رواية قلب السلطة الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم مروة البطراوي


 رواية قلب السلطة الفصل الرابع والثلاثون 

كانت نيرفانا تمشي بجانب الشخص الغامض، خطواتهما تتناغم بصمت، وكأن العالم كله اختفى حولها. كل صوت صغير من بعيد يجعل قلبها يخفق بعنف، وكل حركة من الشخص بجانبها تزيد من ارتباكها.

رفعت رأسها مجددًا، وعيناها تملؤها التساؤلات:
ــ "طب... إنتَ هتفضل ساكت كده؟ إزاي نكمّل وأنا مش فاهمة حاجة؟"

ابتسم لها الشخص ابتسامة قصيرة وغامضة، لم تستطع قراءتها:
ــ "كل حاجة هتوضحلك في وقتها. المهم دلوقتي، نمشي على نفس الطريق اللي بدأنا فيه."
--
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

همست نيرفانا بصوت بالكاد يُسمع، وكأنها تتحدث إلى نفسها لا إليه: ــ "هو إحنا فعلاً رايحين لنفس النهاية اللي في دماغك؟"

لكنه لم يلتفت إليها، واكتفى بتبطيء خطوته قليلاً وكأنه يمنحها فرصة لاستيعاب ما هو قادم... أو ليزيد من مخاوفها.
-------
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

همست بصوتٍ متردد، يختلط بالخوف والإنكار: ــ "إنت… إيه اللي رجّعك دلوقتي؟"

لم يُجب فورًا، بل أبطأ خُطاه كأنّه يمنحها وقتًا لتستوعب ما لا تريد استيعابه.

تابعت بخفوتٍ حاولت أن تخفي به ارتجافها: ــ "إحنا مش… خلصنا من الموضوع ده؟"

مال برأسه قليلًا نحوها دون أن ينظر إليها مباشرة، وردّ بابتسامة جانبيّة لم ترَها لكنها شعرت بها: ــ "إحنا عمرنا ما خلّصنا… وإنتي عارفة ده."

ارتجفت أصابعها في جانبها، وتذكّرت لحظة الهروب الأولى، يوم تركت عقلها وإرادتها عند صوته ومشت خلفه كأنّ الطريق مُلكه.

سكنت لحظة، ثم قالت بنبرة حاولت أن تبدو حاسمة: ــ "أنا مش نفس البنت اللي كنت بتلعب بيها زمان."

ضحك بخفوت، وكأن كلمتها لم تُحرّك فيه شيئًا: ــ "وهو أنا قلت غير كده؟… بس كل واحد بيرجع لدوره ساعة الجد."

هو ليس غريبًا… هو آدم حمدي؛ الرجل الذي لا يظهر إلا حين تبدأ حياتها في التشكل من جديد، فيطيح بها نحو فوضى لا يُدركها سواها.
ظهر يوم زواج والدها بليلي حينما الزم رائد اوس أن يبتعد عنها و ها هو عاد مرة أخرى بنفس الشاكلة حينما أمر اوس بالابتعاد عنها ثانيا و هي تنجرف معه و تنصاع لكل ما يقوله لها كمحاولة للفت انتباه والدها لها 

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
كانت خطواتها بطيئة وهي تتبع ظله في الصعود إلى الطابق الأخير. السُّلم بدا أطول مما ينبغي، كأن كل درجة تُثقِل صدرها أكثر. لم تكن تعلم إلى أين يأخذها تحديدًا، لكن صمته كان كافيًا لتمنح قدميها الإذن بالاستمرار، رغم كل ما يهتز داخلها.

توقف أمام بابٍ أسود مَطليّ حديثًا، أدخل مفتاحًا بثبات وفتحه دون كلمة. التفت نصف التفاتة وقال بصوت هادئ خالٍ من الاستئذان:

ــ "ادخلي."

ترددت لحظة، نظرت للممر الخالي كأنها تبحث عن مهرب، لكنه لم يمنحها الوقت الكافي. تقدَّم هو أولًا، ثم ترك الباب مفتوحًا خلفه كأن دخوله أمر محسوم، وخروجها غير مطروح.

دخلت بخطوة حذرة. الشقة لم تكن مألوفة لعينيها ولا لذاكرتها؛ أثاث بسيط، إضاءة خافتة، ورائحة جديدة لا تُشبه الأماكن التي كانت تعرفها معه.

أغلق الباب بهدوء خلفها… ذلك الصوت الخفيف كان كافيًا ليوقظ رعشة في جسدها. لم تلتفت إليه، لكن إحساس وجوده خلفها كان يُمسك بأنفاسها.

قال بهدوء أقرب للتيقّن: ــ "ماتخافيش… محدش هنا غيرنا."

ردّت دون أن تنظر إليه، وصوتها خافت فيه حذر مشوب بالاستنكار: ــ "أنا ماقولتش إني خايفة."

ضحك ضحكة قصيرة، كأن ردّها أكد له العكس: ــ "ماقولتش… بس باين."

تقدّم بضع خطوات حتى صار على مقربةٍ منها، ثم أضاف بنبرة أخفض: ــ "إحنا مش أول مرة نبقى لوحدنا… صح؟"

ارتجف الهواء حولها، لكنّها تماسكت قدر ما تستطيع. قالت وهي تُحاول أن تُبقي المسافة قائمة: ــ "المرة دي غير."

اقترب أكثر، حتى شعرت بأنفاسه تُلامس جانب وجهها: ــ "ولا إنتي غير؟"

حاولت التراجع، لكن ظهرها لامس حافة الأريكة دون أن تنتبه. هو لم يُمهل المسافة لتتنفّس؛ تقدّم خطوة أخيرة جعلتها حبيسة بينه وبين الأثاث.

رفعت يدها كأنها ستمنعه، لكن صوتها خرج أقلّ قوة مما أرادت: ــ "بلاش… أنا مش جاية عشان ده."

مال برأسه قليلًا، نظر إليها نظرة تعرفها جيدًا؛ نظرة لا تسأل بل تأخذ. قال ببطء وكأنه يُعيد تعريف اللحظة:

ــ "إنتي عمرك ما جيتي عشاني… بس دايمًا بتروحي معايا."

الكلمات نزلت عليها كضربةٍ ناعمة، تُربك أكثر مما تجرح. حاولت أن تنطق شيئًا، أن تقول لا، أن تقاوم… لكن يده سبقت كل ذلك حين رفع كفّه برفق إلى وجهها، يُزيح خصلة شعر سقطت على وجنتها.

تجمّدت للحظة، لا تستسلم ولا تنسحب. الصراع لم يعد في قدميها، بل في صدرها الذي التبس فيه الخوف بالذاكرة وبشيء آخر لا تُسمّيه.

صوته اقترب أكثر، دافئًا، خافتًا، لكنه يحمل القوة الكافية لكسر دفاعٍ لم يكتمل: ــ "فاكرة يوم ما سبتّي الدنيا وراك ومشيتي؟… اللي خلاكي تعملي كده لسه جواكي."

أغمضت عينيها لحظة قصيرة، لحظة واحدة كانت كافية ليسحبها من التردّد إلى الارتباك… ومن الارتباك إلى حافة الانجراف.

هو لم ينتظر إذنًا، ولم يُعطِها فرصة لكلمة أخرى.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

لم تفتح عينيها حين شعرت بأنفاسه تقترب أكثر، كأن اللحظة نفسها تُغلق عليها الطريقين: طريق الرفض وطريق الاعتراف. يده انزلقت من وجنتها إلى عنقها بخفّة محسوبة، لا عنف فيها… لكن لا سماح للاستئذان.

قال بصوت منخفض لازال يُمسك بوعيها: ــ "متتعبيش نفسك… إنتي عارفة إنك مش هتمشي."

حاولت أن ترد، لكن الكلمات علقت في حلقها، فخرج صوتها أشبه بهمسة مكسورة: ــ "آدم… بقولك لأ."

اقترب أكثر، حتى صار جسده يكاد يلامسها، ورأسه مائل نحوها كأنه يُصغي لشيء لا تسمعه هي. ردّ بنبرة هادئة تستفز مقاومتها بدل أن تُضعفها: ــ "قوليها… بس وإنتي بعيدة عني. إنما طول ما إنتي هنا… مافيش لأ."

أرادت أن تُبعده، أن تزيح يده عن رقبتها، لكن أصابعها حين ارتفعت أمسكت بذراعه بدل أن تدفعه. نظرة واحدة في عينيه كانت كفيلة بأن تُسكت دفاعها قبل أن يُولد.

همس قريبًا من أذنها: ــ "ولو كنتي عايزة تمشي… ماكنتيش طلعتِ معايا."

اهتز صدرها بشهيقٍ حاولت كتمه، وكأن الهواء صار اعترافًا لا مفر منه. لم تنطق، لكنها أيضًا لم تبحث عن الباب.

يده الثانية لحقت بالأولى، تحاصرها من كتفيها كمن يُثبّت طريقًا اختارته قبل أن تعترف به. جذبها نحوه تدريجيًا، بلا عجلة، وكأنه واثق أن مقاومتها ليست إلا لحظة تأخير.

حين اصطدم صدرها بصدره، ارتعشت دون أن تختار، فأدرك أنه لم يعد بحاجة لإقناعها… فقط لإسكات ما تبقّى من صوتها الداخلي.

مرّر أصابعه خلف عنقها ثم مال عليها، والصمت بينهما كان أبلغ من كل اعتراضٍ لم يُقال. شفتاه لامستا شفتيها أول مرة ببطء لا يُشبه الحنان، وإنما يُشبه الاختبار. كانت تحبس أنفاسها، كأن جسدها يحاول أن يتراجع بينما قلبها يسبقها بخطوة.

همست بكسرٍ أخير حاول أن يظهر كقوة: ــ "ده غلط…"

لم يُبعد وجهه، بل ابتسم بزاوية فمه كأنه يُذكّرها بما تعرفه: ــ "وإحنا إمتى خفنا من الغلط؟"

لم يمنحها فرصة ثانية للصوت. قبّلها من جديد، أعمق هذه المرة، كأن اللحظة تُغلق على كل ما كان مؤجلاً. ضعفها لم يكن استسلامًا بقدر ما كان سقوطًا مؤجلًا… وهي لم تُقاوم بما يكفي لتنجو، ولم تستسلم بما يكفي لتغفر لنفسها بعد ذلك.

ضمّها إليه حين شعر بأن جسدها بدأ يتراخى تحت يديه، وترك المسافة بينهما تتلاشى حتى لم يعد هناك ما يُفصل رغبتها القديمة عن واقعها الحالي.

الضوء الخافت، سكون الغرفة، وارتباك أنفاسها… كل ذلك كان شاهدًا على لحظة لن تُدرك حجمها الآن، بل لاحقًا، حين تستيقظ ولا تجد إلا الصدى.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
لم يكن الفجر قد اكتمل بعد حين كان شخصٌ آخر يراقب العالم بصمته الخاص…
كان شامل يتأمّل طلائع الفجر من نافذته الصغيرة، تلك النافذة المتواضعة التي لا تمنحه الكثير، لكنها تمنحه ما يريد. ليست نافذة على العالم، بل على وكرٍ خاصّ، وكرٍ يشبه جحر النمر، حيث تأتيه  تلك الجميلة التي سكنت روحه دون استئذان… الجميلة التي  ملامحها تشبه اليقين الذي يعثر على الروح دون أن يُنادى.

رغم بساطتها، كانت تلك النافذة أشبه بثقبٍ سرّي يطلّ على عالمه الداخلي، وكانت الجميلة المقيمة هناك، تتجلّى في نظره لا كجسدٍ يُرى، بل كحضورٍ يُحسّ، وسحرٍ يُتلمّس دون لمس. الانبهار المتصاعد بها كان يكبر بداخله ككرةٍ من لهب، تتدحرج في مسالك روحه، لا تهدأ ولا تنطفئ. كان يتأجّج فيه احتياج خفي، حاجة للوصول إليها، لا لينظر إليها فحسب، بل ليكشف أسرارها، ليهتك ستائر الغموض التي تحيط بها، وليفهم لماذا صارت صورتها في رأسه تنمو يومًا بعد يوم، كأنها شجرةٌ وارفة لا تكفّ عن الامتداد في أعماقه.

منذ "اللقاء الكبير"، ومنذ أن جمعت بينهما لحظة عابرة في ظاهرها، لكنها خالدة في صميمه، والجميلة تسكن مخيلته وتتمدّد، تتلبّسه كما تتلبّس الأرواح الأجساد. كان يتمنى، في سرّه الذي لا يسمعه سواه، أن تتحوّل من صورةٍ جامدة إلى كائنٍ حي، من خيالٍ إلى نبض، من طيفٍ إلى حضور يشاركه صمته وضجيجه.

يتذكّر...
يتذكّر تفاصيل ذلك اللقاء، كأنها طُبعت على جدار ذاكرته بنقوش لا تزول. الجميلة، بأسئلتها الفجّة في فضولها الطفولي، كانت تقتحم عالمه بأسلوبٍ لا يعرف التردّد. لم تكن تخشى أن تسأله عمّا لا يُسأل، وكأنها جاءت لتعرّيه من كل تحفظاته.

ويتذكّر رائد...
رائد، بسخريته المريضة منه، ذلك الرجل الذي يجد في كسر حدود اللياقة الاجتماعية متعة، والذي اعتاد أن يسخر منه كما يسخر الأطفال من الغرباء في قراهم النائية، دون رحمة أو اكتراث. رائد، بحبّه الدائم لأن يكون اللسان السليط في كل مجلس، ظلّ يضحك على ما في شامل من رصانة، ويهزأ من صمته كأنه ضعف، لا يعلم أن في الصمت جبالاً من الكبرياء.

لكن الجميلة…
آهٍ من الجميلة…يقين 
كانت بين هذا وذاك، تسير على حبال رفيعة، تسأل وتسخر، تبتسم وتعبس، ومع ذلك لم يملك شامل إلا أن يراها كما يراها الآن، من نافذته الصغيرة… نافذته التي وإن لم تكن تطلّ على العالم، فإنها تطلّ على عالِمه الأهم: عالِمها هي.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
كان السكون يلتف حول جسدها كما لو أنّ الليل انعقد في جوفها. لا تشعر بوطأة الفراش تحتها ولا ببرودة الهواء التي تُلامس بشرتها، كأنّ كل حواسها قد تعمّدت الغياب دفعةً واحدة، تاركة روحها معلّقة بين يقظةٍ لم تكتمل ونومٍ لم يُغلق الباب بعد.

لم تكن نائمة بحق، لكن عقلها اختار الانسحاب إلى منطقةٍ معتمة، خالية من الصور الواضحة. تُحاوِل أن تتذكّر آخر لمسة ليديه أو آخر كلمة همس بها، فلا يجيبها شيء سوى صدى بعيد يتردّد في أذنها بلا معنى، فتتململ ملامحها وكأنّها تهرب من ذِكرى ترفض أن تظهر كاملة.

في قلب الظلام الذي يسبح في رأسها، انبثقت ومضة خاطفة… كأنّ أحدهم نادى اسمها بصوتٍ خفيض. لم تفهم الكلمة، لكنها أحسّت أنّها موجّهة إليها. تحرّكت جفنتاها حركةً خفيفة، كمن يحاول الصعود من تحت الماء، ثم سكنت من جديد.

هناك ثِقل غريب يستقر على صدرها؛ لا تدري أهو ثقل اللحظة أم ثقل رجلٍ باغت مسار حياتها كلما لاحت له فرصة. حاول عقلها أن يطفو، أن يُمسك بخيطٍ واحد يعود به إلى ما قبل هذا المكان، لكن الخيط انفلت سريعًا فتشبّث قلبها بصمتٍ خانق.

في زاويةٍ غائمة من وعيها، مرّ وجهه كطيفٍ عابر، فاضطرب نفسها المضغوط في صدرها، وارتجفت أصابعها دون أن تنتبه. لم تسمع وقع خطوات، لم تدرِ إن كان قريبًا منها الآن أم لا، لكنها أحسّت بوجودٍ يتسلّل إلى حلمها الصامت ويُغيّر ملامحه.

همست روحها بشيء أشبه بالرفض، لكن جسدها ظل مستسلماً لتلك الغفلة القسرية. لم تعرف كم سيمتد هذا النوم، ولا أي أثر سيتركه حين تفتح عينيها، لكنها شعرت في أعماقها بأن ما جرى لن يتوارى كما تتوارى الأحلام… بل سيتسرّب إلى يقظتها آجلًا ويهزّها من الداخل، وإن لم تتذّكره كلّياً.
-------
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
استفاقت كما لو أنّ أحدهم انتزعها من قاعٍ بعيد. فتحت عينيها فجأة، حدقت في الفراغ أمامها دون أن تدرك أين هي، ولا متى نامت. كان قلبها يسبق أنفاسها، يخفق بعنفٍ غير مبرَّر، وكأنّه يُنذرها بأنّ شيئًا ما ليس في مكانه.

ظنّت لوهلة أنّ الضوء الخافت حولها مجرّد امتداد لحلمٍ لم تتذكّره، لكنها سرعان ما أدركت أنّها مستيقظة بحق. الهواء مختلف… ملمس الوسادة غريب… وحتى الصمت نفسه يحمل نبرة لا تشبه صمت غرفتها المعتاد. رمشت أكثر من مرة، تستجمع بصرها لتفهم، لكن الفهم لم يأتِ سريعًا كما توقّعت.

انقبض صدرها بلا سبب ظاهر، ثم تسلّل ذلك الشعور المباغت… صدمة أولى، حارّة وباردة في آن. كأنّ ذاكرتها تقف خلف بابٍ موصَد بشقّ ضيق، تسمح للحسّ أن يمرّ، وتمنع الصورة من الاكتمال. حاولت أن تستعيد آخر لحظاتها قبل النوم، لكن رأسها رفض التعاون، فأحسّت بالقلق يصعد في حلقها، كالحرقة الأولى قبل البكاء.

رفعت يدها بتثاقل، لامست صدرها ثم كتفها، كأنّ جسدها هو خريطتها الوحيدة الآن. خفقة خفيفة ارتجفت تحت أصابعها، لا تدري أهي من أثر خوفٍ غامض أم من ذكرى لم تكتمل بعد. حدجت المكان بنظرة خاطفة، تبحث عن شيء مألوف تنتشل به وعيها، لكن الأشياء ظلّت صامتة، محايدة، تُمارس غربتها دون أن تشرح نفسها.

حين حاولت الجلوس، شعرت بأن الأرض تهتزّ تحتها بخفّة، وكأنها قامت على بساطٍ من هواء. توقّفت لحظة، تستند بيدها، تُنصت لنبضها، تتعقّب ذاك الشعور الأول الذي باغتها برقًا، لكنها لم تعثر سوى على سؤال واحد لا تعرف كيف تجهر به:

«أنا… فين؟ وليه قلبي بيجري كده؟»
-------
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
ذهب  "شامل" الي رائد و ما يزال واقفًا أمام الباب، يضغط على قبضته فوق المقبض كأنّه يستند إليه كي لا ينهار. أنفاسه بطيئة، متقطعة، وملامحه معلّقة بين ذنبٍ قديم وقرار لم يكتمل بعد.

لم يمهله القدَر وقتًا ليستوعب صمته، إذ جاء وقع خطواتٍ حادة من آخر الممر، خطوات يعرف صاحبها جيدًا، لكنها اليوم تحمل نبرة تهديدٍ لا تشبه الماضي.

ظهر "رائد" أولًا، يجرّ خلفه عاصفة من الغضب المكبوت، وإلى جانبه كانت "يقين" تمشي بخطى سريعة، وجهها مُتّقد بالقلق وكأنها جاءت قبل أن تُستدعى.

تقدّمت يقين بخوفٍ مغلّف بحزم، ونظرت إلى شامل نظرة سريعة لم تكملها، ثم استدارت نحو رائد قائلة بنبرة حاولت أن تجعلها منخفضة قبل أن تنفجر:

– استنى يا رائد! مش هينفع تدخل عليها كده!

لم يلتفت لها، بل ظلّ يُحدّق في الباب، بصوتٍ أشبه بطبقة فولاذ مكسور:

– ابعدي يا يقين... البنت دي بنتي قبل ما تبقى أي حاجة تانية، وأنا داخل. اعرف كانت فين امبارح 

وضعت يقين نفسها في مواجهته، وكأنها تحتمي من زئيرٍ قادم:

– تدخل تعمل إيه؟ تصرخ؟ تعاتب؟ تعاقب؟! هي مش ناقصة كسرة جديدة منك!كفاية الي حصلها  و بعدين شامل اهو هيطمنك راحت فين 

حدّق فيها بنظرة حادة، ثم رمق شامل من طرف عينه باحتقارٍ مكتوم:

– انتي فاكرة إني سايبها لواحد زيه؟!
أنا عارف هو بيغطي عليها ازاي ... وعارف إنها مش بخير!

تراجع شامل خطوة دون أن يجيب، لكنه رفع رأسه بصوت متماسك على غير ما في داخله:

– وجودي هنا مش جريمة، وأنا أصلًا كنت خارج.
سيبوا البنت تهدى قبل ما تدخلوا عليها. بالشكل ده 

ضحك رائد بسخرية قصيرة خالية من الدفء:

– تهدى؟! دي واحدة كانت بتهرب من نفسها قبل ما تهرب مننا!
ومهما حصل... أنا أبوها، وأنا آخر حد هيتحاسب على اللي وصلت له.كل دى مؤامرة 

مالت يقين عليه، تهمس بصوتٍ مبحوح كي لا يصل لما خلف الباب:

– اسمعني يا رائد... لو دخلت عليها دلوقتي، هتخسرها أكتر.
خليك عاقل مرة واحدة... واديني فرصة أكلمها أنا الأول.و بعدين ادخل براحتك بعدها 

كان صدره يعلو ويهبط كأن النار تخرج مع كل شهيق، لكنه لم يزِحْها عن طريقه بعد. عاد ينظر للباب، ثم قال بنبرة خافتة عصية على التفكك:

– لو ما فتحتش لي الطريق بعد دقايق... أنا هدخل بطريقتي.و هطربقها فوق الكل 

استدارت يقين نحو الباب بخطًى ثابتة، ووضعت يدها على المقبض، ثم التفتت إلى شامل وهمست بتحذير مقنّع:

– إمشي دلوقتي... وجودك هيولّع الدنيا.انا هتصرف 

لم يجب، فقط أزاح بصره عنهم ومشى ببطء، بينما قلبه يلتصق بالباب كأن روحه تُركت هناك معها.

وبقي رائد واقفًا، يختنق من الداخل، ينام غضبه فوق ملامحه كخنجر مقلوب، ينتظر... لا يعرف أيدخل كأب، أم كقاضٍ، أم كجلادٍ بهذا القدر من العجز.
و ما أن رأي شامل اختفي حتي ترك الأمر ليفين فتحت يقين الباب و لم تجد نيرفانا خلفه .

---

قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
كان ما زال صدى كلمات يقين يطارد أذنه وهو يهبط الدرج بخطوات متوترة، يكاد يسقط من ثقل رأسه لا من علو السلالم. لم يعد إلى الباب الذي جاءت منه، ولم يلتفت إلى أين اختفت، بل مضى كمن يفرّ من نفسه، قبل أن يفرّ من الآخرين.

اجتاز الردهة الطويلة بصمتٍ حاد، يدفع الباب تلو الآخر دون وعي، إلى أن توقفت يده تلقائيًا عند مقبض غرفته الخاصة... غرفتها هي.

كان الباب مواربًا، كأن أحدهم ترك له فرصة دخول لا عودة بعدها.

دفعه ببطء، ودخل.

كانت ليلى مستلقية على الفراش، وجهها شاحب، جسدها ساكن كأنّه قد انسلّ منه اليقين، لكن عيناها كانتا مفتوحتين على اتساعهما، تترقبان صوته كما تُراقب السفينة هبوب العاصفة.

دخل رائد بخطى واثقة، لكنه ما إن وقعت عينه عليها حتى تلكأ، كأن الذنب جذبه من عنقه. توقف في منتصف الغرفة، يحدّق فيها، لا يعرف من أين يبدأ.

قالت هي بصوتٍ مبحوح، دون أن تنظر إليه:

– لسه عندك كلام؟!

اقترب خطوة، ثم قال:

– عندي كتير... بس مش عارف لو ينفع يتقال دلوقتي.

ضحكت ضحكة قصيرة، مُرّة، ثم أضافت:

– طب خليه لبعدين... لما نكون ناس تانية... أو يمكن لما أكون نسيت.

أطرق رأسه، وكأن تلك الجملة سحبت الأرض من تحته، ثم همس:

– أنا ماكنتش ناوي أوجعك...

– بس وجعت، يا رائد... جرحت، وخلّيت فيا كسر مش بيتصلّح.
لم تلتفت نحوه فورًا، بل رفعت رأسها بثقل، وعيناها شاحبتان كأنهما خرجتا من قبر. قالت بصوتٍ مكسورٍ لكنه ثابت:

– لو جاي تخلص عليّا... خلّص من غير مقدمات. أنا مش همنعك... ولا هترجّاك. يمكن هي تكون أرحم من العيشة دي... بعد اللي عرفته.

توقّف هو في منتصف الغرفة، وانحنى قليلًا كمن يتصنّع الدهشة:

– إنتي بتقولي إيه يا ليلى؟! أقتلك إزاي؟ ده إنتي مراتي يا حبيبتي! إزاي أعمل كده؟!

ثم أردف، وهو يرمي ببصره إلى بطنها دون أن يخفيها:

– وبعدين... قصدك علي الإجهاض انا خلاص غيرت رايي   ده أنا مستني اللحظة دي من زمان. ومش ممكن أضرّك... خصوصًا وإنتي شايلة حتّة مني... يمكن بعدين.

رفعت رأسها أكثر، وكأن الشجاعة انبثقت من قاع الألم، وقالت بشراسةٍ يغمرها القهر:

– أنا  بقي اللي مش هخلّف منك! سامع؟! لا أنا ولا أي حاجة تربطني بيك... سواء كنت عايشة أو ميّتة، يا مجرم! فاكر ربنا هيسيبك؟ عقابك ابتدى من يوم ما بنتك اتخطفت... ولسه، ياما هتش—

– إخرسي!!

قاطعها بصرخةٍ دوّت في الجدران، ثم انقضّ عليها، قبض على فكّها بأصابعه الغليظة حتى كاد يُحطّمه.

رفعت نظرها إليه، لأول مرة منذ بدء الحوار، وقالت بهدوء أشد من الغضب:

– ماعدش يهمني اسمع. اللي في بطني، ده يخصني . وده الشيء الوحيد اللي بيننا دلوقتي.

انكمش وجهه كأنّها صفعة، ثم نهض فجأة، قال بصوت جاف:

– تمام... بس مش هسيبك، ولا هسيبه. ومش هخرج من حياتك، حتى لو كنتي عايزة كده.

ثم استدار وغادر، وترك خلفه الباب مواربًا، والهواء مشبعًا برائحة الألم، والندم، والوجع العالق في العيون.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
كان الباب ما يزال مواربًا حين خرج رائد، فأغلقه وراءه دون أن يلتفت، وقد أثقلته الكلمات أكثر مما أنهكته المواجهات.

في الردهة الضيقة، كانت "يقين" تقف في الظل، لا تتحرك ولا تتنفس إلا بالقدر الذي يُبقيها يقظة. كانت قد لحقت به بعد مشادتهما، مدفوعةً بقلق لا تعرف كيف تطفئه، ولم تتوقع أن تراه يخرج من عند ليلى بهذه السرعة.

اقتربت من الباب بخطوات حذرة، وضعت أطراف أصابعها عليه كأنها تتحسس نبض المكان، ثم أسندت جانب وجهها إليه ببطء، تصغي لما تبقى من الصمت أكثر مما تصغي للأصوات.

وحين سمعت وقع خطواته يبتعد في الممر، ابتعدت بدورها خطوة قصيرة، كأنها لا تريد أن تترك أثرًا لوجودها.

رفعت رأسها لنفسها، وهمست بحزم يخرج من قلبٍ مثقل:

– لو ما عرفش أن بنته اختفت تاني . همر حياتنا كلنا  

استقامت في وقفتها، وأمسكت مقبض الباب برفق، كأنها تستأذن قلبًا مكسورًا لا بابًا مغلقًا، ثم بدأت تتحرك نحوه بنيةٍ لم تعد تعرف التراجع، وهي تدرك أن ما بعد هذه العتبة... لا يشبه ما قبلها.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

كانت أنفاسها تتلاحق كأنها تلهث تحت الماء، وباب الغرفة ما زال يهتز قليلًا من أثر خروجه. لم يلتفت. لم يتوقّف. لم يترك حتى كلمة تُسكِت العاصفة التي فجّرها صمته.

جلست "ليلي" على طرف السرير، وراح جسدها يرتجف بلا إرادة، كأن الأرض انزلقت من تحتها فجأة. رفعت يديها إلى وجهها، لكن الدموع سبقتها، سالت حارّة، محرِقة، لا تخفي شيئًا.

همست باسمٍ لم يعد يُنقذها:

– رائد... إنت إزاي تعمل فيا كده؟

كانت صوته البارد ما زال يرن في أذنها، وتعبير وجهه الخالي من أي انفعال يطعنها أكثر من أي كلمة جارحة. لم يصرخ. لم يلوم. فقط نظر إليها كأنها شخص عابر... شخص لم يَعُد يعنيه.

وضعت كفها على صدرها، تحاول تهدئة الخفقان الذي يوشك أن يمزّقها، ثم شهقت بصوتٍ مبحوح وهي تنطق بكلمات تتقطّع بينها العبرات:

– أنا عملتلك إيه؟ أنا قصّرت في إيه؟ ليه بتبُصلي كإني غريبة... كإني مش مراتك؟

انزلقت على الأرض ببطء، وأسندت ظهرها إلى جانب السرير، احتضنت ركبتيها، وانفجرت في بكاءٍ صامتٍ أولًا، ثم تفجّر الصوت من بين شفتيها كأنها تُنتزع انتزاعًا.

حاولت أن تكتم شهقاتها، لكن الخذلان كان أعلى من قدرتها على الكتمان. وبرغم الوحدة التي ملأت المكان، ظلّت عيناها معلّقتين بالباب... تنتظر أن يُفتح، أن يعود، أن يلتفت، أن يُنقذ ما تبقّى منها.

لكنه... لم يعد.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

وقفت "نيرفانا" في مكانها بعد أن ابتعدت السيارة، قدماها مغروستان في الأرض كأنهما فقدتا فكرة الحركة. الهواء من حولها كان ثقيلًا، والرعشة التي سرت في أطرافها لم تكن من البرد، بل من الضربة التي مزّقت ما بقي من وهم السيطرة.

شعرت لوهلة أن روحها انفصلت عنها، تهوي في فراغٍ سحيق، ترتطم بمرآة نفسها فلا تعرفها. كيف وصلت إلى هنا؟ كيف صار جسدها حبلًا يلتفّ حول عنقها بإرادتها، وصوت الضحكة الخبيثة يتردّد في رأسها كأنها لا تزال جالسة أمامه؟

كانت الصور ما تزال عالقة في عينيها، كأنها محفورة تحت جفنها، لا تُمحى بالصراخ ولا بالنسيان. دسّت أناملها في شعرها بعنفٍ بلا وعي، ثم أسندت يدها إلى قلبها كأنها تكتم انفجاره.

نظرت حولها أخيرًا، فلم تجد أحدًا. الشوارع كانت فارغة إلا من صدى خطواتها، والليل بدا كأنه يغلق عليها الباب من الخارج، رافضًا أن يشهد لحظتها المُذلّة. رفعت ذقنها إلى أعلى رغم الارتجاف، تحاول أن تتشبث بما تبقى من كبريائها، لكن الخزي كان أسرع، يتسرّب تحت جلدها، على وجنتيها، وفي عينيها التي لم تعد تعرف هل تحرقها الدموع أم الحقيقة.

همست لنفسها بصوتٍ مبحوح، أشبه بنزيف:

– أنا عملت إيه بنفسي؟!

ثم خطت خطوة واحدة… فقط خطوة، لكنها كانت كمن يجرّ خلفه ثقل العالم.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
في زاويةٍ معتمة من الشارع، كانت "يقين" تقف منذ دقائق، تراقب الطريق بعينٍ يقظة  بسبب قلقها من عدم وجود نيرفانا ، لكن حدسها كان يختنق في صدرها مثل حجر ثقيل. لمحت السيارة وهي تبعد قليلًا عن المكان، وعبر زجاجها الخلفي لمحَت ظلًّا يشبه "شامل"، لكنها لم تكن قادرة على الجزم، فاكتفت بالترقّب.

وما إن رأت "نيرفانا" تترجّل من جهة بعيدة، تمشي بخطواتٍ متعثرة، تحمل تعبًا لا يناسب المسافة التي قطعتها، حتى اتسع صدرها بالريبة. تقدّمت بسرعة نحوها، تناديها بصوتٍ حاولت أن تخفي فيه ارتجافها:

– نيرفانا! مالك؟ كنتي فين؟!

رفعت "نيرفانا" وجهها نحوها ببطء، عيناها تقدحان صدمةً لا ملامح لها، وشفتيها ترتجفان من أثر ما مضى لا من البرد. ساد الصمت لحظة، كأن الكلمات تخشى الخروج، ثم قالت بابتسامة مُشقوقة بطعم الرماد:

– كنت مع واحدة... كنت فاكرة إنها بتحبني.

لم تفهم "يقين" المعنى، لكن قلبها انقبض فجأة، كأن تلك الجملة وحدها اعتراف وشتيمة، سرّ ومصيبة، بداية سقوط لا تعلم عمقه.

وبينما كانت تبحث عن كلمة تخرج بها من هذا الفراغ، كانت "نيرفانا" تنظر إلى الأرض... كأنها تخشى أن ترفع عينيها فتسقط دمعتها قبل قدَمها.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
كان البيت يختنق بصمتٍ ثقيل، لا يُشبه صمت الليل خارج الجدران، بل صمت ما قبل الانفجار. في تلك اللحظة، لم يكن أحد يدري أن "نيرفانا" قد دلفت للتوّ من الباب الخلفي بصحبة "يقين"، وأن خطواتهما المرتبكة كانت تشق الممر دون أن ينتبه لهما أحد.

تعليقات