رواية قلوب لا ترمم الفصل الرابع 4 والاخير بقلم نورهان موسي



 رواية قلوب لا ترمم الفصل الرابع بقلم نورهان موسي 


كانت تقف أمام غرفة الطوارئ التي أُدخل إليها بدر منذ أكثر من ساعة، تحاول عبثًا السيطرة على ارتجاف جسدها وارتعاش يديها وقلبها الذي كان يعصف بداخله الخوف والقلق. انعقد صدرها ألمًا وهي تستعيد في ذاكرتها اللحظة التي استقبل فيها بدر الرصاصة بدلًا عنها، ليسقط بين ذراعيها كجسدٍ هامدٍ، والدماء تنزف منه بغزارة وتغرق الأرض من حولهما. 

شعرت بيدٍ دافئة تُربت على كتفها برفق، فرفعت رأسها لتلتقي بنظرات مراد، الذي حاول تهدئتها، لكن عينيها لمعتا بالدموع التي خذلتها وكادت تنهمر. 

على الجانب الآخر، كانت عائلة بدر غارقة في دوامة من الانهيار والبكاء، وقد بدا الحزن واضحًا على ملامحهم. أما رغدة، فكانت تطالع علياء بنظرات غاضبة حادة، تملؤها الكراهية والاتهام، تراقبها بين الفينة والأخرى بشراسة ظاهرة. 

مرّت دقائق بدت كسنوات، حتى هرع الجميع، ومن بينهم علياء، عندما رأوا الطبيب يخرج من غرفة الطوارئ. تقدمت نحوه بخطوات متعثرة وقلبٍ يكاد يتوقف، وقالت بصوت مرتجف تغلفه رهبة قاتلة: 

– طمّني يا دكتور... بدر عامل إيه؟ 

أجابها الطبيب بهدوء يفتقر للعجلة: 

– ماتقلقيش يا بنتي، هو كويس والحمد لله... الرصاصة أصابت الكتف بس، ودلوقتي هينقلوه على الأوضة. 

كأن ثقلاً هائلاً أزيح عن كاهلها، فتسلل إلى قلبها شعور عارم بالراحة والامتنان. استدارت لتواجه العائلة، لكنها فوجئت برغدة تهجم نحوها، تمسك بذراعيها بعنف وتصرخ بحدة غاضبة: 

– مش خلاص اطمنتي؟ امشي من هنا بقى! كفاية المصايب اللي جت من وراك! 

تصلبت علياء في مكانها، ثم نزعت يديها بقوة من قبضة رغدة، واقتربت منها خطوة بخطوة بملامح مشدودة وشرر الغضب يتطاير من عينيها، حتى اضطرت رغدة إلى التراجع خوفًا. زمجرت علياء بشراسة وهي تعض على شفتيها وتجزّ على أسنانها من الغيظ: 

– مش واحدة زيك اللي تقول لي أمشي... فاهمة؟ ولحد ما بدر يفوق، مش عايزة أسمعلك صوت! 


نظرت رغدة إلى الجميع طلبًا للمساندة، لكنها لم تجد سوى الصمت والبرود في وجوههم، فأدركت أنها وحيدة في معركتها وخاسرة لا محالة، فانكمشت وجلست بعيدًا تراقب الموقف بغضب مكتوم. 

أما علياء، فاندفعت بخطوات مترددة نحو غرفة بدر، يقودها قلبها الذي يتخبط بالألم والحنين. دلفت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها بهدوء، فتسمرت عيناها على بدر، الممدد فوق السرير، شاحب الوجه، غارق في سبات عميق. 

اقتربت منه ببطء، وجلست على الكرسي المجاور، عيناها تجولان في ملامحه وكأنهما تبحثان عن الحياة فيه. مدت يدها المرتجفة وأمسكت بكفه الدافئ، ثم رفعته إلى شفتيها وقبّلته برقة ودموعها تنساب في صمت موجع. 

لم يكن بدر نائمًا تمامًا... كان يشعر بها، بألمها ولهفتها، منذ أن لامست يده. أغلق عينيه متصنعًا النوم، فقط ليستمتع بقربها، برائحتها، بدفء حضورها الذي اشتاق إليه حد الوجع. 

وفجأة، انكسر الصمت، وسمعها تهتف بصوت متهدج بالبكاء: 

– أنا مش خاينة يا بدر... بالعكس، أنا أكتر واحدة حبتك... أنت كنت أول حب في حياتي، وأول نبضة فرح دقت في قلبي. 

سقطت كلماتها على روحه كطعنات دامية. ظلت تتابع، تتحدث بينما تتخلل شهقاتها حديثها: 

– ماكنتش متصورة إنك ممكن تظلمني كده... تحكم عليا من غير ما تسمعني أو تعرف الحقيقة... مراد... مراد ده أخويا الصغير، حبيبي، سندي بعد موت بابا. لما عمي عرف إن بابا كتب كل حاجة باسمي، حاول يخلص مني... ونجح... حصلت حادثة، كنت أنا ومراد مع بعض. أنا طلعت سليمة... بس مراد... أصيب بإعاقة لفترة طويلة. 

أخذت نفسًا عميقًا، تحاول تثبيت صوتها المرتجف، ثم أكملت: 

– خفت عليه... خفت يضيع مني زي بابا. فقررت أني أقول إنه مات... كان لازم، عشان عمي مايحاولش يؤذيه تاني. سافر يتعالج، وأنا بقيت لوحدي أحاربهم... ولما شوفتك، حسيت إن ربنا بعتك لي. بس خفت... خفت أقولك فتخسرني، أو تأذيك أنت كمان. واضح إن القدر كان له كلمة تانية. 

كانت الكلمات تخرج منها كأنها تطهر روحها من ألمٍ خنقها طويلاً. بينما كان بدر يشعر بكل كلمة تسري في عروقه كحمم من الندم والشوق والخذلان. 

نهضت علياء بعد أن ألقت باعترافها فوق صدره كهمس موجوع، مسحت دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة، واستدارت لتغادر، لكن قبل أن تغلق الباب خلفها، رمقها بدر بنظرة تحمل كل الذنب والحب والحسرة. 

ابتلع غصته الثقيلة التي كانت تخنق حلقه، بينما ظلت رائحتها، وصدى كلماتها، يتردد داخله كوشمٍ أبدي لا يمحى. 

******* 

خرجت من الغرفة بخطوات ثقيلة، وعيناها مغمورتان بظلٍ قاتم من الحزن والألم. وجدت الجميع يجلس في صمتٍ مشحون بالقلق، كأن أنفاسهم معلقة بين رجاء وخوف. اقترب منها مراد بتردد واضح، وعيناه تترجمان مزيجًا من الحيرة والاهتمام، ليقول بصوتٍ خافت متوتر: 

– أنتي كويسة؟ 

اكتفت بهزة بسيطة من رأسها، دون أن تنطق بكلمة، ثم تابعت سيرها أمامه بصمت مطبق، يغلفها جدار عالٍ من البرود والانطواء. لم يجد مراد سوى أن يلحق بها بصمت، يحمل داخله قلقًا متزايدًا من هذا الهدوء الغريب الذي ينبئ بالعاصفة. 

وصلا إلى السيارة، استقلت المقعد الأمامي وهي تجلس مستقيمة، تطوي ذراعيها أمام صدرها كأنها تحتمي من العالم كله. جلس مراد إلى جوارها، لا يتوقف عن مراقبتها بطرف عينيه، ذلك السكون القاتل الذي يخيم عليها كان يخيفه أكثر مما لو رأى دموعها تنهار. 

قطع هذا الصمت المطبق رنين هاتفها، تناولته بهدوء بارد، وردّت بصوت خفيض خالٍ من الحياة: 

– الحمد لله يا أونكل... أنا بخير... ومراد كمان بخير... كله تمام. 

أسندت رأسها قليلًا للخلف، ثم أكملت مكالمتها بصوت متهدج بالكاد يُسمع: 

– زي ما فهمت حضرتك... إيه اللي هيحصل دلوقتي؟ 

أنهت المكالمة بسرعة، دون أن تشرح أو تفسر لمراد، الذي كان يتطلع إليها بدهشة واستفهام حائر عن هوية المتصل وماهية الحديث الغامض. لكنها أعادت الهاتف إلى حقيبتها وعادت إلى صمتها، تغرق في تأمل الطريق عبر نافذة السيارة وكأنها تحاول الهروب من واقعها المؤلم. 

مضت لحظات ثقيلة من الصمت، حتى توقفت السيارة أمام الفندق. التفتت إليه بعزم حاسم ونظرة مبللة بالحزن، وقالت بنبرة قوية تخفي خلفها انكسارًا مريرًا: 

– اطلع أنت... أنا ورايا مشوار لازم أخلصه، وهرجع على طول. 

رفع مراد حاجبيه بدهشة واحتجاج، ليقول مستنكرًا: 

– مشوار إيه دلوقتي؟! 

نظرت إليه بعينين غارقتين في الحزن، وأجابت بصوت مختنق بالانفعال: 

– مراد... أنا مش مستحملة أي أسئلة خالص دلوقتي... لو سمحت، نفذ اللي بقولك عليه من غير نقاش. 


صدمته نبرتها الحادة، لكنه أمام نظرتها المنكسرة، لم يجد في قلبه الجرأة ليجادلها. أومأ برأسه بالإيجاب ببطء، وترجل من السيارة، يغلق الباب خلفه بعنف خفيف تنفّس خلاله عن غضبه وقلقه العاجز. 

أشارت علياء إلى السائق بصوت خافت: 

– اتحرك. 

وانطلقت السيارة تحملها نحو وجهة أخرى، تحمل في طياتها أسرارًا وآلامًا لم يُكشف عنها بعد. 

******* 

صعد مراد إلى غرفته بخطوات سريعة يملؤها الغضب، وعيناه تومضان بشرر مكبوت، وملامحه مشدودة كوترٍ على وشك الانفجار. استقبلته حياة بتوتر ظاهر، وجسدها ينتفض بخوفٍ مكتوم، لتسارع بالهتاف بقلق شديد: 

– طمّني يا حبيبي... بدر عامل إيه دلوقتي؟ 

جلس على طرف السرير بانهاك، وأسند رأسه إلى كفيه لحظات قبل أن يجيب بصوتٍ ثقيل، يخنقه القلق: 

– الحمد لله... حالته مش خطيرة. 

تنفست حياة الصعداء، وزفر صدرها المثقل بالقلق، ولكن سرعان ما عادت لتسأل بنظرة حائرة، تتفحص وجهه المتجهم وعينيه المضطربتين: 

– أمال علياء فين؟... وانت شكلك متعصب كده ليه؟ 

زفر مراد بقوة، كمن يحاول طرد مرارة تختنق في صدره، ثم أردف بنبرة ممتلئة باليأس والغضب: 

– الهانم وصلتني لحد الفندق... وبعدها قالت إنها عندها مشوار ضروري... طبعًا ما قالتش أي حاجة... بس أنا متأكد إن الموضوع له علاقة باللي حصل... وبعمي. 

اقتربت حياة وجلست بجواره بهدوء، تربّت على يده برفق محاولة تهدئة ذلك الغليان الذي يعصف بقلبه، وهي تهمس بحنوّ: 

– حبيبي... ما تقلقش، إن شاء الله كله هيكون بخير. أنا كلمت بابا وهو هيتابع معاها كل حاجة. 

أومأ برأسه ببطء، كأنه يحاول أن يصدق كلماتها، ولكن أعماقه كانت تضج بالخوف والقلق عليها. كانت صورة شقيقته تتراقص أمام عينيه، شاحبة مهددة بالخطر، ليشد قبضته بعنف فوق ساقه، محاولًا كبح ارتعاش قلبه الذي كاد ينفلت من صدره رعبًا عليها بعد أن ذاق مرارة الشعور بفقدها أثناء محاولة قتلها. 

ظل صامتًا، يتأمل الفراغ أمامه بعينين غارقتين في عاصفة من المخاوف، فيما بقيت حياة تمسك بيده، تبثه طمأنينة زائفة، تخشى أن تنهار بدورها إن بادرها بشكواه المكتومة. 

******* 

وصلت علياء إلى الفندق وقد بدت ملامحها جامدة، لكنها في أعماقها كانت تغلي كبركانٍ على وشك الانفجار. ترجلت من السيارة بخطوات ثابتة، تسير نحو الداخل وكأنها تسير نحو معركة فاصلة. سألت عن رقم الغرفة، ثم صعدت إليها دون تردد. 

توقفت أمام الباب، وضغطت على الجرس، انتظرت بضع ثوانٍ كانت تمر عليها كأنها دهر، فيما نيران الغضب تشتعل بين أضلعها، لكنها أجبرت نفسها على التماسك، فاليوم ليس للانفعال، بل لإنهاء كل شيء. 

فُتح الباب ليظهر أمامها وجهه، مصفرًا بعض الشيء، متوتر النظرات. وقفت أمامه بثقة وثبات، نظراتها تخترقه كالسهم. دون أن تمنحه فرصة للكلام، دفعته بكتفها بقوة ودلفت إلى الداخل، لتجلس على الأريكة واضعة ساقاً فوق الأخرى، وكأنها في مواجهة محسومة نتيجتها سلفًا. 

أغلق الباب بعنف، وتقدم نحوها وهو يصرخ بغضبٍ أجوف: 

– جايه عايزة إيه يا بنت أكرم؟ 

نهضت واقفة بكل شموخ، وأطلقت نظرة نارية من عينيها المتقدتين، قبل أن ترد ببرودٍ قاتل: 

– جاية عشان نخلص من لعبة القط والفأر دي... ونصفي حساباتنا، من أول موت أبويا... وأظن إنك عارف كويس عملت إيه. 

اصفر وجهه، وتلعثم لسانه من الصدمة والخوف، قبل أن يتمتم بارتباك: 

– قصدك إيه؟ وضحي كلامك. 

ابتسمت بسخرية مُرّة، وتقدمت نحوه خطوة بخطوة، تضغط عليه بكلماتها كما يضغط الصياد على فريسته: 

– طول عمرك بتغير منه... من نجاحه، من حبه للي حواليه، من إنه دايمًا كان الأحسن منك... كنت أناني وطماع، ومع ذلك أبويا كان بيرحمك، بيسامحك، وبيقف جنبك... ومع كل ده... قتلته! 

صرخ فجأة بغضبٍ أسود، وخرجت كلماته محملة بالحقد القديم: 

– أيوه!! قتلته... كان بياخد مني كل حاجة... حب أمي وأبوي، نجاحه، الناس، الشهرة، الحب... كل حاجة كانت له هو وأنا كنت مجرد ظل ليه! كان لازم يختفي... كان لازم آخد مكانه... لكن حتى في موته خانني! كتب كل حاجة ليكي... وحتى لما حاولت اقتلك... فشلت! لكن المرة دي... مش هفشل. 

ابتسم ابتسامة حاقدة كأنها نصل مسموم، وأخرج سلاحه فجأة، مصوبه إلى رأسها بوحشية: 

– دلوقتي... هقتلك... وتلحقي أبوكي... وبعدها أخلص على مراد! 

رغم الخطر المحدق بها، ابتسمت علياء بسخرية هادئة جعلته يتراجع للحظة، وما لبثت أن تفاجأ بانفجار الباب بقوة، واندفع رجال الشرطة إلى الداخل، فخفض سلاحه بغريزة المذعور، قبل أن ينقضوا عليه ويكبلوه. 

اقتربت علياء بخطوات بطيئة، ووجهها يقطر احتقارًا وكراهية، وقالت بصوت ثابت يقطر مرارة: 

– ودلوقتي... جه وقت انتقامي يا عمي العزيز. هتعفن في السجن طول عمرك... سلام يا عمي. 

صرخ بعنف وهو يُسحب بعيدًا مكبّل الأيدي، ولكن لم يعد لصوته أي قوة... كان مجرد صدى لانكسارٍ لا رجعة فيه. 

وقف جلال – صديق والدها الذي كان يتابع الخطة معهم – يراقب المشهد، وعيناه تغيم بالحزن. اقترب منها يربت على كتفها بحنانٍ أبوي، وهي تنفجر باكية، دموعها تنهمر كالسيل وهي تهتف بألم: 

– مش قادرة أصدق كمية الحقد والغل ده... بابا طول عمره كان بيحبه وبيوقف جنبه... 

ضمها جلال إليه بحنان وقال بصوت مبحوح بالحزن: 

– الحقد والغيرة يا علياء... بيخلوا الواحد يقتل حتى أقرب الناس ليه... ويفقد إنسانيته. الحمد لله إننا قدرنا نمسكه... ده متورط في قضايا فساد تانية كمان... الحمد لله إنك بخير... وإنك ومراد نجيتوا من شره. 

أومأت برأسها، وابتسامة باهتة ترتسم على وجهها المتعب، شعور بالراحة الغامرة يغمرها، وكأنها أخيرًا استطاعت أن تتنفس بعد سنوات من الخوف والرعب... أخيرًا انتهى الكابوس. 

******* 

بعد أن أنهت علياء الإدلاء بأقوالها في القسم، وأُغلقت القضية بإثبات تورط فريد واعترافه الكامل بجرائمه، خرجت من مبنى الشرطة. كانت خطواتها مثقلة، لكن صدرها أخيرًا قد تنفس راحة افتقدتها طويلاً، وكأنها تخلّصت من حمل ثقيل ظلّ يؤلمها لسنوات. 

استقلت السيارة بصمت، وأسندت رأسها إلى الزجاج البارد، تغمض عينيها المثقلتين بالدموع، تترُك للذكريات المؤلمة أن تمر أمامها للمرة الأخيرة... ذكريات والدها، ومراد، وكل الخوف الذي حاصرها حتى لحظة الخلاص. 

توقفت السيارة أمام الفندق الآخر، فتحت الباب ببطء، وهبطت بخطوات هادئة نحو المصعد، يرافقها صمت عميق لا يقطعه سوى دقات قلبها المتسارعة. 

عندما وقفت أمام باب غرفة مراد، ترددت لحظة... أخذت نفسًا عميقًا، ثم طرقت الباب بخفة. 

فتح مراد الباب بسرعة، وعيناه المتسعتان بالقلق تحومان عليها. ما إن رآها واقفة أمامه، حتى سقطت أنفاسه الثقيلة من صدره وتنفس بارتياحٍ عميق، ثم جذبها إلى حضنه في عناقٍ دافئ، يشبه العناق الذي يخبئ خوف الأيام كلها. 

– حمد لله على سلامتك يا علياء... كنت هموت من القلق عليكِ! 

قالها وهو يضمها بقوة أكبر، كأنه يخشى أن يتركها فتختفي مجددًا من حياته. 

ابتسمت علياء ابتسامة مرتعشة وهي تدفن وجهها في صدره، وتهمس بصوت متهدج تغلبه الدموع: 

– خلاص يا مراد... الكابوس انتهى... خلاص. 

أبعدها برفق قليلًا ليتأمل وجهها، وكأنه لا يصدق أنها بخير، ثم قال بنبرة مختنقة بالخوف والاشتياق: 

– ما كنتش قادر أتنفس من غيرك... كنت خايف أفقدك زي ما فقدنا بابا. 

مسحت دموعها بطرف أصابعها المرتجفة، ثم هزت رأسها مطمئنة إياه: 

– أنا بخير... علشانك... وعلشان بابا اللي ضحى بحياته عشان يحمينا. 


جلسا معًا على الأريكة، مراد لا يترك يدها لحظة، وكأنها خيطه الأخير بالأمان. كانت نظراته مملوءة بالحزن والاطمئنان، بينما هي تشعر أخيرًا أن ظهرها لم يعد عارياً من السند. 

قالت له بعزم وقوة، والنور يلمع في عينيها: 

– إحنا اتكتب لنا بداية جديدة، يا مراد... وبوعدك، هنعيشها زي ما بابا كان بيتمنى لينا. 

شد على يدها بحنان أخوي عميق، وقال بنبرة دافئة: 

– وأنا بوعدك، يا علياء... طول ما أنا عايش، مش هيحصلك حاجة وحشة تاني. 

ابتسمت ابتسامة صغيرة، ولكنها كانت مليئة بالأمل، وهي تشعر لأول مرة منذ سنوات أن الحياة أمامها فتحت أبوابها... وأن الخوف الذي كان يعشش بقلبها، قد رحل أخيرًا. 

****** 

بعد مرور ثلاثة أيام 

كانت تسير على الشاطئ بخطى بطيئة، تستمتع أخيرًا بنسمات الهواء العليلة التي تلامس وجهها برفق، وكأنها تواسي قلبها المثقل. منذ أكثر من خمس سنوات لم تشعر بهذه الراحة، تلك الراحة الغريبة التي تسللت إلى أعماقها بعد أن أسدلت الستار على كابوسٍ طال أمده. 

جلست على الرمال، عانقت البحر بنظراتها الشاردة، أغمضت عينيها قليلًا واستنشقت عبق ملوحته، وكأنها تبحث عن طمأنينة ضائعة بين أمواجه. فتحت عينيها فجأة، لتجده هناك، جالسًا بجوارها على الرمال، كما لو أن حضوره قد استدعيه حنينها دون إرادة. 

خفق قلبها بعنف داخل صدرها، كاد أن يقفز من مكانه، لكنها تمالكت نفسها، ارتدت قناع القوة الذي بات رفيقها في الآونة الأخيرة، ونظرت أمامها دون أن تلتفت إليه، قائلة بنبرة حاولت أن تبدو ثابتة: 

ــ جاي ليه يا بدر؟ 

مرر يده على شعرها بحنانٍ مكسور، وصوته يتهدج بندم عميق: 

ــ جاي أرجع حبيبتي لحضني تاني... وأقولها إني كنت غبي واتسرعت في الحكم عليها... ومستعد لأي عقاب تحكم بيه عليّ. 

ابتلعت غصة مُرة، وردت بهدوءٍ مصطنع يناقض الألم الذي ينهش قلبها: 

ــ مش هينفع يا بدر... كل اللي بينا خلاص انتهى. ياريت تنسى... وتكمل حياتك مع مراتك وابنك اللي جاي. 

خرجت من صدره زفرة قوية، بدت كأنها تحمل كل ثقل ندمه وألمه، ثم قال بحرقة: 

ــ علياء... أنا عارف إني جرحتك وظلمتك... بس والله العظيم بحبك... وعمري ما حبيت رغدة... كانت غلطة، وكل حاجة فيها غلطة. أرجوكي سامحيني... تعالى نرجع نكمل حياتنا اللي كنا بنحلم بيها. 

نهضت من فوق الرمال دفعة واحدة، وقفت أمامه تتحدى رجاءه بعينين غارقتين في العتاب، فنهض هو الآخر مرتبكًا، يتشبث بأملٍ أخير، لكنها صاحت بغضب جارف: 

ــ قلتلك خلاص! اللي بينا انتهى! ياريت تفهم بقى... وتبطل تيجي ورايا في أي مكان... فاهم ولا لأ؟ 

استدارت لتغادر، لكن صوته المذبوح لحق بها، ويده قبضت على ذراعيها بقوة مستجدية: 

ــ مش هسيبك يا علياء! أقسم بالله إني ندمان... مستعد أمشي في الشوارع وأعتذر قدام الناس كلها عشانك... بس أرجوكي... سامحيني! 

نزعت يديها من قبضته بحركة حاسمة، وعادت تتحدث بهدوء غريب، هدوء يقطر وجعًا: 

ــ مش هقدر دلوقتي يا بدر... إنت من الأول ما وثقتش فيا... أول ما حصلت مشكلة سبت إيدي... أنا مش هقدر أأمنك على قلبي تاني... ارجع لمراتك وكمل حياتك معاها... وإنساني. 

ثم استدارت وغادرت، بينما دموعها تنهمر بلا مقاومة، تغسل وجهها من كل أمل كاذب، ومن كل ذكرى موجعة. كانت خطواتها تغوص في الرمال الثقيلة، وكأن الأرض تأبى أن تسهل عليها الرحيل. 

أما بدر، فقد شعر وكأن الحياة انسحبت من جسده، وعينيه تتابعانها وهي تبتعد. كان الألم يغرس أنيابه في قلبه بلا رحمة، والسواد يطغى على كل شيء حوله. سقط على الرمال بصمتٍ مريع، جلس هناك كمن أضاع كل ما كان يمنحه المعنى للحياة. 

دموعه انسابت من عينيه بغزارة، وكأنها تُطهره من ذنوبه التي لا تُغتفر، بينما صدره يعلو ويهبط بانكسار. كان يشعر وكأن سكينًا باردًا يمزق قلبه ببطء، يذبحه على مهل، ومع كل نبضة كان يفقد المزيد من روحه. 


ظل جالسًا، تائهاً بين رمال الشاطئ وصدى كلمتها الأخيرة يضرب رأسه بعنف، يدرك أنه خسرها للأبد... خسرها يوم أن خان ثقته بها، ولن يعيدها ندمٌ ولا اعتذار.

الخاتمه من هنا

لمتابعه روايات سكيرهوم زورو موقعنا علي التلجرام من هنا

تعليقات