رواية ظل البراق الفصل الرابع عشر
ما أقسى أن يُخفي كلُّ قلبٍ وجعه خلف ابتسامةٍ باهتة، وأن يمضي كلٌّ في طريقه مُثقلًا بما لا يُقال. فبعض الفصول من الحياة لا تُروى بالكلمات، بل تُفهم من نظرةٍ حائرة، أو تنهيدةٍ تُغادر القلب قبل أن تُسمَع..
_______
كان الصباح ما زال يتثاءب فوق الحارة، والبرد يقرص أطرافها كما لو كان يريد أن يوقظها قسرًا. الساعة السادسة تمامًا، والجو رماديّ تلوّنه أنفاس الناس التي تتصاعد بخارًا في الهواء، بينما الحارة لا تزال نصف نائمة، لا تسمع فيها إلا أصوات الأبواب تُفتح على مهل، وخطوات رجلٍ يخرج ليرافق ابنته إلى المواصلات، وصوت خفيف لعربةٍ تمرّ محمّلة بالخضار.
في مطعم رقية وناهد، كانت رائحة الحُب تمتزج بدفء مع رائحة الطعام ،وصوت الأدوات يتصادم كأنه موسيقى صباح الحارة.
كانت “رقية” تقف خلف الطاولة الخشبية ، يديها تغوصان في خلطة الفلافل، تضبط المقادير بدقة وهدوء.
أما “ناهد “فكانت تقلب في ورقة طويلة بيديها، تمسك قلمًا وتراجع الطلبات بعينٍ خبيرة.
وفي الخارج، كان محمود يضع الكراسي أمام المكان، يتنفس بخاره في البرد وهو يتمتم بكلماتٍ لا يسمعها أحد.
قالت” ناهد “وهي تراجع الورقة:
ـ “يا رقية، إحنا محتاجين الحاجات اللي في الورقة دي النهاردة.”
ردّت “رقية “وهي منهمكة في العجن دون أن ترفع رأسها:
ـ “لازم يعني النهاردة؟ ولا ممكن نستنى لبكرة؟أصل النهادرة اليوم بيبقي صعب أوي .”
نظرت” ناهد “في الورقة من جديد وقالت:
ـ “لأ، النهاردة مش ضروري. اللي عندنا هيكفّي. بس بكرة كله هيبقى خلصان.”
ابتسمت “رقية” وقالت:
ـ “خلاص، بعد ما نخلص اليوم نبقى نروح نجيبهم أنا وإنتِ.”
دخل” محمود “وقال بهدوء:
ـ “طب خلّوني أنا أروح أجيب الحاجات يا أَبلة ناهد بدل ما تتعبوا وأهو نوفر وقت .”
ضحكت” ناهد” بخفة وقالت وهي تنظر له من فوق نظارتها:
ـ “الواد ما بيصدق يهرب في أي مشوار عشان ما يذاكرش.”
ردّ عليها بسرعة بصدمة وضحك خفيف :
ـ “أنا؟! أبدًا، ظالماني دايمًا يا أَبلة ، أنا عمري ما أهرب من المذاكرة.”
“ناهد” بسخرية:
_” علي يدي يا واد ، إحنا اللي هنروح نجيب الطلبات برضوا .”
قال بضحك وغرور :
_” براحتك ، هتخسروا واحد بينقي وبيفاصل كويس زيي .”
ابتسمت “رقية ” بخفة وهي تجفف يديها :
ـ ” نص ساعة يا خويا وتمشي عشان وتجهّز وتروح مدرستك، عايزين نشوف الحماس والطاقة دي في الدراسة بقى.”
اتّكأ “محمود” على الكرسي وقال بتمثيل مصطنع:
ـ” ليه كده بس… أنا ناوي أفضّل معاكم النهاردة وماروحش المدرسة.”
بادرت “ناهد “وهي تضحك:
ـ “ليه يا صُغنن؟ هتحرسنا ولا إيه؟”
ضحك “محمود” وقال وهو يُعدل من وضع الكرسي:
ـ” اليوم بيبقى مضغوط، وانتوا الأتنين مش هتلاحقوا على الطلبات، قلت أساعدكم النهاردة وبلاش المدرسة .”
اقتربت منه رقية وقالت بابتسامة بها حنان الأم وسخرية الأخت الكبيرة:
ـ” ما تقلقش يا أبو قلب حنين، إحنا ياما اشتغلنا لوحدنا. خلّص شغلك واتوكّل على الله، وروح شوف دراستك .”
رفع “محمود ” يده وكأنه يعلن الاستسلام وقال بضحكة:
ـ “خلاص خلاص، بس لو رجعتوا متأخرين النهاردة ماتجوش تقولوا قاعد تلعب وسايبنا لوحدنا ليه.”
ـ” يا واد روح! روح شوف مستقبلك.”
قالت ناهد الجملة بابتسامة، ثم خرج محمود ليُكمل عمله.
“رقية” بمرح :
_ ” ألا يا ناهودة مالك شيك النهاردة بزيادة كده ليه؟”
ضحكت “ناهد “وهي تُلقي طرف حجابها للخلف :
_” أنا شيك طول عمري يا بت ، بس قولت اروق علي نفسي النهاردة وأعيش دور المديرة .”
ضحكت “رقية “وقالت بغمزة:
_ “احلي مديرة والله …”
لم يُكملا الحديث، إذ دخل أوّل زبون إلى المطعم وهو يقول بصوتٍ عالٍ:
ـ “صباح الخير يا ملكات الحارة، شغّالين ولا لسه بتجهزوا؟”
ضحكت “رقية “وقالت:
ـ “شغّالين يا حاج سليم، ريحة أكلنا مش واصلاك ولا إيه؟”
قال الحاج بابتسامة:
ـ” واصلة وبتعذّبنا يا ستّي! عايز رغيفين فول وقرصتين فلافل سخنين كده على السريع.”
قالت “ناهد ” بضحك وجدية مصطنعة:
_ ” لأ إحنا مابنحبش حد يستعجلنا ، علي مهلنا وبراحتنا.”
_” حقكم يا ست ناهد ، مين يعرف يعمل زي أكلكم ؟”
“ناهد” بغرور “
_ ” مافيش طبعًا.”
“رقية ” هزت رأسها بغلب من ناهد وقالت للحاج سليم :
ـ “اقعد يا حاج ودقايق و تكون الطلبات جاهزة.”
وفيما كانت تُحضّر طلبه، كانت ناهد تتبادل حديثًا سريعًا مع امرأةٍ دخلت للتو :
ـ “صباح الخير يا مدام ناهد، لو سمحتي عايزة طلبي بتاع كل يوم بس بسرعة عشان العيال يلحقوا المدرسة .”
ابتسمت “ناهد ” وقالت وهي تبدأ في تجهيز طلبها :
ـ “على عيني يا حبيبتي، استني بس دقيقة رقية تخلص الطعمية وأنا هجهز ليكِ الفول .”
ضحكت المرأة وقالت:
ـ” ربنا يبارك، ريحته واصله للآخر الشارع.”
تبادلت” ناهد “نظرةً سريعة مع رقية وقالت بخفة:
ـ “سمعتي ؟ ده احنا مشهوريين أوي يا ماما.”
ضحكت” رقية” وقالت وهي ترفع أول قرص فلافل ذهبي اللون:
ـ ” سمعت يا ريسة .”
دخل وقتها محمود ليخبرهم بأنه سيذهب ، وبالفعل ذهب وبدأت أشعة الصباح الخافتة تتسلل إلى داخل المطعم، تنعكس على الوجوه المتعبة من البرد والانتظار. كان البخار يتصاعد من الطاسة، ممتزجًا برائحة الفلافل الطازجة، فيما انهمكت رُقية في عملها كعادتها، سريعة الحركة، دقيقة التركيز، لا تترك شيئًا إلا في مكانه.
أما ناهد فكانت تميل على الطاولة المقابلة، تمسك كوب الشاي بيديها الدافئتين، تتابع صديقتها بنظرة فيها ألف راحة.
قطعت الصمت وقالت بابتسامةٍ دافئة:
ـ” مش هنروح نزور نادية بقى؟ البت متجوّزة بقالها فترة، وأنتِ كل يوم تقولي هنروح ومابنرحش.”
رفعت” رُقية” رأسها للحظة، ثم عادت لتقليب العجين بخفة وهي ترد بنغمةٍ هادئة:
ـ” هنروح أكيد يا ناهد، أنا بس مستنيّة جوزها ينزل الشغل بعد إجازة الجواز، عشان مايبقاش في إحراج لينا.”
ضحكت “ناهد” بخفة وهي تهزّ رأسها:
ـ “ولا إحراج ولا حاجة، دي كلّمتني امبارح وزعلانة إننا مارُحناش من بعد الصباحية على طول.”
ثم أضافت وهي ترفع حاجبيها:
ـ” وقالت كمان إن جوزها هينزل شغله النهاردة.”
ابتسمت “رُقية “وهي تمسح يديها في الفوطة القريبة:
ـ خلاص، نبقى نروح بكرة ولا بعده، نتطمن عليها ونبارك ونيجي علي طول .”
“ناهد” نظرت إليها بغمزةٍ ماكرة وقالت وهي تضحك:
ـ “عقبال ما أجيلِك أنا في بيتِك يا اللي في باللي!”
رفعت” رُقية” حاجبًا بخفة، وردّت بنفس النغمة:
ـ “مانتِ بتيجي بيتي على طول يا ناهوده، إيه الجديد؟”
قهقهت” ناهد”، ثم قالت بمغزى وهي تميل نحوها قليلاً:
ـ “لأ، المرة الجاية عايزة أجي البيت التاني…
توقفت لحظة، وكأنها تبحث عن كلمةٍ مناسبة، ثم أضافت بنبرةٍ مرحة:
ـ” أصله طراوة أكتر وحُب أكتر… قصدي مريح أكتر.”
ضحكت “رُقية” بخفةٍ وهي تلتقط حبة فلفل كانت أمامها وتُلقيها عليها قائلة بضيقٍ مصطنع:
ـ “ركزي في شغلك يا مدام ناهد، وسيبك من الحب اللي ماجابلناش غير التعب ده.”
انفجرت” ناهد “بالضحك، وضربت الطاولة بخفة وهي تقول بنغمةٍ مرحة:
ـ “أنتِ اللي تعبِه نفسك يا قلب مدام ناهد، فُكي شوية، وسيبي قلبِك في حاله، وهو مش هيتعبك.”
رفعت “رُقية” عينيها نحوها بهدوء، حدّقت فيها لثوانٍ، ثم قالت بنبرةٍ تميل إلى الجدّ:
ـ” وأنتِ ماسبتيش قلبِك في حاله ليه؟”
ساد بينهما لحظة صمتٍ قصيرة، لم يُسمع فيها إلا صوت الزيت وهو يغلي في الطاسة.
تنهدت” ناهد” بصدق، نظرتها فقدت مرحها للحظة، وقالت بصوتٍ خافتٍ لكنه مليء بالوجع القديم:
ـ” بلاش تعمّمي تجربتي عليكِ يا رقية… أنا قصتي كانت مقفولة بالضبة والمفتاح، ولو كنت سبت قلبي وقتها… كانت هتبقى دمار.”
نظرت “رُقية” إليها طويلًا، ثم ناولَت أحد الزبائن طلبه بابتسامةٍ باهتة، وقالت وهي تضع الكيس في يده:
ـ “وأنا لو سبت قلبي… هتبقى حرب يا ناهد.”
ثم التفتت إليها بعينٍ فيها ما يكفي من التلميح، وأردفت بصوتٍ منخفض:
ـ” وأنتِ شُفتي جزء منها.”
صمتت” ناهد”، وفهمت تمامًا ما قصدته.
نظرتها تحوّلت إلى شيءٍ من الحزن، لكنها لم تُعلّق، فقط تنهدت بهدوء، ثم عادت لتقليب الساندويتشات أمامها كأنها تهرب من الكلام.
أما رُقية، فتابعت عملها في صمت، يدها لا تتوقف، لكن ملامح وجهها تغيّرت،بقيت عيناها زائغتين لثوانٍ، كأنها تسمع صوتًا لا يسمعه أحد غيرها.
خارج المطعم، بدأت الحارة تدبّ فيها الحياة من جديد، لكن داخل المكان الصغير، ظلّ الصمت بين المرأتين أكثر ضجيجًا من أي صوتٍ آخر.
………
جلس محسن المهدي أمام فطورة بهدوء، يرتشف الشاي بنظرة ثابتة، لا يرمش إلا حين يتحدث.
جلست أمامه وفاء، ترتدي ملابس أنيقة وعيناها لا تكفّان عن مراقبته بنصف ابتسامةٍ مشدودة.
اقتربت منه قليلًا، وقالت بصوتٍ خافتٍ يحمل حذرًا مكتومًا:
ـ” هتعمل إيه بُكرة.”
رفع رأسه ببطء، ونظر إليها بثقةٍ باردة وهو يقول:
ـ” هنسلّم في نص الليل… أنا كلمت الناس واتفقنا على المكان والمعاد.”
شدّت وفاء شفتيها بقلقٍ خفيف، ثم ردّت بنفس الهمس، وكأن الحيطان قد تسمعها:
ـ” أوعي تغلط في أي حاجة، الغلطة المرة دي تودي ورا الشمس يا محسن”.
ترك كوب الشاي على الطاولة بقوةٍ خفيفة، ونظر إليها بعينٍ تشتعل غضبًا:
ـ “أنا مش صغير عشان تفضلي تقوليلي الكلمتين دول في كل مرة يا وفاء… ده أنا محسن المهدي!”
أطلقت ضحكة قصيرة، ثم أصدرت صوتًا ساخرًا بفمها، وقالت وهي تميل برأسها بسخريةٍ ظاهرة:
ـ “بلاش نفخ في نفسك كتير كده يا بيبي، احنا لسه خسرانين صفقة بملايين بسببك.”
ارتفع حاجباه غضبًا، وصوته خرج حادًا وهو يردّ بضيقٍ واضح:
ـ “وهعوّضها المرة دي! بس خليكِ بعيد أنتِ عن الموضوع.”
نظرت إليه بعينين تومضان بالنار، وقالت بنبرةٍ غاضبةٍ متماسكة:
ـ “بعيد؟! أنا في قلب أي حاجة تخصك يا محسن بيه. شكلك نسيت إنّي شريكتك بالنص في كل حاجة!”
ضحك بسخريةٍ جافة، وأشار إليها بيده كأنه يستهزئ بكلماتها:
ـ “تحبّي أكتبلك النص التاني يا وفاء هانم؟”
رفعت ذقنها بثقة، وردّت بثباتٍ فيه تصميم غريب:
ـ “هيحصل يا محسن… هيحصل.”
ثم مالت نحوه، نظرتها صارت أكثر جدية وهي تضيف ببطءٍ كمن يلقي قنبلةً على الطاولة:
ـ “مانا مش هستنّى اليوم اللي تيجي فيه واحدة تقوللي عايزة ورث أبويا”.
تجمّد وجهه لثوانٍ، نظر إليها بدهشةٍ صريحة، وقال بنبرةٍ منخفضةٍ مشوبةٍ بالذهول:
ـ “ورث؟!”
وبعد لحظة صمت، ابتسم ابتسامةً باهتةً وهو يميل في كرسيه للخلف:
ـ “أنتِ كمان موتّيني؟ وبعدين مين اللي هتيجي تقول عايزة ورث؟ اللي ما تعرفش عني حاجة بقالها أكتر من ١١ سنة؟”
قالت “وفاء “بهدوءٍ خبيث وهي تعبث بملعقتها في طبقها دون أن ترفع عينيها نحوه:
ـ “آه، عادي جدًا.”
ثم نظرت له فجأة بعينٍ مليئةٍ بالدهاء، وأضافت بنبرةٍ واثقة:
ـ “أنتَ راجل أعمال، واسمك بيتقال كتير. أكيد هي عارفة أنتَ بقيت إيه… ومش بعيد تيجي في يوم تقولك عايزة ورثي.”
صمت محسن لحظة، نظراته بدأت تتغير، كأنه يحاول تذكّر وجهًا من الماضي.
اقترب منها قليلًا، صوته خرج منخفضًا، لكنه مشدود:
ـ ” أنا مش فاكر شكلها أصلًا يا وفاء ..هي هتفتكرني ؟!”
أمالت رأسها بخفة، وقالت وهي تضع الملعقة بهدوءٍ على الطبق:
ـ ” أنتَ ماتعرفش حاجة ، دي طالعة لأمها بالظبط.”
نظرتها اشتدت، وكأنها تقصد أن تطعنه بالاسم، ثم قالت ببرودٍ قاتل:
ـ” لا أمها كانت سهلة، ولا رُقية سهلة.”
عيون محسن اتسعت، كأن الاسم أعاد له وجهًا من الماضي حاول طويلاً أن يدفنه.
وقبل أن ينطق، اخترق صوتهما صوتٌ ناعمٌ وصغير من عند باب الصالة:
ـ “مين رُقية دي يا بابا اللي بتتكلموا عليها وبتقولوا مش سهلة؟”
التفت الاثنان في لحظةٍ واحدة.
كان زين واقفًا عند الباب، بملابس المدرسة الأنيقة، وحقيبته على كتفه، وعيناه مليئتان بالفضول الطفولي.
تبادلت وفاء ومحسن نظراتٍ سريعةٍ ممتلئة بالقلق.
لكن وفاء كانت أسرع كعادتها؛ رسمت ابتسامةً وادّعت الهدوء، ثم قالت بصوتٍ دافئٍ مصطنع وهي تشير له بالاقتراب:
ـ” صباح الخير يا حبيبي، تعال افطر قبل ما الباص يجي.”
تقدّم زين بخطواتٍ سريعةٍ نحو المائدة، وجلس على مقعده المعتاد، وقال وهو يمدّ يده إلى طبق الجبنة:
ـ” صباح النور يا ماما… بس مين رُقية دي اللي بتتكلموا عليها؟”
تجمّد محسن مكانه، عينه انتقلت بين وجه ابنه ووجه زوجته. بدا كأنه لا يجد الكلمات، ولا يملك التبرير.
لكن وفاء تناولت اللقمة من طبقها بهدوءٍ بالغ، وقالت ببساطةٍ باردة وهي تمضغ الطعام:
ـ” دي واحدة كده غلبانة، بتيجي لأبوك تاخد اللي فيه النصيب… بس شكلها بقت استغلالية شوية وبتطلب أكتر من اللازم.”
رفع محسن حاجبيه بصدمةٍ مكتومة، ووجهه مال قليلًا ناحية زوجته كأنه لا يصدق ما سمعه، لكن وفاء لم تنظر إليه، وكأنها أنهت الموقف تمامًا.
لم يمر سوى لحظات، حتى رأى على وجه ابنه اقتناعًا طفوليًا خالصًا، فتنفس بارتياحٍ خفيفٍ دون أن يُظهره.
قال زين ببساطةٍ وبنغمةٍ بريئةٍ جعلت الصمت يثقل أكثر:
ـ” طب عادي يا ماما… ادوها طالما محتاجة، إحنا عندنا كتير الحمد لله.”
ابتسم محسن بتكلفٍ واضح، ومد يده نحو الخبز وهو يقول بهدوءٍ مصطنع:
ـ “عشان خاطر زين نديها يا سيدي… افطر بس بسرعة قبل ما الباص ييجي.”
ضحك زين بخفةٍ صغيرة، وبدأ يأكل بحماسٍ طفولي، بينما نظرات والديه كانت تتحرك بينه وبين بعضهما كأن بينهما اتفاقًا غير منطوق.
ابتسامة وفاء كانت باهتة، لكن في عينيها ظلّ الخوف؛ خوف أن يعرف زين يومًا الحقيقة.
أما محسن، فظلّ صامتًا، عيناه شاردة نحو المائدة، وكأن اسم “رُقية” ما زال يدوي في رأسه.
……..
هناك رجال يجدون في عملهم راحتهم وذواتهم، وكان يوسف النجار واحدًا من هؤلاء…في وسط الحارة تقريبًا، كان باب ورشة يوسف النجار يُفتح على مصراعيه، محدثًا صريرًا مألوفًا.
ما إن دخل الورشة، مدّ يده إلى الراديو الصغير المعلّق على الحائط، وضبطه على إذاعة القرآن الكريم.
صدح صوت التواشيح في الأجواء التواشيح “مولاي، إني ببابك قد بسطت يدي…”يختلط مع رائحة الخشب ونشارة الصنوبر، فامتلأت الحارة بعبقٍ يشبه الطمأنينة.
وفي أثناء ما كان يختبر سنّ المنشار على قطعة خشب، دخل شخص من العاملين معه ،وقال بابتسامة :
ـ “صباح الخير يا معلم يوسف.”
يوسف التفت له، وقال بمرح :
_ صباح الفل يا معلم ، جاي متأخر بس هعديها .”
الشاب ضحك وهو يقترب من الطاولة:
ـ” والله يا معلم راحت عليا نومة ، معلش .”
“يوسف” هز راسه بابتسامة خفيفة وقال:
_” ولا يهمك يا سيدي ، اتصل علي اللي لسه نايمين دول صحيهم وكلهم يبقوا هنا عشان الشغل اللي هيطلع النهاردة .”
_” حاضر هكلمهم حالًا.”
جلس “يوسف “وأخذ نفسًا عميقًا وضغط على زر الاتصال، وانتظر حتى جاءه صوت مهاب من الطرف الآخر، بنبرته الهادئة المألوفة:
ـ “صباح الخير يا يوسف.”
“يوسف” ابتسم تلقائيًا وقال بمرحٍ بسيط:
ـ” صباح النور يا هندسة، صحيت؟”
ـ” لسه صاحي ، أنتَ اللي شكلك صوتك صاحي بدري النهاردة.”
ضحك “يوسف” بخفة وهو يردّ:
ـ ده أنا دايمًا كده، الصبح له بركة يا أخي. وبعدين عندي فكرة كده ، إيه رأيك نفطر سوا؟”
قال “مهاب ” باستعجال :
_” نفسي والله بس لازم أنزل دلوقتي اروح المعرض ، في عربيات جديدة هستلمها النهاردة ولازم أبقي موجود .”
“يوسف” قال بإصرار لطيف:
ـ” والله لو بدأت يومك بلقمة معايا، هتلاقيه ماشي زي الفل. تعالى، ناكل لقمة ونقعد شوية كده نحكي..”
مهاب صمت لحظة، وبعديها قال بنبرة أخف:
ـ “طيب، ساعة وأكون عندك، بس لازم أعدي على المعرض الأول أستلم شحنة العربيات واظبط الدنيا واجيلك يا صاحبي .”
ـ “ماشي يا سيدي، خلّص شغلك وتعالى، وأنا هفضل ماسك نفسي ومش هضعف وأفطر من غيرك .”
ضحك مهاب بخفة، وقال وهو يغلق المكالمة:
ـ “خليك على وضعك يا نجّار الحارة…سلام .”
بعد نحو نصف ساعة، كانت شاحنات النقل الكبيرة تقف أمام المعرض ،المكان يعجّ بالحركة، وصوت المحركات يملأ الأجواء.
وقف مهاب أمام المدخل، مرتديًا سترة سوداء أنيقة فوق قميص رمادي، وملامحه تجمع بين الجدية والاطمئنان.
اقترب منه أحد العمال وقال وهو يشير نحو الباب الخلفي:
ـ “البضاعة وصلت يا باشمهندس، والمندوب جوه بيستنّاك.”
نظر له “مهاب” باستغراب وقال :
_” غريبة ؟ وصلت بدري النهاردة .”
صمت ثواني ثم قال وهو ينظر للعامل بجدية :
_” بصوا علي العربيات قبل ما يدخلوا معرضنا ، عايز فحص كامل ومن غير غلطة .”
_” بدأنا بالفحص فعلًا يا باشمهندس ، ماتقلقش.”
أومأ مهاب برأسه، ودخل بخطواتٍ واثقة إلى داخل المعرض، حيث كان المندوب يراجع الأوراق على مكتب صغير.
مدّ “مهاب” يده في ترحابٍ مهذب وقال:
ـ” صباح الخير، أنا المهندس مهاب البرّاق.”
ابتسم المندوب وردّ:
ـ “أهلاً وسهلاً باشمهندس، العربيات في أحسن حالة، ودي العقود الخاصة بالتسليم.”
جلس “مهاب” على المقعد، راجع الأوراق بسرعة ودقة، ثم قال بنبرة حاسمة:
ـ” تمام، استلمنا، خَلّي الشباب يكملوا فحصهم وبعدها ينقلوا العربيات جوه المعرض، وهاتلي الفواتير النهائية أوقّعها.”
خلال دقائق كان كل شيء يتمّ بانضباطٍ واضح.
نظرة واحدة منه كانت كفيلة بأن يتحرك كل عامل في مكانه.
ورغم انشغاله، كانت عيناه تتابع كل التفاصيل بدقّة، ويده تمسك القلم بثبات وهو يوقّع.
ثم التفت إلى “حماده ” وقال بهدوء:
ـ “أنا رايح مشوار صغير، لو حد سأل عني، قول راجع بعد ساعة.”
“حماده ” بابتسامة :
_ ” خُد راحتك يا هندسة .”
ارتسمت ضحكة خفيفة علي ملامح “مهاب ” وقال :
_ ” عيوني يا سيدي ، همشي أنا وأنتوا ماتسرحوش كتير في الشغل وتنسوا تفطروا ، اطلبوا فطار دلوقتي .”
_ ” يا أخي دي يابختها اللي هتأخدك .”
توقف “مهاب ” ونظر له بابتسمامة وقال بغمزة :
_ ” ده يابختي أنا بيها.”
تعالت ضحكات كُل من بالمكان ، وهو أخذ مفاتيحه، واتجه نحو سيارته ركبها ، وأدار المحرك، وانطلق خارج المعرض متجهًا إلى الحارة.
توقّف مهاب بسيارته أمام الورشة، ونزل وهو يضم يده إلى جيبه ليتقي البرد. لمح يوسف أمام الورشة يرتب الألواح الخشبية، وصوت المقرئ يملأ المكان بخشوع. ابتسم” يوسف “ما إن رآه وقال بصوتٍ مرحٍ:
ـ “طب مش كنت تقول عشان نرشلك الشارع نشارة ملونة،ده الباشمهندس جِاي بنفسه عشان يشوفني .”
ضحك” مهاب” بخفة وهو يقول بمرح مماثل:
ـ” نشارة ملونة يا قديم يا بيئة ، وبعدين يا خويا أنا جاي عشان الفطار مش عشان اشوفك .”
نظر له “يوسف ” بصدمة مصطنعه ووضع يده علي قلبه وقال :
_” حرام عليك جرحت قلبي ! بدل ماتقولي أنا سبت الدنيا كلها والشغل وجيت عشان اشوفك يا جو يا حبيبي ؟! أخص علي العشرة .”
رمقه” مهاب” برفع حاجبه، وقد بدا الإتقان في أدائه كأنه يمثل مشهدًا متقنًا، ثم قال:
ـ” تصدق صدقتك والدمعة هتفر من عيني !”
أكمل “يوسف ” وقال برقة غير مألوفةٍ منه :
_ ” يعني أنا ماوحشتكش؟”
نظر له “مهاب ” بقلة حيلة وقال بابتسامة :
_” وحشتني يا عم ، بس أسلوبك ده هيخلي اللي بيبرقوا لينا دول ياخدوا فكرة غلط عننا .”
أنهى مهاب حديثه وهو يُشير إلى عمّال الورشة الذين تركوا عملهم ووقفوا يتابعون ما يجري، منصتين إلى كلام مديرهم وطريقته في الحديث مع صديقه.
نظر يوسف إليهم، وتأمّل تعبيرات وجوههم، ثم التفت إلى مهاب لثوانٍ، قبل أن ينفجر الاثنان ضاحكين ويعانقان بعضهما.
قال يوسف، وهو يضحك لمهاب:
_” طب والله وحشتني ، من صلاة الفجر مش شوفتك يا عم .”
قال “مهاب” وهو يربت علي كتف يوسف:
_” هعمل نفسي مصدقك وهقولك وأنتَ كمان ، عشان بس تفطرني .”
نظر إليه” يوسف” بضيق، وقال وهو يدفعه برفق ليجلس على الكرسي:
_” هفطرك يا خويا ، اقعد بس الأول .”
جلس الاثنان على المقاعد الخشبية خارج الورشة، يوسف نظر أمامه ثم قال :
ـ ” نطلب بقي من مطعم ستّ الناس؟”
ضحك” مهاب” وهو يفهم المقصود:
ـ ” اروح أنا أطلب .”
تعالت ضحكات “يوسف ” وهو يقول :
_” لأ ده أنت عديت وقلبك بقي جامد يا هوبا .”
نظر له “مهاب ” بضيق مصطنع وقال :
_” هوبا منك بترفعلي الضغط يا أخي ، اروح أنا ولا تروح أنتَ؟”
اشار له “يوسف “وهو يكتم ضحكاته :
_ ” روح أنتَ يا كبير ، أنا بشوف بنت خالتي في أي وقت لكن أنتَ بمواعيد .”
رمقه مهاب بغيظٍ من كلامه، وأخذ يتلفّت باحثًا عن شيءٍ يرميه به، فلم يجد، فاكتفى بأن ركله بقدمه وهو يهمّ بالانصراف متجهًا نحو المطعم.
دخل المطعم وهو يُلقي نظرة نحوها، لكنها كانت غارقة في عملها تمامًا.
رأته ناهد، فرفعت صوتها عمدًا لتلفت انتباهه وتجعله يُركز:
_” طب تصدق وحشتني .”
انتبه “لناهد ” وقال وهو يضحك :
_”هو أنا كل ماحد يشوفني يقولي وحشتني ؟ أنا كنت مسافر ولا إيه ؟”
غمزت له “ناهد ” وقالت :
_” مين يا باشمهندش اللي قالك وحشتني غيري؟ معجبينك كتير مانا عارفة .”
أشار إلى نفسه قائلًا بنفيٍ واضح:
_” ابدًا والله ؛ وبعدين بلاش تولعيها الدنيا أصلًا مولعة لوحدها .”
ضحكت بخفة وقالت له بهمس :
_” الحق عليا كنت عايزة اساعدك واخليها تولع وتبصلك بدل ما انتَ من أول ما دخلت وأنتَ عمال تبص من تحت لتحت .”
نظر لها بصدمة وقال بنفس الهمس :
_”أنا ببص من تحت لتحت يا ناهد ؟ “
قالت” ناهد” بضحكةٍ خفيفة:
_” آه ، وبعدين اسمع مني دي بتبجي بالزن ، أفضل اظهر قدامها وقول مرة واتنين وعشرة .”
_” أكتر من كده ؟ ده أنا حاسس إنها ممكن تقلتني بالسكينة اللي ماسكاها دي من كتر الزن .”
قال أخر كلامه وهو يشير إلي “رقية ” التي تقطع الخضار بمهارة.
وضعت ناهد يدها على فمها لتكتم ضحكتها، ثم قالت له:
_” كُل شئ جايز يابني ..قولي عايز إيه ؟”
لم يُجبها، والتفت إلى رقية قائلًا:
_” صباح الخير يا رقية .”
نظرت له بهدوء وقالت :
_” صباح النور يا باشمهندس .”
ثم التفتت إلي عملها مرة أخري ، فنظر لناهد بضيق وقال لها بهمس :
_” لو سارق ورثها مش هتعمل معايا كده .”
ضحكت ناهد وهي مستسمتعة بمشاهدتهم ، فقال “مهاب ” لرقية :
_” طب أنا جعان .”
أدارت وجهها إلى الجهة الأخرى حتى لا يراها، وابتسمت ابتسامةً خفيفة وهي تهزّ رأسها باستسلامٍ منه،
ثم التفتت إلى ناهد وقالت بجدية:
_” شوفي طلبات الباشمهندس وحضريها يا ناهد .”
نظر إليها مهاب رافعًا حاجبه، ثم حوّل نظره إلى ناهد بنظرةٍ تحذيرية كأنه يمنعها من قول “حاضر”،
فابتلعت ناهد ريقها بتوتر تحت وقع نظراته، وقالت لرقية وهي تتجه لتقف في مكانها:
_” لأ بصي أنا كمل بدالك هنا وأنتِ جهزي الطلبات .”
نظرت إليها رقية بغضب، وبدأت تُجهّز طلبه دون أن تسأله عمّا يريد، فهي تعرف ذلك جيدًا.
وقف مهاب محاولًا أن يتجنّب النظر إليها، بينما قلبه يخفق بقوة لمجرّد وجودهما في المكان نفسه.
وفي خضمّ ذلك، كان يوسف قد انتقل من الجلوس على الكرسي إلى الجلوس على طاولةٍ أطول قليلًا، ليتمكّن من رؤيتهما بوضوح.
لم يكن يسمع ما يقولانه، لكنه كان يبتسم متسليًا بتعبيرات وجه مهاب التي تتبدّل في لحظةٍ بين الغضب، والحب، والضجر.
………..
ـ داخل سوبر ماركت رزق البرّاق الكبير، كانت الإضاءة البيضاء تسطع بقوة فوق الأرفف الممتلئة بالبضائع، والناس تتحرك في صمتٍ حذر، وكأن كل خطوة محسوبة خوفًا من نظرات المدير نفسه: خالد البرّاق.
كان واقفًا عند الكاشير، متكئًا على الكاونتر بملامح جامدة، نظرة متعالية لا تخلو من الغضب الدائم، وصوته الجهوري يعلو فوق ضجيج المكان.
قال بحدة وهو ينظر إلى أحد العمال الصغار الذي كان يرتب الزبادي على الرف:
ـ “يا ابني، دي تاني مرة أقولك الرف ده يبقى كله نفس النوع! مش كل شوية ألاقى الفراولة جنب الحليب!”
الولد ارتبك وقال بخوف:
ـ “حاضر يا أستاذ خالد، كنت لسه برصّهم.”
“خالد” قال بسخرية:
ـ” لسه بترصّهم؟ يا سلام! وأنتَ من الصبح بتشتغل ولا جاي تتفرج علي البضاعة؟!”
ضحك عامل ثاني بخفوت، فالتفت خالد ناحيته بسرعة وقال بصوتٍ حاد:
ـ “إيه اللي بيضحكك يا أستاذ؟ في نكتة وأنا مش واخد بالي؟ ولا الشغل عندنا بقى هزار؟”
الراجل ردّ بخوف:
ـ” لا يا أستاذ خالد، والله كنت بس…
قاطعه خالد بنظرة حادة وقال:
ـ “خلاص، بسّ دي تبقى آخر مرة أسمع صوت غير صوت الزبون هنا، مفهوم؟”
سادت لحظة صمت في المكان، الكل عاد يعمل في توتر واضح.
دخل رجل كبير في السنّ من الزبائن،وقال بابتسامة طيبة:
ـ” صباح الخير يا خالد بيه، كنت عايز الطلبات اللي في الورقة دي عقبال ما اقبض المعاش بكرة وأجي أدفع حسابهم..أنتوا عارفيني وأنا بأخد من عندكم علي طول .”
رد” خالد “ببرود دون أن ينظر إليه:
ـ ” مافيش طلبات بتطلع من غير فلوس ، ادفع الأول الفلوس وبعدين خد اللي أنتَ عايزة .”
الرجل قال بتردد:
ـ “بس أنا محتاج الطلبات دي ضروري والمعاش لسه مانزلش….”
قاطعه “خالد” بحدة وهو يشيح بيده:
ـ “يا عم الحاج ماتصدعش دماغي ، أنا قولت اللي عندي ، ووسع المكان في ناس وراك عايزة تحاسب .”
الراجل هزّ رأسه في إحراج وقال بهدوء:
ـ “خلاص يا ابني، هامشي، ربنا يسامحك.”
وغادر ببطء، فيما نظر العمال لبعضهم بامتعاضٍ خفيّ،
لكن لم يجرؤ أحدٌ على الكلام.
وبعد دقيقةٍ واحدة، دخل شابٌّ من العمّال الجدد يحمل كرتونةً بين يديه وقال بخوف:
ـ أستاذ خالد، الكرتونة دي لسه جت من المورّد، نحطها فين؟
“خالد” رد وهو يرفع حاجبه باستعلاء:
ـ” هو أنا اللي شغال هنا ولا أنت؟ يعني محتاج تسألني تحطها فين؟ مش المفروض تبقي عارف شغلك إيه ؟
الشاب قال بخجل:
ـ” كنت بس بتأكد، عشان المرة اللي فاتت حضرتك…”
قاطعه” خالد” وهو يلوّح بيده في الهواء:
ـ” المرة اللي فاتت والمرة دي والمرة الجاية، الشغل يتعمل من غير فلسفة.”
رمى نظرة حادة على الجميع ثم قال بصوتٍ مرتفعٍ كأنه يوجّه خطبة:
ـ” اللي مش قادر يشتغل بنظام البرّاق، الباب أوسع من السوق!”
وبينما ساد الصمت التام، رفع خالد كوب القهوة الخاص به ورشف منه بهدوءٍ متعجرف، ثم أكمل:
ـ” أنا ما بحبش الغلط، ومابغلطش، ومش هستحمل غلطة من حد.”
وبينما يمرّ بين الممرات، كان كل عامل يهمّ بإصلاح وضعه أو ترتيب الرف بسرعة، حتى لا يقع تحت نظرة خالد الباردة.
ورغم كل هذا الجمود، ابتسم بخفوت وهو يرى صورة والده المعلّقة عند الكاشير وقال في سره بصوتٍ منخفضٍ لا يسمعه أحد:
ـ” لازم أفضّل كده، عشان أستحق اسم البرّاق فعلاً.”
عاد خالد إلى مكتبه بخطوات محسوبة، وأغلق الباب خلفه بقوة، كأنّه يغلق على عالمٍ يخصّه وحده.
جلس على مقعده الجلدي وألقى بجسده للخلف، مدّ يده إلى فنجان القهوة الموضوع أمامه، رشفة صغيرة فقط، ثم وضعه على المكتب بتأفّف.
رنّ الهاتف، فمدّ يده إليه بكسل، أجاب بنبرة باردة متعالية:
ـ “لو مش جايبلي أخبار حلوة، اقفل.”
جاءه صوت إيهاب من الطرف الآخر مرتبكًا، مترددًا، يحمل في نبرته مزيجًا من التوتر والرجاء:
ـ “ليه كده يا باشا؟ ده الزبون استوى على الآخر، خلاص هيفضل في حضننا.”
ارتسمت على وجه” خالد “ابتسامة ساخرة، خالية من الدفء، وقال ببطء فيه استهزاء:
ـ “استوى؟ آخر مين يا أبو آخر؟ مانا شايفه امبارح، ومش ظاهر عليه حاجة، زوّد الجرعة شوية.”
ساد صمت لثوانٍ، قبل أن يردّ إيهاب بصوت مضطرب:
ـ” بس كده ممكن يتعب مننا و…”
قاطعه” خالد “فجأة، صوته ارتفع كالسوط:
ـ” أنتَ هترغي معايا يا روح أمك؟ نفّذ كلامي من سكات، فاهم؟”
ارتبك “إيهاب” أكثر، وقال بخضوعٍ كليّ:
ـ “حاضر يا باشا، بس كله بتمنه طبعًا.”
ضحك خالد ضحكة قصيرة جافة، وقال ببرودٍ ساخر:
ـ” ماتخافش، هرّوق عليك… بس خلّي بالك، اللعب ده لو باظ، هتبقى أول واحد يتشال من على الخريطة.”
ثم أنهى المكالمة دون أن ينتظر ردّه، وألقى الهاتف على المكتب بقسوة، واتكأ على الكرسي متنهّدًا، يحدّق في اللاشيء بعينين ضيقتين كمن يفكر في خطة جديدة.
خارج الزجاج، كانت الحياة تمضي في السوبر ماركت كالمعتاد، لكن داخل المكتب… كان الهدوء يخفي شيئًا أكثر ظلامًا من مجرد مكالمة .
…….
جلس مهاب ويوسف أمام الورشة، فوق ترابيزة خشبية قديمة لامستها الشمس فصارت دافئة، وضع مهاب الأطباق بعناية أمامهما، وقال مبتسمًا وهو يمدّ الخبز لصاحبه:
ـ” كُل يا عم، فطار ملوكي أهو.”
ابتسم يوسف ابتسامة خفيفة، بدأ يأكل بصمت، بينما مهاب أخرج هاتفه ليتفقد شيئًا.
رنّ الهاتف فجأة، نظر إلى الشاشة، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة وقال وهو يجيب:
ـ “إيه يا حبيبة أخوكِ؟”
جاء صوت نادين هادئًا، متزنًا كالعادة:
ـ” مهاب، أنا هخلص شغل بدري ساعة النهارده، بس كنت عايزة أقولك إني اتصلت على مازن عشان يبقى عارف ويجيلي، بس تليفونه مقفول.”
قال” مهاب “وهو ينظر في ساعته بهدوءٍ معتاد:
ـ مازن في محاضرة دلوقتي، ولسه بدري، ما تقلقيش. أنا هكلمه بعد شوية، وهو أول ما يشوف مكالمتك هيرجع يتصل عليكِ.”
ـ “ماشي، هقفل بقى عشان الشغل.”
ـ “ماشي يا حبيبتي، سلام.”
أغلق الهاتف ووضعه بجانبه، ثم رفع نظره نحو يوسف الذي ظلّ يأكل في صمت دون أن يعلق بكلمة.
راقبه “مهاب “للحظة، ثم قال بصوتٍ هادئ يشوبه شيء من الفضول:
ـ” نادين بدأت شغل من فترة.”
رفع “يوسف “رأسه قليلًا، ردّ ببرود وقال:
ـ “مهي كانت بتشتغل فعلاً يا مهاب، إيه الجديد؟”
أجابه” مهاب” بنفس الهدوء، نبرته أقرب للتفكير:
ـ “الجديد إنها بدل ما كانت بتشتغل من البيت، بقت بتشتغل في شركة.”
قال” يوسف” ببساطة وهو يعيد نظره للطعام:
ـ “ربنا يوفقها.”
ظل “مهاب” ينظر إليه بثبات، بعينٍ تلتقط الصمت أكثر مما تلتقط الكلمات، ثم قال بنبرة هادئة لكنها عميقة:
ـ “انت مش مهتم فعلاً يا صاحبي، ولا بتحاول تِبان كده؟”
رفع” يوسف” عينيه نحوه ببطء، ونبرة صوته خرجت صادقة، صافية كأنه يكتشف الحقيقة للمرة الأولى:
ـ “هتصدقني لو قلتلك إن مابقاش جوايا أي إحساس ليها؟ ولا حب، ولا كُره، ولا حاجة خالص… هي بالنسبالي أختك وبس.”
أومأ “مهاب” برأسه بتفهم، عيناه ما زالتا تراقبانه باهتمام، وقال بعد لحظة صمت:
ـ” يعني لو جت فرصة ترجعوا لبعض… مش هتقبل؟”
ضحك يوسف ضحكة قصيرة، فيها مرارة وسخرية معًا، وقال بهدوء متعب:
ـ” تقبلها عليا بعد اللي حصل منها؟ “
ظل “مهاب” صامتًا للحظات، ثم مدّ يده وربّت على كتف صاحبه في حنانٍ صادق، وقال بصوتٍ دافئ مائل للشجن:
ـ” أنت تستاهل كل خير يا صاحبي… وأنا ما أقبلش ليك غير اللي يحافظ على قلبك اللي زي الدهب.”
ضحك يوسف بخفة وهو يتأمل صديقه، ثم التفت نحو المطعم الذي بدأ يهدأ من الزبائن، وارتفع صوته بمرحٍ واضح قائلًا:
ـ “كوباية شاي وحياة خالتك يا رُقية!”
رفعت رقية حاجبها وهي تمسح يديها في المريلة، ونظرت إليه بنظرة تجمع بين الدعابة والصرامة، ثم ردّت بنبرة خفيفة:
ـ “الشاي في القهوة يا خويا، روح هاتلك كوباية من هناك.”
ابتسم “يوسف” في مكرٍ طفولي وقال متصنعًا الرجاء:
ـ “بس أنا بحب أشربه من عندكم يا سِتّي، اكْسبي فيا ثواب واعملي كوبايتين لينا أنا والغلبان اللي جنبي ده.”
كانت ناهد تراقبهما فابتسمت أولًا، ثم قالت بسخرية وهي تلوّح بالمعلقة في يدها:
ـ “نفتحلكم أوضة إقامة في المطعم يا خويا أنت وهو؟ أكل وشرب وصداع كمان؟ اسكتوا بقى، وجعتوا دماغنا على الصبح!”
تبادل مهاب ويوسف نظرات الدهشة، وكأن ردها فاجأهما، فقال “مهاب” بنبرة هادئة يغلب عليها التعجب:
ـ “ألّا جرى إيه يا ناهد؟ ما إحنا كنا حلوين، إيه اللي جرالك؟”
لم ترد ناهد، بل لفت وجهها بسرعة ودخلت إلى داخل المطعم وهي تهمهم بكلماتٍ غير مفهومة.
ظل “يوسف” صامتًا لحظة، ثم التفت إلى مهاب ونظر إليه نظرة شبه جادة وقال ساخرًا:
ـ “أنتَ هبّبت إيه لما كنت عندهم؟”
ضحك مهاب بخفة وهو يرفع حاجبه قائلًا:
ـ “والله ما عملت حاجة يا بني، هما الستات كده بيقلبوا في ثانية.”
انفجر” يوسف” ضاحكًا، ثم قال وهو يهز رأسه:
ـ «يا عم ربنا يسترها منهم ، أنتَ بتمشي لكن أنا بفضل في وشهم يا خويا .”
ابتسم مهاب بخفوت، ونظر نحو باب المطعم الذي اختفت خلفه رقية، وقال :
ـ ” طب ماتيجي نبدل .”
ضحك يوسف مجددًا ولكن صمت عندما لمح رقية وهي تضع الشاي علي طاولة أمام المطعم ونظرت له لكي يأخذها واختفت مرة أخري بداخل المطعم .
نظر “يوسف ” لهاب وغمز له وهو ينهض متجهًا نحو باب المطعم، ثم عاد يحمل كوبين من الشاي، فوضع أحدهما أمام مهاب وقال بخفة:
ـ “أهو الشاي وصل يا بيه، بس المرات الجاية أنتَ اللي تطلبه ، عشان طلباتك مُجابه .”
أخذ ” مهاب ” الشاي وابتسم بُحب وقال بهمس:
_” أنا عايز طلب واحد بس هو اللي يبقي مُجاب .”
سمع يوسف جملة مهاب الأخيرة، فضحك بصوتٍ مرتفع وهو يهز رأسه في مرح، بينما اكتفى مهاب بابتسامة خافتة ارتسمت على وجهه.
أدار نظره بعيدًا نحو الشارع، وكأنه يهرب من سخرية صديقه، ثم رفع كوب الشاي إلى شفتيه واحتسى منه بهدوء.
وهكذا انتهى الصباح على دفء شاي رُقية وضحكة يوسف وصمت مهاب، الذي ظلّ ينظر إلى الفراغ وكأنه يرى فيه ما لا يُرى.
…………
في نهاية اليوم، كانت رُقية تجلس مع أختيها كعادتها كل مساء، بينما خلا المقعد من سيف الذي تأخر في درسه.
تنهّدت بضيق وهي تنظر إليهما قائلة:
ـ “أنا مش عارفة درس إيه اللي بعد العشاء ده! يعني المدرسين فاضيين طول اليوم، وما يلاقوش وقت غير دلوقتي؟! وكمان احنا في الشتا والوقت بيبقى متأخر.”
ابتسمت” نور” بهدوء وقالت محاولة تهدئتها:
ـ “الساعة لسه تمانية يا رقية، وبعدين المكان قريب، يعني بلاش تقلقي كده على سيف.”
تابعت “هنا “وهي تربّت على كتف أختها بحنان:
ـ “المدرسين بيحبوا يخلّوا دروس الثانوية في وقت هادي، بعيد عن الزحمة والدوشة، فماتقلقيش… سيف بقى راجل مش صغير.”
نظرت إليهما رقية بهدوء، وقد هدأ انفعالها قليلًا، ثم سألت:
ـ “وانتوا؟ عاملين إيه في كليّاتكم؟ حد فيكم محتاج حاجة؟”
ابتسمت “هنا “واحتضنتها بحب قائلة:
ـ “أنا زي الفل، الحمد لله… ومش محتاجة حاجة خالص.”
ضحكت” نور” وأضافت:
ـ “وأنا طول الأسبوع امتحانات! دي آخر سنة اللي قالولي سهلة، طلعت أصعب من كل السنين اللي قبلها.”
ضحكت “رقية “وقالت مشجعة:
ـ “هانت وهتخلصي، استحملي الشوية اللي باقيين.”
قالت” نور” ممازحة وهي تمسك بطنها:
ـ “ممكن أستحمل لو العشا النهاردة صينية جلاش محشية تشكيلة جبن.”
انفجرت” هنا “ضاحكة وقالت:
ـ “وكوباية سحلب في الجو ده… تبقى عظمة!”
ضحكت “رقية “وهي تزيحهما بمرح:
ـ “قوموا اعملوا اللي عايزينه، أنا مش هقوم.”
وقفت هنا ونور معًا، وتبادلا نظرة ماكرة، ثم قالتا بصوتٍ مسرحي مضحك:
ـ “حقك يا ملكة، خليكِ قاعدة، واحنا هننفّذ الأوامر!”
ضحكت رقية وهما تتحركان نحو المطبخ، ثم تنهدت وابتسمت وهي تلتقط هاتفها وتتصل بالطبيب.
انتظرت بضع ثوانٍ حتى جاءها صوته الهادئ قائلًا:
ـ “بنت حلال، كنت لسه هكلمك.”
قالت بتوترٍ واضح:
ـ “عرفت النتيجة يا دكتور؟”
ضحك برفق وقال مطمئنًا:
ـ “براحة يا ستي، مافيش داعي للقلق ده. دي حباية صداع عادية جدًا.”
زفرت “رقية” بارتياح وهي تغمض عينيها للحظة وقالت بامتنان:
ـ “الحمد لله… أصل شكلها كان غريب وصغيرة قوي كده.”
قال الطبيب مطمئنًا:
ـ “عادي يا رقية، صدقي، مفيش أي خطر”
قالت بشكرٍ صادق:
ـ “شكرًا جدًا يا دكتور، أنا عارفة إني دوّخت حضرتك وصدّعتك معايا.”
رد بابتسامةٍ مسموعة:
ـ “عيب يا رقية، إحنا أهل… تحت أمرك في أي وقت.”
أغلقت المكالمة، وأسندت رأسها إلى الخلف، تهمس بحمدٍ خافت:
ـ “الحمد لله…”
ثم نظرت إلى الفراغ بنظرة نادمة، تعاتب نفسها بصمتٍ على كل الأفكار السيئة التي دارت في رأسها تجاه أخيها، قبل أن تنهض لتلحق بأختيها في المطبخ، وصوت ضحكهما يملأ البيت دفئًا في ليلٍ بارد.
………..
في زاويةٍ معتمة من المقهى الصغير، كان ذلك الذي تشعر اخته بالندم تجاهه جالسًا منحني الرأس، كفّاه تضغطان على صدغيه بقوة، والأنفاس تخرج متقطّعة كأنها تئنّ من وجعٍ داخليّ. حوله ضجيج الشباب وضحكاتهم العالية، بينما هو بدا كأن العالم كلّه انكمش داخل وجع رأسه فقط.
رفع عينيه نحو إيهاب، بصوتٍ مبحوح قال وهو يضغط على كلماته كمن يحاول انتزاعها من بين أنيابه:
ـ “دماغي هتتفرتك يا إيهاب… الحباية اللي باخدها بقت ما بتعملش أي حاجة.”
ابتسم “إيهاب “ابتسامة فيها مزيج من التظاهر بالشفقة والدهاء، ومدّ يده بهدوء وربت على كتف سيف قائلًا بصوت خفيض يشبه الهمس:
ـ “ليه كده يا حبيب أخوك؟ طب اسمعني… في نوع تاني، أهدى وأريح بكتير، بس أنا… والله خايف عليك.”
رفع “سيف” رأسه ببطء، عيناه حمراوان من السهر، وصوته خرج مبحوحًا ومتعبًا:
ـ “وخايف ليه طالما بيريّح؟”
ابتسم إيهاب هذه المرة ابتسامة واهنة، وقال بجديةٍ زائفة:
ـ “أصله تقيل شوية… مش أي حد يستحمله.”
مرّر “سيف” يده على وجهه كأنما يحاول طرد الألم، ثم ضرب رأسه بخفة وقال بعصبية:
ـ “مش مهم… مش مهم… المهم يريح الصداع اللي في دماغي ده.”
تنهّد “إيهاب”، ثم أخرج من جيبه ورقة صغيرة مطويّة بعناية، فتحها أمامه، فانبعث منها رذاذ بودرة بيضاء خفيفة، كأنها رماد حلمٍ محترق. نظر إلى سيف وقال بصوتٍ خافت فيه إغواء:
ـ “خد دي… جربها بس، وهتحس إنك طاير فوق التعب.”
نظر سيف إلى الورقة بعينين شاردتين، فيهما خوف غامض وشوق خفيّ للراحة.
مدّ يده المرتعشة نحوها ببطء، تردّد لحظة، كأنه يسمع صوتًا داخليًا يصرخ: ارجع.
لكن الصداع كان أقوى من النداء.
أمسك الورقة أخيرًا، وأغمض عينيه قليلًا، بينما إيهاب ابتسم ابتسامة نصرٍ خفيّ وهو يراقبه.
لحظة صمتٍ ثقيلة مرّت، ثم تنفّس سيف بعمق، وارتخت ملامحه كأنما استسلم للغرق.
خارج المقهى، كانت الأضواء الخافتة تتكسّر على زجاج النوافذ، والبرد يزحف في الشوارع..داخلها، كان فتى في السابعة عشرة يخطو خطوةٍ نحو هاويةٍ لا عودة منها.