... يبقى معرفتش إن البني آدم بيتولد من وجعه. أنا صحيت، يا رائد... ودي آخر دمعة هتشوفها مني."
ثم استدارت وغادرت، كل خطوة تخطوها كصفعة مدوّية في وجهه.
أما "رائد"، فظلّ واقفًا في مكانه، منهار الصمت، يحاول أن يرفع رأسه، لكنه لم يستطع.
لقد فقدها مرّتين: يوم أهمل قلبها، ويوم أفاقت من سكرته.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
الجو في البيت أصبح خانقًا، كل نفس يبدو أثقل من السابق. جلست "ليلى" على الأريكة، يدها على بطنها المرتجف، عيونها ممتلئة بالدموع، بينما "رائد" يقف أمامها، صوته جامد، عيناه تلمعان بالإصرار:
ــ "لازم تمسحي الحمل… دلوقتي قبل ما الموضوع يكبر… لازم تفهمي إن ده مصلحة الكل!"
لم يسبق لـ"رائد" أن رأى "ليلى" على هذه الحال.
لم يعرفها يومًا ضعيفة، ولم يتخيل أن تنهار أمامه بهذا الشكل. لكن تلك اللحظة… كانت اللحظة الأولى التي رأى فيها صلابتها تتهاوى.
لم يكن انهيارًا صاخبًا، بل صمت موجوع، دموعها تنحدر في بطء، كأنها ترفض أن تعلن هزيمتها أمامه، لكن قلبها لم يحتمل.
في البداية، ظنّت أنها لم تسمع جيدًا. رمشت أكثر من مرة، تشبثت بكلماتها كمن يتعلّق بأمل كاذب:
ــ "بتضحك… مش كده يا رائد؟ دي هزار… قول إنك بتهزر!"
لكن عينيه كانتا جامدتين، وصمته أثقل من كل جملة، حتى حين قال بصوت قاطع بارد:
ــ "أنا ما بهزرش… الحمل ده مش هيكمل."
كانت تلك الجملة كطعنة حادة اخترقت صدرها. وضعت يدها على بطنها كمن يحمي كنزًا خفيًّا، وانفجر صوتها باكيًا:
ــ "إزاي؟! إزاي تطلب مني ده؟! ده ابني… ابني يا رائد!"
تدخل "شامل"، صوته يزلزل أرجاء القاعة:
ــ "كفاية بقى! إنت عايز تدمّرها وتدمّر نفسك كمان؟! مين ادّالك الحق تاخد القرار ده؟! ده غلط في غلط يا رائد!"
اقتربت "يقين" واحتضنت ليلى لتسندها من الانهيار، دموعها تلمع وهي تواجهه بنظرة حادة:
ــ "مفيش قوة في الدنيا تخليك تعمل كده بيها… لا بيها ولا بالجنين! لو ليك ذرة عقل… هتفهم إنك بتخسر كل حاجة."
لكن "ليلى" لم تحتمل، مدت يدها تبحث عن هاتفها بعشوائية، صوتها مبحوح، متقطع:
ــ "أنا… عايزة أروح لماما… أو لمهاب… مش قادرة أعيش هنا!"
انقضّ "رائد" سريعًا، خطف الهاتف من يدها بحدة:
ــ "مش هتتواصلي مع حد! البيت ده مش هتخرجي منه!"
صرخت "ليلى"، شهقت باكية، تحاول التملص من بين ذراعي يقين:
ــ "سيبني… سيبني! أنا مش ملكك! أنا عايزة أروح لبيت أهلي!"
وفي تلك اللحظة، بدا المشهد كله كبركان على وشك الانفجار. "رائد" يصر على سيطرته، "ليلى" تذوب بين يديه وتنهار لأول مرة، "يقين" تحاول حمايتها، و"شامل" يقف كالخصم المباشر، صوته يجلجل:
ــ "لو لمستها تاني، يا رائد… هتلاقيني أنا أول واحد واقف قصادك."
سقطت الكلمات في الهواء كثقل الحديد، فيما كان الليل خارج البيت يزداد ظلمة، كأنما يترقب الانفجار القادم.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت نيرفانا واقفة عند طرف الممر، يكسوها وجوم ثقيل، وعيناها تتابعان ما يجري في الصالة. أصوات عالية تتردد، رائد يقف شامخًا متصلّب الملامح، وليلى غارقة في دموعها، تحاول أن تجد منفذًا إلى حريتها، لكن قبضته القاسية على زمام الأمر كانت أشد من جدران السجن.
صرخت ليلى بصوتٍ متهدّج وقد غصّ حلقها بالبكاء:
ــ «سيبني أروح لأمي يا رائد... ماعُدتش قادرة أتحمل... خلّيني أمشي قبل ما أموت هنا!»
لكن رائد أطبق صوته بصرامة جارحة، عيناه تلمعان بغضبٍ عارم:
ــ «مافيش خروج من البيت ده غير بإذني... والبيت ده بيتك غصب عنك!»
اشتعل الغضب في صدر شامل، فتقدّم بخطوات ثابتة، وصوته يتفجّر كالرعد:
ــ «هو ده عقل يا رائد؟! عايز تفرض عليها الإجهاض بالعافية؟! فاكر الرجولة إنك تقتل حياة لسه ما شافتش النور؟! إنت كده ما بتثبتش رجولة... إنت بتهدم نفسك واللي حواليك!»
أما يقين فقد وقفت إلى جانبه، تحملق في وجه رائد بعينين دامعتين وقالت بحدة ممزوجة بالرجاء:
ــ «ارحمها يا رائد... اللي بتعمله ده كله غلط فوق غلط. إنت كده هتخسرها... وهتخسرنا إحنا كمان!»
لكن رائد ظلّ كالصخر، لا يلين، يمدّ يده فجأة فينتزع الهاتف من ليلى وهي تحاول التمسك به لتتصل بأهلها. ارتعش جسدها، وانهارت على الأريكة كطائرٍ جريح لا يجد مهربًا.
حينها فقط، من بعيد، ارتجفت أصابع نيرفانا على هاتفها الخاص، وقد غلبها الإحساس بالذنب. كانت شاهدة على كل ما جرى، وعقلها يصرخ أن ليلى بريئة من كل التهم التي ألصقها بها والدها. بعثت برسالة قصيرة مرتجفة:
"ماما... ليلى في خطر. إلحقوها."
وفي بيت نيفين، ارتعش قلب الأم حين وقع بصرها على الرسالة. نهضت مذعورة، حاولت الاتصال بابنتها لكن هاتفها كان مغلقًا. ثقلٌ خانق جثم على صدرها، فسارعت بالاتصال بمهاب، وصوتها يخرج مرتجفًا:
ــ «مهاب... إلحق أختك يا ابني... في مصيبة بتحصل جوه عند رائد!»
أجابها مهاب بصوتٍ متوتر وهو يرمق بيت رائد من سيارته المركونة غير بعيد:
ــ «ما تقلقيش يا أمي... أنا واقف قدام بيته. أول ما ألاقي فرصة هدخل وأطلّعها من تحت إيده... وحياة ربنا مش هسيبها له!»
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت شمس الصباح قد بدأت تتسلّل بخجل من خلف ستارة الشرفة، تبعث بخيوطها الذهبية فوق مائدة الإفطار العامرة. جلست "نيفين" و"شكران" تتناولان طعامهما على مهل، لكن ظلّ القلق يخيّم على وجه "نيفين"، يسرق منها طعم اللقمة ورائحة الشاي.
قطّعت "شكران" رغيف الخبز أمامها، ثم رفعت رأسها قائلة في فضول:
ـ "مالك يا نيفين؟ حاسة كده إنك مش على بعضك."
تنهدت "نيفين"، وأجابت بشرود:
ـ "بنتي يا شكران... يومين ما سمعتش صوتها. ولا مكالمة، ولا حتى رسالة. واللي زوّد قلقي... إن نيرفانا بنفسها بعتتلي مبارح بالليل."
شهقت "شكران" دهشة:
ـ "نيرفانا؟! بنت جوزها؟! بعتتلك إيه؟"
أخذت "نيفين" نفسًا عميقًا، وأخرجت من حقيبتها ورقة مطويّة بعناية، ثم وضعتها أمام صديقتها. قالت بصوت خافت:
ـ اللي مكتوب فيها..." توقفت لحظة، كأن الكلمات تثقل لسانها، ثم أضافت:
ـ "ماما... ليلى تعبانة أوي، ومش عارفة أوصل لحد غيرك. ساعديها قبل ما يفوت الأوان."
وضعت "شكران" يدها على فمها، واتسعت عيناها رعبًا:
ـ "يا ساتر يا رب! يعني إيه الكلام ده؟!"
أطرقت "نيفين" برأسها، والدموع تلمع في عينيها:
ـ "معناه إن بنتي في خطر. وأنا قاعدة هنا مش عارفة أعمل إيه."
ـ "طب اتصلتي بيها؟" وفين اخوها مهاب
ـ "حاولت، تليفونها مقفول. كلمت رائد، ما ردش. حتى شامل... بيرن ويرفض المكالمة." و مهاب قالي متروحيش انا هتصرف و هجبها لحد عندك .
ظلت "شكران" صامتة للحظة، ثم مالت نحوها وقالت بجديّة:
ـ "اسمعي كلامي... ما تستنيش. لازم تتحركي فورًا. روحي لهم النهارده، دلوقتي حالًا لو تقدري."
هزّت "نيفين" رأسها في إصرار، ومسحت دموعها بطرف المنديل:
ـ "أيوه... خلاص. أنا مش هقعد مستنية تاني. هاروح أشوف بنتي النهارده، مهما حصل."
أطبقت "شكران" يدها على يد صديقتها، وقالت بثقة:
ـ "وإن شاء الله هتلقيها بخير. ربنا يحفظها من كل شر."
وفي أعماق "نيفين"، كان شعور غامض يلحّ عليها... أن هذه المرة لن تكون زيارة عادية، بل مواجهة فاصلة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت كلمات "شكران" الأخيرة ما زالت عالقة في الهواء، تهتز بينهما مع رائحة الشاي الساخن وهدوء الصباح الذي بدا وكأنه يستمع معهما. لحظة صمت خيّمت على المائدة، امتزج فيها دفء الصداقة القديمة بقلقٍ غامض يسكن قلب "نيفين"، كأن الغيم حجب أشعة الشمس للحظة.
وفجأة، اخترق هذا السكون رنينٌ حادّ من هاتف "نيفين" الموضوع إلى جوارها. ارتجف قلبها، كأنما انتظر هذه اللحظة، والتقطت الهاتف مسرعة، علّ الصوت يكون صوت "ليلى". غير أنّ ملامحها ما لبثت أن انعقدت في عبوس وهي تحدّق في الشاشة:
ـ "مش هي... دي جارتهم."
رفعت عينيها إلى "شكران"، فتبادلت معها نظرةً يختلط فيها الترقّب بالحيرة، قبل أن ترفع الهاتف بتردّد، أناملها توشك أن تنزلق من فرط التوتر، وقلبها لم يكن سوى خفقة على بُعد كلمة واحدة من الانفجار.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان "شامل" ما يزال تحت وطأة الغليان الذي أشعلته مكالمة رائد قبل قليل، يومها وقف صارخًا في وجهه بعد أن بلغه خبر الحمل من إدارة الكشفي، محاولًا أن يوقظه من غيّه: "اللي بتعمله كله غلط في غلط!"... ورغم ذلك، ظلّ قلبه مثقلًا بالخوف على "ليلى"، وعلى يقين من أن بقاءه إلى جانبها صار واجبًا لا يحتمل التراخي.
وقبل أن يغادر، اعترضت طريقه "يقين" عند باب الشقة، صوتها المرتجف يكشف ما يعتمل في صدرها:
ـ "إيه ده؟ رايح فين يا شامل؟"
استدار إليها، وعيناه لا تزال تحملان بقايا غضب مكتوم، ثم تدارك نفسه، فأمسك يدها بحنو ظاهر، وطبع قبلة سريعة على ظاهر كفها وقال بهدوء متعمد:
ـ "معلش يا يقين... مضطر أمشي دلوقتي. المكتب بقالي يومين سايبه ومش عارف إيه اللي حصل جديد. ساعتين بالكتير وراجع."
زفرت "يقين" بضيق، وقد غشى القلق عينيها:
ـ "أوك يا حبيبي... بس بالله عليك حاول ترجع بسرعة. أنا مش طايقة أتعامل مع رائد، ولو شُفته مش ضامنة أعصابي."
امتقع وجه "شامل"، كأنما عاد صوت رائد المتهكم يطرق رأسه من جديد، وقال بصوت منخفض لكن فيه غليان مكتوم:
ـ "هتقتليه يعني؟ سيبك منه دلوقتي... خليكي جنب مراته. ولو المجنون ده حاول يعملها حاجة تاني، كلميني فورًا... فاهمة؟"
هزّت "يقين" رأسها بعصبية:
ـ "ربنا يستر بقى."
ابتسم ابتسامة شاحبة وهو يمسح على كتفها:
ـ "إن شاء الله، يا حبيبتي. يلا... باي."
ـ "باي يا قلبي..."
وانصرف "شامل" من البيت، يجرّ خلفه همًّا يثقل خطاه أكثر من حقيبته. جلس خلف مقود سيارته، فإذا بالعجلات تنطلق كأنها تفتش عن دربٍ لفك طلاسم الذهن؛ شمالًا ثم غربًا، تارة يتبع اللاشيء، وتارة يفرّ من ظنٍّ يطارد قلبه، كأنه يبحث عن مخرج بين دهاليز القدر.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
ثُلث ساعة مرّت...
كانت سيارة "شامل" تشق طريقها في طرق جانبية مظلمة، حتى توقفت عند منزل قديم في أطراف القاهرة، بيت متهالك يجاور أراضٍ مهجورة، بعيد عن الأعين، كأنه مكان خُلِق ليُخفى أسرارًا لا يجرؤ قلبٌ على حملها.
أوقف سيارته في الجراج الضيق، أغلق الأبواب، ووضع المفاتيح في جيب سترته. خطا بخطوات ثابتة نحو الداخل، حيث استقبله اثنان من رجاله، انحنيا في احترام، فاكتفى بهزة رأس صارمة قبل أن يدخل.
مشى وهو يعرف وجهته، حتى وصل إلى غرفة صغيرة تبدو أوفر ترتيبًا من باقي البيت. فتح الباب بعصبية، وما إن ولج حتى وقعت عيناه على الجسد الجالس على الكرسي الحديدي في منتصف الغرفة.
كان مكبل اليدين للخلف، وقد لفّت حول قدميه قيود متينة، وعيناه معصوبتان بقطعة قماش داكنة. وجهه متورم قليلًا، دليلًا على مقاومة عنيفة لم تثمر.
انفجر صوت "شامل" غاضبًا وهو يلتفت نحو "أبو شمس":
ـ "إيه ده يا أبو شمس؟!
