رواية ماوراء الصمت الفصل السادس بقلم الاء محمد حجازي
_كتورة فرح…
تقبلي تتجوزيني؟
القاعة كلها كانت ساكتة،
ولا صوت غير دق قلب فرح اللي بقى عالي أوي في ودانها.
إيد معتز ممدودة، والخاتم فيها بيبرق تحت نور المسرح.
الناس بدأت تسقف وتضحك،
وفيه اللي بيهتف قوليله أيوه يا دكتورة!
وفيه اللي بيصور بالموبايل.
هي خدت نفس طويل،
ولفت عينيها على الناس حواليها،
كلهم منتظرين كلمة منها.
رجعت تبصله…
وشه فيه مزيج غريب بين الثقة والرجاء،
زي اللي بيحاول يخبي خوفه بابتسامة.
خطت خطوة لقدام،
مسكت المايك بإيدها،
وصوتها كان هادي بس فيه ارتباك باين جدًا:
– يا دكتور معتز…
الناس سكتت أكتر،
فيه اللي قرب الكرسي لقدام عشان يسمع.
كملت كلامها وهي بتحاول تثبت نفسها:
– أنا… مش عارفة أقولك إيه بصراحة.
يعني… الموقف ده محرج جدًا،
خصوصًا قدام كل الناس دي.
وبعدين كملت بقوة وهي بتبصله بثبات:
– هو كمان أنا مش فاهمة بصراحة…
إيه اللي يخليك تطلع على المسرح وتطلب حاجة زي دي قدام الناس كلها؟
من يجي شهرين تلاتة كنت بتقول إني جاهلة،
مش كده؟
كنت بتضحك على إني بنت بلد بسيطة،
وإن التعليم مش ليا، صح؟
وشه اتبدل، والدنيا سكتت تمامًا.
هي كملت، بصوت واضح وواثق أكتر:
– بس الظاهر إنك لما عرفت إني دكتورة، رأيك اتغير.
يعني التعليم بقى هو المقياس عندك،
مش الأخلاق… مش الأصل…
مش الإنسانية.
رفعت راسها، وقالت وهي عينيها فيه:
– بس عارف؟
الجهل اللي بتتكلم عنه ده مش في الكتب يا دكتور معتز،
الجهل الحقيقي إنك تفتكر إن مكانة الإنسان تتقاس بالشهادة مش بالعقل،
ولا بالقلب،
ولا بالطريقة اللي بيعامل بيها الناس.
الناس كلها كانت في صدمة.
فيه اللي فتح بقه،
وفيه اللي بص لمعتز، مش مصدق اللي بيحصل.
هي كملت وهي بتدي المايك للي جنبها:
– وأنا آسفة…
بس مش ممكن أوافق على حد شاف فيّ الجهل قبل ما يشوف إنسانيتي.
نزلت من المسرح بخطوات ثابتة،
ولا بصت وراها ولا لحظة.
والتصفيق اللي كان لمعتز في الأول…
اتحول ليها.
كل الناس سقفوا، مش إعجابًا بالمشهد…
لكن احترامًا للبنت اللي وقفت وقالت لأ بصوت البنت اللي اتظلمت زمان.
أما معتز؟
فضل واقف، الخاتم في إيده،
وشه اتجمد،
وهو سامع الهتاف بيملى القاعة:
– برافو يا دكتورة فرح!
-------------------
خرجت فرح من الحفلة، قلبها بيخبط في صدرها، والناس لسه بتسقف وبتضحك وبتصوّر.
بس هي كانت حاسّة إنها خرجت من حلم مش بتاعها.
رفعت راسها للسما وقالت بهدوء وهي بتحاول تسيطر على دموعها:
الحمد لله يا رب… الحمد لله إني ما وقعتش في الغلط… الحمد لله إني ما وافقتش.
مشيت في الشارع اللي كله أنوار، بس جواها ظلام ملوش آخر.
كانت بتحمد ربنا من قلبها إنها وقفت وقالت لأ، حتى لو اتوجعت شواية.
رجعت البيت، خدت نفسها بالعافية، ودخلت أوضتها، قعدت على السرير افتكرت…
الليلة دي اللي كانت فيها قاعدة في أوضتها من كام يوم،
ولسه بتحاول تفهم موضوع ياسين:
فلاش باك»»»»»».
كانت قاعدة بتفكر في ياسين…
و بتقول لازم أبعد، لازم أبطل أفكر فيه، مش معقول أفضل متعلقة بحد مستحيل.
كنت بحاول أهرب من تفكيري فيه… كنت عايزة أعيش بهدوء.
قامت تشرب ميّه، والدنيا ساكتة، مفيش غير صوت عقارب الساعة.
فجأة، وهي معدّية من قدام الشباك، سمعت صوت بيقول اسمها:
فرح… فرح… كل اللي في الكلية فرح!
وقفت، قلبها دق بسرعة.
الصوت طالع من أوضة معتز، كان بيتكلم في التليفون،
فخطت بخطوات بطيئة ناحية الباب،
وقفت قريب من الشباك المفتوح شويّة وسمعته بوضوح.
صوته كان مليان غلّ مكتوم وهو بيقول:
يا عم أنا زهقت من فرح…
بقيت سامع اسمها في كل حتة، كل الناس بتتكلم عنها،
فرح قالت، فرح عملت، فرح خلّت…
كلهم بيشكروا فيها!
بقت نمبر وان بعد ما أنا كنت نمبر وان،
اتخنقت، مش عارف أعمل إيه!
سكت لحظة، وكأن فكرة خبيثة خطرت على باله،
وبعدين قال بصوت واطي بس مليان مكر:
بس لقيتها…
لقيت الحل يا صاحبي.
اتنفس ببطء وقال بعدها:
أنا قررت أتجوزها.
أيوه، أتجوزها وآخد الدكتوراه اللي بتحضر فيها دي وأقدمها باسمي…
والله فكرة جهنمية!
وآهو بالمرّة أتقدملها يوم الحفلة،
قدام الناس كلها، قدام الدكاترة والطلبة،
وهي أول مرّة تشوف الجو ده،
أكيد هتوافق!
دي مش بعيد تبوس إيدي ووشي وظهر كمان!
ضحك ضحكة سامة وقال:
فلاحة أول مرّة تشوف الحاجات دي…
وأنا كده أكون ضربت عصفورين بحجر واحد،
أقعدها في البيت، وأخد الدكتوراه، وأستريح من زنها في الكلية والمقارنة بيها.
والله عليك يا معتز… وعلى تفكيرك!
الدم جمد في عروقها،
حست بكهربا في جسمها كله،
رجعت خطوة لورا وهي ماسكة قلبها بإيدها.
وشها كان شاحب، بس عينيها ولعت غضب.
مش مصدّقة اللي سمعته،
الإنسان اللي كانت بتحاول تتعامل معاه بأدب واحترام،
بيخطّط يدمرها ويمسح تعبها بكلمة!
وقفت قدام المراية وقالت بصوت واطي مبحوح:
انت غلطت في مين يا معتز؟
غلطت في البنت اللي عمرك ما كنت تستاهل حتى تبص لها.
عودة من الفلاش باك»»»»»»».
قامت فرح من مكانها وكانت حاسّة إن نفسها اتقطع.
دموعها نزلت من غير ما تحس، ومسحتها بسرعة وهي بتهمس:
كفاية بقى، كفاية وجع.
بصّت حوالين الأوضة، كل حاجة فيها كانت بتفكرها بالإهانة،
بكلمة، بنظرة، بضحكة كدابة.
قامت تفتح الدولاب، بدأت تلم هدومها في شنطة صغيرة،
كل قطعة كانت بتحطها كأنها بتحط جزء من عمرها اتظلم.
وهي بترتب حاجتها، افتكرت تاني يوم في الكلية…
كانت رايحة المحاضرة ووشها باين عليه التعب،
خطواتها بطيئة، عقلها مش معاها،
وهي قاعدة، جت نور، صاحبتها اللي كانت تعرفها قريب،
قعدت جنبها وقالت بابتسامة دافيه:
هو في إيه يا فرح؟ شكلك مهمومه كده ليه؟
فرح حاولت تبتسم وقالت:
مفيش يا نور… شويه ضغط شغل.
نور ضحكت وقالت:
سيبي الكدب للممثلين يا شيخة، أنا صاحبتك، احكي لي.
سكتت فرح ثواني، وبعدين قالت بصوت واطي:
أنا… أنا مخنوقة يا نور،
حاسه إني مش قادرة أتنفس في بيت عمي،
كل ما أشوف معتز بحس بضيق،
مش مرتاحة… نفسي أمشي، أسيب البيت ده كله.
نور بصت لها بتعاطف وقالت:
طب ما تمشي فعلاً؟
فرح هزت راسها وقالت:
هاروح فين يا نور؟ أنا بنت،
ما ينفعش أقعد لوحدي في شقة… والناس مش هترحمني.
ابتسمت نور وقالت وهي بتحط إيدها على كتفها:
تعالي عندي يا بنتي،
أنا وخالتي قاعدين لوحدنا،
وما تقلقيش، عارفه إنك مش بتحبي تبقي تقيلة على حد،
اعتبريها أوضتك، وادفعي في الأكل والشرب زي ما تحبي.
إحنا مش أغراب عن بعض.
بصت لها فرح بعينها المليانة دموع وقالت:
إنتِ عارفه يا نور؟
ربنا فعلاً بيعوضنا بناس زيك…
ناس بتظهر في الوقت الصح.
نور ابتسمت وقالت بخفة دمها المعتادة:
خلاص، اتفقنا، أنا هستناكي بكره تجيبي شنطتك،
والله البيت هيزيد نور لما تيجي.
فرح بهدوء:
لا خليها بعد الحفلة.
افتكرت فرح كلامها، وهي بتقفل الشنطة دلوقتي،
ابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت في نفسها:
الحمد لله يا رب إنك بعت لي نور،
يمكن تكون هي البداية الصح بعد كل الغلط اللي فات.
قامت، خدت نفسها، بصت لآخر مرة على الأوضة اللي شافت فيها كل وجعها،
وقالت بهدوء وهي خارجة:
كفاية… خلاص، أنا مش هرجع هنا تاني.
-------------------------
وهي بتهمّ علشان تخرج من الأوضة،
اتفتحت الباب فجأة، ومعتز داخل بعصبيّة باينة في كل ملامحه.
ما لحقش حتى يتنفس، مسكها من دراعها بعنف وقال بصوت عالي:
– إنتِ مجنونة؟! إيه اللي عملتيه ده يا فرح؟!
أحرجتيني قدام الناس كلها! قدام زمايلي! قدام الدكاترة!
مين إنتِ عشان ترفضيني بالطريقة دي؟!
شدّت دراعها منه بعنف،
بس هو رجع مسكها تاني بقوة، صوته بيعلو أكتر:
– أنا معتز يا فرح!
اللي الكل بيحترمه، اللي الكل بيحسب له ألف حساب،
وأنا أتقدملك و أقدملك الخاتم قدام الناس تقومى ترفضينى كده؟
قبل ما ترد، كانت أمه طالعة على الصوت من الصالة،
وقفت قدامهم وقالت بقلق:
– في إيه يا أولاد؟ صوتكم مالي البيت! استهدوا بالله!
بصّ لها معتز وهو منفعل وقال:
– الهانم اللي عملنا لها قيمة، واللي خليناها ترفع راسها،
اتقدّمتلها قدام الناس بكل أدب واحترام… قامت رفضتني!
رفضتني يا أمي كأني ولا حاجة!
فرح شدّت دراعها منه مرة تانية، المرة دي بنظرة كلها نار،
وقالت بهدوء قاتل:
– سيبني يا معتز.
هو ضحك بسخرية وقال:
– أسيبك؟ بعد اللي عملتيه؟ بعد الفضيحة دي؟
إنتِ نسيتِ نفسك على فكرة… أنا اللي عملت منك حاجة!
وفجأة، من غير ما حد يلحق يفكر،
إيدها طلعت على وشه بالقلم الأول.
صوته دوّى في الأوضة.
قالت وهي بتتنفس بسرعة من الغضب:
ده عشان انا طول عمري ليا قيمة، مش زيك
– يا اللي كنت ناوي تسرق بحث الدكتوراه وتحطه باسمك!
ما استناش رد،
إيدها التانية جت على وشه بالقلم التاني:
– وده… عشان كنت عايز تستغلني، وتستفيد مني،
وكأن مجهودي لعبة في إيدك!
وقف مذهول، مش قادر يتكلم،
بس قبل ما يفيق، جاله القلم التالت، أقوى من اللي قبله:
– وده… عشان صلة القرابة اللي أنا بستعر منها دلوقتي،
عشان الدم اللي بينا اللي بقيت أكره إنو في جسمي..
صوت نفسها كان عالي، والدموع في عينيها،
بس مش دموع ضعف… دموع قهر، وكرامة.
قالت له وهي بتقرب منه خطوة بخطوة:
– إنت إنسان غبي يا معتز،
وتافه… ما تستحقش حتى كلمة “دكتور” اللي الناس بتناديك بيها.
فاكر نفسك كبير؟ لا والله،
ده إنت صغير… صغير أوي قدام كل حاجة حقيقية في الدنيا.
لفّت وشها ناحية الباب،
وهي بتتكلم بنبرة مليانة وجع وكبرياء:
– شكلك بس اللي متعلم، لكن جواك فاضي.
تعلم تحترم غيرك قبل ما تفكر تبقى راجل.
وبكل هدوء، قامت تفت في وشه…
وقفت عند الباب،
مرات عمها كانت لسه واقفة مذهولة بتسأل بخوف:
– في إيه يا فرح؟ حصل إيه لكل ده؟
فرح بصّت لها بسرعة،
وقبل ما تقفل الباب قالت بجملة قصيرة بس مولعة نار:
– اسألي الحيلة.
وسابتهم وخرجت،
صوت كعب جزمتها على الأرض كان بيكسر سكون البيت،
كأنه بيعلن النهاية…
نهاية وجع، ونهاية صبر.
------------------------
كانت شنطتها في إيدها، تقيلة مش من الوزن… من اللي جواها.
بس المرة دي، ما كانش فيها خوف، كانت فيها نهاية.
نهاية بيت ما بقتش ترتاح فيه،
ونهاية وجع كانت عايشة فيه كل يوم.
وقفت قدام باب نور،
خبطت بهدوء كأنها بتخبط على باب حياة جديدة.
ثواني وسمعت صوت خطوات سريعة…
ونور فتحت الباب.
بصت لها ثانية، وبعدين عينيها دمعت وهي بتضحك:
– عشان كده كنتِ عايزة تسيبي البيت يا بنت الـ…!
قبل حتى ما تكمل الجملة، كانت حضناها جامد جدًا،
حضن اللي فاهم من غير ولا كلمة.
فرح اتنهدت وهي بترد الحضن:
– كنت عايزة أمشي من زمان يا نور،
بس كنت مستنية اللحظة اللي أتأكد فيها إن ماليش رجعة.
وابتسمت بخجل وقالت وهي بتزقها بهدوء:
– بس أنا محروجه من خالتك جدًا يا نور.
لسه الكلمة خارجة من بُقها،
طلعت خالتها من جوه وهي تمسح إيديها في المريلة وتقول بضحكة طيبة:
– محروجه من إيه يا حبيبتي؟ ده أنا زي أمك يا بنتي!
تعالي في حضني، ده نور ما بتتكلمش غير عنك.
كل يوم: فرح قالت، فرح عملت، فرح ضحكت.
خلتني أحبك قبل ما أشوفك أصلًا.
فرح ضحكت بخجل وقالت:
– ربنا يخليكي يا خالتي، ده كرم منك والله.
خالتها بمرح وهي تشاور ناحية السفرة:
– يلا بينا عشان نتغدى قبل الأكل ما يبرد.
فرح بسرعة قالت:
– لا والله مش قادرة خالص، تعبانه شوية.
– لا لا لا، انتي مكسوفة مننا بقى!
خالتها قالتها وهي بتحاول تمسك بإيدها تجرها ناحيتهم.
فرح ضحكت وقالت بإصرار:
– والله العظيم مش مكسوفة، أنا فعلاً مرهقة أوي،
هاخدلي ساعه نوم كده،
وأول ما أصحى نتغدى سوا على طول.
خالتها ربتت على كتفها بحنية وقالت:
– ماشي يا بنتي، ريّحي، والبيت بيتك.
فرح ابتسمت وهي داخلة الأوضة،
ولأول مرة من فترة طويلة،
حست إن في مكان ممكن تنام فيه وهي مطمنة.
وقررت تنام ساعة بس، علشان تخبى الهم تحت المخدة شوية.
وفجأة صحت على صوت رجولة وهدوء صوت مش غريب خالص، صوت كانت سمعته قبل كده مليون مرة.
هي ما طلعتش من الأوضة، فضلت تسمع من ورا الباب كأنها خايفة تبان، قلبها يدق بسرعة مش من الوجع دلوقتى بس لا و من الفضول كمان.
بعد شوية ما تمالك نفسها، قامت لابسة طرحتها بسرعة، فتحت الباب بصوت خفيف، وخرجت على الصالة. قدام باب الشقة.
نَفَسها اتقطع نص ثانية من المفاجأة، وبعدين ثارت في قلبها حاجة عصبية، جمعت دماغها وقالت بصوت مش واطي:
– هو إنت إيه اللي جابك هنا؟ هو أنا مش هخلص منك.
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
