رواية ظل البراق الفصل الخامس عشر
كأنّ اللحظة التي رأيتك فيها كانت وعدًا قديمًا بين القلب والقدر،
انحنى الزمن حول ملامحك، وصار المكان أوسع، والهواء ألين.
ما إن التقت العيون حتى سكن الضجيج كله،
كأن الوجع نام قليلًا، وكأنني عُدتُ إلى نفسي بعد غيابٍ طويل.
في حضورك، لا شيء يُقال… فكل الحروف تعرف طريقها إلى الصمت،
وكل ما حولي يصير سلامًا، لأنّك هنا.
……..
كانت أجواء البيت ساكنة بعد العشاء، وجميع أفراد العائلة مجتمعون في الصالة. جلست عائشة تقدم الشاي وقطع الكعك بالشوكولاتة التي يحبّونها جميعًا، بينما كان “محمد” يمدّ يده ليلتقط الطبق منها، ثم رفع كفّها وقبّلها مبتسمًا وهو يقول برقة:
ـ “تِسلم إيدِك يا عائش.”
ارتفع صوت مروان بتصفير طويل ،ثم صفق بيده وهو يضحك، لتشاركه هدي الضحك في خفة دم، فاحمرّ وجه “عائشة “وقالت بخجل وهي تنظر لهما:
ـ “بس يا واد أنتَ وهي، كلوا وأنتوا ساكتين.”
ضحك” مروان” وقال بغمزة لعابثة:
ـ “أنا بحتفل بأبويا الرومانسي يا حجة، بس لو يعلّمني كلمتين من بتوعه!”
انفجر” الجد هاشم” ضاحكًا، وقال له مازحًا:
ـ “وأنتَ عايز تتعلم كلمتين ليه يا خويا؟ في حدّ ناوي تقولهم له؟”
تدخّل “محمد” بخبث ظاهر:
ـ “ردّ على جدّك يا مارو، عايز تتعلم كلمتين ليه يا حبيبي؟”
رفع “مروان “حاجبيه وقال مدّعيًا الغضب:
ـ “هي الحفلة عليّ الليلة ولا إيه يا وحوش؟! أنا مش قدكم ؟ ارحموني بقى.”
قهقه الجميع، وقالت “عائشة”بخبثٍ لطيف مثل زوجها وحماها:
ـ “على فكرة، كان في صوت دندنة لأغنية لعبد الحليم امبارح بالليل… يا ترى مين كان بيغنّي هنا في البيت؟”
رفع الجد حاجبيه متصنعًا الدهشة وقال بجدٍّ ساخر:
ـ “عبد الحليم؟! هنا؟ ده فينا عاشق ولهان ومستخبّي!”
ضحكت “هدي” وقالت بخبث:
ـ “الموضوع كبير يا جدو، لازم نقعد نحقق فيه أنا وأنتَ!”
قفز “مروان “من مكانه بسرعة وقال بنبرة حازمة:
ـ “لأ، أنتِ بالذات لأ!”
نظر إليه والده باستغراب وقال:
ـ “وهي بالذات لأ ليه؟ وبعدين أنتَ بتتعصب على أختك ؟”
تنفّس “مروان” بعمق، وجلس من جديد وهو يقول بنبرة أهدأ وابتسامة خفيفة:
ـ “مين يقدر يتعصب على أميرة عيلة الهاشمي؟ دي هدي في قلبي.”
ابتسمت “هدي” بنفس الهدوء وقالت مازحة:
ـ “حبيبي يا مارو، وأنتَ كمان في قلبي.”
ضحكت “عائشة “وقالت متفحصة وجهيهما:
ـ “أنا ليه حاسة إن بينكم حرب نظرات؟ مخبّيين إيه يا ولاد؟”
كان مروان على وشك الرد، لكن الجد قاطعه بلطف وهو يغيّر الحديث:
ـ “هيخبّوا إيه يعني يا عائشة؟ سيبيهم، وقوليلي إيه الكيكة الجميلة دي ؟”
ابتسمت “عائشة “بحنان وقالت:
ـ “دي مخصوص ليك يا بابا، عارفة إن نفسك فيها.”
ضحك “الجد” وقال برقة:
ـ “تسلم إيدك يا بنتي، ربنا يخليكي لولادك يا رب.”
ابتسم “محمد “وقال بخفة دم وهو يومئ بعينه نحوها:
ـ “وليا يا رب.”
عمّت الضحكات المكان مجددًا.
وبعد قليل قالت “عائشة” بهدوء:
ـ “أنا بفكر نعزم أحمد خطيب هدي وأهله يتغدوا معانا الجمعة الجاية، إيه رأيكم يا بابا؟”
وافق الجد برضا، بينما قال “محمد”:
ـ “ما عنديش مانع، هكلمه أنا وأبوه، إيه رأيك يا هدي؟”
رفعت “هدي” نظرها إليه، وقالت بهدوء غريب:
ـ “اللي حضرتك تشوفه يا بابا.”
ساد الصمت لحظة قصيرة، قبل أن يعلّق” مروان” بقلق:
ـ “مالك يا حبيبتي؟ هو أحمد مزعلك في حاجة؟”
هزّت رأسها نافية، لكن ملامحها فضحتها. قال” مروان “بعصبية مكبوتة:
ـ “أهي الهزة دي تخليني متأكد إنه مزعلك.”
أشار له والده أن يهدأ، ثم جذب هدي نحوه بحنان وقال مطمئنًا:
ـ “هدي يا بنتي، لو في حاجة حصلت لازم تقولينا، إحنا في ضهرك دايمًا.”
تنهدت وقالت بصوت منخفض:
ـ “مافيش يا بابا… بس هو…”
تدخل “مروان” بسرعة:
ـ “هو إيه؟!”
رفعت نظرها نحوهم وقالت بتردد:
-“النهاردة لقيت أحمد بيتصل عليا وبيقولي إنه في الكلية عندي واخرج من المحاضرة وانزله عند المكتبة ، فاستغربت جدًا لأنه عمره ماعملها وإحنا اصلًا مش بنتقابل غير هنا في البيت ، بس قولت يمكن في مشكلة وعشان كده استأذنت من الدكتور وخرجت من المحاضرة ونزلته فعلًا ، قولتله إيه جابك هنا قالي إنه جاي عشان يشوفني ونخرج مع بعض ! فأنا قولتله نخرج فين هو أنتَ قولت لمروان يعني وهو قالك تمام وهنخرج مع بعض ؟، قالي لأ أنا ماقولتش لحد وهنخرج أنا وأنتِ لوحدنا ومش لازم نعرف حد، وقتها أنا رفضت وقولتله إنه أنا مش هخرج معاه لوحدي ، وده كان اتفاقنا من قبل الخطوبة ، هو ووقتها اتدايق أوي وقالي أنه عارف بس احنا خلاص قربنا نتجوز وعايزني انزل معاه اختار حاجات في الشقة بتاعتنا ، قولتله ماشي ماعنديش مشكلة بس مروان أو بابا يبقوا معايا أو حتي ماما ، فهو لأول مرة يتعصب عليا ويزعل من موضوع أني مابخرجش معاه لوحدنا وقالي أنه زهق وإن من حقة يخرج معايا لوحدنا وإن أنا كده مش واثقة فيه عشان مابخرجش معاه ولا بنتكلم في الفون كتير والحاجات دي ، فكرته تاني إن دي ضوابط الخطوبة وأنا قولتله من البداية هنتلزم بيها وهو وافق ،فاتعصب وقالي أنتِ حرة أنا غلطان إني جيت عشان اقعد معاكِ واشوفك وتختاري حاجات شقتك بنفسك ، لسه هرد عليه سابني ومشي .”
سا صمت ثقيل، لم يُسمع فيه سوى صوت أنفاس” مروان” المتسارعة قبل أن ينفجر غاضبًا:
ـ “هو إزاي يعمل كده؟ يجيلك الكلية من غير ما يقولنا ويخليكِ تسيبي محاضرتك كمان؟ لأ وعايز يخرج معاكي لوحدكم؟ ده جنان!”
قال” الجد” بوقار:
ـ “اهدأ يا مروان عشان نعرف نحل الموضوع بالعقل.”
رد بعصبية:
-“موضوع إيه اللي نحله يا جدي ؟ هو دخل بيتنا وعارف إحنا إيه من الأول وقولناله علي شرطنا في الخطوبة وهو وافق بيها ، فايجي دلوقتي يقول لأختي الكلام ده ، لأ وبتقول اتعصب عليا ؟ عيل زي ده يتعصب علي أختي وأهدي؟”
تدخل “محمد” بصرامة:
ـ “كفاية يا مروان.”
جلس” مروان” متضايقًا وهو يرمق الجميع بنظرات غضب مكبوت.
التفت “محمد “إلى ابنته وسألها:
ـ “هو حاول قبل كده يطلب منك تخرجوا لوحدكم؟”
قالت بخفوت:
ـ “آه، مرتين قبل كده، بس أنا كنت برفض.”
نظر إليها بحدة وقال:
ـ “وليه ماقولتيش لي قبل كده؟”
قالت متوسلة:
-“يا بابا أنا عارفة إن ضوابط الخطوبة صعبة ، وأحمد بصراحة ملتزم بيها ، ولما قالي مرة نخرج لوحدنا من غير مايبقي حد معانا انا رفضت وفكرته بالضوابط وهو سكت وانا قولت معلش برضوا اللي بنشوفه حوالينا من الناس المخطوبين واللي بيخرجوا لوحدهم وكده كتير فممكن يكون أتأثر شوية بس رجع لعقله ، ولما طلب تاني أنا قفلت الكلام وبرضوا قولت عادي الإنسان بيضعف ، ،انا لازم أساعده علي الضوابط.”
قال “الجد هاشم” بلطف:
ـ ” إحنا فاهمينك يا حبيبتي ومقدرين اللي أنتِ عملتيه ، بس يا هُدي كان لازم تيجي وتقولينا يا بنتي ؟ أفرض فضل يزن عليكِ وأنتِ سمعتي كلامه؟.”
ابتسمت بحرج وقالت:
ـ “مش هيحصل تاني يا جدو، وعد.”
ربّت والدها على كتفها وقال مطمئنًا:
ـ ” بس الزن بيجيب نتيجة يا هدي ، فلازم اي حاجة تحصل وتدايقك تيجي تقولينا ، أنتِ لو من أول مرة قولتيلنا وأنا اتكلمت معاه ماكنش هيطلب منك تاني ولا يجيلك ويقولك كده ، بس عمومًا اللي حصل حصل وأنا هتكلم معاه ، ماتزعليش نفسك أنتِ “
هزّت رأسها، ثم قالت بهدوء:
ـ “أنا هطلع أذاكر عندي امتحان بكرة.”
ابتسمت أمها وقالت:
ـ “ربنا معاكِ يا حبيبتي.”
غادرت هدي، بينما ظل مروان صامتًا لدقائق، ثم قال بحدة وهو ينظر إلى أبيه:
ـ “هتتكلم معاه في إيه يا بابا؟ مش المفروض نخلص الخطوبة دي؟”
نظرت إليه أمه بصدمة وقالت:
ـ “ليه كده يا مروان؟ ده فرحهم قرب يابني ،غلطة بسيطة وتتحل بالكلام.”
ردّ بنبرة ثابتة:
ـ “غلطة بسيطة إيه يا ماما؟ ده ما احترمش بيتنا ولا كلامنا.”
قال الجد بحكمة:
ـ “معاك حق، بس برضو يا مروان الحب بيضعف، وده ضعف مش سوء نية، نعلّمه مش نكسره.”
أضاف الأب مؤيدًا:
ـ “بالضبط، أحمد شاب محترم، وسألنا عليه كويس، وما ننساش إن أختك حبته وهو بيحبها وفي خلال الفترة اللي دخل بيتنا فيها ماشوفناش منه أي شئ وحش وأنا اعتبرته زي أبني ، وعشان كده قرصة ودن بسيطة المرادي.”
تنهّد” مروان” بامتعاض وقال وهو ينهض:
ـ “اللي تشوفوه يا بابا.. بس أنا مش مستريح له ولا مقتنع بيه من الأول. تصبحوا على خير.”
غادر إلى غرفته، بينما نظرت عائشة إلى زوجها وقالت:
ـ “نفسي أعرف هو ليه مابيحبش أحمد.”
قال “محمد” بتروٍّ:
ـ “مروان مابيحبش حد يقرب من هدي يا عائش، وده سبب كفاية .”
هزّ الجد رأسه بوقار وقال:
ـ “سيبك من مروان، الأهم دلوقتي إنك تتكلم مع أحمد، عشان الولد يعرف حدوده ، أنا مش هسمح غلط مرة تاني وهعتبر المرادي طيش شباب .”
محمد مؤيدًا:
ـ “تمام يا حاج، ده أول اللي هعمله الصبح وأنا ليا كلام تاني معاه.”
…….
كان الصباح هادئًا في بيت الحاج إبراهيم، تتسلل أشعة الشمس إلى السفرة الصغيرة التي التفّ حولها الثلاثة كعادتهم كل يوم. جلس يوسف إلى جوار أبيه، بينما كانت سُمية تُحضّر آخر أطباق الفطور وهي تبتسم بحنان لأحاديثهما التي لا تنقطع عن الشغل.
قال” يوسف” وهو يأخذ لقمة من الجبن:
-“يا حاج، كنت عايز أتكلم معاك في موضوع كده بعد الفطار.”
رفع” إبراهيم” نظره إليه بسرعة وقد بدت عليه نبرة قلق بسيطة:
-” خير يا يوسف؟ في مشكلة؟”
ابتسم” يوسف” مطمئنًا وقال:
-” لأ يا حاج، ربنا مايجيبش مشاكل، ده موضوع كده يخص الشغل.”
تدخلت” سُمية” وهي تضع إبريق الشاي على الطاولة:
-” بطلوا كلام في الشغل شوية، مش هيطير يا عالفكرة، كلوا الأول وبعدين اتكلموا براحتكم.”
ضحك” إبراهيم” بخفة وقال وهو يشير لها أن تجلس:
-” معاها حق يا يوسف، ناكل الأول وبعدين نرغي براحتنا.”
أنهوا طعامهم بهدوء، ثم قدّمت” سُمية “أكواب الشاي وقالت وهي تهمّ بالقيام:
-ؤ أسيبكم بقي تتكلموا في الشغل براحتكم.”
لكن صوت “إبراهيم” أوقفها بنبرة عتاب محبّبة:
-” اقعدي يا سُمية، هو احنا بينا الكلام ده؟ من أمتى خبيت عليك حاجة حتى لو تخص الشغل؟”
ابتسمت بخجل، وقالت بهدوء:
-“عارفة يا حاج، بس قولت يعني أسيبكم تتكلموا براحتكم.”
مدّ يده لكوب الشاي وأجابها وهو يبتسم بحب:
-“راحتي في وجودك يا أم يوسف.”
ضحكت بخفة، أما” يوسف” فاقترب منها وأمسك يدها بلطف وهو يقول بمرح:
-” اقعدي يا سُمية، ده راحته في وجودك يا أختي!”
ضربته بخفة على ذراعه وهي تقول:
-“اتلم بقى، عشان ماقلبش عليك يا روح أمك!”
رد بخوف مصطنع وهو يعود لمكانه:
-” لأ إلا قلبتك يا سوسو، دي بتعور يا شيخة!”
ضحك” إبراهيم” وهو يهز رأسه وقال بنبرة حازمة ظاهريًا:
– بس يا يالا، مالكش دعوة بأمك، وقول اللي عايزه.”
جلس “يوسف” مستقيمًا وقال بجدية:
-” طبعًا يا حاج أنتَ عارف إن شغلنا بيطلع بكميات كبيرة لمعرض الحاج عبد الحميد، وماشاء الله دايمًا بيطلب شغل خاص، وإحنا بفضل الله بننفذه. المهم بقى إن الحاج عبد الحميد كلّمني إمبارح وطلب أقابله، روحت له على أساس هيكلمني في شغل جديد زي العادة، لكنه فاجئني بحاجة تانية خالص… بيقول إنه بيجهّز فرع جديد للمعرض، وعايزني أدخل شريك معاه.”
شهقت “سُمية” بفرحة خفيفة وقالت بعينين تلمعان:
-” والله بجد؟ طب دي حاجة حلوة أوي يا يوسف! ووافقت؟”
ابتسم” يوسف” وهو يشيح بنظره نحو أبيه:
-” لأ طبعًا، ماقدرش أوافق من غير رأي الحاج إبراهيم النجار.”
قال” إبراهيم” بهدوء فخور وهو يحتسي رشفة من الشاي:
-” الحاج عبد الحميد راجل محترم ومعرفة قديمة، وشغله نضيف. وأنا ماعنديش مانع يا يوسف، ده شغلك وأنتَ اللي أدرى باللي هيفيدك.”
“يوسف” أومأ وهو يتحدث بثقة:
– أنا فكرت كويس، ولقيت إن الموضوع فرصة كبيرة. المعرض بتاعه كله تقريبًا من شغلنا، فليه مانبقاش أصحاب المكان كمان مش مجرد اسمنا على الخشب؟ بس طبعًا المال مالك يا حاج، والكلمة كلمتك.”
ضحك” إبراهيم” بخفة، ثم وضع الكوب على الطاولة وقال بنبرة أبوية حانية:
-” المال مالي؟! هو أنا اللي شغال يا يوسف؟ ده أنا بقالي سنين مالمستش الخشب. أنتَ اللي كبرت الورشة، وأنتَ اللي عرّفت الناس باسمنا، تعبك ومجهودك اللي خلّى اسم النجار يتقال بالاحترام. الفلوس والورشة بتوعك يا ابني، أنتَ اللي تتصرف فيهم براحتك ومن غير ما ترجعلي كمان.”
اقترب “يوسف” بخطوات بطيئة من أبيه، ثم أمسك يده وقبّلها بحب صادق وقال:
-” لأ يا حاج، كل حاجة ملكك حتى أنا وأي حاجة عندي. واسمك هو اللي مخلي الناس تثق في شغلنا، أنا شغال بتعليماتك ونصايحك، من غيرك إحنا ولا حاجة يا حاج إبراهيم .”
ابتسم إبراهيم بعين دامعة وهو يجذبه لحضنه، فيما دمعت عينا سُمية وهي تهمس بدعاء صادق:
-” ربنا يخليكم لبعض ويحفظكم من كل شر.”
ضحك” يوسف” بخفة ومسح دموعها بطرف أصبعه وقال:
-” آمين يا ست الكل. ها يا حاج إبراهيم، أوافق ولا أرفض ونسكت؟”
ضحك” إبراهيم” وقال وهو يشير إليه بإصبعه:
-” توافق طبعًا، وتعزم الحاج عبد الحميد يتغدى عندنا هنا، وتمضوا العقود على بركة الله.”
وقف” يوسف” بحماس وهو يقول باحترام:
-” حاضر يا حاج، ربنا يتمم بخير.”
ثم التفت نحو أمه وقبّل يدها برقة وقال ضاحكًا:
-” دعوة حلوة منك يا سُمية قبل ما أنزل الشغل.”
ربّتت على كتفه بحنان وقالت:
-” روح يا ابني، وربنا يوقع في طريقك ناس قلبها لسه بخير.”
ابتسم يوسف ابتسامة عميقة، وقبّل رأس أبيه، ثم خرج من البيت بخطوات واثقة، يملأها شعور بالامتنان والرضا.
……
كان الصباح يميل إلى دفء النهار، والهدوء يخيّم على الحارة إلا من أصوات الحياة المعتادة. في المطعم، كانت رُقية وناهد تعملان في انسجام، كلٌّ منشغل بطبق الفول أو العجين، حين قالت “ناهد” وهي تمسح يديها في المريلة:
ـ “رُقية، هاتي فلوس الكهربا بتاعة الشهر عشان أروح أشحن قبل ما تفصل علينا.”
أومأت “رقية” وهي تفتح شنطتها الجلدية الصغيرة، لكنها ما لبثت أن عبست. راحت تقلّب بين الجيوب والأوراق بقلق، حتى تجمّد وجهها فجأة وقالت بارتباك:
ـ “غريبة… راحوا فين؟ أنا حطاهم في الشنطة بالليل قبل ما أنام!”
قالت” ناهد” بهدوء وهي تتابع عملها:
ـ “تلاقيكِ نسيتهم في البيت يا بنتي.”
رفعت “رقية” رأسها تنفي بيقين:
ـ “لأ، أنا متأكدة يا ناهد… كنت حطاهم بنفسي.”
مدّت “ناهد” يدها وربّتت على كتفها بحنان:
ـ “اهدي يا رُقية، روحي شوفي يمكن فعلاً نسيتهم هناك. ولو ما لقيتيهمش، فداكِ والله.”
هزّت “رقية” رأسها وقالت بسرعة:
ـ “تمام، هاروح أشوفهم وارجع على طول… خلي بالك من الشغل.”
خرجت مسرعة، وقلبها منقبض. كانت خطواتها فوق درجات السلم تحمل شيئًا من القلق والضياع، وكل فكرة تدور في رأسها عن مصير تلك النقود التي كانت تعدّها بدقة. لكن ما إن صعدت حتى باغتها صوت صراخٍ عالٍ من داخل شقتها.
تسارعت أنفاسها وهي تفتح الباب بعنف، لتجد سيف ممسكًا بذراع هنا بعنف واضح، وصوت هنا يرتجف وهي تحاول الإفلات.
صرخت “رقية “بصوتٍ حادٍّ:
ـ “سيف!”
تجمّد الاثنان، وهنا نظرت إليها بخوف، بينما اكتفى سيف بنظرةٍ باردةٍ لا مبالاة فيها. أغلقت رقية الباب خلفها، وتقدمت بخطوات غاضبة وهي تقول:
ـ “إيه اللي بيحصل هنا؟ ازاي تعلي صوتك على أختك الكبيرة وتمسك إيدها بالشكل ده؟!”
مدّت يدها برفق لتفكّ يد سيف عن هنا، ووضعت نظراتها على موضع الزرقة في ذراعها، ثم قالت بحدةٍ مكتومة:
ـ “شايف إيدها بقت عاملة إزاي؟ أنا بعديلك كتير يا سيف، بس تقلّ أدبك على واحدة من أخواتك؟ لا والله، دي مش هتعدي.”
تدخلت “هنا “بخوفٍ واضح:
ـ “ما حصلش حاجة يا رقية، أنا اللي عصّبته ونرفزته، و…”
قطعتها “رقية” بنظرةٍ صارمة:
ـ “ولا كلمة يا هنا. حتى لو عصبتيه، المفروض أنه وقف قدامي وقالي أنا كبرت وبقيت راجل ،الراجل عند رقية ما يمدش إيده على ست… ولا إيه يا كابتن سيف؟”
قال ببرودٍ واستفزاز:
ـ “قالتلك إنها عصبّتني، ورد فعلي طبيعي على قلة أدبها.”
اشتعلت عينا رقية، واندفعت تمسكه من ياقة قميصه بقوة، تشدّه نحوها حتى كاد أن يفقد توازنه، وقالت بنبرةٍ غاضبةٍ تخترق الصمت:
ـ “أنتَ اللي كلك علي بعضك مش طبيعي يا سيف! والله العظيم لو قلت الكلمة دي تاني على أي واحدة من أخواتك، هتشوف مني وش هيتعبك. ارجع لعقلك قبل ما أنا أفقد أعصابي وأخليك تندم بجد!”
ثم أفلتته فجأة، فتمايل خطوة للوراء قبل أن يتماسك ويقول ببرودٍ متعمد:
ـ “هتعملي إيه يعني؟ هتحرميني من المصروف؟ ولا هتحبسيني في أوضتي؟”
نظرت له هنا بذهول، بينما” رقية” ضغطت على أسنانها كي لا تنفجر من الغضب، وقالت ببرودٍ قاتل:
ـ “وتفتكر أختك اللي عاشرتها وعارفها هتعاقبك بالطرق الهبلة دي ؟
تبدّل وجه” سيف” للحظة، كأنه شعر بتهديدها فعلاً، ثم قال وهو يشيح بوجهه:
ـ “أنا عندي درس ومش فاضي لكم، ممكن أنزل؟”
ضحكت بسخرية وقالت:
ـ “انزل يا حبيبي على درسك… مع السلامة.”
جمع كتبه بسرعة، وخرج مغلقًا الباب بعنف خلفه.
ظلّت رقية واقفة لحظة، تنظر للباب ، بعينٍ يغمرها وجع لم تعتده، ثم التفتت نحو هنا التي كانت تمسك بذراعها المتورمة.
اقتربت منها وجلست بجانبها، أمسكت يدها بحنان وقالت وهي تقبّل رأسها:
ـ “حقك عليا يا هنا… والله نفسي أكسر دماغه، بس ده مش حل مع أخوكِ اللي معرفش إيه جراله.”
انهمرت دموع هنا وقالت بصوتٍ مبحوح:
ـ “أنا مش زعلانة يا رقية، ربنا يهديه ويحنن قلبه علينا تاني.”
تنهدت رقية وقالت:
ـ “آمين يا رب..بس إيه اللي حصل خلاه عامل زي الطور كده.”
توترت “هنا ” وقالت :
-” عادي كنت بتخانق معاه عشان يسيب الفون ويقوم يذاكر .”
-” هعمل مصدقاكِ يا هنا لما اشوف اخرتها معاكم.”
قامت “رقية” لتأتي بمرهمٍ للكدمات، وجلست تدهن يد أختها بحذر، و”هنا” تسألها باستغرابٍ ناعم:
ـ “بس إيه اللي جابك دلوقتي؟ غريبة يعني.”
رفعت “رقية” رأسها وكأنها تذكّرت شيئًا:
ـ “تصدقي نسيت أنا جاية ليه ؟ جيت يا ستي أشوف فلوس الكهربا ، أنا متأكدة إني حاطاهم في شنطتي بس مالقتهمش !”
ضحكت” هنا” بخفة وقالت:
ـ “أكيد نسيتيهم جوه، تعالي نشوف.”
دخلت “رقية” غرفتها، فتحت الدولاب والأدراج واحدًا تلو الآخر، ثم خرجت متوترة وقالت:
ـ “مش موجودين يا هنا، دوري معايا!”
بحثتا معًا في كل ركنٍ، دون جدوى.
قالت” رقية” بقلقٍ واضح:
ـ “أنا متأكدة إني حطيتهم في الشنطة بالليل، ولما ما لقيتهمش قولت يمكن سبتهم هنا… بس مش موجودين لا هنا ولا هناك!”
“هنا” قالت بتردد:
ـ “يمكن وقعوا منك؟
قالت “رقية ” بتفكير :
-” أنا خرجت الصبح روحت السوق أجيب طلبات للمطعم، ودفعت فلوس الحاجة ومافتحتش السوتة اللي فيها الفلوس دي .”
قالت “هنا” :
-” تلاقيهم اتسرقوا يا رقية ،السوق بيبقي زحمة والحرامية بقي محترفين ، عمرك ماتحسي وأنتِ بتتسرقي.”
أغلقت” رقية” عينيها بغيظ وقالت:
ـ “مش عارفة والله، بس يمكن فعلاً.”
ثم تنفست بعمق وقالت:
ـ “يلا في داهية… المهم إنكم بخير. هاخد فلوس تانية وأنزل.”
أخذت بعض النقود وتهيأت للخروج، فابتسمت هنا وقالت:
ـ “أنا كلمت نور، وقالت إنها خلصت من الجامعة.”
هزّت رقية رأسها:
ـ “تمام يا حبيبتي، سلام.”
غادرت البيت متجهة إلى المطعم، وما إن دخلت حتى حكت لناهد ما حدث، فقالت ناهد بهدوءٍ متفهم:
ـ “المهم إنك بخير يا رقية، الفلوس تتعوض. وبعدين ليه جايبة فلوس من معاكِ أصلاً؟ هندفع من مكسب المحل.”
هزّت” رقية” رأسها بإصرار وقالت بصوتٍ خافت:
ـ “لأ يا ناهد، أنا اللي ضيعت الفلوس وأنا اللي أتحملهم.”
رفعت “ناهد” حاجبيها بغضب وقالت بحزمٍ واضح:
ـ “رقية! أنا دماغي مش ناقصة صداع النهاردة. الفلوس هتندفع من المحل وخلاص، إحنا مش فاتحين عشان نصرف عليه! حطي فلوسك دي في شنطتك وأنا هروح أشحن الكهربا.”
أخذت ناهد النقود وخرجت مسرعة، بينما نظرت رقية إليها بدهشة وقالت وهي تهز رأسها:
ـ “الولية زعقتلي قدام الناس إزاي ومشيت؟ ماشي يا ناهد لما تيجيلي بس .”
…….
كان الجو في المعرض مشبعًا بصوت الضحك، يتردّد في أرجاء المكان كأنّه موسيقى من نوعٍ خاص.
تجمّعوا جميعًا حول طاولةٍ في منتصف القاعة: مهاب، مازن، حمادة، علي، محمود، وشريف.
الأكواب نصف الممتلئة على الطاولة، ورائحة البنّ الطازج تملأ الهواء.
كان” مازن” يميل للأمام، يضرب بيده على الكرسي أمامه ويقول بنغمة مرحة:
ـ “يا ابني صحصح معانا كده، كل شوية تنام مننا يا علي!”
رفع” علي” رأسه بكسلٍ وهو يضحك:
ـ “ماهو الواد مابينامش يا جدعان، طول الليل صويت وعياط، وطبعًا ماقدرش أروح أنام في أوضة تانية عشان أسمع أحلى جملة في الدنيا: أنتَ مش مهتم بتربية ابنك معايا ليه؟ فبتنيل اسكت وأفضل صاحي اسكته معاها، وبرضو مابينمش ابن الكلب.”
انفجروا جميعًا في ضحكٍ متواصل، كانت ضحكة حمادة الأعلى، وابتسامة” مهاب “تظهر على وجهه الهادئ وهو يميل برأسه قائلًا بمرح:
ـ “مش أنا قولتلك قبل ما تتجوز تتعوّد تنام في الصوت العالي؟ عملتلي فيها ملك زمانك وقولتلي أنا بنام في أي دوشة!”
ضحك “علي ” وهو يرفع حاجبيه بحركة مسرحية:
ـ “ماكنتش أعرف.. ماكنتش أعرف!”
قهقه “حماده”، وضرب الطاولة بخفة:
ـ “انتَ لسه شوفت حاجة؟ لما يبدأ يزحف هتسمع صويته هو وأمه مع بعض!”
تظاهر” علي” بالصدمة وهو يشير إليه بيده:
ـ “مش عارف من غير خبرتك كنت هعمل إيه يا شيخ، اسكت يا اخويا وسبني في حالي!”
قال “محمود” بابتسامة هادئة:
ـ “بس والله أكيد على قلبك زي العسل يا علي.”
لينحني “علي” قليلًا، وعيناه يلمعان بحنان:
ـ “هو رغم المرمطة اللي أنا فيها وقلة النوم، بس أول ما ببص في عينه بنسى تعب الدنيا كلها.”
مدّ “مهاب” يده، ربت على كتف علي وقال بنغمة صادقة:
ـ “ربنا يخليهولك يا علي.”
في تلك اللحظة، انتبه شريف الذي كان يعبث بهاتفه، فابتسم بخبثٍ خفيف وقال:
ـ “أنا عندي ليكم خبر.”
التفتوا نحوه جميعًا، ورفع “مازن “حاجبه وهو يمازحه:
ـ “أوعي تقول هتتجوز بعد الكلام اللي سمعته من حمادة وعلي!”
ضحك” شريف” وهزّ رأسه:
ـ “لأ، هو أنا عبيط زيهم؟”
مدّ “علي” يده وضربه بخفة على كتفه:
ـ “اتلم يالا، قول المصيبة اللي عملتها.”
تأوه” شريف” بصوتٍ مصطنع، واضعًا يده على كتفه:
ـ “إيدك تقيلة يا زفت! خلاص هقولكم عشان الفضول هينط على عينيكم.”
رفع “مهاب “حاجبه بابتسامة ساخرة:
ـ “يعني مش عشان هتموت وتقولنا مثلًا؟”
هزّ “شريف” رأسه بمرح:
ـ “تؤتؤ، عشان فضولكم!”
صمت لحظة، ثم قال بصوتٍ فيه لمحة فخرٍ وخجلٍ معًا:
ـ “جماعة، أنا خطوبتي الأسبوع الجاي.. وكتب كتابي بعد أربع شهور.”
تجمّدت النظرات عليه لثوانٍ قبل أن يعلو الصخب من جديد. ضحكات، صيحات، واحتضان جماعي حار.
صرخ “علي “وهو ينكش شعر شريف:
ـ “يا بطة، هتدخلي قفص الزوجية وتنضمي لفقرة شكاوي المتجوزين!”
ردّ “شريف “بغيظٍ مصطنع وهو يبعد يده عن شعره:
ـ “يا عم بعد الشر! شكاوي إيه بس؟ ده أنا لسه بقول بسم الله.”
غمز” حمادة” له وقال مازحًا:
ـ “أربع شهور؟ شكلك واقع من الدور العشرين يا برو!”
احمرّ وجه “شريف” وهو يقول:
ـ “مش للدرجة دي، هو الدور الخمسة وعشرين بس!”
ضجّ المكان بالضحك، وكان” مازن” يضحك بأعلى صوته وهو يقول:
ـ “يا حلاوتك، عقبالي يا رب!”
ضربه “مهاب” بخفة على ذراعه وهو يضحك:
ـ “انتَ واقع على روحك يا يالا، اجمد كده، هتفضحنا.”
وبينما كانوا يستعدون للجولة الثانية من المزاح، فُتح باب المعرض ودخل زبون.
تغيّر وجه مهاب في لحظة، نبرة صوته عادت إلى هدوئها الصارم، وقال بصوت منخفض فيه هيبة:
ـ “وهنا يرجع المدير تاني… لمّوا الليلة اللي عاملينها دي، وعلى شغلكم يا أستاذه.”
ضحكوا بخفوت، فيما غادر هو متجهًا إلى مكتبه.
رمقهم “مازن” بنظرةٍ مصطنعة الجدية وقال بنغمة ساخرة:
ـ “سمعتوه قال إيه؟ على شغلكم يا أستاذه! احنا جاين نهزر ولا نشتغل؟”
ثم نهض بخطواتٍ واثقة نحو المكتب، وقبل أن يختفي صوته التفت إليهم وهمس بسرعةٍ خافتة:
ـ “جدعان، وحياة أبوكم تلمولي السوداني ده، عشان يلزمني و…”
قُطع صوته بنبرة حازمة من الداخل:
ـ “مازن!”
تجمّدت شفاهه لحظة، ثم قال بغرور:
ـ “مايقدرش يقعد من غيري… الوداع يا حبايبي.”
دخل المكتب وسط موجة ضحكٍ جديدة منهم، كأنهم لم يجدوا في المعرض فرحًا أكبر من هذه اللحظة الصغيرة.
في الداخل، كان “مهاب “يقف أمام مكتبه يلمّ أوراقه، ثم قال دون أن يرفع رأسه:
ـ “يلا بينا نروح نجيب أختك من الشغل، ونروح سوا على البيت.”
جلس” مازن” على الكرسي المقابل وهو يقول:
ـ “أنتَ هتيجي البيت دلوقتي؟”
ـ “آه، ابوك قايل كلنا نبقى على الغدا مع بعض النهاردة.”
هزّ” مازن” رأسه موافقًا وهو ينهض:
ـ “تمام، يلا نتحرك دلوقتي قبل ما نادين تخلص شغل.”
التقط” مهاب” مفتاح السيارة من على المكتب، وابتسامة خفيفة تمرّ على وجهه وهو يوجّه كلامه لأخيه:
ـ “اقفل المكتب وتعالى.”
ثم خرج بخطواتٍ هادئة، يتبعه مازن بعد لحظاتٍ، نادى على حمادة يخبره أنّه سيعود بعد ساعتين،
قبل أن يغلق الباب خلفه ويسير بجانب أخيه نحو السيارة،
وصوت ضحكات الشباب من داخل المعرض ما زال يتردد خلفهم… كأنّه ظلّ نهارٍ لا يريد أن ينتهي.
حين دخل مهاب البيت، تبعه مازن ونادين، فاستقبلهم دفء رائحة الطعام المنبعثة من المطبخ وصوت الجدة وهي تضحك بصوتٍ مبحوح، تحكي شيئًا لا يسمعه أحد بوضوح.
في الصالة، كان عامر البرّاق يجلس على كرسيه المعتاد وبجواره انتصار وفريدة، بينما جلس الولدان محمد وحسن عند التلفاز، يتشاجرون على الريموت.
رفع عامر عينه عن الجريدة وقال بنغمةٍ فيها دفء الأب:
ـ “أهو النور رجع للبيت، كنت فاكر إن المعرض بلعكم النهاردة.”
ضحك “مهاب” وهو يقترب منه:
ـ “هو بلعنا فعلاً يا حاج، بس طلعنا منه بالعافية.”
قال” مازن” وهو يخلع حذاءه بسرعة:
ـ “أنا هموت من الجوع، اكلوني بسرعة عشان مش قادر .”
ضحكت “فريدة” وقالت وهي تنهض :
ـ “أنتَ كده ولا كده بتاكل طول اليوم يا مازن، بس مش باين عليك أبداً.”
ردّ بخفة ظل:
ـ “ده أنا بخس من الشغل يا عمتو، مهاب مش مخليني أقعد دقيقة..مفتري.”
نظر له “مهاب ” بصدمة وقال :
-” أنا مفتري ! طب يا حبيب أخوك شغل بكرة كله أنتَ اللي هتشيله .”
نهض “مازن ” بسرعة وتوجهه نحو مهاب وقال برجاء :
-” يا كبير أنتَ مافيش أحن منك في الكون ، ده أنا حتي بقول عليك مُدير سُكر وفرفوش، ويا بخت اللي مديرة مهاب البراق .”
تعالت الضحكات علي خفة دمه، فقال له “مهاب ” بغمزه :
-” هنشوف الحوار ده في الشغل ، أقعد مكانك وماتتكلمش عشان كُل ما بتتكلم بتغلط .”
جلس مازن مكانه في صمت وتعبيرات وجهه مضحكه
قال “عامر” لنادين :
ـ “مالك يا نادين؟ شكلك تعبان النهاردة، وشك مش طبيعي.”
هزّت نادين كتفيها وقالت :
ـ “شوية صداع بس يابا.”
تدخلت “فريدة “:
ـ “حبيبتي هنجيب الغدا دلوقتي ، تأكلي وتطلعي ترتاحي .”
ثُم ذهب هي وانتصار إلي المطبخ لإحضار الطعام
جلس عامر في صدر المائدة، وإلى يمينه أمه، وعن يساره انتصار، بينما جلس الباقون متقابلين، والملاعق تتحرك في تناغمٍ خفيف، وصوت الأطباق يملأ الجو كأنّه موسيقى بيتٍ قديم لا يشيخ.
قال عامر وهو يقطع قطعة لحم:
ـ “حد شاف الورشة الصبح عشان أنا مازلتش؟ مازن، أنتَ عديت عليها؟”
أجابه مازن وهو يلتقط لقمة خبز:
ـ “عدّيت، وكل حاجة زي الفل يا حاج.”
رفع” مهاب” نظره فجأة وقال:
ـ “وأنا هعدي عليها بعد الغدا .”
نظر لهم “عامر” بفخر وقال :
-” تسلموا يا وحوش .”
قالت “الجدة ” لحسن وهي تمزح :
-” مابتكلش بسرعة زي عادتك ليه يا حسن ؟، الأكل مش عاجبك ولا إيه.”
ضحك وقال بنفي :
-” لأ يا تيتا الأكل جميل والله ، بس وإحنا جايين من الدرس عديت علي أبلة ناهد وكلت عندها في المطعم ..بصراحة ماقدرتش أقاوم ريحة أكلهم .”
ردت “انتصار ” بسخرية :
-” طالع لخالك يا حسن ، أنتوا الأتنين مابتقدروش تقاوموا .”
نظروا لها باستغراب ولكن عامر نظر لها ببرود وتجاهل جملتها، فقالت الجدة التي تفهم مقصدها جيدًا :
-” عندهم حق بصراحة يا انتصار ، مين يقدر يقاوم أكل ناهد ولا ريحة أكل رقية ..الأتنين بيرشقوا في القلب ومابخرجوش منه أبدًا.”
قالت “انتصار ” باندفاع:
-” هما مين دول ؟ .”
هذه المرة رد “مهاب ” بهدوء يشوبه الخبث:
-” الأكل وريحته يا ماما ، هيكون إيه يعني ..اقعدي كملي أكلك ماحصلش حاجة لعصبيتك دي.”
هزّت “انتصار” رأسها وجلست بكبرياء:
ـ “ولا عصبية ولاحاجة ، كملوا اكلكم.”
ساد لحظة صمتٍ قصيرة، تبادل فيها مهاب وأباه نظرةً سريعة، بينما كان “مازن “يحاول كسر الهدوء:
ـ “حد يزودني رز بقى ولا كله مطنشني؟”
ضحكت “فريدة” وقالت:
ـ “خد يا واد، بس يارب تتخن شوية.”
ضحك “محمد “وقال بمزاح:
ـ “مازن طول عمره بياخد النصيب الأكبر، ما فيش عدل في البيت ده ولا إيه”
قال “عامر” بضحك:
ـ “اصله بيشتغل بقي يا سيدي ، لازم نغذيه كويس .”
ضحك “حسن” وقال بمكر:
-” لأ وهو بصراحة محتاج تغذيه عشان بيتعب جامد في شغله.”
نظر له “مازن ” وامسك قطعة خيار ووضعها في فم حسن وقال:
-” كُل واسكت يا صغنن ..ناوليني يا نادين طبق الملوخية اللي قدامك دي اشوفها بتقول إيه.”
نظروا له بصدمة ، ثم تعالت ضحكاتهم ، فقالت نادين وهي تعطيه الطبق:
-” خد يا مازن ماحدش عارف بتتعب قد إيه ، ده بيجي ياخدني من الشغل يا جماعة ارحموه بقي .”
-” قولي كمان يا بنتي وعرفيهم قيمتي .”
-” مانا بقول أهو يا أكتر حد بيتعب فينا .”
قال “مهاب ” بسخرية:
-” اجيب طبلة وتكملوا تطبيل بعض يا أختي أنتِ وهو .”
نظروا له بضحكة وهزوا رأسهم بنفي ، فقالت الجدة :
-” ربنا يديم ضحكتم يا حبايبي ، كملوا أكلكم قبل ما الأكل يبرد .”
بعد الغذاء جلس مهاب على الأريكة الطويلة، إلى جواره محمد وحسن، اللذان كانا منهمكين في الحديث عن المدرسة وأصدقاء الفصل. ألقى مهاب نظرة عليهما، ثم ابتسم وقال بنبرة هادئة:
ـ “عاملين إيه في الدراسة يا رجالة؟ الدنيا ماشية ولا بتزوغوا من الدروس كالعادة؟”
ضحك “محمد “بخفة وهو يقول:
ـ “لأ يا باشمهندس، إحنا كويسين، بس المنهج تقيل أوي السنة دي، المدرسين مش ملاحقين.”
أومأ “مهاب” برأسه بتفهم، ثم قال وهو يمد يده ويعدل جلسته:
ـ “معلش يا أبطال .. المهم شدّوا حيلكم. أنا واثق إنكم قدها.”
ابتسم” حسن”، ثم التفت بخفة وهو يقول:
ـ “إن شاء الله يا ، بس أنتَ ما بقيتش تسأل علينا زي الأول عالفكرة.”
ضحك “مهاب” وقال بإبتسامة:
ـ “مش معني إني مابسالش يبقي مش عارف أحوالكم يا حسن.. وبالمناسبة، ما شوفتش سيف بقاله فترة، هو فين ؟”
ساد لحظة صمت قصيرة، تبادل فيها الولدان النظرات قبل أن يتنحنح “محمد” ويقول بتردد:
ـ “بصراحة.. سيف متغير شوية اليومين دول.”
رفع “مهاب” حاجبه بقلق، وسأل بهدوء متعمد يخفي توتره:
ـ “متغير إزاي يعني؟ في حاجة مضايقاه؟”
هز “حسن “رأسه وقال بجدية أكبر:
ـ “لا، بس.. بقى يقعد مع شلة غريبة كده، عيال معانا في الدروس، شكلهم مش مريح أحنا مانعرفهمش، بس عرفنا أنهم دايمًا قاعدين في كافيه قريب من السنتر…وسيف بقي بيغيب من الدروس ، وأحنا كلمناه كذا مرة وقال ماحدش ليه دعوة بيا واتعامل معانا يطريقة مش كويسة.. احنا روحنا المطعم النهاردةعشان نقول لأبلة رقية بس ماكنتش موجودة .”
انعقد حاجبا مهاب وهو يقول بنبرة أقرب إلى الهمس:
ـ “وإيه أسماء العيال دول؟ حد فيكم يعرفهم كويس؟”
قال “محمد” بعد تردد:
ـ “في واحد اسمه إيهاب ، والتاني تقريبا اسمه أسلام.. ومعاهم واحد كمان بس مانعرفش إسمه لاننا مابنتعاملش معاهم ولا مرة وكمان هما ماكنوش معانا في المدرسة ولا دروس قبل قبل السنة دي .”
صمت مهاب لحظة، نظراته أصبحت أكثر جدية، وصوته خرج منخفضًا:
ـ “اسمعوني كويس.. متقولوش حاجة لرقية دلوقتي، خلوها على جنب، أنا هتصرف.”
هزّا رأسيهما معًا في طاعة، وقال “حسن “بهدوء:
ـ “تمام يا أبيه، زي ما تقول.”
جلس مهاب بعدها صامتًا، عيونه شاردة في الفراغ. كان قلبه منقبضًا، وشيء ثقيل بدأ يتسلل إلى صدره. مدّ يده بهدوء إلى هاتفه، اتصل بسيف، لكن الهاتف كان مغلقًا. أعاد الاتصال مرة، ثم ثانية، ولا إجابة.
أطلق زفرة ضيق، ثم فكر سريعًا واتصل بيوسف. لم يكد الأخير يرد حتى قال “مهاب” بسرعة، وصوته يحمل القلق:
ـ “يوسف،ماشوفتش سيف ولا كلمك؟”
جاء صوت “يوسف” متوترًا، ممتزجًا بالعصبية:
ـ “كلمني إيه بس! ده أنا قالب عليه الدنيا من الصبح ومش لاقيه، تليفونه مقفول، ومحدش عارف هو فين!”
اعتدل مهاب في جلسته، وقال بسرعة:
ـ “ليه بس؟ في حاجة حصلت؟”
سمع صوت يوسف وهو يتنهد بقوة، يقول بنبرة اختلط فيها الغضب بالقلق:
ـ “تعالالي يا مهاب، أنا في الورشة، ومش عارف أعمل إيه.”
لم يعلّق مهاب بكلمة، اكتفى بأن أغلق الهاتف بسرعة، نهض واقفًا على الفور، وخطا بخطوات متوترة نحو الباب، ملامحه صارمة، وصدره يعلو ويهبط بسرعة.
………
كانت الشمس تميل نحو الغروب حين خرجت رقية وناهد وخالتها سمية من بيت نادية بعد زيارة قصيرة، تبادلن فيها الحديث والاطمئنان والضحكات الخفيفة التي تخفي خلفها تعب الأيام. وما إن وصلن إلى أول الشارع حتى قالت رقية وهي تعدّل حجابها:
ـ “يلا نروح عندنا ونتغدى سوا”
لكن خالتها التفتت بسرعة وتوتر، وكأنها كانت تنتظر الفرصة لتقول:
ـ “نروح إيه بس يا بنتي! لأ، تعالوا نلف في المحلات شوية، نغيّر جو.”
رفعت” ناهد” حاجبيها موافقة وأضافت بابتسامة خفيفة:
ـ “أيوه يا رقية، هنروح ليه دلوقتي؟ لسه بدري، نتمشى شوية.”
نظرت إليهما “رقية “بدهشة ظاهرة، وقالت بنبرة فيها مزيج من الاستغراب والاعتراض:
ـ “بدري إيه ونلف إيه؟! إحنا قافلين المحل بدري مخصوص عشان نيجي نزور نادية ونروح على طول. هنلف في المحلات كده وخلاص؟”
حاولت خالتها أن تخفي توترها بابتسامة مصطنعة وهي تقول:
ـ “لا مش كده وخلاص يا حبيبتي، أصلّي كنت عايزة أجيب شوية هدوم لعمك إبراهيم، فقولت نعدي على المحلات سوا، وبالمرة نسأل على أسعار الحاجات اللي فاضلة من جهاز نور.”
بدت علامات الاقتناع تظهر على وجه رقية، فاستغلت ناهد الموقف وقالت بحماس:
ـ “وأنا كمان يا رقية، عايزة أجيب شوية حاجات ليا كده، وأنتِ زوقك حلو. وبعدين رمضان خلاص قرب، عايزين نشوف هنحتاج إيه. يلا يا بنتي ما إحنا مش بنخرج غير كل فين وفين.”
ظلت “رقية “تنظر إليهما بحيرة، ثم قالت بنبرة أقرب للضيق:
ـ “طب والعيال اللي في البيت؟”
ضحكت “سمية” بخفة وقالت:
ـ “هو صغيرين يا رقية؟! ما يقعدوا من غيرك يوم إيه اللي هيجرا.”
تابعتها “ناهد” بسرعة:
ـ “مش هنتأخر والله، كلها ساعتين تلاتة ونرجع.”
ظلت رقية صامتة لحظة، نظراتها تنتقل بينهما كأنها تحاول كشف ما وراء وجهيهما، ثم قالت ببطء:
ـ “حاسّة إن وراكم مصيبة، بس ماشي… هكلم نور وأقولها.”
تبادلت ناهد وخالتها نظرة سريعة فيها ارتباك واضح بينما أخرجت رقية هاتفها واتصلت بنور.
ردت أختها بصوت متعب بعض الشيء، فسألتها رقية فورًا:
ـ “نور، هروح مع ناهد وخالتك مشوار ، ماشي؟”
قالت “نور” بسرعة فيها شيء من الارتباك:
ـ “اه، اه، روحي يا رقية، أنتِ مابتخرجيش خالص.”
قطبت “رقية” حاجبيها وقالت باستغراب:
ـ “مالك يا بت؟”
أجابت “نور” ببطء، تحاول أن تبدو طبيعية:
ـ “لا بس كنا بنعمل أكل وكده.”
قالت رقية بجدية وهي تشعر بشيء غريب في نبرة أختها:
ـ “وأخوكِ فين؟”
ترددت نور قليلًا ثم قالت:
ـ “أكل ونزل على درسه.”
قالت رقية وهي تحاول طمأنتها:
ـ “ماشي، خلي بالكوا من نفسكم عقبال ما أرجع.”
أنهت المكالمة وهي لا تزال غير مرتاحة تمامًا، لكن وجهها سرعان ما اكتسى بابتسامة مصطنعة وهي تقول لخالتها وناهد:
ـ “يلا بينا بقى.”
وسارت الثلاثة معًا بين الشوارع المزدحمة، تتعالى حولهن أصوات الباعة والناس، بينما في داخل رقية، ظلّ شعور غامض يطرق قلبها بلا راحة… كأن حدسها كان يحاول أن يخبرها بشيءٍ لم تفهمه بعد.
….
كانت هنا جالسة على طرف الكنبة، أصابعها تعبث في طرف الخدادية بعصبية واضحة، بينما نور تمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا، أنفاسها متلاحقة من القلق.
قالت “نور” بصوت مرتفع قليلًا وهي تنظر إلى أختها:
ـ “هنا، هنعمل إيه لو رقية جت وملاقتهوش؟”
رفعت “هنا” رأسها ببطء، حاولت أن تخفي ارتباكها بابتسامة ضعيفة، وقالت:
ـ “هييجي بإذن الله، وبعدين لسه بدري يا نور، ما تكبريش الموضوع.”
لكن “نور” توقفت عن المشي فجأة، واستدارت نحوها بعصبية ظاهرة، وقالت بنبرة غاضبة يكسوها الخوف:
ـ “آه لسه بدري، بس البيه من أول ما خرج بعد خناقتهم الصبح ما رجعش، وتليفونه مقفول من وقتها، ومفيش درس في المعاد ده أصلاً! الدرس التاني لسه بعد ساعة من دلوقتي… يبقى راح فين الكام ساعة دول؟! وكلمت السنتر قالولي مجاش النهاردة خالص!”
اتسعت عينا هنا بقلق حقيقي هذه المرة، وابتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تقول بصوت منخفض متردد:
ـ “ماعرفش يا نور… بس يوسف قال هيتصرف، وإن شاء الله نلاقي سيف داخل علينا قبل ما رقية تيجي.”
رفعت نور نظرها إليها، نظرة امتزج فيها الخوف باليأس، وقالت بنبرة مبحوحة، كأن قلبها بدأ يصدق أسوأ الاحتمالات:
ـ “بس المرة دي… إحساسي مش مريح خالص يا هنا.”
صمتت هنا، لم تجد ما ترد به، فاكتفت بأن مدت يدها تمسك بكف أختها، كأنها تبحث في دفء الملمس عن طمأنينة غابت منذ ساعات طويلة…
…
دخل مهاب الورشة فوجد يوسف جالسًا على المقعد الخشبي، يمرر يديه فوق رأسه بإرهاق، وعيناه تائهتان في الفراغ.
اقترب منه “مهاب” بخطوات ثابتة وقال بصوت منخفض، يحمل نبرة حذر وريبة:
ـ” احكيلي يا يوسف… بهدوء كده، عشان أنا حاسس إن في مصيبة.”
رفع” يوسف “رأسه ببطء، تنهد تنهيدة طويلة، وقال بصوت مبحوح:
ـ” ومش أي مصيبة يا مهاب.”
انعقد حاجبا مهاب وهو ينظر إليه منتظرًا التوضيح، فقال يوسف بعد لحظة صمت ثقيلة:
ـ” الدكتور بتاع الصيدلية كلّمني النهاردة الصبح… قال إن رقية كانت رايحة له من كام يوم بالليل، ومدياله حباية، بتسأله يعرف هي بتاعة إيه. هو وقتها شك، بس قالها إنه مش عارف وهيحللها، ويبقى يقولها بعدين… وفعلاً حللها وتأكد من شكة .”
تذكر “مهاب ” الليلة التي قابل بها رقية وقالت أنها كانت بالفعل في الصيديلة ، قلبه خفق بقوة، وقال بسرعة:
ـ “وطلعت الحباية دي إيه؟”
نظر “يوسف” في الأرض، وصوته خرج غاضبًا ومختنقًا:
ـ “نوع من المخدرات يا مهاب!بس الدكتور قال لرقية إنها حباية صداع عادي، ماحبش يخوفها، وكلّمني عشان يعرف هي جابتها منين..وأنا مش لاقي تفسير غير سيف…
هي هتجيب حاجة زي دي منين؟ وليه تشك فيها وتنزل مخصوص تسأل الدكتور؟أكيد لاقتها في حاجة تخصه.”
ظل مهاب واقفًا للحظات كأنه تجمّد مكانه، نظراته شاردة وصوته خرج متقطعًا:
ـ “مخدرات؟! وسيف؟… لأ، لأ، مش معقول يا يوسف.”
أشار “يوسف” بيده بعصبية:
ـ “ومش معقول ليه؟!مش شايفه متغير بقاله فترة إزاي؟أنا اللي كنت غبي، كنت بقول ضغط مذاكرة وضغط نفسية، وساكت.”
جلس “مهاب” على طرف الطاولة ، مرر يده على وجهه بتوتر وقال:
ـ أنا ما شفتوش بقاله فترة، بس محمد وحسن لسه قايلين لي إنه متغير جدًا، وإنه بقى ماشي مع شلة مش كويسة.”
هز “يوسف “رأسه بقوة وقال:
ـ أيوه، أنا لما الدكتور كلّمني الصبح، رُحت على المكان اللي بياخد فيه درس..لقيت شاب من حارتنا بيشتغل هناك، سألته على سيف، قال لي إنه بطل ييجي أغلب الدروس، وبقى ماشي مع تلاتة معروفين إنهم ضايعين، وكل الناس عارفة سمعتهم الزفت.
سألت على العيال دي، عرفت أساميهم بس ماعرفتش مكان بيوتهم، إنما عرفت المكان اللي بيقعدوا فيه…كافيه خربان كده على ناصية من ورا الحارة، محدش بيعدي عليه غير اللي عايز البلاوي.”
اقترب “مهاب” أكثر وقال بحدة:
ـ “وبعدين؟”
تنهد “يوسف” وقال بإحباط:
ـ” رُحت الكافيه، دورت وسألت، ماحدش رضى يقول كلمة واحدة.
ومن وقتها وأنا داير أدور في الشوارع ومش لاقيه، وتليفونه مقفول…كلمت هنا، قالت لي إنه من الصبح مارجعش، ورقية ممكن تيجي في أي لحظة…وبالصدفة أمي كلّمتني وقالت إنها خارجة مع رقية وناهد، فقلت لها تحاول تأخرها على قد ما تقدر، عشان ماترجعش البيت دلوقتي .”
ظل مهاب صامتًا للحظة، عيناه تلمعان بقلق حقيقي، ثم قال بصوت بعصبية:
ـ “وما كلمتنيش من أول ما عرفت ليه يا زفت؟”
مرر يوسف يده على رأسه وقال بيأس:
ـ “ماكنش فيا دماغ يا مهاب…كل اللي في دماغي دلوقتي إني أشوف سيف بعيني، وأعرف إذا كان فعلاً ماشي في السكة دي ولا لأ.”
وقف مهاب فجأة، شد يوسف من ذراعه وقال بنبرة حاسمة يملؤها الغضب والقلق معًا:
ـ “قوم، هنروح الكافيه اللي بيقعدوا فيه، ومش هنخرج من هناك غير وإحنا عارفين طريق العيال دي..حتى لو هنقلبها مجزرة، هنفهم هو ماشي فين وبياخد إيه.”
وقف يوسف بجانبه فورًا، ملامحه صلبة، وصوته خرج واثقًا:
تمام… يلا نتحرك.”
وبينما كانا يغادران الورشة بخطوات سريعة، ارتفع في الجو صوت باب الحديد يُغلق خلفهما بقوة، كأنه يُغلق فصلًا من البراءة، ويفتح بابًا جديدًا على الخوف والبحث والوجع.