![]() |
رواية قلوب لا ترمم الفصل الاول بقلم نورهان موسي
«تظاهر بالاكتفاء، حتى وإن كنتَ أكثرهم احتياجًا لكل شيء».
وقفت أمام المرآة تحدّق في انعكاس صورتها بتمعّن. خصلات شعرها البني تنساب على كتفيها في نعومة، وعيناها الحادتان تشعّان بتلك النظرة التي ورثها عنها ولدها... نظرة تحمل في طيّاتها صلابة وجروحًا لم تندمل. تغيّرت كثيرًا عمّا كانت عليه، لم تَعُد تلك المرأة الهشّة، بل أصبحت أكثر صلابة، أكثر وعيًا، وأكثر استعدادًا للمواجهة. تثبّتت من هيئتها، ثم التقطت حقيبتها وهمّت بالنزول.
في الأسفل، كان الجميع جالسًا حول الطاولة، ينتظرون قدومها في صمت مشوب بالترقّب. دقائق فقط، وراح صوت خطواتها يتردّد عبر السلم، يتسلّل إليهم شيئًا فشيئًا، حتى دخلت بهدوء. ألقت التحية بصوت خافت وجَلَست في مكانها المعتاد، محتفظة بملامحها المتماسكة كعادتها.
ساد الصمت لبعض الوقت، فقط صوت الملاعق وارتطامها بالأطباق. إلى أن قطعه صوت "مراد"، الذي نطق بجديّة مفاجئة:
_ "أنا نازل مصر بكرة."
تجمّدت يد "عليّا" فوق المائدة، واهتزّت الملعقة من بين أصابعها. رفعت نظرها إليه بحدة، ملامحها تلوّنت بالغضب، وعيونها اشتعلت بانفعال مكتوم:
_ "هتروح تعمل إيه في مصر؟! أنا مش قولتلك إن الموضوع منتهي تمامًا؟!"
انتفض مراد واقفًا، وعيناه تلمعان بالغضب المكبوت. صوته خرج جهورياً أجشّ، كأن صبره قد نفد:
_ "عليا! أنا مبقتش عيل صغير عشان تقوليلي أروح فين! فاهمة؟!"
وقفت هى الأخرى، وكأن كلماته صفعتها. ملامحها انقبضت، وصدرها يعلو ويهبط من شدّة انفعالها:
_ "أيوه، مش عيل، بس على الأقل خاف على نفسك! مراتك وابنك محتاجينك... متضيعش كل اللي عملته! كفاية اللي خسرته يا مراد!"
صمتت فجأة، وكأن الألم قد علق في حلقها، ثم استدارت وغادرت بخطوات سريعة تحمل في طيّاتها الغضب والخذلان معًا، دون أن تلتفت أو تنبس بكلمة أخرى.
ساد الصمت لثوانٍ، قبل أن يقطعه صوت "حياة"، الذي جاء عاتبًا ناعمًا، وفيه رجاء:
_ "عاجبك كده؟ أنت عارف إنها مش خايفة غير عليك... وأي حاجة تخص مصر بتعصبها، إنت فاهم ده كويس."
أخفض مراد رأسه للحظة، لكن سرعان ما تكلّم مجددًا، بصوت يحمل عنادًا لا يخلو من ألم دفين:
_ "لازم كل حاجة ترجع لأصلها، وحقها يرجع. لو هي ساكتة... أنا لأ، مش هسكت يا حياة."
اقتربت "حياة" منه بهدوء، وجلست إلى جواره، وأمسكت بيده كأنها تحاول أن تطفئ النار المشتعلة في صدره:
_ "بلاش يا مراد... أنت عارف الموضوع ده بيجرحها. وبعدين ناوي على إيه؟"
نظر إليها مراد بعينين غامضتين، تخبئان قرارات لم يُفصح عنها بعد، وقال بصوت خافت:
_ "مستحيل أجرحها... بس هتعرفي كل حاجة، في وقتها."
♕♕♕♕♕♕♕♕
على جانبٍ آخر، داخل إحدى الشركات التابعة لمجموعة "هاشم جروب"، وتحديدًا في مكتب "بدر هاشم المنياوي"، كان الجوّ مشحونًا بالترقّب والتركيز. جلس بدر خلف مكتبه الفخم، يتفحّص بعينين صارمتين مجموعة من الأوراق أمامه، بينما جلس "محسن"، أحد الموظفين، قبالته يناقشه في سير المشروعات التي تعمل عليها الشركة حاليًا.
رفع بدر عينيه عن الأوراق قائلًا بنبرة يعلوها الثقة:
_ "أنا شايف إن المناقصة هترسي علينا... إحنا مقدّمين أفضل عرض بين كل الشركات."
أومأ محسن برأسه، ثم قال بجدّية مشوبة بالقلق:
_ "فعلاً يا فندم، باقي الشركات عروضها أضعف. بس الخوف كله من الشركات الأجنبية. يعني في شركة اسمها (A.M)، بصراحة شايف إن عرضهم قوي جدًا."
تغيّرت ملامح بدر في لحظة، وارتسم على وجهه عبوسٌ غاضب. ضرب بقبضته سطح المكتب بقوة، حتى اهتزّت الأوراق من أمامه، وهتف بغضب حاد:
_ "إزاي يعني؟! لسه فاكر تقولي دلوقتي؟! وبعدين مش دي نفس الشركة اللي أخدت المناقصة اللي فاتت؟!"
ارتبك محسن، وانكمشت ملامحه، وأومأ سريعًا برأسه وهو يردّ بصوت منخفض مليء بالتوتر:
_ "أيوه يا فندم... هي نفس الشركة."
نهض بدر واقفًا بعصبية، يداه تتشنّجان، وصوته خرج صارمًا كالسيف:
_ "في أسرع وقت... عايز ملف كامل عن الشركة دي! كل حاجة... كل تفصيلة! فاهم؟!"
هزّ محسن رأسه بجدية، محاولًا كتم توتره:
_ "تحت أمرك يا فندم."
ثم استأذن في المغادرة، وانسحب من المكتب بخطوات متعجلة.
في الخارج، دخل مكتبه الخاص وجلس خلف مكتبه المتواضع. أخرج من أحد الأدراج صورة قديمة، كانت مخبّأة بعناية... صورة تجمعه بها، تلك التي سكنت قلبه طويلًا. كانت بين ذراعيه، تبتسم في سعادةٍ بريئة، وعيناها تلمعان ببريق الحياة. كم كانت جميلة... وكم كانت تلك الابتسامة كافية لشفاء قلبه ذات يوم.
لكن تلك الذكرى لم تُسعده، بل أشعلت في صدره نارًا لا تنطفئ.
تذكّر كيف كسرت قلبه، كيف أهانته أمام الجميع دون رحمة. تذكّر نظرات الشماتة، والخذلان، والذهول، حين مزّقت كرامته بكلماتها الجارحة.
احتقنت عيناه، واحمرّ وجهه من شدّة الغضب، وغلى الدم في عروقه حتى شعر أن جسده كله سينفجر من الغليان. صرّ على أسنانه، ثم فجأة، ومن دون تفكير، رماها بقوة نحو الحائط.
تحطّم الزجاج إلى شظايا متناثرة، وتبعثرت الذكرى، لكن الألم... بقي ينزف بصمت.
♕♕♕♕♕♕♕♕♕
كانت تتحدث عبر الهاتف، تركّز في كل كلمة تُقال، ملامحها مشدودة ولكن عيناها تلمعان بحماسة خفية. أنهت المكالمة بابتسامة عريضة ارتسمت على شفتيها، ابتسامة نصر ناعم ينبئ بنجاح خطتها كما أرادت.
دلف "مراد" إلى المكتب بخطوات واثقة، وجلس أمامها، يتأمل وجهها الذي لا يزال يحمل آثار تلك المكالمة، ثم قال بنبرة تجمع بين الاهتمام والمزاح:
_ "لسّه زعلانة من اللي حصل الصبح؟"
نهضت من مكانها، دارت حول المكتب بخطوات محسوبة، ثم جلست أمامه، تطلّ عليه بعينين تحملان عتابًا مكتومًا، وأجابته بنبرة مقتضبة، يخالطها بعض الجفاء:
_ "أنت عارف إني عمرى ما بزعل منك... بس اللى قولته الصبح ما ينفعش يتكرر تاني، مفهوم؟"
ابتسم بخفة وتسلية، محاولًا كسر التوتر الذي خيّم على الأجواء:
_ "برضه مفيش فايدة فيكي... زي ما انتي. على العموم، كنت عايزك تجهّزي نفسك علشان مؤتمر رجال الأعمال اللي هيتعمل في مصر."
تبدّلت ملامحها في لحظة، واشتعل الغضب في عينيها، صوّبت نظراتها الحادة نحوه، ثم ردّت بنبرة حادة، تفيض بنفاد الصبر:
_ "قولتلك... مش هنسافر! أنت مش عايز تفهم ليه؟!"
اقترب منها بهدوء، وانحنى قليلًا حتى صار على مقربة من وجهها، ثم أمسك يديها برفق، وعيناه تنطقان بمحبة وحرص:
_ "اهدي... مفيش حاجة هتحصل، أنا جنبك. مش هنفضل عايشين في خوف طول العمر."
كانت على وشك الرد، شفتيها تحرّكتا لتبدأ بالكلام، لكنّه قاطعها بنبرة حاسمة، لا تحتمل النقاش:
_ "خلاص... مفيش كلام. بكرا هنسافر مصر. حضّري نفسك."
صمتت، لكن عينيها ظلّتا تراقبه، بين غضبٍ لم يخمد، وخوفٍ لم يهدأ، وقلبٍ يتمزق بين القبول والرفض.
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
في صباح اليوم التالي، حطّت الطائرة في مطار القاهرة الدولي، وبدت علامات الضيق واضحة على ملامح "عليا"، التي تنهدت بعمق وكأن شيئًا ثقيلًا يستقر فوق صدرها. أنهوا إجراءات الوصول بصمتٍ ثقيل، ثم استقلوا السيارة الخاصة بهم متجهين نحو القصر.
وما إن جلست في المقعد الخلفي حتى قالت بصوتٍ خافت، لكنه يقطر غضبًا مكبوتًا:
_ "أنا مش فاهمة إزاي مشيت وراك... مين المفروض الكبير هنا؟"
أجابها مراد بابتسامة هادئة، وعيناه تتأملانها بنظرة مزيج من الحنان والعند، ثم أشار بيده ناحية صدرها:
_ "هو ده اللي جابك... قلبك. بلاش تضحكي على نفسك أكتر من كده."
صمتت "عليا"، ولم تُجِب بكلمة واحدة، لكنها أرسلت إليه نظرات غاضبة، حادة كالسهم، قبل أن تحوّل وجهها ناحية النافذة، تغوص في صمتٍ مثقل بالتفكير، وكأن كلماته قد أصابت نقطة ضعف تعرفها جيدًا.
بعد مرور نصف ساعة، توقّفت السيارة أمام بوابة القصر. كان المبنى شامخًا، فخمًا، يليق بعائلة مرموقة، يضم عدة طوابق، وحديقة فسيحة، وأثاث فاخر تزيّنه اللوحات الزيتية المعلّقة، ما جعله أشبه بقصور الملوك.
دلفت "عليا" إلى الداخل برفقة "مراد"، و"حياة" زوجته، وابنهما الصغير "زين". وما إن خطت داخل القصر حتى انتشرت علامات الذهول على وجوه الموجودين، فقد كانت المرة الأخيرة التي وُجدت فيها عليا هنا عاصفة... حطّمت كل ما أمامها كالزلزال، وغادرت دون رجعة، حتى اعتقد الجميع أنها لن تطأ هذا المكان مجددًا.
لكن ها هي الآن... واقفة وسط دهشة الجميع، بنظرات صارمة وملامح مشدودة.
قالت فجأة بنبرة آمرة، موجّهة حديثها إلى الخادمة:
_ "لو سمحتي يا دادة، خدي زين علشان ياكل ويغيّر هدومه."
أجابتها الخادمة بسرعة واحترام، وهي تنحني قليلًا:
_ "حاضر يا هانم."
أخذت "زين" وانسحبت، بينما استدارت "عليا" بنظرة حاسمة نحو "مراد"، وأشارت له بيدها قائلة:
_ "وأنت... تعالى ورايا على المكتب."
هزّ رأسه وهو ينحني ساخرًا، وقال بنبرة تمثّل الخضوع الزائف:
_ "أمرك يا مولاتي."
نظرت إليه بنفاد صبر، وكزّت على أسنانها دون أن تعلّق، ثم توجهت إلى المكتب بخطوات حازمة.
أما "مراد"، فابتسم بخفة، وأرسل قبلة في الهواء نحو "حياة" التي وقفت تراقبهما، ولم تستطع كتمان ضحكتها، فقد اعتادت على سخريته اللاذعة ومزاحه الدائم، خصوصًا عندما يكون بصدد مواجهة "عليا" وأوامرها التي يُطلق عليها مازحًا "الوصايا العشر".
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
ساد جو من التوتر والقلق أرجاء قاعة الطعام، وكأن الهواء ذاته كان مشبعًا بالترقب. كانت الأنظار تتجه نحو بدر، الذي بدا وكأنه بركان يغلي تحت سطح هادئ؛ جالسًا في مكانه متماسكًا، بينما الغضب يشتعل في عينيه ويتصاعد في صدره دون أن يظهره على ملامحه. الجد، برزانته المعهودة، جلس على رأس الطاولة بصمت، ينتظر انتهاء الوجبة ليُحادث حفيده على انفراد، راغبًا في معرفة ما جرى.
قطع الصمت صوت "هاشم"، والد بدر، الذي كان يتناول طعامه بنظرات متفحصة:
_ "عملت إيه في الصفقة يا بدر؟!"
أجابه بدر بنبرة هادئة متناقضة تمامًا مع اللهيب المتأجج بداخله:
_ "للأسف يا بابا... خسرنا الصفقة، نفس الشركة خادتها للمرة التانية."
اتسعت ملامح هاشم بضيـق واضح، وحدّت نبرته بنفاد صبر:
_ "مش معقول كده... دي تاني مرة نخسر مناقصة كبيرة بالشكل ده! لازم تلاقي حل، لأن الخسارة الجاية هتبقى مؤثرة جدًا."
زفر بدر زفرة عميقة، خرجت كأنها محاولة فاشلة لإطفاء الحريق الذي يأكل صدره. يعلم تمامًا أن والده محق، وأن عليه أن يتحرك بسرعة. لا بد أن يعرف من يقف خلف هذه الشركة الغامضة التي بدأت تزاحمهم على كبرى الصفقات، وكأن هناك من يتعمّد إسقاطه.
أفاق من شروده على صوت الجد الحاد، وهو يتدخل قاطعًا التوتر:
_ "التجارة شغل ومكسب وخسارة، مش نهاية الدنيا. الأهم دلوقتي نركز على اللي جاي."
ثم أدار وجهه نحو بدر، وقال بنبرة جادة:
_ "المؤتمر اللي هيتعمل في الغردقة مهم جدًا لشغلنا... لازم نحضره كلنا."
ارتفع صوت زوجة الجد، بنبرة يغلب عليها الدلال:
_ "يعني قصدك إننا هنسافر معاك يا حبيبي؟"
هز الجد رأسه بالإيجاب، بينما علت الابتسامة وجه "نهلة"، ابنة عبدالله المنياوي، التي ما إن سمعت بخبر السفر حتى هتفت بسعادة تلقائية:
_ "وأخيرًا هنسافر! الواحد بقاله كتير محبوس، لتكمل بحماس وهي تلتفت لأبيها:
هو المؤتمر ده إمتى يا بابا؟!"
رد عليها عبدالله وهو ينهض من على الطاولة:
_ "بعد يومين إن شاء الله."
ثم أشار لبدر قائلاً:
_ "تعالى معايا يا بدر، عايزك في شغل."
نهض بدر متثاقلًا، وتبعه إلى المكتب، لا يزال ذهنه مشوشًا بالأحداث الأخيرة. جلسا داخل المكتب، وبدأا بمراجعة بعض الملفات المتعلقة بالمشروعات القادمة. قطع عبدالله حديث الأرقام فجأة، وسأل بنبرة محمّلة بالمعنى:
_ "أومال فين مراتك؟ بقالها فترة مش باينة في البيت... أنتم متخانقين ولا إيه؟"
توقف بدر عن التقليب في الأوراق، وأسند ظهره إلى الكرسي، ثم قال ببرودٍ متعمد:
_ "لا... مفيش مشاكل، هي بس كانت عند والدتها شوية، تعبانة شوية... وهترجع النهارده."
أومأ عبدالله برأسه، ثم أردف بنبرة تحمل الإشارة لا التصريح:
_ "لازم تاخدها معاك الغردقة... كل واحد هتكون مراته موجودة، ومش عايزين حد يفتح بُقّه بكلمة ملهاش لازمة."
هز بدر رأسه موافقًا، لكن داخله كان يموج بالغضب والرفض. هو لا يطيق وجودها بجواره، لا يشعر تجاهها بشيء سوى الجمود. زواجه بها كان لحظة انفعال وطيش، لحظة خذلان عاطفي جعلته ينتقم من قلبه بزواجٍ لا يريد منه سوى النسيان... لكنه لم ينسَ.
لاحظ عبدالله تصلب ملامح وجه بدر، وكيف انكمشت عضلات وجهه في تعبير يشي بالألم... كان يعلم تمامًا أن بدر لا يزال يفكر بها. تلك الأخرى التي تركت فراغًا في قلبه لم يُملأ، ولا يزال مجرد الحديث عنها يُشعل النار في عينيه.
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
بعد يومين، وفي قلب مدينة الغردقة الساحرة، إحدى أبرز مراكز السياحة والأنشطة البحرية في مصر، وتحديدًا داخل أروقة أكبر فنادقها حيث يُقام المؤتمر الدولي، احتشد عدد كبير من رجال وسيدات الأعمال داخل القاعة الرئيسية، يتبادلون الحديث في مجموعات صغيرة، كلٌّ يعرض رؤيته في تطوير الاستثمار ودور مصر الريادي في الساحة العالمية.
كان بدر هاشم واقفًا وسط مجموعة من رجال الأعمال، ينصت بتركيز إلى النقاش الدائر حول آفاق التطوير ودفع عجلة النمو، بينما تستعد القاعة لسماع كلمة من أحد كبار المستثمرين. وما إن أعلن المقدّم اسم المتحدث حتى صعد الرجل إلى المنصة، وبدأ حديثه عن أهمية بناء مستقبل مصر من خلال التعليم الجاد، وإعداد أجيال قادرة على حمل الراية.
لكن بدر، الذي كان حاضرًا بجسده، بدأ فجأة يشعر بأن عقله قد انسحب من كل ما حوله. تسارعت دقات قلبه كأنها تُعلن عن قلق خفي، واختفت الأصوات تدريجيًا من أذنيه، ولم يتبقَّ سوى همسات باهتة تتردد في الفراغ... همسات غامضة ولكنها مألوفة.
تسللت إلى أنفه رائحة يعرفها جيدًا... رائحة محفورة في ذاكرته، لم تفارقه يومًا، رائحة ارتبطت دومًا بالحنين، بالألم، بالحب الذي دفنه حيًا. أصلح بدر من هندامه بسرعة لا إرادية، ثم أدار وجهه ببطء نحو باب القاعة، وكأن قلبه قد سبقه إليه.
وهناك... كانت تقف.
بهيبة لا تخطئها عين، ظهرت عليا، متألقة بقوة لافتة، ترتدي طقماً كاملاً باللون الأسود، بليزر أنيق فوق قميص بنفس الدرجة، وبنطال قماشي يعكس أناقتها الصارمة، شفاهها مرسومة بلون قرمزي قاتم، وخصلات شعرها مرفوعة في ذيل حصان أنيق يعكس عنادها المعتاد وقوة شخصيتها.
رفعت عينيها نحوه، ونظرت إليه بنظرات صلبة، تحمل مزيجًا من الكره والقوة، لكن بدر... كان يراها وحدها، يراها بقلبه قبل عينيه. يعلم أنها لا تزال تحبه، رغم كل ما حدث، رغم الجراح التي لم تندمل، لكنه أيضًا يعلم أنها باتت تبغضه بمرارة، بغض لا يصدر إلا ممن أحب بصدق... وتألم حتى النزف.
أما عليا، فقد تلاقى نظرها بنظره، وتوقفت لحظة... في عينيها اشتياق حاولت أن تنكره، لمعة خافتة كادت أن تفضح رغبتها القديمة في أن تسرع إليه، أن ترتمي في حضنه وتبكي، لكن شيئًا ما داخلها كان يصرخ: "لم يعد لك... لقد خسرته."
عادت إلى نفسها في لحظة، تذكّرت كل شيء، كل خذلان، كل لحظة انكسار، وكل دمعة أُجبرت أن تبتلعها بصمت. فاشتدّ بريق عينيها، ولمعت فيهما شرارة من الحسم والانتقام. رفعت رأسها بثبات، وسارت إلى داخل القاعة بخطوات واثقة، كأنها تدهس كل ضعف تحت كعب حذائها، لم تعره أي اهتمام، وكأن وجوده لا يعني شيئًا.
لكن بداخلها... كانت تعاني.
صراع عنيف يحتدم بين قلب يشتاق، وكبرياء يأبى أن ينكسر مرة أخرى. حاولت أن تسيطر على ملامحها، أن تُبقي رأسها مرفوعًا، لكن عينيها لم تكفّا عن مراقبته في الخفاء، وعقلها كان يخطط جيدًا للخطوة التالية... خطوة لا عودة بعدها.
كانت عليا على يقين... إن لم تستطع أن تنسى، فعلى الأقل، ستجعله يدفع الثمن.