رواية ظل البراق الفصل السابع عشر
في كل لحظة، أشعر بنقل الزمن على صدري، كأن كل ثانية تعلي على قلبي سؤالا لم يجد جوايا بعد، هل أعيش لأجل ذاتي أم لأجل الآخرين؟ وهل تختصر الحياة في الانقياد لرغبات الآخرين.
أم في الجرأة على مواجهة ما يزعجنا بداخلنا؟ في صمت الليالي، حين لا يزعجني سوى دقات قلبي، أكتشف أن القلب دائما يسبق العقل، يجرؤ على المجهول بينما يبقى العقل متحفظا، يراقب ويحسب ويقيس، وأنا بينهما، أحاول أن أحد نقطة التوازن، تلك النقطة التي تجعلني استمر دون أن أفقد نفسي في الطريق.
كان صباحًا جديدا يشرق على بيت رقية المهدي ذلك البيت الذي شهد على روح فتاة تحمل في
ملامحها نكهة الأمومة، وصبر السنين الذي جاوز عمرها.
كانت رقبة قد قلبت الشقة رأسا على عقب، تنظف كل ركن فيها بحماس لا يخلو من الإرهاق. بينما كانت أصوات التواشيح الدينية تملأ المكان بخشوع جميل:
"مولاي.. إني ببابك قد بسطت يدي "
كانت المكنسة في يدها تتحرك بإيقاع يشبه إيقاع قلبها، ومعها نور تجلس على الأرض تغسل سجادة كبيرة، وتتنهد بين الحين والآخر وهي تنظر إلى أظافرها التي تلفها الرغوة وقد بدات
قبلى من الماء والصابون.
أما هذا، فكانت هي الأخرى تجلس بجوارها، تغسل سجادة أخرى وهي تردد مع صوت المنشد
بتأثر صادق.
و بین همس وضحكة مكتومة، بدأت نور وهنا تتبادلان الكلام يخفوت، وكان بينهما سرا صغيرا.
رفعت "رقية" رأسها من مكانها ونظرت إليهما بحدة خفيفة وقالت وهي تمسح جبينها بطرف بلوزتها:
اللي في قلبها حاجة تقولي ياختي منك ليها، بدل ما تفضلوا تنها مسوا كده"
تبادلت الفتاتان النظرات الحظة، ثم قامت "نور" واقتربت منها وقالت بصراحة ممزوجة
بالجرأة
بصراحة بقى احنا مش فاهمينك يا رقية."
رفعت "رقية" حاجبها وهي تمسك المكنسة وقالت بهدوء:
مش فاهميتي إزاي يعني يا دكتورة ؟"
تقدمت "هنا " بخطوة وقالت:
رقية، أنت ما بتستحمليش بعد حد مننا كام ساعة. ده إحنا لما بتروح الجامعة أو مشوار و تتأخر ساعة بتفضلي متوترة وقلقانة، خصوصا هو... ليه دلوقتي حاسيتك عادي كده وهو مش جنبك ؟"
اقتربت" نور" أكثر منها، وقالت وهي تمسح يديها في طرف الفوطة:
احدا ما تعرفش حاجة عن سيف يقالنا أسبوعين من يوم ما خرج وحصل اللي حصل، وأنت روحتي له بيت خالتو ومن وقتها ما شوفنهوش أبدا.... بصراحة هو واحشنا قوي وعايزين نشوفه
وبعدين ليه مش عايزانا نروح نشوفه هناك؟ أو حتى هو فكر يجي يشوفنا؟ وكمان يا رقية
رمضان بكرة... مش هيجي يواجهه معاناء"
وقفت رقية مكانها تحدق في الفراغ للحظة وكان الكلمات علقت بين صدرها وحنجرتها، ثم تنفستجاي وهي تستعيد تلك الليلة التي عادت فيها من بيت خالتهم تمامًا مصطنع، وقالت لهن إن "سيف بخير، وأنه قرر يواجه فترة عند خالته علشان يهدأ ويركز في مذاكرة الثانوية. وإنهم ما يزعجهوش لا باتصال ولا بسؤال "
عادت لهن بنبرة هادئة لكنها حازمة، وقالت وهي تخفض صوت التواشيح قليلا:
"مش أنا قولتلكم إنه كويس ؟ يبقى ليه القلق ده؟ أنا عارفة إنه وحشكم، بس یا حبایبی اعتبروه مسافر، ومش هتشوفوه فترة، وده عشان مصلحته .. انتوا كنتوا شايفين هو عامل إزاى الفترة اللي فاتت، وما صدقنا رجع لعقله ومذاكرته ثاني، يبقى تساعده على كده ونسيبه براحته هناك "
تقدمت "هنا " بدموع في عينيها وقالت بصوت متهدج:
بس هو مشي وهو زعلان مني يا رقية .... وكمان إحنا بنتصل عليه كتير وتليفونه مقفول، أنا حتى رحت أشوفه هناك خالتو قالتلي إنه فوق في شقة يوسف، ويوسف معاه، وأنا ماكنش ينفع اطلع، وهو رفض ينزل يشوفني "
أوقفتها "رقية " بخطوات بطيئة، تم احتضنها بحنان وقالت بصوت دافئ ومحب
حبيبتي، هو مش زعلان منك خالص، حد يعل من هناه برضو ؟ بس هو مستريح كده يا هناء و حابب كده... و بعد بن تعالي هنا يا حلوة امش أنا قايلة ماحدش بروح؟ ولا خلاص كلمة رقبة ما بقاش ليها لازمة ؟
قالت آخر جملة بجدية مصطنعة لتخفف الأجواء، فضحكت" هنا" بخفة وهي تمسح دموعها
وقالت بسرعة:
لا والله يا روفا، كلمتك فوق رأسي، بس الحيوان ده كان واحشني "
انفجرت رقية ونور ضاحكتين على تعبيرها الأخير، فقالت" نور" بمودة وهي تضع يدها على كتف اختها:
" والله واحشني أنا كمان بس أنا متأكدة إن طالما رقية متطمنة يبقى هو بخير "
رقية للحظة، ونظرت النور بصمت تقبل تم قالت وهي تحاول أن تبدو مطمئنة:
"أنا متطمنة علشان هو عند خالتكوا، وهي واحدة بالها منه أوي وبصراحة البيت هناك هادي ورايق أكثر للمذاكرة، وبعدين كلكم بصراحة عامليني توتر.
ثم أشارت إلى نور بابتسامة مرهقة
الدكتورة آخر سنة وعاملالي قلق.
والدكتورة الثانية مقضياها امتحانات وصباح ليل ونهار الهند لما هتقلب ديك بلدي "
تعالت ضحكاتهما، فتابعت "رقية بخفة ظلها المعتادة:
وهو بقى ثانوية وعايز عسكري يثبت وراه بالبندقية عشان يذاكرا
وانتوا عارفين خالتكم بقى عاملة ازاي "
قالت "نور" وهي تضحك بمرح:
أنت ها تقولي على خالتكوا تصدقي الواد سيف صعب عليا بجد"
ابتسمت رقية " وقالت بنغمة جادة على سبيل المزاح :
منفضل ترغى كده ونسيب الشقة تضرب تقلب ؟ خلصوا بقى عايزين نفرش قبل الليل يا ماما
انب وهي رمضان بكرة فوقوا كده "
نظرت "نور" للسجادة أمامها وقالت بنافف:
لازم أغسل دي يعني ؟ بصي ضوافري بقت عاملة إزاي !"
رفعت رقية "حاجبها وقالت بصرامة طريفة:
أنا غسلت كل السجاد ونشرته ونشف كمان، ودي يا حبيبتي أنت اللي قولتلي سيبيها يا روقا
مغسلها أنا".
قلدت صوتها في آخر الجملة تم تابعت وهي تضحك:
اغسليها بقى وخلصيني."
قالت " نور" بضيق وهي تعاود الغسيل :
مغسل أهو .... ودي آخره اللي يعمل فيها جامد "
ضحكت " هذا " وقالت بخفة دم الرقية :
يا كبيرة، على فكرة ما فيش ترويقة اسمها ترويقة رمضان أنت أي مناسبة تروقي وخلاص "
اقتربت منها "رقية" وهي ترفع كم بلوزتها أكثر وتقول بابتسامة مشاغبة أنا بحب أروق يا قلب الكبيرة، وعندي مهارة ترويقة البني آدمين كمان... تحبي تشوفي ؟"
صرخت " هنا ضاحكة وجرت بعيدا وهي تقول:
" لا والله مصد قالا أنا مدخل حالا أروق الأوضة وأخليها بتلمع "
ضحكت رقية وهي تنظر إليها، ثم جلست على المقعد الثوان تتأمل وجوه أخواتها، وداخلها غصة دفينة لا يراها أحد
لم ترد أن تقول لهن الحقيقة.... لم ترد أن تخبرهن أن أخوهم الصغير مدمن
لم ترد أن تشوه صورته أمامهم، ولا أن تجعله يشعر يوما بالخزي حين يفيق.
فكذبت كلية تشبه الحب ، لتبقى صورته نقية في عبولهم، حتى يأتي اليوم الذي يعود فيه نظيف القلب والعقل، كما كان.
كان إبليس يطرب لتلك اللحظات التي يظن أنها ستقوده إلى النصر، غير مدرك أنها ذاتها سبيل هلاكه، وكذلك كان حال الجالسين الآن في ذروة نشوتهم، يحتفلون باتمام صفقة من صفقاتهم..... غير واعين بأن هذه اللحظات السعيدة ستقودهم في النهاية إلى ما وراء الشمس.
جلس رزق البزاق في صالة منزله ممسكا بفنجان قهوته يرمق خالدا بنظرة مشبعة بالثقة. والغرور.... وخالد على هيئته، كان الكبرياء قد تسرب إليهما من منبع واحد
رفع " رزق" حاجبيه في نشوة ظاهرة وقال بسعادة عارمة:
الشغل كان نضيف المرادي بشكل اكل حاجة تمت زي مانا عايز واكثر ، والمكسب المرادي غير كل مرة في زيادة 9630."
لمعت عينا "خالد" في حيب متباه، والحنى قليلا للأمام وهو يغمز لوالده بنقة زائدة، ثم قال بنيرة تحمل مزيجا من الزهو والاستهانة:
ده الطبيعي مننا يا بابا ، إحدا بقالنا شهرين يتجهز للصفقة دي ويتخطط لازم تطلع كده وأحسن من كده كمان ، أنت بس لو تسمع كلامي ونشتغل لوحدنا شوية ، المكسب هيزيد اضعاف أضعاف اللي بتكسيم"
قطب رزق حاجبيه في حدة والحلى بجسده قليلا نحو ابنه وهو يرفع يده بتحذير سريع حافر قائلاً بنبرة لا تخلو من الوعيد
أوعي تفكر في كده تاني يا خالد، إحنا مش قد الكبير ولا الباشا .. لو بس شموا خبر اننا هنشتغل لوحدنا ولا يتفكر في ده منتفسح من على وش الدنيا ، وبعدين ماحنا شغالين كويس وبتاخد حقنا ثالث ومثلت ، عايز ايه تاني ؟"
ارتسم على وجه" خالد" تعبير الضيق وقال :
بس شغالين تحت ايديهم برضوا ، بناخد الأوامر ومكسبنا منهم، ليه ما نبقاش احنا الكل في الكل وإحنا اللي تقول الاوامر وندي المكسب ؟ هنفضل طول عمرنا تحت الناس يا بابا ؟؟
ارتعش صدر "رزق" بغضب، فتصاعدت أحاسيسه مثل موجة عالية، وضرب كفا بكف بقوة، ثم قال:
" إحنا مش شغاليين في مصلحة حكومية يا خالد بيه هنا الغلطة برقبة على طول ! زي ما احنا محتاجيين ليهم هما كمان محتاجيين لينا, أحدا ينشتغل معاهم مش تحتهم بس هما ما عندهمش عزيز وقت لما حد مننا يقول هلعب لوحدي مش هيلحق يخلص جملته أصلا."
كيت "خالد" غيظه في أعماقه، وحاول أن يضبط انفعاله، ثم قال:
ماشي يا بابا اللي تشوفه ."
نظر "رزق " إلى خالد وقال بهدوء مطمئن
عالفكرة الكبير مبسوط منك على الآخر، وباعتلك نسبة مخصوص بعيد عن نسبتنا الأصلية .
وده يخليك متطمن إنك هتعلي قريب وهتبقي الدراع اليمين بس الصبر يا باشا."
لمعت عين" خالد " ببريق الطمع، وارتسم على وجهه ابتسامة خفيفة مشوية بالتوقع، ثم قال:
طب والله كنت متوقع ، مش قولتلك إبنك مش سهل وبكرة تشوف هيبقي إيه؟ ولا تقولي
عامر ولا تقولي ابنها "
رد " رزق " بلا مبالاه :
ولا يفرجوا معايا ، كده كده شايف نفسي أعلى منهم ، هو عامر بس عشان بيعرف يقول كام كلمة ويأكل عقل الناس فاعمليته كبير عليهم والحامي بتاعهم ، بس هيجيله ضربة توقعه وتخلص منه وترتاح ."
قال " خالد " بكره :
و مهاب سهل وقعه ، مفاتيحه كلها في إيدي ."
ارتسمت على وجه " رزق " ابتسامة ساخرة، وضحك بخفة، ثم قال بلهجة ملؤها السخرية
مفاتيح مين اللي في إيدك ؟ مهاب البراق ؟ مهاب مش سهل زي ابوه ، أبوه طيب وبييجي من كلمتين ، بس هو لا ده يلعب بيك وبابوك وبعيلتك كلها وتبقي فاكر إنك موقعه بس هو اللي حاطك مفتاح في ميداليته يا خالد بيه ، أنت مش قد مهاب وأنا يقولك أهو بلاش تلعب معاه عشان النهاية هتزعلك ."
المناظ" خالد" من كلمات أبيه، فارتفعت حدة الفعاله، موقف متصلنا، وأخذ مفاتيحه بيده، ثم قال بثقة زائدة وكانها تحد واضح
الأيام بينا يا حاج، وهنشوف وقتها مين اللي هيزعل "
ثم ترك خالد أبيه وراءه، ومضى خارج البيت بخطوات واثقة، كأن كل خطوة تمردا مكتوما وانفجارا داخليا من الغضب المكبوت
كانت حارة البراق قد بدأت تلبس ثوبها الرمضاني الزينة ترفرف من شرفة إلى أخرى، ألوانها تلمع في ضوء المصابيح، والأهالي يزينون الشرقات والنوافذ وكان الحارة كلها تحتفل بوصول شهر رمضان العيون المعلقة على الشرفات تلمع بالفرح، والضحكات تتقافز بين البيوت، رغم أن كل قلب يحمل قصته وما يخبئه من هموم، إلا أن نسائم رمضان كانت تطبطب على الجميع كانها تقول لكل واحد: "ابتسم، فالفرحة هنا."
في شارع الورشة، كان الشباب يقفون على السلم، وتألق الزينة بحماسة لا تخلو من فوضى محببة، بين يقيدم الأسلاك والأنوار الصغيرة، كانت أصابعهم تتحرك بسرعة، وأعينهم تتبادل الضحكات والمقالب الخفيفة، مهاب كان واحدا منهم يرفع الأنوار عالياً ليثبتها فوق المدخل وابتسامة لا تفارقه، رغم كل ما يدور في قلبه، قال بمرح وهو يثبت أحد الأنوار وينظر النافذة التي تقف بها رقية تتابع ما يحدث :
الا ما حد جابلنا كوباية مية حتى قبل ريقنا بيها ، للدرجادي قليكم جامد علينا ، ده حتي رمضان بكرة والقلب العاصي بيحن و ااه هقع يا غبي ..
قال آخر جملته عندما اهتز السلم قليلاً، تم نظر بغضب لـ "يوسف "، الذي كان ممسكا بالسلم. لكنه ايتسم بمرح وحرك حركة خفيفة، وقال ضاحكا:
مش وقت نحتحتك يا خويا، إيدي وجعتني من ماسكة السلم ببقالك ساعة تتعلق في فرعيين نورا، ورقبتك وجعتك يا حبيبي من كثر البص، اخلص خليني أقعد وحياة ابوك "
كان مهاب على وشك الرد. حين ظهرت " هنا فجأة من الشباك واقف بجانب رقية، وقالت. بصوت منخفض، وأقل بالحماس وهي تنادي يوسف:
ابيه يوسف... يا ابيه يوسف يا يوسف "
رفع "يوسف" لينظر إليها، ابتسم وقال مازحا:
أبيه يبقي عايزة حاجة، قولي قولي، أصل أنا ناقص "
نظرت إليه" هنا بفرحة طفلة، وقالت بحماس:
هات سلم وعلى الزينة من بداية الشباك هنا".
ابتسم "مهاب" لها وقال بخفة:
عيوننا للدكتورة هناء من غير ما تقولي كنت معلفلك في كل سنة."
ردت" هنا باحترام، وعيناها تلمعان
ربنا يخليك يا آبيه مهاب
ضحك "مهاب" بلهفة ممزوجة بالسخرية:
الله أكبر... مانا اسمى بيتقال عادي اهو، مهاب سهلة وبسيطة."
وفي تلك اللحظة، الفجر يوسف في الضحك، بينما كانت هذا تنظر إليهم باستغراب، متسائلة عن سبب هذا الضحك المفاجئ، كان "عامر"، يجلس على كرسيه المعتاد أمام محل الحاج عمران
يتأمل المشهد بصمت يراقب المشهد يصمت، أراد أن يشاكس ابنه، الذي كان واضحا عليه الغضب والانزعاج، فرفع رأسه نحو الشباك وقال الرقبة بصوت حنون يمزج المزاح بالحب الأبوي:
ست البنات ممكن كوباية شاي من إيدك؟"
نظرت "رقية "إلى الرجل الذي كانت تعتبره جزءا من عائلتها الصغيرة، وعيناها تملؤهما
الاحترام والمحبة، وقالت بصوت هادی دافئ
دقايق والشاي يبقي عندك يا عمو عامر . "
واختفت من أمامهم . فنظر "مهاب " بصدمة لأبيه الذي غمز له، هز مهاب رأسه يضحك مرح
وقال العامر:
حبيبي يا كبير، لا حلوة منك ، المدخل من عندك ياقي لأحسن ابنك بالله خلاص چاپ آخره
" والله أنا اللي جبت أخري منكم يا عيلة البراق ، أيدي وجعتني يا ابني انزل بقي ."
جملة قالها يوسف بضيق، ثم التفت "مهاب" إليه مبتسما بمرح:
تصدق نسيت إني واقف على السلم .... نازل يا خويا أهو "
وبالفعل، بدأ مهاب ينزل من أعلى السلم، بخطوات حذرة ومتماسكة، بعد أن نزل، قال له
" يوسف" وهو بروح مرحة :
لازم تنسى يا صاحبي مش كل شوية تبصا قال يعني احنا مش ملاحظين؟"
ابتسم " مهاب" وقال بنهفة وصدمة مصطنعة:
يا لهوي ، كله لاحظ ؟!"
عمر له " يوسف" قائلاً مازحا:
الحارة كلها ... نفر نفر."
ضحك " مهاب "يمرح وأجاب:
صلحوا الغلطة وجوزونا."
"يوسف" أشار له ليصمت، وقال بتحذير ضاحك
تعرف لو سمعتك هتعمل ايه؟ وأنت يا حبيبي مش ناقص"
رد مهاب" بضيق مصطنع
ما تفكر نيش بقي من يومها وهي مصدر الي الوش الخشب
قاطعة يوسف " وقال ضاحكا:
هي على طول مصدر الك الوش الخشب يا مهاب .
نظر له "مهاب" يرقعة حاجب وقال :
" بجد؟ "
" أه والله . "
زفر مهاب " وقال بمرح :
أومال انا زعلان ليه ١٢ بس المرادي الموضوع مختلف ...
وفي تلك اللحظة قاطعتهم "هنا "وهي تقول بحزن، وعيناها مليئتان بخيبة الأمل:
نزلت ليه ... مش هتعلقي الزينة ؟"
" أنا معلقها !"
كان هذا صوت " مازن " ، الذي وصل للتو وسمع جملة هنا، فرفع رأسه بحماس.
ابتسم عامر ومهاب ويوسف يمكن، فقال "مازن" وهو يحاول رفع صوته ليسمع الجميع:
قولت أساعدكم يعني..."
فابتسم والده بهدوء ورحم ابنه وقال:
وماله يا حبيب أبوك ؟ حد السلم ده، واسنده على الحيط، وعلق الزينة دي على البيوت يلا"
نظر" مازن" إلى والده يغمر، وقال له بحماس:
"طلباتك أوامر."
أخذ السلم من يد يوسف وأسنده على الحائط، وما إن صعد ليصل أمام شباك هنا حتى اغلقت الشباك في وجهه.
ضحك الجميع بصوت عال، فقال بغيظ وهو يحاول النزول :
طب وربنا ل..."
لكن "مهاب لحقه بسرعة قبل أن يكمل كلامه:
" ما تحلفش يا حلو.... هتعلق يعني متعلقا ولا تتعلق ؟"
نظر" مازن الى مهاب يطيق، لكنه رد يغلب:
معلق يا كبير... معلق "
في تلك اللحظة، ارتدت رقية أسدالها وخمارها، وحملت صينية كبيرة عليها كؤوس الشاي الجميع الموجودين في الورشة. نزلت على السلم بحذر وأناقة، وما إن لمحها مهاب حتى أسرع إليها.
واخذ الصينية من يدها بابتسامة دافئة وقال:
تسلم ايدك يا رقية ... تعبناك "
أجابت وهي تصعد السلم خطوة خطوة:
ولا تعب ولا حاجة ... إحنا أهل "
قال "مهاب " بلهفة واضحة:
" محتاجين لتكلم "
توقفت لثوان، ثم ردت بهدوء:
حاضر... أوعدك هنتكلم قريب"
تفاجاً من موافقتها السريعة، فقال على عجل قبل أن تختفي خلف السلم:
كل سنة وانت طيبة يا رقية"
وصل صوته إليها وهي تصعد السلم وترد بابتسامة خفيفة:
وانت طيب يا هندسة "
ابتسم مهاب بحب، واتجه لتقديم الشاي لكل الموجودين في الورشة خطوة خطوة على السلم. حتى بلغ عبد الله الذي كان يقف على سلم صغير، صوته يملأ الحارة، يعني "رمضان جانا". فتجاوبت معه أصوات المارة والضحكات تتعالى في الهواء صوته كان جميلاً ويداعب قلوب الناس، كأنه يهمس لكل واحد منهم أن الفرح الحقيقي لا يحتاج سبنا سوى حضور هذا الشهر المبارك
زیاد، صديق عبد الله، كان يضحك على أخطاء صديقه في تعليق الزينة، يمد له يد المساعدة أحيانًا، ويقف في أحيان أخرى يصفق له ويشجعه، مشهدهما كان يضيف روح الأخوة والمرح
للورشة كلها.
"زياد " بحماس :
ايوه او عبدالله او جامد ، قول كمان قول .
تتعالى ضحكات "عبد الله " ويقول :
والله العظيم تعبت منك . أنت يابني أول مرة يجي عليك رمضان ولا إيه ؟
نظر له "زياد " بمرح وقال :
ياعم شارعنا شارع ناس ما يتحيش تفرح ولا يتعلق بزينه ولا الحلو اللي انتوا عاملينه ده . ده أو مؤمن مرة لميت عيال الشارع واشترينا زينة وقولنا هنركبها ولسه بتقول بسم الله ، محول
الكهرباء فرفع . "
تعالت ضحكات "عبدالله " فاكمل زیاد :
من يومها وكل ما حد يشوفني معلق زينة يحلف ماهي متعلقة ، بس هما اللي خسارتين ، كنت عايز افرفشهم بدل ما هما ناس جد الجد كده.. خدني اعيش معاكوا هنا يا عبد الله وهتكسبوا شاب ثقة . "
ولا اللي عايش في حارة مرتاح ولا اللي في مدن وسط عمارات وقلل مرتاح ، طب تعلموكوا ايه يا جدعان .
"زياد " بلهفة وروح مرحة :
سفرني يا غالي سفرني إن شاء الله حتي دبي ، أنا راضي بقليلي ياعم ."
قال له عبدالله " وهو يرتشف من الشاي :
الحاج عامر هيسفرك لمكان بعيد أو ما خلصناش اللي بتعمله ده في خلاص نص ساعة ، يلا يابا ورانا لسه شغل في الورشة ."
طب على تاني يلا"
ضحك عبدالله ، واخذ يغني مرة ثانية لرمضان .....
الضحكات الموسيقى الأنوار، ورائحة الشوارع الممزوجة برائحة الكنافة والبلح والحلوى الرمضانية، كل هذا خلق مشهدا نابضا بالحياة، حتى أولئك الذين يحملون في قلوبهم حزنا أو مشاكل، وجدوا انفسهم يبتسمون بلا وعي، لأن روح رمضان كانت هناك تطبطب عليهم بلطفها الخاص، تذكرهم بأن الفرح يمكن أن يأتي، حتى لو للحظة، ليغطي على أي ألم.
كان الشارع كله ملينا بالحركة، والقلوب تتراقص مع الأنفام، ومع كل ضحكة وكل الغنية، كان يبدو أن حارة البراق قد اجتمعت لتخبر الجميع: "رمضان" هنا.... والفرحة رغم كل شيء حاضرة"
في البيت الذي يفيض حنان ناهد ويغمره دفء عاطفتها كانت ناهد واقفة في المطبخ، هي وهبة، يفرزان أشياء رمضان في الثلاجة بعناية وحذر تتناثر الأصوات الخافتة للمطبخ بين حركة الأيدي وفتح وغلق الأدراج.
نظرت "ناهد لهية بعينين ملينتين بالحنان، وقالت لها بصوت دافئ
روحي يا هبة افطري مع بيت أهلك أول يوم، طالما قالولك تعالي. من حقهم برضه يا حبيبتيي تكوني معاهم أول يوم."
هية "رفعت رأسها برفض خفيف، وقالت بابتسامة :
" وأصيبك يا ناهد؟ لا طبعا، هما هناك كثير مع بعض، لكن أنا وأنت مالناش إلا بعض، احدا منفطر هنا زي كل سنة "
ابتسمت ناهد" لها بحب، وقالت وعيناها تلمعان بالدموع:
" أنت أصيلة يا بت.... عارفة لما محمد مات قولت خلاص ما بقاش ليا حد، أمي وأبويا ماتوا وأخويا خلاص راح ومراته متاخد بنته وتروح بيت أهلها وهتفضلي لوحدك بين أربع حيطان يا ناهد بس يوم ما قولتي انا هفضل في بيت جوزي مع اخته قلبي رجع بعيش من ثاني، ربنا يعلم إنك عندي أكثر من أختي وسما بنتي اللي ما خلفتهاش "
دمعت عينا "هبة"، واقتربت من ناهد لتحضنها، وقالت وهي تحبس ابتسامتها:
انت من ريحة حبيبي يا ناهد، وأنا عمري ما كنت هبعد عن هذا .. عن البيت اللي عشت فيه أجمل أوقاتي مع جوزي وأبود بنتي، انت مش لوحدك... أنا وسما هتفضل معاك لحد ما تجوزها. ونفضل أنا وأنت بقي تفرد لبعض "
ضحكت "ناهد "يمرح، وقالت:
طب يلا بسرعة.... حطي الحاجات دي في الفريزر وكده إحنا خلصنا كل تفريزات رمضان، من الحق هي سما لسه نايمة ؟"
اجابت "هبة بهدوء:
لذا صحيت وفي أوضتها، مش عارفة مالها اليومين دول كده... على طول في أوضتها، وكل ما تكلم معاها تقولي سيبي يا ماما."
نهضت ناهد" بقلق وقالت وهي تتجه نحو غرفة سما:
يوه ليه كده؟ هروح أشوفها أنا."
دقت على باب الغرفة، فسمعت سما تقول:
ادخلي "
دخلت" ناهد" بابتسامة حنونة، وقالت:
ايه يا قلب عمتك... ما خرجتيش من أوضتك ليه من الصبح؟ أنت تعيانة ؟"
اجابت" سما" بهدوء وصوتها منخفض:
" لا يا عمتو.... أنا كويسة، بس قولت أنام طالما مافيش دروس النهاردة"
نظرت إليها" ناهد" بقلق، وجلست بجانبها، أمسكت يدها وقالت:
نامي براحتك يا حبيبتي، بس أنا ليه حاسة أن سما مخبية حاجة عليا"
الملصت " سما " بعينيها وقالت بتوتر:
لا... مخبية أيه؟ ولا حاجة "
ابتسمت" ناهد" بحنان وثقة، وقالت:
" سما ... أنا عارفة إنك في سن متلخبط، وفي أوقات هتحسي بلخبطة وتوهه.... وممكن يحصل معاك حاجات أنت مش هتفهميها دلوقتي، فعايزاك أي حاجة تحصل، تحكيها ليا أو لماما ... أي حد يدايقك تقولي على طول "
نظرت سما إليها بتوتر فكرت فيما إذا كانت ستبوح بما يحدث معها من مدرس يقترب منها.
بطريقة غير مريحة، لكنها أدركت صعوبة تصديق أحد لذلك، ستقول كيف أن معلم، صيته حسن
بين الجميع ومعروف بأدبه يجبه يقترب منها بطريقة غير مألوفة، وأنها تلمح في نظرته لمسات من اهتمام فوق حدود اللياقة المعتادة، وكانت النظرات تختلط بين الفضول والانجذاب
بطريقة عربية ومرب، فابتسمت متوترة وقالت:
"مافيش حاجة يا عمتو... أنا بس بطني كانت وجعاني شوية بس دلوقتي تمام، وشوية مخرج أقعد معاكم"
لم ترغب "ناهد في الضغط عليها، فابتسمت وأومأت برأسها
ماشي يا عيوني هعملك حاجة سخنة تشربيها لما تطلعي ووقت ما تحبي تتكلمي أنا هنا وجنبك"
تخرج ناهد، تاركة سما وحيدة في غرفتها، وأفكارها تتشابك بين نظرات المدرس التي بدأت منذ أسبوعين، ومحاولاته للتقرب منها بحجة الشرح، لكنها لم تفصح عن شيء بعد، ولا تعرف ماذا
ستفعل، فالموقف صعب عليها للحد الذي يجعله يهرب بالنوم.
حل الليل على حارة البراق، والأنوار الملونة للزينة تلعلع في كل زاوية، وتظهر ألوانها على الجدران الباهتة وتنساب على الطرق الضيقة. أصوات منيعة المسجد تتعالى بصوت تراويحأول يوم رمضان، وتملأ الحارة بالروحانية والسكينة، فيما تصعد من البيوت أصوات الدعاء والتهليل، تتمازج مع ضحكات الأطفال الذين يركضون بين الأزقة.
بعد الصلاة، الفتح ناهد ورقية باب المطعم الذي يعمل طوال رمضان، في فترة العصر وأحيالا في المساء، نظرت "رقية" لناهد وقالت:
دلوقتي عايزين حد يساعدنا في شهر رمضان ..... انت عارفة أن محل الفول والطعمية اللي في الحارة جنبنا، ما بيشتغلش في رمضان، وكله بقي بيجي ياخد من عندها، وإحنا ينفتحمرتين في اليوم الحمد لله، ونادية مش هننزل الشغل تاني، ومحمود، أنا قولته مش هشتغل شهر رمضان"
سالت" ناهد "بدهشة:
قولتيه ليه بس كده؟"
أجابت "رقية" مبتسمة:
"الشهر بيعي بسرعة يا ناهد والعبال في العادة مش بيذاكروا أصلاً وده ثالثة إعدادي، يعني
سنة مهمة .... خليه يخلص الفترة اللي باقية فيها على خير ويذاكر"
اومات "ناهد" برأسها:
عندك حق، وعموماً مرتب محمود هيبقى شغال زي ما هو "
ردت رقية:
أدر عاملة حسابي على كده... شوقيلنا حد يساعدنا بقي على الأقل بالليل، وأنا وأنت هنمشيها
فترة العصر "
"هبة" كانت معهم في المطعم، ابتسمت وقالت بحماس:
انتوا تايهين ليه ؟ مانا اهو.... هساعدكم بالليل "
قالت "ناهد" برفض
وسما هتفضل في البيت لوحدها ؟.... لا لا مش موافقة."
وفي تلك اللحظة، دخلت نور وهنا، ومعهم سماء الذين كانوا يصلون في مسجد آخر غير الذي صلت فيه رقية وناهد وهبة.
سألت "نور" باستفهام:
مش موافقة على إيه يا ناهد؟"
اجابت "هبة".
عايزين حد يساعدهم في المكان الفترة دي... وأنا قولتلهم مساعد بالليل، لكن مش راضين عنان سما متبقاش في البيت لوحدها "
قالت "هنا" بسرعة:
ايه اللي هيخلي سما لوحدها ؟ هنيجي معانا... أصلا سيف هيقضي آخر فترة في الثانوية في بيت خاليتو، يعني عادي تيجي تقعد معانا والليل كله ساعتين بس، وبعدها ينزل تتسحر مع رقية وناهد هنا، والفجر بيأذن على طول"
أجابت "سما"
" وأنا موافقة على فكرة"
نظرت "رقية "إلى ناهد وهبة، وقالت بصرامة مزجت بالمرح:
ومن وقت تفكير خالص يا حجة أنت وهي موافقين ولا أروح أزعق في ميكروفون الجامع
وأقول عايزة واحدة تشتغل معايا شهر رمضان يا ولاد الحلال ؟"
تعالت ضحكات الجميع، فقالت ناهد بغلية :
" موافقة ... وأمري الله. "
نظرت للبنات جميعا وقالت:
يلا يا حلوة منك ليها زي ما متعودين كل سنة، بنسحر الحارة كلها من عندنا أول يوم مجاني .
شمروا كده، وكل واحدة هيساعد "
هزت البنات رؤوسهن بحماس، وبدأت رقية توزع المهام، تقول لكل واحدة منهن ماذا ستفعل. والحيوية والضحكات تملأ أركان المطعم، في أجواء رمضانية دافئة ومليئة بالفرح والوفاء.
كان الشباب قد تجمعوا أمام القهوة الصغيرة، مشغولين بمشاهدة مباراة كرة القدم التي جمعت فرق الحارة، ضحكاتهم وهتافاتهم تملأ المكان وتضفي على الليل حيوية خاصة، وما أن انتهت
المباراة حتى اقترب "مهاب" من يوسف وقال له :
جبت الترابيزات اللي بنحطها أول يوم سحور؟"
اجاب" يوسف "مبتسقا:
" أيوه.... كلهم في الورشة عندي."
"مهاب" بهمس :
هنبقي تختفي شوية نروح لسيف وترجع علي طول ..
ماشي ، شوية كده ونروح ."
توجه "مهاب" بعد ذلك إلى مازن وقال له بلهجة شبه أمر:
مازن مش هتتسحر لحرية رمضان ده"
ابتسم "مازن" بخفة ورد عليه
" ما تقلقش... قاعد على عليكم "
بدأ الجميع بالتحرك نحو ورشة يوسف، حيث أخرجوا الترابيزات بعناية ليضعوها في شوارع الحارة. كانوا يشاكسون بعضهم يتبادلون المرح والضحك، وكل واحد يحاول أن يصل أولا إلى الطاولة .
وفي المطعم، وقفت رقية رغم التعب الذي بدا على ملامحها، تحمل سنوات من الخبرة في تجهيز السحور الأول يوم رمضان بنية صدقة عن صحة إخوتها، شعور داخلي لا تبوح به الأحد. نظرت للبنات وقالت:
" يلا معاد السحور ، ابدأوا طلعوا الصواني دي للشباب وهم هيتصرفوا."
كانت الصواني مليئة بسندوتشات فول وفلافل وبطاطس وجين مرتبة بعناية لتصل إلى الشباب
في الشوارع بسرعة.
خرج مهاب من خلف المنضدة وهو يحمل صينية كبيرة، ثم انضم إليه يوسف ومازن، وعامر واقفين عند الطاولات، ينسقون مع باقي شباب الحارة لتوزيع الطعام على الجميع.
قال يوسف بابتسامة وهو بعد صينية مليئة بالسندوتشات:
بسرعة قبل ما الفول يبرد يا عيال ، وزعوا بسرعة "
رد" مازن " بحماس:
تيجي تتسابق ونشوف مين هيوزع أكبر عدد؟"
ضحك " مهاب " وقال بمرح:
" يلا تتقسم الفريقيين واللي يخسروا هما اللي هيغسلوا الأطباق والكوبايات "
نظر له "يوسف " بثقة وقال :
" أنا وعبد الله والجيش اللي ورايا دول في فريق ، وأنت ومازن والشعب اللي وراك دول في
فريق، موافقين ؟"
قالوا جمعيا في نفس واحد
"موافق"
فقال وهو يسرع بمرح :
" المسابقة بدأت "
في الزاوية، كانت ناهد وهبة ينقلان صواني كبيرة إلى الطاولات وهما يتبادلان النكات مع سماء التي بدأت تضحك لأول مرة منذ أيام، وكأن الجو الرمضاني أخفى عنها أي ضيق.
قالت " ناهد" وهي تسحب صينية:
"مش مصدقة بالله إننا بتلحق تعمل الكميات دي ماشاء الله ، ده في العادي بنتعب من يوم الشغل البسيط ."
قال "نور " التي تقف خلفهم :
الفرحة يتنسي التعب يا ناهودة، وبعدين احنا ليتنا خير ، قربك بيساعد ."
كان الجميع في قمة السعادة، يزدحمون على المائدة ويبتسمون بينما يتبادلون أطراف الحديث ويأكلون بشهية، أما هي فواقفة في زاوية، عيناها تنبع كل حركة، وقلبها يعتصر شوقا له. فقد كان يملأ اليوم بروحه الجميلة، التي تشبه قلبه الطيب، رغم أن الدنيا قد شوهت ملامحه
كانت تعرف أنه لن يصوم غذا، ومع ذلك تمنت لو يقف بجانبها، ويهمس لها بعفوية:
خلصي يا رقية، هاتليي أكل كتير الفجر قرب يأذن ."
رفعت رأسها إلى السماء، وأغمضت عينيها لحظة، قائلة:
يارب، هونها عليه وقويه في الرحلة دي "
ظهر صوت "مهاب" من خلقها، لكنها لم تلتفت، يقول:
هو كويس ، وقوي بشكل ماتتخيلهوش يا رقية | محتاج شوية وقت وهيرجع أحسن من الأول."
ظلت صامتة فقال بمرح محاولة للتخفيف عنها :
يلا يا أستاذة تروح تتسحر قبل ما أكلك يبرد وانت ما بتحبيش الأكل بارد ."
ضحكت بغلب وقالت :
يابني سيبني في حالي بقي ، أنا في إيه وأنت في إيه ؟"
قال بابتسامة وهي بسير من أمامها :
خلي قلبك يلين بس وإحنا هنبقي في مكان واحد ، يلا وما تقفيش لوحدك كده ."
ابتسمت بخفة وذهبت وراءه .... انتهت الليلة تقريبا عند وقت الفجر، والضحكات لم تتوقف. والصواني فارعة تقريبا، لكن السعادة ظلت تملأ المكان، وركن مطعم رقية أصبح مركز قرحة الحارة، حيث الخير والنية الطيبة اجتمعا في ليلة رمضانية لن تنسى.