رواية ظل البراق الفصل السادس عشر
لماذا وُجدت هذه التوهّة في حياتنا؟ نسير بين الظلال بلا خريطة، نبحث عن شعاع يهدينا، عن معنى يُسكّن قلوبنا المتعبة. كأن الحياة تصنعنا ضائعين، لنكتشف بعد كل انحناءةٍ أننا نحن الطريق، وأن كل ضياعٍ يحمل في طياته سرًّا للقاء أنفسنا الحقيقية.
……….
كان الليل قد بدأ يخطي بخطواته فوق الشوارع الضيقة، والهواء البارد يمرّ كهمسٍ غامض بين الأبنية القديمة.
كان ذو القلب العاشق يسير ببطء، عيناه تتنقلان بين الأزقة المتشابكة كأنها تخفي أسرارًا أكثر مما تُظهر. أوقف سيارته عند زاوية شارعٍ جانبي، وترجّل منها وهو يطالع اللافتات الصدئة التي بالكاد تُرى تحت ضوء المصابيح الضعيفة.
ظل واقفًا للحظة، كأنه يحاول تذكّر طريقٍ نُسي عمدًا، ثم لمح رجلاً مسنًّا يجلس أمام دكانٍ صغير يلفّ في يده سجائر محلية. اقترب منه مروان وقال بصوتٍ هادئ:
ـ “من فضلك يا عم… طريق حارة البرّاق منين؟”
رفع الرجل رأسه ببطء، رمقه بنظرة فاحصة، ثم أشار بعصاه نحو الزقاق المظلم على اليمين قائلاً:
ـ “يا ابني، انت كده واقف في مدخلها فعلًا.. بس ده المدخل اللي من ورا، لو ناوي تدخل من هنا، امش على طول هتلاقي نفسك جواها، بس المكان ده دايمًا هادي ومفيش ناس كتير بتدخل منه.
صمت لحظة ثم أكمل، وهو يزيح غبار سيجارته:
ـ “إنما لو عايز تدخل من المدخل الأساسي، ارجع الشارع اللي جيت منه ولف يمين، هتلاقي يافطة صغيرة فوق باب حديد، مكتوب عليها اسمها.”
أومأ الشاب شاكرًا وقال بهدوء:
ـ “تمام يا عم، متشكر جدًا.”
لوّح الرجل بيده دون اهتمام، بينما عاد بخطوات مترددة إلى سيارته، ثم توقف فجأة،نظر إلى الزقاق المظلم الذي أشار إليه
الرجل، ظل يراقبه لحظات طويلة، ثم ابتسم ابتسامة خافتة واتجه ناحيته بخطوات واثقة.
…..
كان الشارع الذي يؤدي إلى الكافية شبه خافت، الأضواء المائلة للصفرة تتراقص على الأرصفة المبللة ببقايا مياه، وصوت السيارات البعيدة يتلاشى كلما توغلا أكثر. أشار “يوسف” ناحية المكان، وقال بصوت خافت وهو يزفر:
ـ “هو ده المكان اللي بيقعدوا فيه… بس لما جيت من كام ساعة ماكانوش هنا، وكمان دلوقتي هيبقى هادي، أصل هنا اليوم بيبدأ بعد ١٢ بالليل عشان يبقوا في المود العالي.”
رمقه مهاب بنظرة جامدة دون تعليق، ثم واصل السير بخطوات ثابتة. كان هناك باب زجاجي نصفه مكسور، دفعاه بخفة، فاستقبلهما دخان كثيف متصاعد من سجائر لا تُحصى. رائحة العرق والنيكوتين والموسيقى المنخفضة خلقت جوًا خانقًا.
خطا مهاب ويوسف بخطوات بطيئة، يتبادلان نظرات سريعة بين الطاولات. المكان شبه فارغ، كما قال يوسف، يوجد به بعض الأشخاص فقط ،لكن صوت ضحكات متقطعة لفت انتباههما من الركن الأيسر كان بينهما صوت يعرفونه جيدًا. التفتوا ببطء ،كان هناك أربعة شباب يتحلقون حول طاولة صغيرة، يتبادلون المزاح بصوت عالٍ، وبينهم وجه بدا مألوفًا… مألوفًا إلى حدٍّ مؤلم.
تجمد مهاب في مكانه، بينما رفع يوسف رأسه بذهول. تبادلا النظرات في لحظة صمت مشحونة، ثم اتسعت عينا” يوسف “وهو يهمس بخفوت مبحوح:
ـ “مش معقول… سيف!”
ذلك الصغير الذي كانوا يأخذونه للمسجد، سيف الصغير، الذي تربّى بين أيديهم، يضع سجارة بين أصابعه المرتعشة، ووجهه غارق في شحوبٍ لم يروه عليه من قبل..وعلى الطاولة أمامه مسحوق أبيض، يضحك بخفة بينما أحدهم يمد له أنبوبة صغيرة.
تصلّب فكا مهاب، وعضّ على أسنانه بقوة حتى برز العرق في صدغيه. قبض كفه ببطء، وتقدم بخطوات هادئة لكنها مليئة بالغضب، بينما يوسف يتبعه متوترًا.
اقتربا من الطاولة دون أن ينطقا كلمة، فرفع أحد الشباب رأسه، كان يُدعى” رامي”، نظر إليهما بنصف عين وقال بسخرية:
ـ “إيه ده؟! المكان بقى بيدخله ناس شيك كده؟ شكلهم مش من مستوانا يا رجالة.”
ضحك الباقون، وانحنى أحدهم على سيف وهمس له بشيء، فرفع سيف رأسه بتعب، رمش بعينيه مرتين كأنه يحاول الإستيعاب، ثم تجمدت للحظة ..الدهشة كانت لحظة… بعدها تحول وجهه إلى برودٍ غريب، كأنه لا يعرفهم.
تقدم” مهاب” حتى وقف أمامه تمامًا، وقال بهدوءٍ مريب:
ـ “قوم معايا يا سيف.”
قبل أن يفتح سيف فمه، انبرى أحد رفاقه ــ إيهاب ــ يقول بفظاظة وهو يبتسم ابتسامة مستفزة:
ـ “طب ما تيجي أنتَ معانا يا كابتن بدل ما تاخده، وإحنا هنعلمك المزاج الصح !”
نظر له مهاب بقرف وكان سيرد إلا أن يوسف أوقف واقترب خطوة للأمام، وصوته خرج حادًا غاضبًا:
ـ “ما سمعتش قال إيه؟ قوم يا سيف من القرف اللي أنتَ فيه ده.”
“سيف” شد يده بعنف من يد يوسف، وقال ببرود مستفز:
ـ “مش هقوم من مكاني… أنا مش صغير عشان تيجوا تاخدوني كده وامشي معاكم .”
لم يتمالك “يوسف” نفسه، فأمسك به من ياقة قميصه وهو يقول من بين أسنانه:
ـ “مافيش حاجة اسمها صغير وكبير لما نوصل لكده!”
في اللحظة نفسها، نهض الشبان الثلاثة من أماكنهم، وقفوا بوجوه متوترة وسُكرٍ ظاهر.
قال “رامي ” بعصبية:
ـ “إيه يا كبير منك ليه؟ أنتو جايين تعملوا علينا رجالة هنا؟!”
رد “مهاب” بنبرة هادئة لكنها كالسيف:
ـ “احنا مش جايين نعمل رجالة عشان مش محتاجين نثبت ده … احنا جايين نلمّ واحد كان راجل قبل ما يعرفكم.”
نظر” إيهاب” إلى من في المكان، وكانوا جميعًا ثملين، ثم قال بصوتٍ عالٍ ليجذب انتباههم:
-” أنتوا جايين تِقلوا منا في مكانا بقي ! لأ إحنا معانا رجالة ياكلوا الزلط .”
في لحظةٍ قصيرة، كان من في المكان قد تجمعوا حول يوسف ومهاب.
صحيحٌ أنهم لم يكونوا كُثر، لكنهم كانوا الغالبيّة.
تبادل يوسف ومهاب نظراتٍ ساخرة وهما يتفحّصان من حولهما.
“يوسف “أخذ نفس عميق، أمسك سيف من قميصه بقوة وقال:
ـ “قوم يا واد قبل ما أعلّم عليك.”
هنا اندفع” رامي” من مكانه، دفع يوسف في صدره وقال بعصبية:
ـ “إيدك بعيد عن صاحبي يا عم الكبير!”
نظر يوسف إلى مهاب بنظرةٍ ذات مغزى، فابتسم “مهاب” ببرودٍ وهو يثني أكمام قميصه ببطء، وقال:
ـ “القميص لسه جديد وغالي، بس يلا، مش خسارة في صحاب سيف باشا… اركنه بس على جنب كده يا يوسف، عشان لسه عايزينه.”
ابتسم يوسف بحماس، ودفع سيف بعيدًا عنهم.
فانفجرت الشرارة.
انفجر الفضاء داخل الكافيه كزوبعةٍ من أصواتٍ وكراسيٍ تتهاوى على الأرض. أمسك مهاب برامي وضربه ضربةً قويةً جعلته يرتدُّ إلى الخلف مترنّحًا، فيما اندفع إيهاب نحو يوسف محاولًا توجيه لكمةٍ إليه، لكن يوسف تفاداها بخفةٍ وسرعة. وفي تلك اللحظة، بدأ الناس الواقفون من حولهم بالمشاركة في العراك أيضًا، تجمّعوا حول مهاب ويوسف وكأنهم جوقةٌ مرتبةٌ للانقضاض.
وقف مهاب ويوسف وسط الدوامة، وجوهُهما صلبةٌ كالحديد، لا تلوذ لهما بالفرار. سبق وأن واجها مقاومة؛ لكن هذه المرة العدد دوّخهما ، ضرباتٌ من كل جانب، ركلةٌ هنا، قبضةٌ هناك، وكأن الجدار من حولهما ينهار.
اندفع نحو مهاب شابٌ ضخْمٌ من جهة اليمين، ضربه بقبضةٌ على صدره قويةٌ أهتزّ لها الهواء. لم يرتد مهاب خطوةً للخلف؛ اجتاحه ألمٌ سريع، لكنه تماسك، استدار بجسمه كالسهم وأطلق كوعًا مزدوجًا فارتطمت به كتفٌ ضخمٌ فسقط المهاجم إلى الأرض. صوت السقوط ارتطم بصيحاتٍ كثيرةٍ جديدة.
من الجهة الأخرى، هجم علي يوسف ثلاثتهم معًا. قبض مهاب على ذراع أحدهم، وسحب الآخر فارتطم وجهه على طاولةٍ محطمةٍ، فاهتزت الأرض تحتهم. يوسف، بقوةٍ وهدوءٍ، تدخّل بلكمةٍ خاطفةٍ إلى معدة الثالث،و أمسكه من كتفه وسحبه بعنفٍ إلى خارج مجموعةِ المهاجمين، فسقطت له أنفاسه وأخذ يطبق على صدره.
أسلام حاول مرارًا أن يمدّ يده نحو مهاب، فالتف يوسف بسرعةٍ مخيفة، وأمسك به من خصره وألقى به علي طاولةٍ مكسور، فنبعثرت فناجين القهوة في الهواء كأمواجٍ من تأثير الضربة.
تسلسلت الحركات بسرعةٍ متقاربةٍ: زحفاتٌ، ركلاتٌ، وانقلابٌ للجسم هنا وهناك. رغم زيادة الأعداء، كانت ضربات مهاب تُلحَقها ضربةٌ أخرى بحرفيةٍ جراحية؛ ضربةٌ في الكتف، لكمةٌ في الذقن، دفعةٌ تكفي لتفكيك توازنِ أيِّ جمعٍ يُحاول الإمساك به. يوسف لم يكن أقل شراسةً؛ ينهض، يدافع، يركل، ويشدّ خصمًا ثم يقذف به خلفه كما لو أنّه حجرٌ ثقيلاً.
في وسط تلك العاصفة، أحسّ مهاب بحركةٍ خلفه، فالتفت بسرعةٍ وهو يستعدّ لتوجيه ضربةٍ قويةٍ لمن يقترب، لكن يده توقّفت في منتصف الطريق حين قبض أحدهم عليها بقوةٍ، وقال بصوتٍ لاهثٍ متقطع الأنفاس:
-” يخربيتك عقلك ، أنا معاكوا يا عم .”
اتّسعت عينا مهاب بدهشةٍ حادّة، وقبل أن ينطق بكلمة، دفعه الرجل بقوةٍ جانبًا وهو يقول بسرعةٍ ونبرةٍ حازمةٍ تختلط بالأنفاس اللاهثة:
-” مش وقت استغرابك يا خويا ، بس وراك خلينا نخلص من أم الليلة دي .”
التفت مهاب بسرعةٍ خلفه، فرأى شابًا يحمل مطواةً ويجري نحوه بقوةٍ محاولًا ضربه، لكن مهاب تفادى الهجوم ببراعةٍ ومهارة. اقترب يوسف على الفور لمساندته، فواجهوا الشاب معًا. كانت الضربة التالية من مهاب قويةً جدًا، فارتطمت بالشاب وأسقطته أرضًا مغشيًا عليه، فاقدًا الوعي وسط فوضى المعركة.
في تلك اللحظة، اندفعت آخر مجموعةٍ من الشباب نحو مهاب ويوسف والشاب الغريب. التفت” مهاب” إلى يوسف والآخر وقال بسرعة:
ـ “لازم نعرف اسم الباشا قبل ما ندخل الجولة الأخيرة.”
ردّ الشاب بخفّة ولكن بحزم:
ـ “مروان الهاشمي يا كبير.”
أومأ كلٌّ من يوسف ومهاب له بهزة رأس، ووقف الثلاثة متراصّين كجدارٍ واحد، بينما تقدّم نحوهم ثلاثة رجال من المجموعة المتبقية. في لحظةٍ خاطفة، اندفع كلٌّ من مهاب ويوسف ومروان نحوهم معًا، وفي أقلّ من ثوانٍ، كانوا جميعًا على الأرض، مغشيًا عليهم، منهزمين تمامًا أمام قوتهم المشتركة.
بعد دقائقٍ من الشجار، عمَّ صمتٌ ثقيلٌ. الدخان الخفيف من فناجينِ القهوة المحترقة يعلو. الزجاج المكسور متناثرٌ، والكراسي على جوانب الطاولات مثقوبةٌ أو مقلوبة. بعض المعتدين يحاولون النهوض ببطءٍ، وآخرون يزحفون نحو الباب، يجرّونُ بعضهم من أجل الهروب. مهاب ويوسف ومروان يقفون وسط الميدان؛ أرجلُهم ترتجف قليلًا من الإجهاد، لكن عيونهم بها غضب ليس له مثيل
تقدم “يوسف” مبتسمًا بابتسامةٍ صغيرةٍ قاسية، مسح وجهه بكم قميصه، وقال بصوت هادئٍ بارد:
ـ “خلصنا بدري ، كُنت ناوي علي جولة كمان …بس العيال هربوا”
قال له مهاب وهو ينظر في اتجاه سيف الذي يقف مزهول مما حدث أمامه :
-” هيجوا برجليهم تاني .”
تقدم نحوه بخطوات بطيئة، وقال بصوت خافتٍ لكنه مرعب:
ـ “وغلاوة أختك عندي… لهربيك من أول وجديد.”
ثم رفع يده وضربه ضربه خاصة جعلت سيف يترنح ويغيب عن الوعي في الحال.
“يوسف” نظر بذهول وقال:
ـ “يا ابني خليته يغمي عليه ليه؟ أنا مش قادر أشيل نفسي بعد فيلم الأكشن اللي عملناه ده!”
رد “مهاب” ببرود وهو يلتقط أنفاسه:
ـ “اسكت يالا، وماسمعتش صوتك عشان ماكملش عليك!”
“يوسف” زفر ،وقال بضيق:
ـ “صامت ياعم أهو .”
نظروا في تلك اللحظة إلى مروان، الذي وقف وهيئته غير مرتّبة من أثر الشجار، يحدّق فيهم بدهشة. كيف يمزحون ويتحدثون بمنتهي البرود بعد المعركة الذي انتهوا منه لتوّهم.
“يوسف” نظر له باستغراب وقال:
ـ “أنتَ شكلك غريب عن الحارة… بس حبيتك والله. مين الكابتن بقى؟”
ابتسم” مروان” وقال بهدوء وهو يمد يده:
ـ “اسمي مروان الهاشمي، وفعلاً مش من هنا.”
“مهاب” نظر له باهتمام، ثم قال بجدية:
ـ “شكراً على اللي عملته معانا ، حركة رجولة مايعملهاش غير راجل زيك ، بس إيه اللي دخلك من المدخل ده بس ؟”
“مروان ” بمزاح وغرور :
-” نصيبي ورزقكم عشان انقذكم ، مش عارف من غيري كنتوا هتعملوا ايه.”
ضحك مهاب بإعجاب من هذا الشاب وقال “يوسف ” بمرح مماثل:
-“كُنا هنضيع يا معلم والله ، أهلًا بيك في حارة البرّاق يا نجم .”
نظر “مروان ” حوله وقال :
-“متأكد إنه أهلًا؟ “
تعالت ضحكات مهاب ويوسف ، وقال “مهاب “:
-” ده احتفال صغير بيك كده ، بس بعيد عن الهزار، المكان ده آه يعتبر في حارتنا بس هو ملك الحارة اللي جنبنا أصلًا فأحنا مانعرفش عنه حاجة ، مالناش سلطه عليه يعني ، بس بعد اللي حصل مش هسكت غير لما يتقفل .”
اكمل “يوسف ” :
-” سيبك من ده كله ، جاي لمين في حارتنا عشان نقدر نساعدك .”
أجاب” مروان “ببساطة:
ـ “رقية المهدي.”
تبدلت ملامح مهاب في لحظة، رفع حاجبه وقال بحدة:
ـ “نعم يا خويا؟ رقية مين؟”
“مروان”، بدهشة خفيفة:
ـ ” المهدي ! رقية المهدي .”
مهاب بصوت أعلى وغضب:
ـ “ده بيقول اسمها تاني وبيأكد كمان!”
“مروان “رفع صوته بعصبية:
ـ “جَرا إيه يا عم؟! هو أنا قولت عليها حاجة وحشة؟!”
“يوسف” بسرعة وضع إيده بينهم وقال:
ـ “بس انت وهو! يا أستاذ مروان، أنا يوسف النجار أبن خالتها… خير؟”
قال “مهاب” بسرعة غريبة:
ـ “وأنا مهاب البراق جوزها! خير!”
نظر له يوسف بتهكم، فقال “مهاب” بسرعة وضيق:
ـ “اعتبار مما سيكون يعني.”
ضحك مروان بخفة، بعدما فهم أنه يقف أمام عاشق لرقية
فقال بهدوء :
ـ “تشرفت بيكم ، بس الوضع مش مناسب للكلام دلوقتي، لكن كويس إني قابلتكم… ممكن آخد رقم تليفوناتكم؟ أكلمكم ونتقابل في وقت أهدى.”
-” نتكلم دلوقتي عادي.”
كانت هذه جمله مهاب ، الذي لن يستطيع الانتظار ليعرف ماذا يريد هذا المروان من رقيته .
نظر له “يوسف ” بضيق وقال :
-” هو أحنا في دريم بارك يابني ؟ ده أحنا حوالينا جثث ممكن يصحوا في أي وقت ..اسكت أنتَ بس كده .”
والتفتت إلي مروان و قال بابتسامة :
ـ “هات موبايلك أكتبلك الأرقام، ونبقي نتواصل ، بس بسرعة ها عشان معانا واحد هيوصلك قبل ما أنتَ توصله ويعرف عايز إيه منها .”
ضحك الثلاثة ضحكة صغيرة مرهقة، ودوّن مروان الأرقام، ثم ودعهم وهو يقول :
-” والله يا شباب أنا تشرفت بمعرفتكم ، آه خدتلي كان ضربه بس هتعبرها عوض عن الجيم اللي مارحتوش الصبح.”
ضحك “مهاب” وقال :
-” إحنا أسفين ليك يا عم ، هنعوضهالك بأكله عشان ترم عضمك.”
-” أهي كده معقوله شوية ، يلا سلام يا رجالة .”
قال جملته وذهب من أمامهم فحمل مهاب ويوسف سيف بينهما، وضعاه في سيارة مهاب، وانطلقوا بسرعةٍ في ظلام الليل، بينما المقهى من خلفهم مازال يعج بالأنين والزجاج المتناثر.
…….
كانت رقية تسير بخطواتٍ متعبة بين المحالّ المزدحمة، تتقدّمها ناهد وخالتها سمية، وكلتاهما تمسكان بأكياس صغيرة من المشتريات التي بدت بلا نهاية. كانت الأضواء تتراقص على الزجاج، والنداءات تتعالى من أصحاب المحال، بينما كان الضيق يزداد في ملامح رقية مع كل خطوة.
توقّفت أخيرًا أمام أحد المحال التي دخلوها منذ قليل، وأسندت يدها إلى أحد الأعمدة، ثم قالت بنبرةٍ ضجرة وهي تنظر إليهما:
ـ “أنا تعبت على فكرة، وعمالين ندخل من محل لمحل كإني اللي بجهّز عروسة فرحها الشهر الجاي! عايزة أروح بيتي.”
تبادلت ناهد وسمية النظرات، فرفعت ناهد حاجبها قليلًا تنتظر من خالتها أن تتدخّل، فقالت “سمية “بنبرةٍ فيها مسالمة ومحاولة للتهدئة:
ـ “اشترينا حاجات ولا لأ؟”
أجابت “رقية” بملل وهي تزفر:
ـ “اشترينا.”
تابعت “سمية” بنفس اللطف الحذر:
ـ “وسألنا على الباقي من جهاز نور ولا لأ؟”
قالت “رقية” بحدةٍ هادئة:
ـ “سألنا يا سمية… نروح بقى.”
تدخلت “ناهد” بابتسامةٍ خفيفة وهي ترفع كيسًا صغيرًا في يدها قائلة:
ـ “قصدِك ناكل بقى!”
رفعت” رقية” نظرها إليها ببطء، ملامحها تجمع بين الضيق والدهشة، وقالت بصرامةٍ متزايدة:
ـ “أكل إيه وجبتوه إمتي ؟ إحنا عايزين نروح عشان نلحق المواصلات، وبعدين الأكل في البيت، لما نرجع ابقوا كلوا زي ما انتوا عايزين.”
كانت سمية تهمّ بالكلام محاولةً تلطيف الموقف، لكن” رقية “سبقتها بنبرةٍ حازمة هذه المرّة، وقد تلاشى تمامًا ما تبقّى من صبرها:
ـ “بُصّوا بقى… أنا مش مستريحة لكم من أول ما خرجنا، بس مشيت معاكم للآخر وعملت اللي انتوا عايزينه، خلاص؟ أنا فَصلت وتعبت من اللف، وهروح دلوقتي. عايزين تيجوا معايا يا أهلاً وسهلاً، مش عايزين… لفّوا براحتكم، إن شاء الله تروحوا الفجر!”
قالت جملتها الأخيرة ثم استدارت بخطوةٍ حاسمة، تسير مبتعدة عنهما دون أن تلتفت.
تبادلت ناهد وسمية نظرات الصدمة للحظة، قبل أن تقول الاثنتان في آنٍ واحد، وقد امتزج الخوف بالارتباك في أصواتهما:
ـ “آه ياني ياما! استني يا بت… جاين معاكي!”
وانطلقتا خلفها بسرعة، تحاولان اللحاق بخطاها السريعة، بينما كانت “سمية” تُخرج هاتفها بارتباكٍ واضح، تضغط على شاشة الهاتف مرارًا وهي تقول لنفسها بقلقٍ متزايد:
ـ “بيرنّ ومابيردّش… تليفون يوسف بيرن ومابيردّش!”
كانت الأضواء تتراجع من حولهم شيئًا فشيئًا، والليل يثقل على المدينة، فيما تسير رقية أمامهما بخطواتٍ سريعة غاضبة، لا تعلم أن هناك ما ينتظرها في نهاية الطريق.
دخلت رُقية البيت تتبعها ناهد وسمية، بعد يومٍ طويل أثقل جسدها وأتعب أعصابها. ما إن فتحت الباب حتى لمحت نور وهنا جالستين في الصالة، وجهيهما شاحبين، النظرات بينهما مضطربة، وكأن الخوف جاثم على صدريهما.
ألقت “رقية” حقيبتها على الأريكة، ونزعت حجابها بتعب، وقالت بصوتٍ حاولت أن تجعله عاديًا:
ـ “مساء الخير يا حبايبي، مالكم قاعدين كده ليه؟”
ردت” نور” دون أن ترفع نظرها:
ـ “قاعدين عادي يا رقية يعني.”
نظرت إليهما رقية برفعة حاجبٍ وريبةٍ في عينيها، ثم سألت وهي تتقدم منهما:
ـ “أخوكم فين؟”
تبادلت نور وهنا النظرات المرتبكة، ثم نظرتا إلى ناهد وسمية كأنهن ينتظرن إشارة، وردّتا في صوتٍ واحدٍ متلعثم:
ـ “نايم… مع صحابه.”
توقفت “رقية” في مكانها، وحدّقت في وجوههن بسخريةٍ خفيفة، وقالت بنبرةٍ باردةٍ تحمل وراءها غضبًا متصاعدًا:
ـ “نايم ولا مع صحابه؟”
خفضت الفتيات رؤوسهن نحو الأرض، صمت ثقيل ساد المكان، فخطت رقية بسرعة نحو غرفة سيف، فتحت الباب، نظرت حولها… السرير خالٍ، الستائر مسدلة، لا أثر له. خرجت بخطواتٍ حادةٍ ووقفت أمامهم، وصوتها هذه المرة خرج غاضبًا حادًا:
ـ “أخوكم فين؟ ومش هسأل تاني.”
امتلأت عيون البنات بالدموع، نظراتهم مرتجفة كأنهم أطفال ضبطوا على خطأٍ كبير، لكن” رقية “لم تحتمل صمتهم أكثر، فصرخت بصوتٍ مرتجفٍ من الخوف:
ـ “ردّوا عليا! مش تسيبوني لدماغي!”
قالت “نور” بتوترٍ واضح:
ـ “من وقت ما خرج الصبح… مانعرفش عنه حاجة.”
نظرت إليها “رقية “بعدم فهمٍ، وكأن الكلمات لم تستوعبها أذنها بعد:
ـ “مش فاهمة، يعني إيه ما تعرفوش عنه حاجة؟”
تقدّمت “سمية “بخطوةٍ تحاول تهدئتها وقالت بلطفٍ مصطنع:
ـ “اهدي يا رقية، هو بخير يا حبيبتي.”
التفتت إليها “رقية” بسرعةٍ، صوتها هذه المرة كان مزيجًا من وجعٍ وغضبٍ:
ـ “هو فين يا خالتي؟ فين وهو لحد دلوقتي ما رجعش؟ والحلوين دول كل شوية أكلمهم يقولولي ،هو هنا يا رقية، بيذاكر يا رقية، بياكل يا رقية، وهما قاعدين ما يعرفوش عنه حاجة من الصبح!”
صمتت لثوانٍ، ثم التفتت إليهما بنظراتٍ صادمةٍ حادة وقالت بشكٍ متزايد لسميه وناهد:
ـ “وانتوا كمان خبيتوا عليّا، صح؟ آه، مهو المشاوير واللف ده كله مش من فراغ… كنتوا بتأخروني عشان ما أرجعش بدري، صح يا خالتي؟ صح يا ناهد؟”
تبادلت ناهد وسمية نظراتٍ مذنبة، ثم قالت “ناهد “بهدوءٍ متردد:
ـ “والله ما قصدنا نخبي عليكِ حاجة، بس قولنا زعلان شوية ومش عايز يرجع البيت دلوقتي. ولو كنتِ جيتي بدري ومش لاقيته، كنتِ هتخافي أكتر.”
نظرت إليها رقية بوجعٍ مكتوم وقالت بجملةٍ قصيرةٍ خرجت كطعنةٍ من صدرها:
ـ “ودلوقتي أنا مش خايفة؟”
عمّ الصمت من جديد، الجميع خفضوا رؤوسهم.
تقدّمت “سمية” وقالت محاولةً التبرير:
ـ “يوسف عارف إنه مش في البيت يا رقية، وقال هيتصرف ويجيبه، وأكيد هو معاه دلوقتي.”
اتسعت عينا رقية، أسرعت تمسك هاتفها وتتصل بـ سيف، تكرر الاتصال مرارًا، الهاتف مغلق. انتقلت إلى رقم يوسف، رنّ طويلاً دون إجابة.
رفعت رأسها، نظرتها متكسّرة بالقلق، وقالت بصوتٍ مبحوحٍ يغلبه البكاء:
ـ “محدش بيرد… أكيد سيف حصل له حاجة وحشة، أنا قلبي مقبوض من الصبح… يا رب أعمل إيه؟”
اقتربت منها نور وهنا واحتضنتاها، والدموع في عيونهما، وقالت “نور” محاولة التخفيف:
ـ “والله يا رقية هيبقى كويس، ما تخافيش.”
أضافت “هنا” بصوتٍ مرتجفٍ:
ـ “تلاقيه بيتْمشى في أي مكان وسرحان… ما حسش بالوقت، وهيرجع، والله.”
لكن “رقية” لم تجب، كانت نظراتها معلقة على الباب، كأنها تنتظر أن يُفتح فجأة…
أو كأن قلبها وحده يعلم أن القادم أصعب مما يتخيل الجميع.
قالت بتسرع وهي تنظر لخالتها :
-” طب يمكن عندكم في البيت يا خالتو ؟ اتصلي بعمي ابراهيم كده بالله عليكِ.”
نظرت له “سميه ” بتألم وقالت وهي تمسك هاتفها :
-” حاضر يا قلب خالتك هكلمه .”
وبالفعل هاتفت زوجها إبراهيم واتاها الرد سريعًا وهو يقول :
-” ألو يا سميه ، أتاخرتوا كده ليه ؟”
قبل ان تجيبه كانت “رقية ” تأخذ الهاتف وهي تقول بتسرع :
-” سيف ويوسف عندك يا عمو ؟”
قال لها باستغراب :
-” سيف؟ والله يا بنتي ماعرفش ، هما مش في شقتي بس يمكن في شقة يوسف فوق أنا سمعت باب الشقه بيتفتح وكنت لسه هتصل علي يوسف لقيت خالتك بتتصل.”
قالت “رقية ” بأمل:
-” آه أكيد هما ، مين يعني هيجي عندكم ويطلع شقة يوسف غيرهم؟ ، ماشي يا عمو خلاص إحنا جايين .”
وقفلت المكالمة سريعًا واتجهت لحجابها ترتديه سريعًا وهي تقول :
-” أنا رايحه هناك أشوفهم .”
“هنيجي معاكِ!”
كان هذا صوت نور وهنا ، فنظرت لهم رقية بعصبية وقالت :
-” قسمًا بالله اللي هتتحرك من مكانها لهنفخها ، أنا مش ناقصة وجع دماغ..يلا يا خالتو عشان تروحي ، وأنتِ يا ناهد خليكِ معاهم بما إن مرات أخوكِ وبنتها عند أهلهم .”
لم تنتظر رد وفتحت الباب وخرجت هي وخالتها في صمت .
…..
دخل مهاب ويوسف شقة يوسف بعد أن صعدوا المصعد وهم يحملون سيف الذي لا يزال فاقد الوعي، جسده مرتخيًا كدميةٍ بلا روح، وملابسه متسخة ببعض الدماء والغبار. كانت الشقة فارغة نسبيًا، المكان الوحيد الذي يمكنهم التحدث فيه بعيدًا عن أعين الآخرين، فألقى مهاب سيف على الكنبة بهدوء، وجلس أمامه بينما جلس يوسف بجانبه، عيونهما متشبّثة بما تبقّى من وعيه.
وقف الصمت للحظة، مثقلاً بعبء ما رأوه. كانت ملامح سيف تشي بالآثار العميقة، ليس فقط من الضرب، بل من الهفوات التي دفعته إلى هذا المأزق. أومأ مهاب إلى يوسف، وكأنهما يتبادلان فهمًا صامتًا قبل أن يفتح الكلام.
قال “مهاب” بصوت منخفض، يختلط فيه الحزن:
-” كُنا بعاد عنه لدرجة إن ماحدش فينا حس باللي فيه !”
-” هو اللي بعد يا مهاب ، وهو اللي حط نفسه وسط العيال دي .”
نظر له “مهاب ” بتساؤل وقال :
ـ “مش فاهم إيه اللي خلى سيف يوصل لنقطة إنه يلمس المخدرات؟ مش بس شقاوة، مش بس فضول، لازم يكون في حاجة أكبر.”
“يوسف” نظر إليه بعينين مثقلتين:
ـ ” الموضوع دايمًا بيبدأ بخطوات صغيرة… أحيانًا بيكون فضول ،إحباط، أحيانًا بيكون شعور بالوحدة… وأحيانًا الصحاب السوء اللي حواليه بيشدوه لتحت، بيغرقوه شوية بشوية لحد ما يوصل للنقطة دي..وده اللي حصل مع سيف ومع شباب كتير .”
أومأ “مهاب “برأسه، أصابعه تتحرك بعصبية على ذراعه:
-“أيوه بس ده مش تبرير، مش كل واحد يغلط يروح يقول هما اللي عملوا فيا كده ، كل واحد مسؤول عن نفسه يا يوسف… بس لازم نفهم سبب اختياراته، سيف قلبه أبيض، بس ضعيف قدام الضغط… لو حد حاول يوجعه أو يغويه، قلبه بيتفتت.”
قال “يوسف” وهو يميل للأمام، عيناه مشتعلة بالقلق:
ـ “والمرادي قلبه اتدمر مش اتفتت بس ،سيف كان دايمًا عايز يكون جزء من المجموعة، عايز ما يُستبعدش… وده خلى قراراته تبقى متسرعة.”
تنهد” مهاب”، صوته أصبح أكثر هدوءًا لكن مليئًا بالتحليل:
ـ “وده اللي مؤذي أكتر… إحنا كنا بعيد عنه الفترة اللي فاتت، وكل يوم بعيد كان بيحس إن محدش واقف جنبه… واللي يفتقد الدعم… بيبدأ يدور على أي حاجة تدي له إحساس بالتحكم أو القوة… المخدرات هنا مش بس هروب… ده إحساس مؤقت بالسيطرة.. وكمان هو في ثانوية ، يمكن حس إنه مقصر ،لما الإنسان يحس إنه مقصر، الإحباط بيكبر… والأختيارات المدمرة بتظهر… خصوصًا لما الصحاب يضغطوا علي، يغرّوه إنه الطريق دا عادي، إنه حل “
“يوسف” صمت قليلاً، ثم قال بصوت حاد:
ـ “بس يا مهاب، اللي يوجعه بجد، إنه يعرف إنه خذل اللي حواليه، رقية ! هي اللي دايمًا كانت السند، وهي هتتفاجئ ومش عايز أتخيّل صدمتها.. كل اللي عمله سيف، مش بس غلط… ده كسر الثقة اللي كانت بينه وبينها.”
هز ؤمهاب “رأسه، عيونه تلمع بالغضب والحزن:
ـ “عارف ومش عارف هتصرف إزاي لما تعرف إن في حد من اللي ضحت وتعبت عشانهم بقي كده ، هي ماتستهلش منه كده يا يوسف وماتستهلش قلبها يتوجع بالشكل ده ، هنقولها إزاي؟ هقف قدامها إزاي واقولها أخوكِ بقي بيشرب مخدرات ويشم بدره”
” مش محتاجين تقولولي ،خلاص عرفت !”
نظروا خلفهم بصدمة، وتبادلا النظرات، ملومين غبائهم لأنهما نسيا باب الشقة مفتوحًا. توقفا على الفور، وأمعنا النظر فيها، كانت واقفة بلا حراك، وعيناها مثبتتان على سيف، وخالتها تضع يدها على قلبها، وقد شعرت بما سمعته للتو.
أخذ “مهاب” نفس عميق، وتقدم نحو رقية، وقال بهدوء:
-” رقية الموضوع لسه في أوله ، وسهل نتعامل معاه بس محتاجين نتعامل بهدوء ، فاهماني؟.”
أمعنت النظر فيه بتوهان، لأول مرة يرى هذا التوهان في عينيها، وكان ذلك مؤلمًا جدًا له. هزت رأسها ببطء، وقالت:
-” هو مغمي عليه عشان واخد جرعة زيادة ؟”
رد” مهاب” بسرعة وقال بنفي:
-” لأ لأ ، والله لأ ..أنا اللي ضربته ضربه خلته يغمي عليه ، بس هفوقهولك دلوقتِ.”
أصدرت صوتًا من شفتيها يدل على النفي، وقالت وهي تنظر إليه هو و يوسف:
-” برا !”
“نعم”
كلمة واحدة خرجت من مهاب ويوسف وهم ينظرون لها بخوف ، فقال يوسف :
-” مش فاهمين يا رقية ؟.”
-” اخرجوا برا وسيبوني مع أخويا ، وهات مفتاح الشقة وأنتَ خارج .”
نظر يوسف ومهاب لبعضهم البعض ، وكان مهاب سيعترض ألا أن يوسف أخذه من يده وقال بهمس :
-” سيبها معاه وماتخفش عليها .”
نظر لها مهاب بألم ، يشعر أنه مُحاط بمائة سور لا يستطيع العبور من خلالهم لأخذها بين أحضانه ، أخذ نفس وخرج من الشقة وجلس أمامها علي الارضية ، وكذلك فعل يوسف بعدما اعطي لها مفتاح المنزل وأخذ أمه وخرجوا واغلقوا الباب ورائهم .
بعد خروج الجميع من الشقة، شعرت رقية بفراغ رهيب يبتلع المكان، كأن جدران الشقة نفسها انكمشت حول قلبها. تقدمت ببطء نحو سيف، جسده مرتخي، وكأنه يهرب من العالم كله. كان يبدو وكأنه فقد القدرة على مواجهة أي شيء، حتى نفسه.
جلست بجانبه على الأرض، قلبها يعتصره الألم، يدها ارتجفت وهي تلمس كتفه بخفة. شعرت وكأن كل سنوات التعب، كل السهر من أجله، كل التضحيات اللي قدمتها، كلها ذهبت هباءً في لحظة واحدة. دموعها تكاد تسيل قبل أن تجرؤ على النظر في وجهه، لكنها توقفت في حلقها، كأن الحزن وحده يكفي ليقتلها.
همست “رقية” بصوت مبحوح، كأنه يخرج من أعماق روحها المحطمة:
ـ “سيف… ليه…؟ ليه كل ده؟”
لم تجد في نفسها القدرة على الكلام أكثر، فارتعش جسدها، وبدأت الدموع تتجمع في عينيها، تتساقط ببطء على الأرضية، وكل قطرة كانت كأنها تصرخ بالألم الذي يعتصر قلبها. شعرت بالغضب والخيبة واليأس، كلها تتقاطع مع حبها الكبير له، حب كانت تظنه كافيًا ليبعده عن كل هذا.
نظرت إلى يده المرتخية، كأنها تمسك بحياة ضائعة، وشعرت بحرقة عميقة، لم تعرف هل تلعن القدر أم تتوسل إليه، أم تتوسل إلى نفسه ليجد طريقه للخروج من الظلام. كل لحظة كانت تراها أمامها، كل ضحكة، كل تعبها من أجله، وكل حلمها بأن يكبر على خير، كل شيء الآن يبدو وكأنه انهدم أمام عينيها.
همست بمرارة، كأن كلماتها الوحيدة هي ما تبقى من أملها المنهار:
ـ “أنا… أنا كنت بحميك… أنا كنت واقفة جنبك… كل مرة… وكل مرة… وإنت… إنت ضايع… إزاي… إزاي تخلينا نوصل للدرجة دي، طب ده عيب مني ولا منك ؟”
ارتجف جسدها وهي تقبض على ذراعه، شعرت بالبرد يخترق قلبها، لكنه لم يكن برد الجو، بل برد الخيبة العميق، ذلك الشعور بالخذلان الذي لا يمكن تجاوزه بسهولة. كل جزء منها كان يصرخ، كل أنفاسها كانت مليئة بالألم، وكل دمعة كانت تقول له: “أنا كنت معاك… ليه خذلتني؟”
جلست رقية هكذا، بجانبه، لا تعرف إن كانت تبكي من الحب أو الألم أو الغضب، كل شيء مختلط، كل شيء ثقيل على قلبها، وكل لحظة تمر كانت كأنها تمزقها أكثر. لكنها لم تتحرك، لم تتركه يهرب، كانت تعلم أن وجودها بجانبه هو كل ما يمكن أن تعطيه الآن، رغم الألم الذي ينهش قلبها من الداخل، ورغم الدهشة التي تشعر بها، وكأن العالم كله قد انقلب عليها في لحظة واحدة، ولكنها لن تتساهل معه .
وقفت وكأنها تستوعب الموقف، نظرت حولها، فإذا بكوب ماءٍ بيديها، فصرخت على نفسها قبل أن ترميه على وجهه. بدأ يستفيق، وضع يده على وجهه لمسح الماء، وفتح عينيه ببطء. أمامه وقفت هي في الصالة، ثابتة بلا حراك، فتساءل في نفسه وحاول أن يقف من مكانه لكنه لم يقدر.
نظرت إليه بسخرية وقالت:
-” الصنف كان شديد ولا إيه يا باشمهندس ؟ ..ولا باشمهندس إيه بقي تلاقيك خلاص نسيت الموضوع ده ، خلينا نفكر في شغلانه تانيه ، أنا بقول ديلر كويس !، أهي شغلانه تعرف فيها وبتكسب كتير برضوا ، ولا إيه رأي حضرتك ؟”
نظر لها ببرود وقال :
-” اللي تشوفيه ، أصل دايمًا هيحصل اللي تشوفيه .”
ابتسمت بسخرية وقالت :
-” حبيت لغتك الجديدة ! وده من تأثير اللي أنتَ ضاربه ولا من تأثير الشلة الجديدة ؟”
-“مش هتفرق .”
قالت بجمود :
-“عندك حق ، مابقاش يفرق .”
نظر لها وقال :
-” هتبدأي بقي تقولي أنا ضحيت عشانكم ،تقولي اللي أنا بصرف عليه في الأخر بيشرب مخدرات ، معلش بقي فلوسك راحتك في حتة مش هتعحبك “
اغلقت عيونها بألم وقالت :
-” أنتَ فاكر إني هزعل علي شوية فلوس ؟ ياخسارة ماعرفتش أختك خالص يا سيف ..بس أنا مش هقولك حاجة ولا هقولك عملت إيه عشانكم ولا الكلام ده كله اللي أنا أصلَا عمري في حياته ما قولته؟ أنا هقولك حد تاني عمل إيه عشانكم… حد كده أنتَ مش فاكرة ، بس أنا هفكرك بيه.”
نظر له باستغراب فجلست علي مقعد وقالت :
-” بنت حبت ولد ، كان بيعرف يقول كلام حلو خلاها دايبه في غرامه ، وفي يوم خرجوا مع بعض زي مابيعملوا دايمًا ، بس فجأة ماحستش بنفسها ولما صحيت لقت نفسها في مكان غريب ومن غير هدوم ومسلوب منها أغلي شئ بتملكه ، بقت شبه الميته مش عارف تعمل إيه ، وهو بكل برود دخل عليها وقالها عادي بتحصل بين أي اتنين بيحبوا بعض ، وأنا هتجوزك ، سمعت الجملة من هنا ودبت فيها الحياة من تاني ، أصل لازم يتجوزها ، وبالرغم إن ابوها كان رافض بس هي ضغطت عليه أوي ، واتجوزته فعلًا ، وكانت حامل في الوقت ده ، وهو بصراحة كان حنين معاها ، وده خلاها تقنتع ان اللي حصل غلطة وعدت وخلاص بقت مراته وكمان حامل في إبنه، لعند لما ولدت ..بنت! وكانت الشرارة من هنا ، إزاي جابت بنت؟ فين الولد ؟ لأ انا عايز ولد ، ومعاملته اتغيرت ١٨٠ درجة ، ضرب وشتيمه، وعلاقة معاها بدون ارادتها ، وهي كانت بتاخد حبوب منع حمل من وراه ، وفضلت كده لكام سنه لعند لما اكتشفت انها حامل تاني ، وبدأنا نعيد الدايرة هو هادي معاها لفترة وشديد لفترة وخلفت بنت كمان ، ومن حظها الحلو جاله سفر في الوقت ده وفضل مسافر سنتين كده ولما رجع ، رجع شخص تاني خالص ، دايمًا ضرب ضرب فيها وخناق ، فالبنت الكبيرة كانت تدافع عن امها واختها عالطول ، بس هي طفلة هتعمل إيه يعني ؟، فكانت بتنضرب هي كمان مع أمها ، أمها اللي ماكنتش عارفة تخرج من حياة الشخص ده إزاي ، وفي ليلة لقت أمها بتبكي عشان حامل للمرة التالتة ، ونعيد الدايرة وتيجي البنت التالتة ، ومن هنا بدأت المشاكل اللي بجد ، أبوهم كان بيخرج من الصبح ومش بيرجع غير متأخر خالص يمسك أمهم يضربها جامد ويغتصبها ويشرب ويسكر وينام ، وكل يوم علي كده! وهو خارج الصبح بيقفل عليهم بالمفتاح ، ماحدش بيخرج غير اللي بيروح مدرسة وبس وهو اللي بيوصل البنت الكبيرة ويتأكد أنها في الفصل عشان ماتحاولش تهرب وتروح لجدها وتقوله علي اللي بيحصل فيه مامتها وكان متأكد أنها مش هتقول لأي شخص عن ابوها عشان كان بيهدها ، ولا حتي جدها وخصوصًا إنه كان مقاطع أمها عشان تزوجت الشخص ده ، المهم يا سيدي ، في يوم أمها قالتلها أحنا مش هنأكل ولا هنصرف من أي فلوس أبوكِ بيجبها أبدًا ! البنت ماكنتش فاهمة ليه القرار ده و قالتهلها ليه يا ماما طب هنصرف منين؟ الأم قالت أنا هشتغل وأصرف عليكم ، طب إزاي وهو بيقفل علينا الباب؟ ودي كانت المشكلة هما كانوا محبوسين جوه اربع حيطان ، بس ربك كريم ، وقدروا يتعرفوا علي جارة ليهم من خلال الشباك الصغير اللي في المطبخ ، وقالت لهم في يوم إن عندها عزومة كبيرة ومش عارفة هتعمل الأكل ده كله إزاي؟ فكانت الفرصة، الأم عرضت عليها إنها تعمل الأكل وتأخد أجر ، ودي كانت البداية ، الجارة عملت لهم دعايا حلوة أوي واللي ساعدهم إنهم كانوا عايشين في مكان شيك مع ناس هاي ومش فاضين يطبخوا، فكانت الأم بتعمل الأكل لناس كتير وتوصله من خلال الشباك ؟ وفضلوا كده لسنين وهو مش حاسس باللي بيعملوه ، بس برضوا مايقدروش يطلبوا المساعدة من حد ولا حد يقدر يخرجهم من البيت ، لعند لما حملت رابع مرة ، في ولد ! وعلي عكس المتوقع ، جوزها بقي أوسخ من الأول ، وحاول يخليها تجهض البيبي كذا مره بس ماكنش بيقدر ، كانت البنت الكبيرة بدأت تكبر وتدافع عن أمها وأخواتها بقوة ، مايهمهاش تنضرب مرة ، تتحرق مرة ، عادي المهم أخواتها بخير ، وجيه البيبي الصغير اللي أمه كانت خلاص تعبت ومابقتش بتقدر تعمل حاجات كتير ، ياتربي العيال يا تشتغل وتصرف عليهم ! فكانت أختهم بتربيهم وتهتم بيهم وبلبسهم وصحتهم ودراستهم وتساعد مامتها وتأقلمت مع حياتها علي الأقل عندهم مكان يعيشوا فيه !
صمتت لثواني وقالت بخنقة :
-” الطفل الصغير بدأ يكبر وهي فرحانة بيه أوي ، أول خطوة ..أول كلمة ..كانت بتحس أنها أمه مش أخته ، بتدافع عنه قدام أبوها وعمرها ما خلت ابوها يضربه ولا يخدشه حتي ، جسمها كان بيوجعها من كتير الضرب اللي بتاخده عشان اخواتها بس هي ولا يهمها المهم إنهم بخير ، بس الدنيا وحشة أوي ، وفجأة قطمت ضهرها ، لما صحيت في يوم لقت أبوها بيتخانق خناقة جامدة مع أمها وبيضربها ضرب شديد بالحزام وكان بيقولها أيوه أنا بشرب مخدرات وبتاجر فيها وأيوه متجوز عليكِ وكلام كتير ، هي وقفت مصدومة مش عارفة تعمل إيه غير إنها تأخد أخواتها في حضنها بس اخوها ماكنش معاه ، كان في اوضة أمها! ، أبوها كان شكله غريب أوي عليها ، عصبي بطريقة مش طبيعية وبيضرب بطريقة غبية ، لعند لما شافته جايب بنزين ماتعرفش جابه منين وبيرش في الاوضة اللي فيها امها ، سابت اخواتها وهي بتصرخ وراحت عليه ، ضربها بالقلم جامد وشدها برا الأوضة وسط بُكاء أمها اللي كانت مرمية علي الأرض مش قادرة تتحرك ، ماكتفاش بكده ده ولع عود كبريت بدم بارد ورامها في الارض وخرج وقفل باب الأوضة ، وبص للبنت اللي بتحاول تفتح باب أوضة أمها وهي بتصرخ ضربها جامد لعند لما اترمت علي الأرض ، تفتكر أكتفي بكده؟
نظر لها ” سيف ” بصدمة مما تحكيه ، فاكلمت بدموع :
-” لأ ، رمي شوية البنزين الباقية في حدود الشقة وولع كبريت ورماه وخرج من البيت خالص ، سابت الدنيا تولع وخرج وكل ده حصل في ثواني … وهي قامت من مكانها وفضلت تصرخ جامد لعند لما صوتها راح ، دخلت أخدت أخواتها البنات وراحت عند باب الشقة اللي بالفعل الجيران كانوا بدأوا يخبطواعليه جامد ويحالوا يفتحوا وأخيرًا اتفتح ، وشدوهاهي وأخواتها من النار ، بس كانت بتشاور كتير علي جوه وهما مش فاهمين وهي صوتها مابيخرجش ، فسابت اخواتها معاهم ودخلت بين النار هي وواحد من الجيران اللي تقريبًا فهم إن في حد جوه ، شاورت له علي باب الأوضة ، وزقه جامد ففتحه ، وفي الوقت ده كانوا الناس بدأوا يطفوا الحريقة، بس أوضة أمها كانت لسه بتولع ، الراجل خاف يدخل ومن حقة يخاف عشان المنظر كان مخيف أوي ، بس هي صوت أخوها خلاها تقوي ، وتدخل جوه النار اللي جسمها وقتها نال جزء كبير منها ولعند دلوقتي في أثار حروق في جسمها ، بس نسيت كل حاجة لما شافت إن ربنا حفظ ليها أخوها اللي كان مغمي عليه من خنقة الدخان والنار مامستوش ! إزاي ماتعرفش؟ ، كل اللي عرفته وقتها إن ربنا كان رحيم أوي بيها ، أخدت أخوها وخرجت برا الشقة ، وهي عارفة إن أمها خلاص مابقتش معاهم ، وعارفة أن ليها طار من اللي أسمه ابوها وطار مع أي حد بيشرب مخدرات تخليه يوصل للحالة دي ، وعارفة إنها بقت مسؤولة عن بنتين ماسكين في رجليها دلوقتي وولد عمره أقل من ست سنين .”
بدأت الصورة توضح أمامه ، فكان ينظر لها بدموع ، فاكملت هي بجمود :
-” البنت دي اسمها رقية محسن المهدي ، اللي أنتَ عارف بقيت القصة بتاعتها ، بس اللي ماتعرفوش إنها لأول مرة تحس أنها ربت أبن محسن المهدي مش أبن أمها ..أمها اللي ماتت بسبب المخدرات وبسبب واحد للأسف هي شايلة أسمه ، واحد ماتعرفش عنه حاجة بقالها ١١ سنة ومش عايزة تعرف ، والحاجة الوحيدة اللي كانت بتصبرها علي اللي شافته وعلي فراق أمها هي أخواتها والعيل اللي بتربيه ، بس هو كسرها جامد ، وخلاها تصدق إنه إبن أبوه وشبه …”
كان يهز رأسه بالنفي ودموعه تتساقط مثلها ، ف وقفت وقالت وهي تقترب منه :
-” بس أنا مش هسمحلك تبقي شبه ، عشان رقية مايتربهاش في بيتها اشباه رجال يا سيف …”
أطلت رقية نظرة قاتلة، ثم خطا قدمًا نحوه بسرعةٍ لم تدرِ إن كانت حركة غضب أم حركة يأس. أمسكت بشعره بقبضةٍ جامدةٍ، لم تكن قبضة من أجل الإيذاء البدني وحده، بل كانت انفجارًا لكلّ الألم الذي احتشد في صدر أمٍ وأختٍ وفتاةٍ خُدِعَت آمالها.
صفعةٌ قويةٌ قذفت رأسه إلى الجهة الأخرى، وصوتها هزّ الصالة كأنما كسرهما معًا؛ لم تكن الصفعة لعبةً، كانت صرخةً جسديةً من امرأةٍ شعرت أنّ العالم انهار تحت قدميها. تلاه لكمة على صدره دفعته إلى الخلف فوق الكنبة، فخرج من بين شفتيه اهتزازٌ متقطع، ثم نَفَثَ نقطةٌ من الدم على حافة الشفة ،نقطةٌ واحدةٌ تكفي لتقول إن الألم تجاوز حدود الكلمات.
لم تتوقف رقية عند هذا الحد ولا تعلم من أين أتت لها كل هذه القوة؛ فكانت كل ضربةٍ عبارةً عن سؤالٍ مرير تطرحه على حياته: لماذا؟ كيف؟ بأية حقّ؟ كل حركةٍ كانت تخرج من مكانٍ أعمق من الغضب، من ألمٍ نسائيٍّ طويلٍ؛ فقدان الثقة لدى من سهروا لأجله، وتعبٌ مُكلّلٌ بسنوات من العطاء الذي بددته لحظة ضعف. ضرباتها لم تكن لمجرد الانتقام، بل لتفكيك قناعٍ بيّن أنّه لم يعد الصبي الذي عرفته، بل شخصٌ تاه في دوّامةٍ لا تُطاق.
بعد الضربة الأخيرة، تركته رقية ممدّدًا على الأرض، وهي تهتزّ كمن يخرج من نوبة. صمتٌ ثَقُلَ في المكان، كما لو أنّ الهواء نفسه خجل من الكلام. رقية جلست منحنيةً فوقه، أنفاسها متقطعة، وعيناها ملتهبتان بالدموع التي لم تُفلت بعد. لم تشعر بالنشوة، بل بفراغٍ رهيب؛ الضرب لم يخفف شيئًا من الألم الداخلي، بل أكسبه لونًا آخر ، لون الخيبة والندم.
سيف حاول أن يرفع يده ليمس وجهها أو ليمنعها، لكن قوته لم تسعه؛ تلعثم في الكلام، وخرج منه صوتٌ واهن:
-“رقية… اسمعي…”
فاهتزت شفتيه وخرجت كلمة غير واضحة. رقية سحبت يديها ببطء، وكأن الزمن تراجع خطوةً ليرى آثار فعلها. نظرت إلى نقطة الدم على شفته، ثم إلى وجهه المتعب، فانهارت رقيّة فجأةً ، لم تُنهار من قوة الضرب، بل من رؤية ثمن هذا الانزلاق باهظًا إلى هذا الحدّ.
لم تُدِمّ الضرب؛ بادرها الندم ليقتحمها. أمسكت بوجهه بيدين مرتعشتين، وعيناهما تلاقتا في لحظةٍ مملوءةٍ بالأسف والحب واللوم. همست رقية بصوتٍ يقطع صدرها:
ـ “اللي أنا عملته فيك ده كله مايجيش نقطة في بحر اللي كانت هتعمله فيك المخدرات يا ابن محسن المهدي .”
صمتا كلّهما. في الصمت ذاك، بدا الجرحان،جُرحه الجسدي وجُرحها النفسي،أشد كلامًا من أي صفعة. رقية، والدمعة تسيل على خديها، أدركت أن هذه الضربة لن تُصلح شيئًا بمفردها؛ قد توقظ الوجع، وقد تكسّر آخر أكسيرٍ من الغضب في صدرها، لكنها لن تعيد البراءة.
نهضت ببطء، وقالت بجمود جاهدت كثيرًا لإظهاره وهي تستعد للمغادرة :
-” مش هقول لأخواتك علي حالتك دي عشان تفضل مثالي في نظهرهم ،بس مش عايزة أشوف وشك تاني ..!.”
نظر لها بصدمة وكان سيتحدث ولكنها كانت الأسرع وهي تخطي خطواتها في اتجاه الباب لتخرج :
-” لعند لما ترجع سيف اللي ربيته ، لعند الوقت ده ماشوفش وش حد ضعيف استسلم بسهولة ..سلام يا ابن ابويا”