رواية ماوراء الصمت الفصل الخامس 5 بقلم الاء محمد حجازي

 

 

رواية ماوراء الصمت الفصل الخامس بقلم الاء محمد حجازي

والله يا أختي أنا اتفاجئت لما عرفت! وعمري ما كنت اتوقع منه كده، ده طلع ظابط يا بنتي!
التانية شهقت وقالت:
– إيه؟ ظابط؟ ده مش كان مسجون؟
– لأ يا شيخة، ده كله كان تمويه، تحقيقات وحاجات من اللي بيعملوها دول… أصل القضية كانت كبيرة أوي!

فرح وقفت مكانها،
الكلمة ضربت ودنها كأنها طلقة.
ظابط؟!
ياسين؟!

الخطوات ثبتت على الأرض،
ونبض قلبها بدأ يعلى بشكل يخوف.
هي سمعت صح؟!
رجعت بخطوة، كأنها عايزة تتأكد من الكلام.

الست التانية كملت وهي بتوشوش:
– ده طلع بيشتغل في مباحث القاهرة،
وكل اللي حصل كان تمثيلية عشان يدخل وسط العصابة اللي كانوا بيحققوا فيها.

فرح بلعت ريقها بالعافية،
والكلمات علقت في دماغها…
“تمثيلية… ظابط…”

حسّت إن الدنيا لفت بيها.
يعني اللي كانت شايفاه بلطجي،
اللي الناس كلها كانت بتتكلم عليه إنه مجرم،
ده طلع ظابط؟!

اللي دافع عن الراجل في الشارع،
واللي كل يوم كانت بتشوف فيه ملامح الجدعنة والرجولة،
ده ما كانش صدفة؟

وقفت لحظة…
وبصت للسماء وهي تهمس لنفسها:
– سبحانك يا رب… الدنيا بتقلب في لحظة.

ما لحقتش تكمّل التفكير، ولقت صوته جاي من وراها.
إزيك يا دكتورة؟
لفت بسرعة، قلبها دق من غير سبب، وهو واقف قدامها بنفس الهدوء اللي دايمًا بيحيرها.
قال بابتسامة بسيطة:
عامله إيه؟ إن شاء الله بخير.

ردت بتوتر:
الحمد لله، بخير... كفارة يعني.

ضحك بخفة وقال:
السجن للجدعان يا دكتورة... وبعدين ده أنا اللي عايش فيه، ما تقلقيش عليّ. 

نظرت له باستغراب ممزوج بدهشة وسألت بسرعة:
هو... هو أنت ظابط؟ بجد؟!

ضحك من غير ما يرد، رفع حاجبه وقال:
هو أنا شكلي بلطجي للدرجة دي؟

اتنرفزت وقالت بحدة وهي تمسك شنطتها:
أنا مش فاضية للحركات دي، عن إذنك.
واتجهت تمشي بخطوات سريعة.

هو وقف يراقبها بعينين فيها لمعة خفية وقال بصوت واطي بس مسموع:
يا بنت الناس… اللي يمشي وراك، والله ما يضيع طريق.

وقفت لحظة، بس ما بصّتش وراها،
هو ابتسم وهو بيكمل بصوت واطي لنفسه:
دي لو قلبي حجر… كانت هتكسّره بنظرة.

وبعدين نفخ بخفة كده وقال وهو بيبص ناحيتها:
يا ساتر… دي شكلها هتبقى وجع دماغ وجع حلو.
----------------------------
كانت ماشية بسرعة، وشايلة ملفاتها في إيدها كأنها داخلة امتحان مصيري،
وفجأة سمعت صوته جاي من وراها، النغمة اللي حفظتها غصب عنها: 
استني يا دكتورة… بتجري ليه كده؟ حد قالك إن في طابور تسليم واجب؟

لفّت وهي متضايقة، قالت بحدة:
حضرتك مش ملاحظ إن أنا مش فاضية للرغي ده؟

ضحك وقال بهدوء مستفز كده وهو بيحط إيده في جيبه:
رغي؟! ده أنا كنت بسأل عن حال التعليم العالي… واضح إنه في خطر.

قالتها وهي بتتنهد:
يا ريت يا حضرة الظابط تسيبنا في حالنا.

قرب منها خطوة، وهو لسه مبتسم ابتسامة نصها هزار ونصها جد:
حضرة الظابط دي كتير أوي عليّ، قوليلها كده بلدي شوية… ياسين بيه مثلاً، أو باشا. 

رفعت حاجبها وقالت بسخرية:
تمام يا ياسين، دلوقتي خليني أكمّل طريقي بقى.

ماشي، بس لو حد ضايقك في السكة ناديني… ده تخصصي الجديد.
قالتها بنفاد صبر:
مفيش حد ضايقني غيرك أنت!
ضحك وقال وهو بيبعد خطوة ويميل راسه كده بثقة:
يبقى أنا ناجح في الشغل… قدرت أستفز المجرم يعترف.

بصت له بنظرة قاتلة ومشيت بسرعة،
بس وهو واقف كان باصص وراها مبتسم، بيهز راسه كده بإعجاب.

أما هي، أول ما وصلت الكلية ودخلت المكتب وقفلت الباب،
فضلت ساكتة ثانيتين وبعدين الضحكة اللي كان كتماها طلعت منها غصب عنها.
حطت إيديها على وشها وقالت لنفسها:
غبي… بس… دمّه خفيف. ليه بضحك أصلاً؟!

وبعدين قالت وهي بتحاول تبان صارمة لنفسها:
أنا مش هضحك تاني على هزاره، المره الجاية هرد عليه رد يوقفه عند حدّه.
بس ضحكت تاني وهي بتفتكر نبرته وهو بيقول:

يبقى أنا ناجح في الشغل…
-----------------------
الوقت ابتدى يعدي بسرعة غريبة، الأيام بقت شبه بعض،
الشغل في الكلية ملوش آخر، وضغط المحاضرات والتحضيرات زاد مع اقتراب امتحانات نص السنة.
فرح كانت في دوامة بين التحضير للدروس، وورق الدكتوراه اللي بقى جزء من يومها،
كانت بتركز بعناد غريب، كأنها بتحاول تثبت حاجة مش بس لنفسها… لأ، للعالم كله.

أما معتز، فبقى وجوده ملحوظ أكتر.
بقى دايمًا حوالين فرح، بس مش بنفس الطريقة اللي قبل كده.
فيه حاجة مختلفة،
نظراته بقت غريبة،
كأنه كل ما يشوفها بيحس بحاجة مش قادر يسميها…
مزيج من غيظ، وفضول، وإعجاب بيحاول يكتمه بأي طريقة.

في يوم، شافها بتتكلم مع أحد الدكاترة عن بحثها الجديد،
وقف مستغرب، عينيه مركزة عليها،
ولما خلصت، قرب منها وقال بنبرة فيها تهكم خفيف، يخبي بيها ارتباكه:
– هو إنتِ بتعملي بحث؟ دكتوراه كمان؟

بصت له بثقة وقالت:
– أيوه، بحضر فيها من بدري.

ابتسم ابتسامة مصطنعة وقال بسرعة:
– آه، تمام يعني… حلو… مبروك يا دكتورة، والله فرحت لك.

بس في صوته ما كانش في فرحة،
كان فيه نغزة غريبة،
زي واحد بيحاول يقنع نفسه إنه مش متضايق،
بس الحقيقة إنه بيغلي من جواه.

هو ما كانش قادر يستوعب الفكرة.
إزاي هي اللي كان شايفها أقل
تبقى واقفة جنبه دلوقتي، بنفس المستوى؟
بل بالعكس، يمكن متقدمة عليه خطوة؟
وكل مرة يشوفها شغالة أو بيتكلموا عنها في الكلية بإعجاب،
يحس نار صغيرة بتتحرك جواه.

بس المضحك إنه في وسط دا كله…
كان بيقرب منها أكتر.
كل شوية يلاقي نفسه بيساعدها في حاجة،
يقولها سيبي دي عليا، 
أنا هخلص الورق ده، 
لو عايزة حاجة قولي لي. 

كأنه بيحاول يعوض غيرته بمساعدة،
وبيخبي مشاعره بكلمة زمالة. 
لكن كل مرة يتكلم معاها،
صوته يلين أكتر، ونظراته تطول أكتر.

وفرح كانت ملاحظة…
ملاحظة إنه بيتغير،
بس مش عارفة هو ليه بيتغير.
أوقات تحس إنه بيكرهها، وأوقات تحس إنه مش قادر يبعد.
وساعات لما ترفع عينيها وتلاقيه بصّص لها،
تحس بنظرة مش مفهومة…
نظرة كلها كلام متكتم.

لكنها كانت بتتصرف كأنها مش واخدة بالها،
ترسم ابتسامة بسيطة وتكمّل شغلها.
بس جواها كانت حاسة إن في حاجة مش مظبوطة،
كأن معتز بيحارب نفسه،
نص منه عايز يبعد عنها،
ونص تاني… عايز يقرب أكتر.

ومع مرور الوقت، الكلية كلها دخلت في ضغط نهاية السنة.
اللجان، التصحيح، الاجتماعات،
وفرح ومعتز الاتنين غرقانين في الشغل،
بس وسط الزحمة دي، كانت اللحظات الصغيرة بينهم بتتكرر…
نظرات، جمل عابرة، سكون طويل بين كلامهم.

وفي مرة، وهو بيكلمها عن التحضير للحفلة اللي في آخر السنة،
قالها وهو بيضحك نص ضحكة:
– أكيد هتطلعي تتكرّمي، يا دكتورة فرح… ما شاء الله، مجتهدة أوي.

ردت بابتسامة بسيطة وقالت:
– كلنا بنتعب يا دكتور، مش أنا لوحدي.

ضحك وقال بنبرة فيها حاجة مش واضحة:
– آه… بس إنتي تعبك بيبان.

وسكت بعدها، كأنه ندم إنه قالها،
لكن هي سمعتها كويس جدًا…
وساعتها بس، عرفت إن اللي بينه وبينها مش مجرد غيرة…
ده حاجة تانية خالص،
حاجة بيحاول يخبيها، وهي بتحاول تتجاهلها.

ومع قرب نهاية السنة، الكلية كلها كانت بتحضر للحفلة الكبيرة،
حفلة النجاح، والختام، والتكريم.
لكن جوّا كل واحد فيهم…
كانت فيه حفلة تانية شغالة 
حفلة مشاعر، وأسئلة، ونظرات…
لسه محدش فيهم قادر يعترف بيها.
---------------
تاني يوم كانت الشمس بدأت تغيب، والكلية خلاص بتفضى من الطلبة،
وفرح لسه قاعدة في المعمل بتراجع آخر التقارير،
صوت الكيبورد خفيف، وهي غرقانة في تركيزها،
لحد ما سمعت صوته من وراها:

– انتي مش بتتعبي؟!
قالها معتز وهو داخل بخطوات هادية،
واقف عند الباب، سايب ضهره على الحيطة وابتسامة خفيفة على وشه.

من غير ما ترفع عينيها، قالت ببرود:
– بتعب، بس الشغل مش هيخلص لوحده.

قرب منها وقال وهو بيحاول يخفف الجو:
– طيب ارتاحي شوية، الدنيا مش هتطير.
بصت له بسرعة وقالت:
– لو كل مرة جيت قلتلي الكلمة دي، محدش فينا هيشتغل.

ضحك وقال:
– والله انتي بقيتي بتردي كأنك ظابط مش دكتورة.
وبعدين وقف جمبها وقال بنبرة فيها جدية خفيفة:
– على فكرة يا فرح، أنا ابن عمك…
يعني مش غريب ولا حد مالوش لازمة عشان تتكلمي معايا بالطريقة دي.

رفعت حاجبها وبصلته نظرة كلها هدوء وسخرية في نفس الوقت وقالت:
– ابن عمي في البيت، مش في الشغل يا دكتور معتز.
– هنا إحنا زملاء، وكل واحد له حدوده.

سكت لحظة، كأنه بيحاول يستوعب ردها،أو بيحاول يقرأ اللي في وشها،
بس اللي شافه زوده حيرة أكتر…
نظراتها كانت فيها حاجة مش مفهومة،
فيها غموض يخليه مش عارف هي بتكرهه؟
ولا بتتحداه؟
ولا في حاجة تانية مستخبية ورا عينيها الهادية دي.

وبعدين قال بابتسامة فيها غيظ خفيف:
– تمام… بس ما تنسيش إن حتى في الشغل، أنا برضه مش حد غريب.
ردت وهي بتجمع الورق:
– ممكن تكون قريب بالدم، بس القُرب مش باللقب… القُرب احترام.

هو اتنفس بعمق وقال بنبرة فيها مزيج من دهشة وابتسامة باهتة:
– دايمًا عندك رد جاهز.
قالت وهي بتعدي جنبه:
– مش رد، بس الحقيقة ساعات بتحتاج حد يفكرنا بيها.

وقبل ما تمشي، سمعها بتقول لنفسها بصوت واطي:
– استر يا رب، كل يوم لازم مشادة جديدة.

بص وراها وهي خارجة،
ولما شافها ماشية بخطوات واثقة كده،
ابتسم ابتسامة صغيرة وقال لنفسه:
– والله يا فرح، إنتي اللي مش هتعرفي تخليني أهدى.

وجِه اليوم المنتظر.
الكلية كلها متزينة، المسرح مليان أنوار،
الطلبة لابسين أشيك ما عندهم،
وفرح واقفة بين زملائها، شايلة ورق التكريم،
تحاول تبين هدوءها المعتاد، لكن جواها توتر غريب.

بدأت الحفلة.
الكلمات، التصفيق، الأغاني الخفيفة…
كل حاجة ماشية بسلاسة.
لحد ما جِه اسمها.

الدكتورة فرح… واحدة من أنشط الباحثين في الكلية.

صوت التصفيق دوّى في القاعة.
طلعت على المسرح بخطوات واثقة،
ابتسامتها خفيفة لكنها صافية،
استلمت الشهادة من عميد الكلية،
وقالت كلمتين شكر بسيطات.

كانت خلاص نازلة من على المسرح،
بس فجأة النور خفّ، والموسيقى وقفت.
الناس بدأت تبص حواليها مستغربة.
وبعد ثواني، النور ركّز على شخص طالع على المسرح…

معتز.

واقف قدام الميكروفون، لابس بدلة شيك،
نظراته موجهة ناحيتها بس.
القاعة كلها سكتت.
كل العيون راحت عليهم.

مشى خطوتين لقدام،
مسك المايك وقال بصوت ثابت،
بس باين فيه رعشة خفيفة من التوتر:

– يمكن النهارده يوم تكريمك كدكتورة،
بس أنا عايز أخليه يوم مميز في حياتي أنا كمان.

الناس بدأت تتهامس،
وفرح واقفة مصدومة، مش فاهمة هو بيعمل إيه.

كمل كلامه، وصوته بقى أهدى بس مليان إحساس:
– أنا كنت غلطان لما حكمت عليك قبل ما أعرفك،
وغلطان أكتر لما فضلت شايفك بعين غير الحقيقة.
بس النهارده… قدام الكل…
عايز أقولك إنك علمتيني يعني إيه الاحترام،
وإن الجهل الحقيقي مش في التعليم…
في إن الواحد ما يعرفش قيمة اللي قدامه.

وببطء…
طلع من جيبه علبة صغيرة،
فتحها، وظهر فيها خاتم بسيط جدًا بس أنيق،
وبعدين نزل على ركبة واحدة قدامها وقال:

– دكتورة فرح…
تقبلي تتجوزيني؟


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات