رواية قلب السلطة الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم مروة البطراوي


 رواية قلب السلطة الفصل الخامس والثلاثون 

كان البيت يختنق بصمتٍ ثقيل، لا يُشبه صمت الليل خارج الجدران، بل صمت ما قبل الانفجار.
في تلك اللحظة، لم يكن أحد يدري أن "نيرفانا" قد دلفت للتوّ من الباب الخلفي بصحبة "يقين"، وأن خطواتهما المرتبكة كانت تشق الممر دون أن ينتبه لهما أحد.
و لكن هناك من رأتهم 
كان واقفًا عند طرف الردهة، متيبّس الجسد، كأن الزمن تجمّد حوله. لم يسمع سوى صدى أنفاسه وهي ترتدّ عن الجدران الباردة. ثم انشقّ الصمت فجأة بصوتٍ خرج من حلقه متوتّرًا كالسهم إذا انطلق من وترٍ مشدود:

ـ بتقولي إيه يا دادة غالية؟ قولتي إيه؟؟

تحرك بخطى متسارعة، كل خطوة تحمل ارتجافة السؤال قبل أن يكتمل في فمه. كانت غالية واقفة كعادتها بثباتٍ صبور، عيناها تشعّان بمزيج من الحذر والمودّة، كمن يعرف أنه على وشك أن يفتح بابًا على ماضٍ موجع.

قالت بصوتٍ هادئٍ فيه لمحة حنوّ:
ـ بقول لحضرتك الهانم الصغيرة رجعت.
الآنسة نيرفانا يا رائد بيه... رجعت.
ألف حمد لله على سلامتها.

تجمّد، كأن الكلمات اخترقت صدره ولم تجد مكانًا تستقر فيه. ظلّ صامتًا لحظةً، ثم ارتفع صوته مجروحًا بالدهشة والحنين:
ـ فيــــن؟ هي فيــــن؟؟

أشارت غالية بيدٍ خفيفة نحو الباب الخارجي، والرجفة في أصابعها لم تكن من خوف، بل من وطأة الموقف، من إدراكها أن اللحظة أكبر من قدرتها على التفسير.

ـ تحت... تحت مع يقين هانـ...

لم تكمل، إذ مرّ بجوارها اندفاعًا، كأن كل المسافات بينه وبينها قد تقلّصت في ثانية. هو لم يركض، بل انزلق خارج الردهة كريحٍ تُزاح عنها القيود. حدّقت غالية فيه وهو يختفي عند العتبة، وضعت يدها على صدرها، تمتمت بصوتٍ متكسّر:
ـ يا رب ما يكونش قلبه اتكسر زيادة... دي بنته، وحيته، وروحه الراجعة.

---
💜 قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

في الأسفل،
وقفت "نيرفانا" في منتصف الردهة، تُمسك بجانب الحائط كأنها تستند على ما تبقّى من قوتها، تنفُسها متقطع، ونظرات "يقين" تلاحقها بقلقٍ صامت.
كانت نيرفانا واقفة جوار يقين، عيناها مغرورقتان بالدموع، غير أن ظهرها ظلّ مستقيمًا، كأنها تُقاوم الانهيار بآخر ما تبقّى فيها من كِبَر. كان وجهها شاحبًا، لكنه لم يفقد تلك المهابة الهشّة التي تشبه أثر النار بعد انطفائها.
ارتجف صوت نيرفانا وهي تندفع نحو يقين  بعاطفةٍ مضطربةٍ لا تقوى على اتّزان، كأنها لا تصدّق ما بين يديها:

ـ يا حبيبتي يا غالية... يا روح عمتك، وحشتيني أوي! حمدًا لله... حمدًا لله على سلامتك... أنا مش مصدقة نفسي!
ابتسمت يقين  والدمع يوشك أن يفيض، 

وفجأة، رفعت "نيرفانا" رأسها ببطء، كأنها تشعر بظلٍ قادم قبل أن تراه، كأن شيئًا في الهواء تغيّر...
لكن قبل أن تكتمل اللحظة انشقّ الصمت بصوتٍ واحدٍ، حادٍّ، مألوفٍ، يخترق الهواء كالرعد:نيرفانا!
تسارعت خطواته على السلّم، تتلاحق كأن الزمن نفسه يدفعه دفعًا، وكل ما فيه يهتف بصمتٍ محتدم:
نيرفانا... نيرفانا!
تجمّدت الكلمة في المكان، كأنها صرخة أيقظت التاريخ من نومه. التفتت نيرفانا نحو مصدر الصوت، فرأته... رائد.
وما إن لمحَتْه حتى شهقت شهقةً مكتومة، رفّت جفونها كمن رآى حلمًا ظنّه مات، فعاد ينبض أمامه على حين غِرّة.
كان يهبط الدرج بخطواتٍ مضطربة، أشبه بمن يجذبه الشوق أكثر مما يحمله الغضب. كان كأنّ الأرض تطوى تحت قدميه، لا يمشي بل يُساق، والريح تسنده من كل جانب.
ثم دوّى الباب الرئيسي كالرعد.
ارتطم الباب خلفه بعنف، وانطلق "رائد" عبر الممر بخطوات متسارعة.
النار ما زالت تغلي في صدره، لكن الاسم الذي سمعه كان يشق غضبه كما يشق البرق قلب الظلام.
لم ينتظر، لم يُجِب أحدًا، ولم يلتفت لللخدم الذين ابتعدوا فور رؤيته.
كان يتجه كأن شيئًا يجذبه بقسوة إلى البهو.

في تلك اللحظة، تجمّدت "يقين" في مكانها، عيناها تتسعان بخوفٍ لا تعرف لمن يوجَّه أكثر — لرائد الغاضب أم لنيرفانا المنهكة. شعرت كأنها ترى الشرارة الأولى قبل اشتعال النار، لكنها لم تملك سوى أن تبتلع صرختها وتنتظر المصير.
وهناك... توقّف الزمن.

في بهو القصر، كانت "نيرفانا" واقفة، ليست منكسرة، لكن منهكة. كتفيها متصلّبتان، شعرها مبعثر، ملامحها منهوبة من أثر ليلةٍ لم يعرف تفاصيلها بعد. ثوبها غير متّسق، يحمل طيّاتٍ وأثر احتكاك، كأن أحدهم أمسكها بعنف ثم أفلتها على مضض.
في لحظةٍ خاطفة، كان أمامها. لم تجد وقتًا للكلام، ولا لالتقاط أنفاسها
اقترب منها، وتوقف لحظةً كانت أطول من العمر نفسه، لحظةٌ يتصارع فيها الشوق مع الخوف، والعمر الضائع مع الرجفة الأولى لرؤيتها.
تعلّقت عيناه بملامحها، كأنه يحاول أن يعيد ترتيب وجهٍ يعرفه منذ الأزل، وجهٍ كان يومًا ضحكته الصافية وصدى قلبه الصغير.

همس بصوتٍ مبحوح، كأن الحروف تخونه من شدّة الارتجاف:
ـ إنتِ؟... نيرفانا؟
اجتذبها بعنفٍ نبيل، واحتواها في حضنٍ لا يشبه سواه، كأنّما يعيد لضلوعه ترتيبها، وكأنّه يخشى أن تذوب لو تركها ثانية.
احتضنها بقوةٍ مفرطةٍ حتى كادت أن تختنق، بينما خرجت منه تنهيدةٌ طويلة، كأنها أنفاس عمرٍ من الانتظار.

ها هي بين يديه من جديد... تنبض، تتنفس، تحمل رائحتها القديمة، وتغرس في صدره الطمأنينة التي لم يعرفها منذ اختفائها.
لكن فجأة، ارتجف صوتها المبحوح:
ـ دادي... بليز... مش قادرة آخد نفسي...
كأن الكلمة صفعت وعيه. فتح عينيه واتّسعتا دفعة واحدة، ارتدّ قليلًا إلى الخلف، فك ذراعيه، فشهقت هي شهقةً قصيرة، تستعيد أنفاسها التي سُرقت.
ظلّ ممسكًا برسغيها، عيناه تبحثان في وجهها عن أي يقين، لكن ما وجده كان مزيجًا من الارتباك، والوجع، والذنب.
صوته خرج خشنًا، مخنوقًا بغضبٍ لا يعرف أين يبدأ:
ـ كنتي فين؟!

ثم تبعها بعجلةٍ متوترةٍ، كأنّ الأسئلة تسابق أنفاسه:
ـ جاية منين؟ وإزاي مشيتي؟ كنتي مع مين؟! إنطقي!

ارتجفت شفتاها، وارتسمت ابتسامة خفيفة امتزجت بالدمع، ثم قالت بصوتٍ متهدّج:
ـ أنا... أنا رجعت يا بابا.
آسفة... آسفة أوي.
لم يحتج إلى تفسير، ولا إلى سؤالٍ عن الغياب.
مدّ ذراعيه واحتواها، لا كأبٍ يضم ابنته فقط، بل كمن يحتضن عمرًا ضاع منه وعاد متأخرًا، وطنًا رجع بعد نفيٍ طويل.
انهارت شهقاتها المكتومة على صدره، بينما كانت يقين خلفهما، تضع يدها على فمها، والدموع تتسلّل من عينيها بلا صوت.
كان المشهد أكبر من كل الكلمات، وأصدق من كل التبريرات، كأن الزمن نفسه توقّف احترامًا لهما.
ارتعشت نيرفانا، رفعت عينيها نحوه، وصوتها بالكاد يُسمع:
ـ دادي... أنا كنت مخطوفة. أكيد إنت عارف... مش كده؟
أمسك كتفيها بقوةٍ، وقال بنبرةٍ تفور بالهلع:
ـ مين اللي كان خاطفك؟! وإزاي رجعتي دلوقتي؟! وإيه اللبس ده؟!
نظر إلى ملابسها، مزيجًا من القلق والذعر في عينيه، كأنّه يرى أمامه شيئًا غريبًا لا ينتمي لابنته.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
تجمّد في مكانه لحظة، كأنه يخشى أن تذوب إن اقترب. تقدّم خطوة... ثم ثانية، لكن قبل أن تمتد يده نحوها، رفعت كفها فجأة، بصوتٍ لا يحتمل المساس ولا الأسئلة:

– قبل ما تلمسني... فيه حاجات لازم تعرفها.
تراجعت خطوة، تلعثمت:
ـ أنا... أنا هقولك كل حاجة، بس بليز...

كانت الجملة كحد السكين، لا ترتجف، وإن ارتجف قلبها.
ووقف هو، بين الصدمة والغضب والريبة، كمن يمشي على جدار بين الحياة والموت.

---
💜 قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

ظلّ صوته محبوسًا في صدره لحظات، قبل أن ينفلت خشنًا، متوترًا، كأنه خرج من بين أسنانه:
– تعرفيني  إيه؟!
اقترب خطوة، نظراته تشتعل، وصدره يعلو ويهبط كمن يحبس عاصفة.
– كنتي فين يا نيرفانا؟!

لم تجبه فورًا.
نظرت نحوه بثباتٍ هادئ ظاهريًا، لكن عينيها كانتا تحملان وجعًا يذوب تحته الجليد.
قالت بصوتٍ خافت لكنه واضح:
– كنت في مكان... ماينفعش يتعاد.
– يعني إيه ماينفعش؟! – صرخ وهو يقترب أكثر – أنا بسألك كنتي فين!

– متقربش، – قالتها وهي ترفع كفها للمرة الثانية، هذه المرة ترتجف قليلًا –
مش كل اللي بيحصل لي لازم تعرفه، يا رائد.

ضحك ضحكة قصيرة حادّة، أشبه بشهقة غضب:
– لا... أنا لازم أعرف.
– ليه؟ علشان تبقى مطمّن إنك لسه مسيطر؟

كلماتها ضربته في موضعٍ لم يتوقعه، فصمت لحظة، ثم قال بصوتٍ غليظٍ منخفض:
– مسيطر؟
انتي فاكرة إن اللي بينّا لعبة سيطرة؟ أنا كنت هموت وأنا بدوّر عليكي!

– وأنا متتّ! – انفجرت فجأة، صرختها تملأ البهو كأنها كسرت جدارًا سريًا –
بس الفرق إني رجعت من غير روح!

عمّ الصمت بعد كلماتها، ثقيلًا، يخنق حتى التنفّس.
تراجعت "يقين" خطوة للوراء، وكأنها تخاف أن تلامس تلك النار المشتعلة بينهما.

اقترب "رائد" ببطء، نظراته تهتزّ بين القلق والشكّ، وصوته صار أكثر هدوءًا، لكنه حادّ كنصل:
– حد لمسِك يا نيرفانا؟

تجمدت، كأن السؤال طعنة لا صوت لها. نظرت إليه طويلًا، ثم قالت ببطءٍ متزنٍ رغم رجفة شفتيها:
– في حاجات... متتقالش، مش علشان بخبي، لكن علشان لو قلتها... مش هتعرف تكمّل بعدها.

تنفّس "رائد" بعمق، كمن يبتلع سمًّا وهو يعلم أنه لا مفرّ.
اقترب منها أكثر، وقال بصوتٍ منخفضٍ خائفٍ مما سيأتي:
– قوليلي... أنا هستحمل.

أغلقت "نيرفانا" عينيها لحظة، ثم فتحتها والبرود يكسو ملامحها كقناعٍ من جليد:
– مش دايمًا الرجولة إنك تستحمل الحقيقة... أوقات الرجولة إنك تعرف إمتى توقف عندها.

---
💜 قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

تراجع "رائد" خطوة، كأن الهواء نفسه ضاق عليه.
نظر إليها طويلًا، بعينين لا تعرفان أين تضعان الغضب ولا كيف تُسكِتان الوجع.
صوته خرج مبحوحًا، مكسورًا بطعم الخوف:
– انتي بتتكلمي معايا كده ليه يا نيرفانا؟
أنا أبوكي... فاهمة يعني إيه أبوكي؟

ردّت بهدوءٍ غريب، كأنها فقدت القدرة على الانفعال:
– عارفة... يمكن علشان كده ساكتة من بدري.
لو كنت غيرك... كنت قلت من زمان.

اقترب منها بخطواتٍ ثقيلة، عيناه تبحثان عن صدقٍ يطمئنه فلا يجد.
قال بصوتٍ متكسّر:
– قولِيلي حصل إيه... مين كان معاكي؟

نظرت إليه، لا دمعة ولا كلمة.
فقط صمت طويل... فيه وجع الأنثى وانكسار الطفلة معًا.
ثم قالت بصوتٍ خافتٍ كأنه يأتي من قاع روحها:
– فيه حاجات يا بابا... لو قلتها مش هتعرف تبصلي تاني.

شهق كأنه تلقّى الطعنة بالفعل، رفع يده ليقول شيئًا ثم أسقطها عاجزًا.
كل ما كان فيه من صرامة ذابت في لحظة.
اقترب أكثر، بصوتٍ مبحوحٍ مليء بالرجاء:
– أنا مش هاحاسبك يا نيرفانا... أنا بس عايز أفهم.
هو أذاكي؟

انخفض رأسها، وانكمشت كتفاها كمن يحتمي من ذكرى أكثر من كلمة.
لحظة صمتٍ طويلة، امتدت حتى كادت تبتلع البيت كله.
ثم هزّت رأسها ببطء، لا نفيًا ولا اعترافًا...
بل انكسارًا كاملًا.

تراجع "رائد" خطوة للخلف، كأن الأرض سحبت منه القدرة على الثبات.
مدّ يده إلى الحائط ليتكئ، بينما كانت "يقين" تراقبهما من بعيد، ودموعها تختنق في عينيها.

نظر إلى ابنته أخيرًا، وقال بصوتٍ مبحوحٍ بالكسر لا بالغضب:
– اللي عمل فيك كده... مش هيعيش.

رفعت "نيرفانا" رأسها ببطء، والبرود يعود كدرعٍ على وجهها:
– لو موتّه يا بابا... هتموّت البنت اللي كانت فيّ كمان.

سكت.
البيت كلّه سكت.
والأب أدرك أنه أمام شيءٍ لا تُعالجه القوة... بل يكسره الصمت.

---
💜 قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 أنفاس "يقين" علقت في حلقها، لا تعرف إن كان عليها أن تقترب أم تختبئ خلف الجدار.
نظرت إلى "رائد"، كان واقفًا كتمثالٍ من حجر، عيناه لا تعرفان كيف ترى ابنته بعد الآن، ولا كيف تُبعد عنها الكارثة التي تحيط بها.
تقدّمت يقين من الخلف، بصوتٍ حانٍ حاول أن يكسر حدّة الموقف:
ـ رائد، ممكن نأجل الكلام شوية؟ البنت مرهقة، محتاجة ترتاح...
ثم اقتربت "يقين" ببطء، خطواتها حذرة كأنها تخشى أن تثير الغبار فوق جرحٍ مفتوح.
قالت بصوتٍ خافتٍ مرتجف:
–  رائد... لو سمحت، كفاية كده.

التفت نحوها ببطء، نظرة واحدة منه كانت كافية لتجعلها تتراجع نصف خطوة
قال بصرامةٍ لم يخلُ منها الارتجاف:
ـ اسكتي يا يقين! مش هيحصل. عايز أسمع منها... دلوقتي حالًا!

ثم استدار نحوها ببطءٍ شديد، وصوته صار أكثر قسوةً:
ـ ولو طلع شكي في محلّه، وإن ليلى ليها يد في اللي حصل... هيبقى في كلام تاني خالص!
، لكنها لم تصمت.

شهقت يقين، وردّت بعصبيةٍ لا تخلو من الألم:
ـ إنت جننت؟! ليلى تعمل كده؟ مستحيل!

تابعت وهي تحاول أن تُخفي خوفها خلف حنانٍ متماسك:
– نيرفانا محتاجة أمان دلوقتي... مش أسئلة.

لم يُجب.
كل ما فعله أنه نظر إلى ابنته طويلًا، كأن عقله يبحث عن شيء يثبّت الصورة التي تتهاوى داخله.
قال أخيرًا بصوتٍ خافتٍ مبحوح:
– أمان؟
هو في أمان بعد اللي حصل؟
أنا مقدرش أعيش وأنا مش عارف الحقيقة.

اقتربت "يقين" خطوة أخرى، قالت بحذرٍ يشبه الرجاء:
– في أوقات يا رائد .. الحقيقة بتوجع أكتر من الجهل بيها.
خلّي بالك منها دلوقتي، وبعدها... تبقى تواجه أي حاجة مع بعض.

كانت "نيرفانا" واقفة صامتة، كتفيها متشنّجين، عيناها معلقتان بالأرض كأنها تخشى أن تنظر لأي وجهٍ فيه شفقة.
قالت بهدوءٍ مطفأ:
– مش عايزة حد يواسيني.
بس لو هتعملوا معروف... انسوا اللي حصل النهارده.

صرخت "يقين" رغم خوفها:
– نيرفانا! متقوليش كده!
– لأ، هقول، – أجابت بهدوءٍ قاطع –
لأن كل ما نفتكر... بنموت تاني.

انحنى "رائد" بيده على رأسه، أصابعه ترتجف، وصدره يعلو ويهبط كمن يقاوم الانفجار الأخير.
همس بكلماتٍ بالكاد تُسمع:
– إزاي وصلتوا للدرجة دي... وإزاي أنا ما كنتش شايف؟

اقتربت منه "يقين"، تضع يدها بخوفٍ على ذراعه:
– اللي حصل خلّانا كلنا نفتح عينينا... بس لسه في وقت نلحقها.
رمقها بنظرةٍ باردة، كأنها حجر:
ـ ليلى مش بريئة زي ما بتظني. اكتِمي بقى، أنا اللي بتحكم هنا.

ثم عاد إلى نيرفانا، عينيه تتوهجان بالأسئلة:
ـ اتكلمي... مين اللي عملها؟ مين؟!

كانت واقفة كتمثالٍ من رماد، تحاول أن تُخفي ارتعاش يديها. هل تقول الحقيقة؟ لا. إن قالتها، خسرته للأبد.

فخرجت الكذبة من بين شفتيها كأنها استغاثة:
ـ مس ليلى!

صمتٌ مميت.
ارتسمت على وجه رائد ابتسامةٌ هادئة، لكنها مشبعة بظلال انتصارٍ قاتم:
ـ سمعتي يا يقين؟

تقدّمت يقين، مذهولة، تنظر إليها كأنها لا تعرفها:
ـ نيرفانا! بتقولي إيه؟ متأكدة؟ عرفتي منين؟! دي ليلى ما خرجتش من البيت من ساعة ما اتجوزت أبوكي!
ابتلعت ريقها بصعوبة، قالت بصوتٍ متقطّع:
ـ ما شوفتهاش... بس سمعت اللي كانوا بيحرسوني بيكلموها في التليفون.

ـ كلموها إمتى؟ أول ما خطفوكي؟
ـ أيوه... أول ما خدوني من قدام المدرسة .

ارتفع حاجب يقين، بانتباهٍ حادّ:
ـ إزاي؟ ما أنتي كنتي اكيد  متخدّرة! سمعتي إزاي؟!

ارتبكت نيرفانا، ثم قالت سريعًا:
ـ ما كنتش شايفة... بس كنت سامعة... وحاسة!

رفع نظره إليها، نظرة رجلٍ خسر كل شيء إلا الأمل الأخير، وقال بصوتٍ مكسور:
– يا يقين... لو كنتي بتقدّري قد إيه البنت دي أغلى من عمري، كنتي عرفتي إن اللي هيحاول يقرّب منها تاني... أنا اللي هقرّب منه أول.

تراجعت "نيرفانا" خطوة، وصوته يضربها كصفعةٍ غير مقصودة.
لكنها لم تبكِ... لم تصرخ... فقط قالت بجمودٍ تام:
– خلاص يا بابا، متخافش.
اللي كان... مش هيتكرر.
انطفأت الشكوك قليلًا من وجه يقين، وارتسم ارتياحٌ زائفٌ في عيني رائد. لكنها، لتمنع السؤال القادم، قالت بصوتٍ ضعيف:
ـ دادي... أنا جعانة أوي... ممكن نتكلم بعدين؟

تأمله برهة، صوته هذه المرة أخفّ، لكنه لا يزال مقيّدًا بالشك:
ـ هتاكلي وتستريحي... بس قبل كده، لازم أعرف كل حاجة.

زفرت تنهيدةً مرهقة، ثم همست:
ـ أوك... بس تبعت حد يحاسب سواق التاكسي اللي واقف تحت؟ هو اللي وصّلني لحد هنا.

حدّق فيها لحظةً، ثم قال:
ـ جيتي في تاكسي؟ كويس... أنا هطلعله بنفسي.
ثم التفت إلى يقين، بنبرةٍ صارمةٍ قاطعة:
ـ خَلي الخدم يحضّروا الأكل لنيرفانا، وخلي بالك منها... لحد ما أرجع.
أما نيرفانا، فظلت في مكانها، ترتجف، والفراغ من حولها يضيق، تخشى أن تنهار تفاصيل الكذبة قبل أن تهدأ العاصفة.

ثم استدارت ببطء، وخرجت من البهو، تاركة خلفها صمتًا يشبه العزاء.

وقف "رائد" مكانه لا يتحرك، وعيناه معلّقتان بالباب الذي خرجت منه، كأنه يراقب آخر ما تبقّى منه يغادر.
وغادر بخطواتٍ متسارعةٍ، كأن الأرض نفسها تضيق بما في صدره.
أما "يقين"، فظلت واقفة في المنتصف... بين أبٍ انهار من الداخل، وبنتٍ انكسرت دون أن تسقط.

---
💜 قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

كانت الخطوات الخافتة تُسمع من آخر الممر، قبل أن يظهر ظلّها من جديد، شاحبًا، متردّدًا، كأنها لم تخرج إلا لتعود.
رفعت رأسها بغتة، وصوتها انفلت من بين شفتيها كطلقةٍ ضائعة في صمتٍ خانق:

– نيرفانا... رجعتِ؟

كان السؤال محمّلًا بدهشةٍ لم تُحسن الاختباء، وبنبرةٍ مشروخة بين الرجاء والذهول.
وفي اللحظة التالية، انسلت الجملة كأنها اقتُطِفَت من صفحةٍ مطويّةٍ في روايةٍ قديمة، نُزِعت على عجلٍ من سياقها، وزُرِعت فجأةً في هذا البيت المثقل بالخراب.

كانت تراقبه بصمتٍ ينهش أطراف اللحظة، كأنها تقف على الحافة بين عالَمين:
عالم الحنين الذي لم يَعُد يسكنه أحد، وعالم الواقع الذي بات لا يعرف الرحمة.

عيناها لم تَزِغا، لكن قلبها خفق، خفقةً تشبه التنهيدة الأولى بعد غيبوبةٍ طويلة.
أما هو، فكان كمن فُجِئ بعودة شبحٍ يعرفه جيدًا، ويهاب أن يمدّ يده نحوه، خشية أن يتبدّد أمامه كما يتبدّد الحُلم عند اليقظة.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
أعلى الدَّرج، كانت غالية تراقب من خلف الستار، أنفاسها متقطّعة من فرط التأثّر، لكن عينيها لم تدمعا. ظلّت صامتة لحظة، ثم حرّكت شفتيها همسًا كأنها تناجي سِرًّا لا يُقال:

ـ سبحانك يا رب... اللي بين الأب وبنته عمره ما يموت، حتى لو مرّت عليه سنين الغُربة والجفاء.

ثم أطبقت كفَّها على صدرها، تُخفي ارتعاشها، وعيناها لا تزال معلّقتين بالمشهد في الأسفل؛ مشهد بدا كأنه صلاةٌ صامتة على أطلالٍ عادت تنبض من جديد.

---
في الغرفة التي عبق هواؤها برائحة المطهّرات، وقد خيّم عليها صمت ثقيل لا يقطعه سوى صوت أنفاس ليلى المتقطّعة، انحنت "غالية" فوقها، تربّت على كتفها برفق وقد بدا التعب على قسماتها، وقالت بنبرة مازحة تخفي خلفها قلقاً دفيناً:

– خلاص يا ست الهوانم... خلّصنا أهو!

ثم انتصبت واقفة، تنفض يديها كمن أتمّ مهمة متقنة. غير أنها ما لبثت أن رفعت نظرها إلى "ليلى"، فتلاشت ابتسامتها في التوّ واللحظة، حين أبصرت دمعتين تتساقطان من مقلتيها. ارتسم الذهول على ملامحها، وفغرت فاها قائلة بلهجة مصدومة:

– إيه يا هانم؟! أنا عملت حاجة غلط ولا إيه؟! والله نفّذت تعليمات الدكتور بالحرف، ده غير إني اشتغلت ممرضة قبل كده في المستوصف اللي على ناصية شارعنا! وحق ربنا غيّرت على الجرح زي الكتاب ما بيقول!

رفّت أجفان "ليلى" كأنها تفيق من سبات الوجع، ثم مسحت دموعها بطرف كمّها، وهي تقول بصوت مبحوح كأنما خرج من بين حطام صدرها:

– إنتِ تمام يا دادة غالية... أنا مش بعيط عشان الجرح... في جرح تاني، أكبر، أعمق، هو اللي بيأنّ جوايا.

اقتربت "غالية" منها بخطى حذرة، وجلست على طرف الفراش، وربّتت على يدها بحنوّ أمّ فقدت ابنتها، وهمست بصوت يقطره الوجع:

– سلامة قلبك يا ليلى هانم... قوليلي إيه اللي مِتعبك؟ دا أنا أداويكي بعنيا، إنتي مافيش أطيب منك... ربنا يقومك لينا بالسلامة يا حبيبتي.

ابتسمت "ليلى" ابتسامة شاحبة، أثقلها الإرهاق وكتم الغصّات، وقالت بتعب واضح:

– ربنا يخليكي يا دادة... بس ما تشغليش بالك بيا، أنا هابقى كويسة. روحي شوفي أهل البيت... أكيد محتاجينك أكتر دلوقتي.

هزّت "غالية" رأسها رافضة، وقالت بإصرار وعينان تلمعان بالصدق:

– مافيش أهم منك هنا بالنسبالي، يا ست الهوانم. بصراحة، أنا هتجنّن... إزاي واحدة زيك، بمقامك وعقلك، توافق على الجواز من رائد بيه؟! والله مش داخلة دماغي خالص!

رفعت "ليلى" حاجبيها، وقد بدت مرارة الحقيقة في عينيها كأنها تغلّف قلبها بصقيع من خيبة الأمل، وقالت بصوت خفيض:

– نصيبي يا دادة...

ثم أضافت بدهشة حذرة وقد بدا على ملامحها شيء من الشك:

– بس ليه بتقولي عليه كده؟ المفروض إنه ولي نعمتك... وولائك له!

أطرقت "غالية" قليلاً، كأنها تحسب لكلماتها ألف حساب، ثم رفعت رأسها بثبات وقالت بجديّة لا تخلو من احترام:

– هو فعلاً ولي نعمتي، وولائي له... آه. أنا هنا بشتغل في البيت ده من خمستاشر سنة. رائد بيه ويقين هانم بيعتبروني واحدة من البيت. بس الحق يتقال، مابتعجبنيش طريقتهم في الحياة... شوفت هنا حاجات كتير ما ترضيش ربنا... سكوتي الوحيد إنهم عمرهم ما أذوني، وكنت ماشية على القانون اللي حاطّه رائد بيه لكل اللي بيشتغلوا عنده.

اعتدلت "ليلى" في جلستها، وقد لفت نظرها ما قالته، فسألت بتوجّس:

– قانون إيه ده يا دادة غالية؟!

تنهدت "غالية" تنهيدة طويلة كأنها تنفض عن صدرها عبء سنوات، ثم قالت بصوت أشبه بالاعتراف:

– لا أسمع... لا أرى... لا أتكلم. كل واحد هنا عارف حدوده كويس، ومحدّش يقدر يعمل أكتر من المسموح... وأنا ماشية جنب الحيط على طول. بس...

ترددت قليلاً، ثم أكملت بحزن أكبر:

– بس أهو، عدّيت الحدود لأول مرة النهاردة، وقعدت أتكلم معاكي... أصلك صعبانة عليا، ومش عارفة أعملك إيه! رائد بيه مش سهل، وطالما قسى، ما بيرجعش! بجد، أنا خايفة عليكي يا ست ليلى!

رفّت عينا "ليلى" بامتنان دافئ، وارتسمت على وجهها ابتسامة حقيقية هذه المرّة، وقالت بشفافية خالصة:

– أنا متشكرة جدًا على مشاعرك الغالية دي يا دادة غالية... وبوعدك، محدّش أبدًا هيعرف حاجة عن اللي قلتيه دلوقتي... ما تقلقيش.

هزّت "غالية" رأسها وقد بدت عليها الحيرة ممزوجة بالخوف، وقالت:

– أنا مش قلقانة على نفسي، والله... الناس كلها عارفة حقيقة الباشا، بس محدّش يقدر يقرب منه. أنا بس خايفة عليكي إنتي... البنت الطيبة اللي دخلت على وحش مفترس، وهو مش بيحنّ... مهما حصل!

لكن "ليلى" رفعت نظرها نحو السماء، وكأنها تسلّم قلبها لصبر لا ينفد، ثم تمتمت بيقين راسخ:

– ما تخافيش يا دادة... ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾.

ساد صمتٌ طويل بينهما، صمتٌ لم يكن خواءً، بل كان صلاةً غير منطوقة، واعترافًا مكتومًا، وتلاحمًا بين قلبين من طبقتين مختلفتين، جمعهما الخوف من رجل واحد، والأمل في الله وحده.

وقبل أن تغادر "غالية" الغرفة، التفتت إلى "ليلى" مرة أخيرة، وكأنها تهمس لها وصية غير مكتوبة:

– خلي بالك من نفسك... الدنيا هنا فيها تعابين لابسة حرير، وسُمّها ما بيبانش غير بعد فوات الأوان!

وأغلقت الباب خلفها بهدوء، تاركة "ليلى" وحدها في غرفة تمتلئ بالسكينة الكاذبة... وسرعان ما عادت الدموع تسيل من عينيها في صمت...

---

لكن "غالية" وهي تسير في الممر الطويل، كانت تشعر بثقلٍ غامض في صدرها، كأن قلبها ينذرها بشيءٍ قادم. توقفت لحظة، التفتت نحو باب الغرفة المغلق، ثم تمتمت:
– يا رب استرها عليها...

ثم واصلت طريقها إلى أسفل، لا تدري أن بضع لحظاتٍ فقط تفصلها عن خبرٍ سيبدّل وجه البيت كلّه... خبرٍ يحمل بين طيّاته عودة غابت سنوات، وحنينًا دفينًا سينهض من تحت الرماد.

---
ثم واصلت طريقها إلى أسفل، لا تدري أن بضع لحظاتٍ فقط تفصلها عن خبرٍ سيبدّل وجه البيت كلّه... خبرٍ يحمل بين طيّاته عودة غابت سنوات، وحنينًا دفينًا سينهض من تحت الرماد.

كان واقفًا عند طرف الردهة، متيبّس الجسد، شارد الذهن، حين ارتجّ صوته فجأة كصوت السهم إذا انطلق من وترٍ مشدود:
– بتقولي إيه، دادة غالية؟ قولتي إيــــه؟؟؟

---
في تلك اللحظة، كانت السيارة السوداء تتوقّف أمام البوابة الخلفيّة للبيت.
رجل غريب نزل منها بهدوءٍ محسوب، يرتدي بدلة رماديّة أنيقة ونظّارة سوداء تخفي عينيه، يحمل في يده ملفًّا بنيًّا منتفخ الحواف.
لم يتبادل كلمة مع الحارس، فقط ألقى عليه نظرة واحدة كانت كافية ليفتح له البوّابة دون تردّد.

دخل الرجل بخطواتٍ ثابتة، يتجوّل ببصره في أرجاء المكان كما لو كان يعرفه من قبل، أو كما لو كان يقيس المسافة بين الحقيقة والسرّ.
وقف أمام الدرجات الأولى من المدخل الكبير، وأخرج من جيبه هاتفًا صغيرًا، ضغط على رقمٍ واحد فقط وقال بصوتٍ خافت:

– وصلت. كل شيء تحت السيطرة.

ثم أنهى المكالمة ووضع الملفّ على المنضدة الجانبية في الردهة، قبل أن يخلع نظّارته بهدوء ويقول لنفسه:

– أخيرًا... اللعبة بدأت.

لم يكن أحد يعلم من هو، ولا لماذا جاء في هذا التوقيت بالذات.
لكن القدر، في تلك اللحظة، كان يعيد ترتيب موازينه داخل ذلك البيت.
صرخة "رائد" التي دوّت منذ قليل كانت الشرارة... أمّا هذا الرجل، فكان الوقود الذي سيُبقي النار مشتعلة.

---
كانت لا تزال تلتقط أنفاسها بعد المواجهة العاصفة مع أبيها، حين انفتح الباب الخلفي بخفّةٍ غريبة، كأنّ الريح فقط هي من طرقه.
التفتت نيرفانا بحدسٍ غامض… لم ترَ أحدًا في البداية، لكن شيئًا ما تغيّر في هواء المكان.
رائحة غريبة، تشبه المعدن الساخن، امتزجت برائحة الخوف القديم الذي يملأ البيت منذ الأزل.

ثم رأته.


تعليقات