رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والتسعون 195 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والتسعون 

إني مُستوحِشٌ ياربّ
في الطريقِ وسطَ الرِّفاق،
الدنيا بأكملها بداخِلي وحدةٌ مُخيفة مُميتة..
خفِّف وَطأتها عليَّ وأدرِك غُربَتي إني ضِعتُ
من نفسي وضَللتُ الطريق!
عالِقٌ في المُنتصف حيث اللَّا شُعور…
فمَنْ لي سِواك
ومَن سِواك يَرى قلبي ويسمَعُه؟
كُلّ الخَلائِق ظِلٌّ في يَدِ الصَمدِ.
أدعوكَ يَا ربّ فاغفر زلَّتي كَرمًا
واجعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدي
وانظُرْ لحالي في خَوفٍ وفي طَمعٍ
هَل يَرحمُ العَبدَ بَعْدَ الله من أحد؟
_”مقتبس”
____________________________________
في مرةٍ قد نخشى فيها على من نُحب..
فنرغب في الحفاظ عليهم بأعيننا؛ فأي بئرٍ غير أعيننا يحتوي قلب من أحببنا؟ فإن بعض القصص تولد مع ميلاد المرء، لذا بعض القصص تُكتب في أعيننا وتسردها حركة الجفون، تُخبر العالم عن ماذا عنينا وماذا نُخبيء بأعيننا، فياليت ما أحببنا استطعنا أن نُخفيه بين الأهداب، حيث لا ألم يُصبه ولا يَطُله عذاب، وإني لا أحمل بين طيات حديثي شكًا أن ألم من نحبهم يصب في قلوبنا العذاب صبًا، لا شك أن ألم من نُحب يؤذينا، لذا لو كان الأمرُ مُتاحًا بين أيدينا لوضعنا من نُحب بين رمشٍ وهدبٍ فلا تشوب قلبه شائبة حزنٍ…
فنحن مع أحببنا نصبح كما المحاربين؛
نقف بإقدامٍ واستبسالٍ حتى يُصيبهم الحزن، فنصبح كما بيوتٍ تعرضت لقصفٍ مُبرحٍ، وأي قصفٍ هذا؟
هذا هو القصف الذي يُقيد الحُريات، ويُكبل الأحرار،
هذا هو القصف الذي تعلو معه صرخات الإناث،
قصفٌ حل على البلد الآمنة؛ فحول كل شبرٍ بها لأرض خوفٍ، هذا هو القصف المُبرح الذي ما إن يُصيب بلادنا تتحول ذكرانا لأشواكٍ تنخر في نحرنا فنموت ألف مرةٍ ومرةٍ لأجل من أحببنا..
كما نفعلها ألف مرةٍ ومرةٍ ولا تُقابلنا لمعة حزنٍ في عينيهما..
فها هو بئر عيني ألقي نفسكِ به، وأعدكِ أنه سيغدو لكِ أمنًا وأمانًا.
<“لكني رضيت لي بالأذىٰ قبل أن أرضاه لكِ”>
ياليتكَ تعلم وأنِّي أخبيء الأمر في سريرتي..
أنني ما ارتضيت لكَ الأذىٰ ولكني ارتضيته منك لذاتي،
فهلا تظن أنني قسوت عليكَ وتجاهلت من عينيكَ موتي ورُفاتي؟
ياليتكَ كنت هُنا وأنا قلبي يخبرني برحيلك عن ذكرى مماتي، وياليتني أنا ما كنت تركت يدك تمسك بيدي وتدخل لأرض حياتي..
في إيطاليا تحديدًا بقصر عائلة “ماكسيم رايدر”..
كان الكبير الذي تولى المنصب بعد “ماكسيم” يقف وسط رجاله، زعيم جديد بمنصب جديد يظن أنه يُهيمن على العالم بطريقته، تخطيط وتدبير يسعى لاستعباد العالم بأكمله، كان في انتظار الخطوة الأخيرة كي يبدأ هو، لذا ما إن ولجت الدراجة الخاصة بـ”مُـنذر” ابتسم بزهوٍ كونه استطاع أن يجذبه إليه من جديد، فتح ذراعيه يرحب به، بينما “مُـنذر” اقترب منه يصافحه بفتورٍ، عاد لشخصية القاتل من جديد، قتل قلبه أولًا، ثم العالم ثانيًا..
أما الشخص الآخر فقال بثباتٍ وهو يتحدث معه باللكنة العربية:
_قولت أنتَ مش هتيجي تاني هنا بعدما لاقيت “نَـعيم” وعيشت معاه، كلامك دا معناه إن “مُـنذر” اللي أعرفه رجع تاني خلاص؟.
ابتسم “مُـنذر” بسخريةٍ ثم رد عليه بجوابٍ غير مباشرٍ:
_أنا جاي هنا أقتل “مُـنذر” دا…قولي هخلص إمتى على “ماكسيم”؟.
ابتسم الآخر بزهوٍ كونه استطاع أن يُعيده للساحة من جديد بعد أن تركها وولى المعركة الدُبر، بينما “مُـنذر” فهو لم يملك قلبًا حتى كي يشعر بالألم فيه، وإنما أصبح كما الصخرة القاسية وأشد قسوةً منها، كان مُتبلدًا وكأن القطب الجنوبي بأكمله يسكنه، لذا لم تعد تلك النيران تأكله، وإنما أصبح هو يُصادق الجليد، فكما فعل وترك البرود يُغرقه أمام الجحيم، اليوم هو الجحيم بذاته وهو النيران والثلج معًا..
سار بخطواتٍ هادئة رتيبة بجوار “باتريك” الزعيم الجديد، كانت عيناه تطوف بالمكانِ فتُعيد له ذكرى الأمس، تُعيد له أول يومٍ ولج فيه البيت هنا، تذكره بنفسه الراجفة بهلعٍ حينما فاز وقتل أحدهم من وسط عشيرةٍ يُماثلونه في العمر فكان هو أقواهم، حينذاك يوم أن قتل أحدهم، كان القتل وسيلته للتعبير عن الغضب، عن الفساد الذي يسكنه، عن الجحيم القابع بين جنبات صدره، لذا وثق به “ماكسيم” حينها وأتى به لبيته ليكون شُراعًا لمركبه، يواجه الرياح بدلًا عنه، وقف عند صوت “باتريك” حينما أوقفه بقوله مستفسرًا:
_تفتكر “ماكسيم” لسه عايش ولا خلصوا عليه في مصر؟.
التفت برأسه يمعن عينيه في وجه من يحدثه ثم جاوبه بشيءٍ من عدم الإكتراث والغير مُبالاة:
_مش عارف، بس ياريت يكونوا لحقوا “قـمر” منه.
رمقه “بـاتريك” بنظرة حقدٍ كان يقصد بها الثاني ثم أضاف بتهكنٍ يقصده في كلماته وحديثه حتى أنه تحدث تلك المرة باللكنة الغربية:
_أتقصد تلك الفاتنة الشرقية حفيدة الفراعنة؟.
تبددت نظرات الصفاء من عيني “مُـنذر” وتعكرت بأخرى حادة كما نصل سيف المُحارب في أرض عراكه، غضب لأجلها كأنه تخصه هو، وقد لمح “بـاتريك” غضبه واضحًا في عينيه؛ فضحك، ثم تحرك به بعدما أمسك مرفقه وقال بصوتٍ ضاحكًا:
_أهدأ يا رجل، أنتَ تعرفني ليس من هذا النوع الذي يفضل العربدةِ، أنا رجل جاد في عملي، ألم تر بنفسك ماذا حدث مع ابن العم بعد أن طاوع شهواته وملاذاته؟ الرجل منا يا صديقي نقطة ضعفه إمرأة جميلة وياويلته لو كانت بطابع حُسنٍ..!!.
نفض “مُـنذر” يد الآخر عنه ثم قال بصرامةٍ:
_أنا ميهمنيش أنتَ أو هو أو غيركم، بس اللي يهمني الناس اللي مني، وأنا جيت هنا ورجعت تاني علشان وعدكم ليا إن عمي اللي مني مش هيطولهم الأذى، فياريت سيرتهم ماتجيش تاني بنبرة متعجبنيش.
تلاشت ضحكة “بـاتريك” ثم بدلها لأخرى غامضة وهو يرمي بسهام كلماته قاصدًا قلب “مُـنذر” وهو يُذكره بما حدث معه قبل أن يعود إلى هُنا ويستلم راية القتال من جديد:
_إذن الأمر لن يقتصر فقط على “قـمر” وإنما أنتَ تقصد بذلك طبيبتك الحسناء !! معك كل الحق، ييدو أن قلبك يحترق لأجلها، أتعلم أمرًا هامًا ؟ الرجل منا يحترق قلبه لأجل من يُحب، خاصةً إن كانت من يُحب إمرأة بنكهة الحياة وهو غارقٌ في بحور الموت..
وها هي سيرتها تحضر فتُفتح جراحه، استقر القهر بعينيه، وأصبح مضروبًا فوق رأسه بمجرد أن ذكرها هذا الذي يقف أمامه، لذا بدل ملامحه لأخرى جامدة وأكثر قسوةً ثم تحدث بعنفٍ:
_ودي بالذات سيرتها ماتجيش هنا، خلاص هي ماتخصنيش وطلقتها، ياريت نحترم الحدود دي كويس لو كنت طالب مني حاجة وعاوزني أنفذها، طلبت مني آجي بدل ما أروح فيها مع “ماكسيم” وجيت، طلبت مني أسيب بيتي وحياتي ومراتي وسيبت، يبقى نشوف شغلنا أحسن؟ ولا نقول كلام غير دا؟.
ابتسم الآخر بسماجةٍ ثم ربت فوق كتفه بقوةٍ ورحل، رحل هكذا وترك الآخر يتلظى بنيرانٍ الحب ولوعة الفراق، كان “مُـنذر” يشعر بالنيران تسكنه، تركه لها بتلك الطريقة الغير آدمية هي تؤذيه قبل أن تؤذيها، نظرة عينيها الضحوكة وهي تتحول لأخرى يسكنها الحزن كانت تعصف بقلبه تصب عليه الكمد صبًا، تذكر آخر رسالة وصلته منها حينما كان على متن الطائرة وأراد أن يتأكد من غلق هاتفه فأخرجه ودون أن يعي لذلك، فتح الهاتف…
فتحه بخوفٍ كأنه ينتظر نتيجة اختبارٍ من موقعٍ ما فأراد أن يهرب من هذا الموقع، لكن رسالتها الأخيرة قتلته كما فعل هو معها، حيث كتبت له بقوةٍ يعلم هو أنها لا تملك منها مثقال ذرةٍ:
_لو أنتَ فعلًا عملت كدا فيا وكنت قاصد ليا الوجع دا، فأنا بشكرك من قلبي والله، إنك خليتني حُرة منك، ولو أنتَ فاكر إنك كدا بتأذيني وتعاقبني على حُبك، فأنا عقابي ليك إنك تفضل فاكرني طول العمر متقدرش تنساني، وعقابي الأصعب إني هنساك، هنساك وهكمل زي ما كملت من غيرك، أما قلبي اللي حبك، فدا أنا هدوس عليه لو فكر حتى يردني ليك…
أغمض عينيه وابتلع الغصة التي تشكلت بحلقه، ولم يخرج إلا على كفٍ وضع فوق كتفه من الخلف فالتفت بعدائيةٍ واضحة يرى من القادم؛ فوجد الآخر يصيح بسخريةٍ:
_ياعم أنتَ علطول متوتر كدا؟ وحشتني.
كان هذا هو “مارسيلينو” لذا أطلق الآخر زفرة راحةٍ ثم عانقه بقوةٍ، عانقه كأنه غريبٌ ولا يعرف غيره هنا، عناقهما كان يشبه عناق الصداقة القديمة حينما يبتعد طرفاها ومن ثم تجمعهما الدنيا سويًا بعد رحلات غيابٍ طويلة، طال العناق بينهما حتى أبتعد “مُـنذر” بعد أن عاد وتحكم في إنجراف مشاعره، بينما الآخر فقال بثباتٍ بعدما أصابته تُخمةٌ من المشاعر كأنه تناول وجبة دسمة:
_على قدى فرحتي برجوعك تاني، على قد زعلي عليك، مكانش المفروض تسمع كلامهم، إحنا ما بنصدق حد فينا يخرج من هنا، تيجي أنتَ وتعمل كدا؟ مفكرتش في اللي ليك هناك طيب؟.
ابتسم “مُـنذر” بسخريةٍ وقال بإيجازٍ يُلملم به جراح كلماته:
_أهو أنا علشان فكرت فيهم جيت هنا، لو أنا لوحدي روحت عادي، إنما لو حد فيهم راح هتبقى كبيرة أوي، الضمان ليهم إني ماكنش وسطهم، ودا أفضل حل، المهم سيبك مني، وصلتهم بمكان “قـمر” زي ما طلبت منك؟.
بدل كلماته مستفسرًا حتى أومأ له صديقه ثم قال:
_حصل، لقيت “بـاتريك” متابع مع حد من رجالة “ماكسيم” في مصر وعارف مكانه، دخلت على جهازه وحولت المكان ليا وبعته لـ “نـادر” علشان الوحيد اللي معايا حاجة توصلني بيه، وهي معاهم دلوقتي، بس معرفش حصل إيه بعد كدا، قفلت الجهاز.
أومأ له “مُـنذر” ثم ولج القصر، رحل حاملًا بين جنبات صدره حزنه وألمه وقهره، يشعر كأن الكون لم يعد يسعه وكأن كل شبرٍ به يشبه حقل الألغام وهو فيه يسير بخوفٍ من لحظة غدرٍ تودي بحياته، يسير ملتاعًا وفي قلبه نيران الجحيم وبرودة القطب، الآم يعود لمنحدر الخطر ويرمي نفسه بأوسطه لعله يهرب من ألمه..
____________________________________
<“لكن قمري وهاجًا لا ينطفيء نوره”>
كل الناسِ في العين ناسٌ ومن بين الجميع رأيت قمرًا..
كانت العين ترى الكل في صورته، إلا هو القلب يُسميه بدرًا،
أتراني اليوم يا قمرٌ وأنا أقف على أعتابك؟..
أقف في صفوف العاشقين كارهًا نفسي بدونك وغيابك؟
أترضاها لي أن أتوه بين الناس أُصادق عذابك؟
أم تقبلها لي أن أدير عيني في كل مكانٍ
ولا أراك وأنا أفتش وسط الضيق عن رحابك؟..
كان “أيـوب” بمسجد المشفى يؤدي فرضه، يتضرع قلبًا وقالبًا، يلجأ لربه قبل أن يضيق ذرعًا، ينوب عنها وعن نفسه بسجودٍ يُبكي الحجر القاسي، كان يرجو ربه أن يُعيدها له، أن يخرج بها من هذا الدرب المُعتم سالمًا، أن تعود له كما كانت قمرًا وهاجًا، كان يدعو ربه أن ينجوه من شيطان نفسه، ففي تلك اللحظات هو يرى أن القتل أسهل ما يُمكن للمرء أن يفعله، يرى سلب الأرواح النَجِسة حقًا مُكتسبًا، حمل في قلبه غضب الانتقام يشبه نيران الفلسطيني المُحتل، لذا عليه أن يتمسك بالحق حتى في الجهاد..
ارتاح بعد أن حدث ربه، بعد أن سجد وبكى وأعلن هزيمته أمام ربه، أرتاح بعد أن ظهر ضعفه للخالق وليس المخلوقين، فمن أرحم بالعباد من رب العباد جل وعلا؟ من أرحم بالعبدِ من ربٍ كرمه بروحٍ وجسدٍ وعقلٍ وميزه عن سائر المخلوقات؟ من غير الخالق وحده من يعلم قلب المرء وما فيه؟ لذا كان “أيـوب” وجد سكينته في رحاب الله، ثم جلس على ركبتيه يبسط كفيه ويطلب من خالقه بصوتٍ متوسلٍ:
_ربي فوضتك أمري، وحاشاني أن أكون عبدًا كفورًا أنسى النعم وأذكر البلايا، لكني أطمع في رحمتك، رحمتك التي وسعت كل شيءٍ وعسى قلبي تطله رحمتك، ربي إني فوضتك أمري وقلة حيلتي وضعفي وهواني على الناس، وأنتَ الكريم المُعز، أسألك يا كريم أن تمن عليَّ وتُعيد لزوجتي عافيتها، اللهم إني أسألك العافية والصحة والربط على قلبها في مصابها، ربي أسألك أن تمدنا بقوة الصابرين، ورضا المؤمنين، وأن نقتدي بعبادك الصالحين الصابرين، أعلم أن المرء لا يُبتلى إلا فيما يُحب، لكنها لقلبي هي كل ما أحب، فلا تفجعني فيها ولا تريني فيها ما لا أحب، أُناجيك، وأنا المُحتاجُ دائمًا وأنتَ.. أنتَ الله الرحمن الرحيم..
كان أنهى تضرعه باكيًا وآملًا ومتوسلًا، وقد حضر إليه “يـوسف” الذي وقف خلفه يستمع لصوت دعائه وقلبه ينفطر على شقيقته، كان الوجع بينهما متطابقًا، لكن كلًا منهما له طريقته في التعبير، لذا جلس بقربه وسأله بصوتٍ يحمل الهموم أثقالًا:
_قادر تعمل كدا إزاي؟ إزاي قادر تقف وتدعي ربنا؟ دا من كتر الأفكار السودا اللي في دماغي مكسوف حتى أرفع عيني وأطلب منه حاجة، المرة دي الشيلة تقيلة، وكتفي مبقاش قادر.
التفت له “أيـوب” برأسه ثم مد كفه يمسك به كف صديقه وقال بصوتٍ عاد له هدوء طباعه بعد أن أنفجر ببراكينه في رحاب الله:
_كل مصاب الإنسان بياخد عليها أجر، وكل البلايا توضع بميزان حسناته جزاءً لما تحمل وصبر، مش إدعاء مثالية مني ولا فلسفة زيادة بس اقتداءً بالصالحين، بعمل اللي ديني أمرني بيه وهو الصبر والتسليم لله سبحانه وتعالى، كل مصاب الإنسان حله في التسليم لرب العالمين، فما نحن إلا لله جل وعلا، لمن نحن؟ ولمن الملك؟ الملك لله وحده سبحانه وتعالى، يمكن القلب ناقم والروح غاضبة، بس ربنا سبحانه وتعالى أمر الإنسان بالتسليم، وعلشان عقلنا ميقفش وقلوبنا يشتد عليها البلاء، نتصبر بالقرآن الكريم والدعاء والأذكار وتحصين النفوس وأحاديث النبي، فكان الرسول ﷺ إن ضاقت دنياه يردّد:
“يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”..
وصل الحديث لمنتصف قلب “يـوسف” وتمركز به، كان يشعر بكل كلمةٍ وهي تصل لقلبه فتكون بوصلةً تُرشد تيههُ، لذا ردد بنبرةٍ خافتة وبعينين لمع فيهما الدمع فكون سحابًا شفافًا غطى لون المُقل:
_”يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”
وفي الداخل بغرفة “قـمر” كانت تنام فوق الفراش غير هانئةٍ، نومة يلجأ إليها الجسد بعد معايشة آلامٍ لم يقدر على مواجهتها وحده، كانت تنام بملامح وجهٍ متغضنة، الكدمات ظهرت على وجهها فأصبح شاحبًا به بقع زرقاء وأخرى عبارة عن كدمات زرقاء، وجهها تبدلت ملامحه بين ليلةٍ وضُحاها، وهي لم تصبح بنفسها “قـمر” المعروفة، فمن يراها يسكن الحزن ناظريه، يتحول قلبه لرمادٍ محترق لأجلها، هي وغيرها من الفتيات يقهرَّن بهذا الشكل فتحول عمرهن إلى رُفاتٍ..
كانت “ضُـحى” تجلس أمامها بعينين باكيتين وهي تمسك كفها المتورم المخدوش إثر مقاومتها، ظلت تمسح عليه برفقٍ حتى نزلت عبراتها فوق كف أختها، فتنهدت بصوتِ متقطعٍ وقالت ببكاءٍ:
_حقك عليا أنا، طول عمري واخدة إننا في ضهر بعض، اللي تقع فينا التانية بتشدها من زعلها، ودا اللي طول عمرك بتعمليه معايا كل مرة كنت بقع فيها بلاقيكِ قدامي، كنتِ بتسيبي كل الدنيا علشاني أنا، المرة دي أنا أعمل كدا إزاي؟ قوليلي إزاي أشدك من زعلك وأنا حاسة إن اللي فيكِ نار بتاكل فيا؟ قوليلي يا “قـمر” إزاي “ضُـحى” تكمل لوحدها؟ طول عمرنا شمس وقمر في سما واحدة، مينفعش واحدة فينا تكون لوحدها، سمايا ناقصها القمر الغايب، قومي بقى علشان خاطري، قومي مش هعرف أكون لوحدي..
ازداد البكاء مدرارًا في عينيها وتهدج صوتها وهي ترتمي بثقل رأسها فوق كف أختها، كانت تعلم أن القادم صعبٌ، تعلم أن شقيقتها سوف تعاني قهرًا وكمدًا يصيب الروح، تعلم أن أختها تحتاج لأعوامٍ كي تتخطى مصابها، لذا كانت تتمنى أن تكون تلك المرة هي الأقوى كي تشدد أزرها بها.
في الخارج أتى الشباب رفقة بعضهم ليكونوا مع “يـوسف” جنبًا إلى جنبٍ، كانوا قد قسموا نفسهم مناوبات ما بين “مُـحي” وبين “قـمر” في المشافىٰ، وقد كان “سـراج” أول من لمح صديقه فهرول له يعانقه بقوةٍ، كان يعلم قسوة القهر على الشقيقة ويعلم كيف هي مشاعر “يـوسف” لذا ضمه “يـوسف” بقوةٍ ينطق خلال حركته تلك بكل ضعفه، بينما “إسماعيل” فكان مع “أيـوب” الذي وقف بملامح مكفهرة وتيهٍ أصاب ثباته.
خرجت “ضُـحى” من الغرفة وما إن رأت زوجها اقتربت منه باكيةً فضمها “إسماعيل” لصدره واحتواها بنوبتها هذه وترك لها حرية التنفيس عن حزنها وحالها وقهرها، وقفوا مع بعضهم بغير حديثٍ، فقط نظرات مواسية، ولمسة يدٍ تؤازر، وتربيتٌ فوق الظهر..
في الداخل تراقصت الجفون، تندى الجبين، المشهد تكرر، لمساته الكريهة فوق جسدها، أنفاسه القريبة من وجهها، صوت شق ملابسها تكرر في سمعها، ارتجافة ساقيها تكررت باختلاف المكان والزمان، هلع قلبها، هرع العبرات، وضعها بين أنياب الأسد وهي قطة صغيرة تم استدراجها للعرين، لم يفُت سوى ست ساعات فقط على النوبة الأولى؛ حتى داهمتها الثانية، لذا انتفضت صارخةً وهي تدفعه بيدها، شقت حنجرتها من الصرخات العالية، وقد ولج لها “أيـوب” كما المرة السابقة ثم ضمها لعناقه، تلك المرة كان الأقوى حينما كلها بين ذراعيه وظل يهمس في أذنها بصوتٍ قوي على قدر حزنه:
_أنا “أيـوب” يا “قـمر” والله العظيم أنا “أيـوب” مش حد تاني، بصيلي وأنتِ هتعرفيني، بُصيلي بس، أنا “أيـوب” حبيبك، مش عارفاني؟ مطروف العين؟.
كان يسألها بخيبة أملٍ وحزنٍ على ما آلت إليه، بينما هي فصوته هدأ من روعها، وجدت نفسها تبتعد عنه بهدوءٍ أشبه بهدوء ما بعد فيضان الخزان، أو الصمت الذي يتبع صوت الأمطار القوية، لمحته بعينيها، هو نفسه مُغيثها، هو نفسه الرجل الوحيد الذي تآمنه على جسدها وروحها وشرفها، هو الوحيد الذي أرادت قربه ووصاله، لذا تشبثت به باكيةً، لم تعِ هل هو بواقعها أو حُلمها، لذا ظلت تبكي وهي تحشر نفسها بعناقه تود منه الحماية، وما كان عليه إلا أن يَضُمها بقوةٍ وهو يرجوها أن تتوقف بقوله:
_أنتِ معايا خلاص، معايا ومفيش حاجة هتقرب منك، مش أنتِ عرفاني؟ خلاص بقى خليكِ معايا، متخافيش يا “قـمر” متخافيش وأنا معاكِ، مش أنتِ عرفاني؟ أنا “أيـوب” جوزك وحبيبك…
كانت طريقته تتوسلها كي تتوقف وحينها خمدت ثورتها، سكنت في عناقه وتوقفت عن الحراك وهي تأنِ مثل الهرة الصغيرة بعناق صاحبها تشكوه قسوة المطر بدون ملجأ الحماية، بينما هو فهدأ من نوبة الهلع والخوف عليها، لصبح أكبر شاغله أن تهدأ هي في حضرته وعناقه، ولج “يـوسف” ورآها بعناق زوجها أهدأ مما كان يراها في السابق، فاقترب منها وهي بين ذراعي زوجها وحينها مرر كفه فوق وجنتها فانتفضت بخوفٍ وعادت برأسها للخلف..
حينها تحامل “يـوسف” على نفسه ثم أبتعد للخلف يقول بصوتٍ غلفه الحزن الدفين الساكن بين جنبات صدره:
_أنا “يـوسف” أخوكِ، متخافيش خلاص بقيتي معانا ومحدش هيقرب منك، صح مش أنتِ عارفة كدا يا “قـمر”؟.
بكت هي أمامهما حينها، بكت بخجلٍ وخزيٍ كأنها تود أن تخفي نفسها عنهما، لحظة الإدراك أتتها وما أصعبها تلك اللحظة عليها، لحظة مست شرفها وكأنها لها يدٌ بها، وقد فهم كلاهما سبب هذا البكاء، فجثى “يـوسف” على ركبتيه أمامها يقول بصوتٍ واهٍ أقرب للبكاء:
_متعيطيش، مش عاوزك تعيطي ولا حتى تزعلي نفسك، خلاص كل حاجة خلصت وأنتِ محدش قرب منك، أنتِ معانا هنا واللي هيقرب منك هيموت قبل ما يعتب هنا، صح؟ علشان خاطري ردي عليا طيب.
وجاء الرد منها بصمتٍ حينما أغمضت جفونها كي لا يفيض منها الدمع فأمطرت بداخلها دمًا، تمسكت بلحظة الصمت هذه وهي بين ذراعي زوجها وأمام شقيقها، هدأت كما بلدةٍ عاث فيها بعض المشاغبين فسادًا، ومن ثم أصبحت هادئة بحماية شبابها وأبنائها لأركانها، تلاقت نظرات “يـوسف” بنظرات “أيـوب” الذي ردد بصوتٍ خافتٍ:
_”يا صـبر أيـوب”..
____________________________________
<“ولا يريد المرء فينا سوى حسن الختام عند الممات”>
إن المرء لا تُشقيه الدنيا بقدر ما نفسه تُشقيه..
فترى الفرد فينا تاه وتغرب عن نفسه
ولازال الخير يربح فيه،
لذا فأنا كل يوم أردد أن يرد لي ضالتي
وكأنها فارقتني
وفي الحقيقة المُرة ضالتي
هي “نفسي”
_تلك التي لم تفارقني_
لكنها لازالت ضالة عني…
في مشفى أخرى يجلس فيها “مُـحي” بغرفةٍ أخرى تناسب وضعه الحالي بعد الإفاقة كان يشرد بصمتٍ بعد أن تركه شقيقه وذهب للحارة يقف بجوار رفيقه الثاني، كان يجلس بهدوءٍ وسكونٍ قلما شعر بهما في حياته، فمن يصدق أن هذا هو نفسه “مُـحي” غريب الطباع، من يصدق أنه نفسه الذي رغب أن يكون موته عقب صلاةٍ أدى هو فريضتها قبل أن يلقى ربه؟..
تذكر المشهد من جديد، تذكر قسوة الوداع حينما كان يضحك وصوت ضحكاته مع شقيقه يملأ المكان، تذكر كيف كان يلهو ويلعب ويقفز أمام نظرات والده، كان كما أطفال فلسطين يلعبون ويلهون أمام بيوتهم تحت نظرات أهلهم بأمانٍ ومن ثم تعلو صوت الطلقات النارية وهي تصيب الجدران والزرعات الخضراء، ومن ثم تستقر طلقة من فاه سلاحٍ في قلب طفلٍ صغيرٍ أمام والده، حينها سوف ينقلب المشهد رأسًا على عقبٍ..
الضحكات تتحول لصرخات، قفزات الصغار فرحين سوف تتبدل لأخرى تعقبها ركضات خائفين، نظرات الأهالي تتحول لأخرى ملتاعة بحزنٍ وقهرٍ، حينها لا تصبح الديار أمانًا، حينها لا يعلو صوتٌ فوق صوت الصرخات تشق الحناجر من وسط صوت الطلقات، تذكر كيف سقط جسده بين ذراعي شقيقه، تذكر آخر ما رآه بعينيه حينما لمح صورة شقيقه ملتاعًا وهو يرجوه أن يتجاوب معه، وحينها تذكر كيف كان كل همه صلاته وفرضه.
خرج من رحلة شروده على دمعة حارة نزلت من عينيه فرفع كفه يمسح أثرها عن خدهِ، وحينها ولج له “نَـعيم” الذي حمل الطعام فوق الحامل وقال بحنوٍ:
_جيبتلك الأكل بنفسي أهو زي ما قولت، ماخليتش الممرضة تدخل هي، سبحانه مغير الأحوال، فعلًا ربنا يهدي من يشاء.
ابتسم “مُـحي” له وقال بصوتٍ هاديءٍ:
_ربنا سبحانه وتعالى بيكرم العبد بنور بصيرته، لما القلوب تكون شوافة أكتر من العين، عارف يا بابا؟ لو من سنتين تلاتة كدا حد كان قالي إني في يوم هموت وكل همي يكون إني أصلي الفرض اللي عليا والله كنت هقول عليه مجنون، أنا نفسي مش بصدق اللي وصلتله، لكن رحمة ربنا بالعبد بتكون في نور ينور بصيرته ويكرمه.
ربت والده فوق كتفه ثم اقترب يلثم جبينه بعمقٍ، كان يخبره بتلك الحركة عن مدى فخره به وزهوه بحاله الجديد، عاد وجلس قابله ثم بدأ يُطعمه حتى بدأ “مُـحي” يتناول الطعام بنظرات سمحة ووجهٍ صافٍ، بينما “نَـعيم” فيكفيه فرحًا أن ابنه عاد للحياة أمام نظراته وبجانب قلبه، وفي تلك اللحظة طُرق الباب فأذن والده للطارق..
ولج أولًا “بـهجت” بوجهٍ باسمٍ وملامح بشوشة، وخلفه كانت تقف ابنته على استحياءٍ، بينما “مُـحي” فلم يلمح سواها هي، عيناه التقطت موضع وقوفها فتباينت ملامحه عن السابق، وجد نفسه يحاول أن يعتدل رغمًا عن ألم ظهره فاحتقن وجهه وسعل بقوةٍ ألمته، حينها هرولت هي له تقف بقربه ثم سحبت المياه تناولها له، طالت النظرات بينهما وهي يحاول أن يتحكم في سعادته، بينما هي مدت كفها أكثر تحثه على تناول المياه..
ألتقط الكوب منها وارتشف بمساعدة والده، بينما “بـهجت” فوقف بجوار ابنته وقال بصوتٍ هاديءٍ:
_الحمدلله على سلامتك، أيوة كدا خلي الدنيا كلها تنور بيك، متعرفش غيابك أثر فينا إزاي، ربنا ميوجعش قلب والدك على حد فيكم ولا يقهر عليكم عيون حبايب أبدًا، نورت الدنيا كلها من تاني.
انتبه لصوت من يتحدث فأجبر عينيه على التحرك له وقال بصوتٍ متباين المشاعر:
_الله يسلم حضرتك، وألف شكر على وقوفك معانا، “تَـيام” قالي إنك متحركتش من هنا، ربنا يبارك في عمرك ويقدرني على رد جميلك، معلش تعبناك وتعبنا الآنسة معانا، نصيبك بقى.
حينها تحدثت هي بدلًا عن والدها بقولها:
_مفيش تعب ولا حاجة، الحمدلله إنك بقيت بخير من تاني، وبعدين دا حقك علينا، بابا بيعزك وهو وماما بيعتبروك ابنهم.
ابتسم هو لها ثم قال بعبثٍ لم يترك موضعه فيه:
_والله هو كلام زي الفل، بس ياريت يعتبروني جوز بنتهم، أجدع
ضحكت هي رغمًا عنه وتأكدت أنه كما بخيرٍ، بينما والده حاجه بتحذيرٍ لكن يبدو أن أعراضه لازالت موجودة رغم توبته، بينما من تدخل يفصل الحديث بينهما كان “بـهجت” حينما قال بثباتٍ يواري خلفه ضحكاته:
_قوم بس أنتَ يا ابني من هنا وأنا عيني ليك، هخليك جوز بنتي وأبو أحفادي كمان، بس قوم أنتَ علشان القعدة وحشة للرجالة.
ضحك “مُـحي” أكثر بصوتٍ رنانٍ ثم اعتدل للخلف يلقي رأسه على الوسادة وهي يُردد عبرات الحمد والامتنان للخالق، بينما “جـنة” فانسحبت للخلف تجلس على المقعد الجلدي وهي تراقبه رغمًا عنها، كانت تتعجب من نفسها لكن يبدو أن المرء يفقد صوابه حين يُحب ويقع في الحب..
____________________________________
<“لكني رأيت فيك أملًا محىٰ بي كل ألمٍ”>
يُقال أن على قدر الهزائم تأتي الانتصارات..
فاليوم سأتحدث عن انتصارٍ أتى لي جعلني أودع أيامي المُربكة، اليوم أتحدث عن خلاصي من أثر هزائم لم ترحمني بل عصفت بي، اليوم كنت أحمل الأمل بين راحتي وأنا أنسى به كل ألمٍ، اليوم تمنيت لو أن هزائمي أتت بكثرةٍ كي تزداد انتصاراتي قوةً..
بعد الظهيرة وقت الازدحام والتكدس العام بالمدينة، كانت “نِـهال” تجلس فوق فراش المشفى، بعد أن تلقت الرعاية الكافية في المشفى كانت في انتظار معانقة حلم السنين، كانت تجلس في انتظار ابنها كي تحمله بين كفيها، وقد ولج لها “أيـهم” يحمله بين ذراعيه لها فتأهبت حواسها، اعتدلت بلهفةٍ وهي تمد كفيها له دامعة العين، حينها اقترب منها يُلثم جبينها ثم وضع الصغير بين كفيها..
كتب لها في تلك اللحظة أن تكون أول امرأةٍ تعانق حلمها، حُلم استحال عليها تحقيقه، حُلم ظنت مناله مجرد أمنية يصعب التوصل لها، لذا ارتجف قلبها، وبغير تصديقٍ مسحت فوق وجه صغيرها، هرع الدمع من المقلِ وهي تنتحب باكيةً، تتساءل أهي تلك اللحظة التي يُحقق فيها المرء حلمه؟ أهذه هي ما تُسمى فرحة المُشتاق؟ لقد اشتاقت لسنين وظنت الشوق تاركًا في قلبها اللوعة، لذا ضمته لصدرها تحمد ربها سرًا وجهرًا ثم رفعت رأسها لزوجها تحدثه ببكاءٍ:
_كنت خايفة الفرحة متكملش، قالولي إني صعب أجرب الإحساس دا، طلع حلو أوي، يا رب ارزق كل مشتاق بيها، يا رب متحرمش حد من الفرحة دي، بص شكله حلو إزاي؟ ملاك جاي الدنيا دي يواسينا، تعالى شوفه معايا..
طلبتها منه بصوتٍ باكٍ فاقترب “أيـهم” بعينين يحاوطهما الجمر تأثرًا من فرط مشاعرها وهي تداهمه وما إن اقترب لثم جبينها أولًا ثم لثم كف صغيره المقبوض، وما إن فعلها قال بصوتٍ هاديءٍ:
_يتربى في عزك يا أم “سـيف”.
ابتسمت بحبٍ ثم نظرت في وجه صغيرها من جديد كأنها تقارن اسمه بوصفه ثم عادت من جديد لزوجها تقول معلقةً على حديثه:
_أم “إيـاد” أنا مش ناسية حقي فيه.
وجوابها له في موقفٍ مثل هذا يريح القلب ويزيح عنه جبالًا، لذا تنهد بقوةٍ ثم ابتسم لها فوجدها تطمئنه بعينيها وهي تقول بصوتٍ هاديءٍ:
_حقك تخاف، وحقك تفكر في اللي بتفكر فيه ومش هلومك، بس أنا بطمنك، مفيش حاجة هتتغير، “إيـاد” زي ماهو ابني الكبير وأول فرحتي، وجود “سـيف” مغيرش حاجة ناحيته، بالعكس دا زود محبته في قلبي إنه بقى أخو ابني، يعني اللي بينا بقى أكبر، أنا زي ما أنا أم “إيـاد” و “سـيف” مع بعض، والاتنين ولادي، وأي مصيبة تحصل هاخد منك الاتنين وأمشي.
ضحك رغمًا عنه ثم ضمها ضاحكًا فضحكت هي الأخرى معه، كانت تدعو ربها أن يكرم أسرتها بكل خيرٍ وتظل محاوطة في كنفهم بالأمن والأمان، وما أطفأ نيران قلبها هو إطمئنانها على “قـمر” حينما أخبرها حماها بما حدث وأنسحب كي يذهب لزوجة ابنه الثاني وقد ذهب معه “إيـاد” وفي تلك اللحظة ظهرت عائلتها فرحين وهانئين وهي وسطهم كما زهرةٍ أتاها الربيع..
وقف “أيـهم” يراقبها بعينين تنضحان بكل فرحٍ وسرورٍ، كان يسعد لأجل بسمتها هي، يفرح لمجرد أنه يرى الفرح في عينيها، لذا ابتسم وهو يقف بجوار “مـهدي” الذي اقترب منه يبارك له بما أتاه، بينما “أيـهم” فكانت عيناه تلمح عبارات المباركات والتهاني، ثم تعابير الفرح في وجه والديها وخاصةً أبيها، ثم أمها وفرحتها بابنتها، ثم شقيقتها وهي تبكي معها كونها أكثر من عايشت هذا الألم وشاركت فيه أختها…
أما هي فصالحت العالم..
اليوم تخلصت من قلقها الذي بسببه عاشت في غرفتها تحبس نفسها بعيدًا عن العالم، اليوم هي تودع ربكة أيامها وتستقبل خير أحلامها، اليوم هي تقف على مشارف العناق مع فرحة العمر، لذا اليوم هي تنفض غبار الخصومة مع العالم وتقبل الصُلح في أيامها..
اليوم هي إمرأة تحتضن الأمل وتودع بكل أريحية الألم..
____________________________________
<“لقد أقسمت لكَ أنك حتى الآن لم تر مني قسوةً”>
في ذاك اليوم الذي وقفت فيه أمامك..
كنت أنت تربح عليَّ بقسوة كلماتك، كنت تنخر بحديثك في نحري وأنا أحارب كي أنجو سالمًا من سم كلماتك، يومها أذكر أنك اتهمتني بالقسوة، وصفتني بأنانية المشاعر والطباع، وصفتني أنني لم أكن يومًا جديرًا بك، في الوقت ذاته كنت أكتب لكَ لافتةً عن أهمية تواجدك معي، لكن اليوم..
اليوم أقسم لك أن سترى مني قسوةً تجعلك تتمنى لو رأيت النسخة الأخرى مني لعلك تختار من بيننا أيهما هي الأقسى..
في حارة العطار قُبيل العصر..
كان الهدوء هو سيد الموقف، البعض خاملين بأجسادهم كما هي أرواحهم، الجميع في أعمالهم أصبحوا منشغلين، ما بين دراسةٍ وموسم امتحانات واختبارات، وما بين أعمالٍ في منتصف اليوم لا تحتاج تأخيرًا، ومن وسط تلك الأشغال كان هناك العقاب الذي لا يتأخر..
ففي مخزن “عبدالقادر العطار” بوسط القطع الرُخامية..
كان مرميًا بوسط تلك الأشياء جسد “ماكسيم” وهو يسعل فيطير حوله الغبار ويعود لصدره يستقر فيه، كان يتأوه بألمٍ وجروحه تزداد التهابًا بسبب الضرب المبرح الذي تعرض على يد رجال “نـادر”. بينما في الخارج فكان “سـامي” معقودًا بأحد الأعمدةِ طوليًا والحبل السميك يلتف حول جسده، وقد ولج له “نـادر” بنفسها هيبته الفارضة، قوة جسده، جمود نظراته، ولج ووقف أمام “سـامي” الذي رمقه بنظرة إنكسارٍ حقيقية، كانت تلك المرة لأول مرةٍ الغلبة من نصيب ابنه الذي وقف أمامه يتحداه بعينيه حتى تحدث هو بصوتٍ تعوبٍ:
_هتسيب أبوك كدا كتير؟ قلبك مرقش علشاني؟.
ضحك ابنه بسخريةٍ ثم تقدم منه وقال بمرارةٍ توسطت حلقه:
_وأنت قلبك مكانش بيرق علشاني ليه؟ ما أنا قدامك أتضحك عليا بدل المرة الواحدة ١٠٠، أتداس على شرفي وعرضي من “شـهد” وأنتَ كنت عارف وساكت، قلبك كان فين وأنا بيتضحك عليا؟ طب ما هما خطفوني قدامك ورموني تحت رجلك وبرضه كنت ساكت، ابني اتقتل من أمه وكسرت فرحتي اللي كنت عايش علشانها وبرضه فضلت ساكت، عاوزني دلوقتي أدافع عنك؟..
سأله بقهرٍ وكسرة نفسٍ ثم عاد يسأله بصوتٍ عادت له القوة:
_عاوزني أحنن قلبي عليك؟ أنا قولتلك قبل كدا يوم ما ييجي دورك تحت أيدي مش هسمي عليك، هنسى إنك أبويا حتى، وبسببك كان هيتداس على شرفي وعرضي، “قـمر” اللي مني واللي أبوها رباني وعرفني يعني إيه أكون إنسان عندي مشاعر، النهاردة حقه وحق بنته هجيبه أنا، منك ومن ألاضيشك.
توسعت عينا “سـامي” وهو يقف أمام ابنه الذي تجبر عليه، وقف بغير تصديقٍ يرى القسوة في عيني ابنه الذي عاد للخلف ووقف يرمقه بسخطٍ، فتحدث هو بهزيمةٍ ساحقة:
_كان لازم أعرف من بدري إن “مصطفى” اللي هيسكب فيك في الآخر، علشان كدا مكانش لازم أسيبه يكسبك، حتى الشوية اللي فضلهم معاك قدر يفضل جواك، بقيت بشوفه فيك وفي ابنه، تصدق قبل ما أكسر “يـوسف” كان لازم أكسرك أنتَ، علشان عمري ما فكرت في مرة إن ابني هيقف قصادي ويحط راسه براسي كدا، بس اللي عندك أعمله، وريني هتعمل إيه.
ابتسم “نـادر” بثقةٍ ثم وضع كفيه في جيبي بنطاله، وقف أمام والده قرابة الدقيقة ثم اقترب منه يهمس في أذنه بقوله:
_مش هوريك اللي ناوي أعمله، أنا هخليك تتفاجيء بيا، بس ورب الكعبة لأخليك تندم على المرة اللي فكرت فيها تستغلني علشان توصل لحاجة، هندمك على اليوم اللي فكرت تخلفني فيه، ويا أنا يا أنتَ على الأرض دي، وبكرة هوريك تربية “مصطفى الراوي” هتعمل فيك إيه.
عاد للخلف ثم هدر بعنفٍ هز أرجاء المخزن ووصل صداه للخارج:
_”جــاســر”..
ولج رجل الحراسة الذي أصبح معاونًا له فاشار له على أبيه وقال بسخريةٍ تهكمية:
_فك الباشا علشان صعب عليا، وقعده وربعه على الأرض.
أنهى الحديث ثم عبر للجهة الأخرى يقف على رأس “مـاكسيم” الذي رفع رأسه يرمق “نـادر” بنظرة ذلٍ، وحينها هبط “نـادر” لمستواه حينما جلس على عاقبيه ثم مد كفه يصفع وجه “ماكسيم” بخفةٍ ثم قال باستفزازٍ:
_تعرف بجد إني من كل قلبي بشكرك؟ حقيقي علشان طول عمري كنت بفكر أنا هفضل طول عمري سلبي كدا وماليش دور؟ هفضل عايش ومش عايش؟ كنت بفضل أفكر إمتى هبقى بطل، أصل دور السلبي اللي كنت فيه خلاني كاره نفسي عارف ليه؟.
سأل وترك السؤال مفتوحًا، انتظر الجواب فلم يأتيه؛ لذا بدل نظراته لأخرى أكثر قسوةً ثم قال بصوتٍ رغم هدوئه بدا مُخيفًا:
_علشان السلبي اللي زيي وزي أبويا كدا لولاه اللي زيك متقوملوش قومة، لولا إنك لاقي *** زيه يفتحلك البيبان المقفولة كان زمانك معرفتش تعمل حاجة، وأنا مش هقدر أكون لامؤاخذة *** أنا كمان، أنا اللي ييجي على عرضي وشرفي أدوسه، واللي أنا دخلت ولقيتك بتيجي على شرفها دي أختي، يعني عرضها من عرضي وشرفي، فبشوقك بقى..
ولأن البرود الأوربي سمة أصيلة في دمه لم يمرر الموقف هكذا، فصمت دهرًا ويوم أن تحدث قال كُفرًا، فكان الحديث منه:
_بس تصدق دي أحلى دقايق قضيتها في حياتي؟ ياريتك كنت اتأخرت شوية كمان بس، كانت هتفرق كتير معايا، بقيت كارهك أكتر ما بقيت كاره “أيـوب” اللي مستحوذ عليها لوحدها..
وفي قلب المرء الحُر الشرف عود ثقابٍ..
لذا بمجرد أن تمسه سوف تجده أشعل في جسدك النيران بالمقود، لذا رفع “نـادر” رأسه عن الأرض ثم ضربه عدة مراتٍ ينفس عن غضبه في الوقت ذاته الذي ولج “عُـدي” فيه وهرول لصديقه يسحبه بعيدًا عن جسد “ماكسيم” الذي سعل بعنفٍ حتى نزفت الدماء من فمه وهو يتكوم في الأرض بوضعٍ أقرب لوضع الجنين برحم أمه، وحينها التفت له “عُـدي” يرمقه بغضبٍ أعمى ثم سحب غطاءً ملوثًا بالأتربةِ وغبار الرخام ثم غطى به جسده ووجهه حتى كاد أن يلفظ أنفاسه أسفل الوشاح…
تركه هكذا قرابة الدقيقتين وهو يخنقه بالوشاح ويطفيء نيران قلبه ثم عاد للخلف ورفع عنه الغطاء ليكشف عنه وجهه البغيض وملامحه الحقيرة، وفي تلك الآونةِ فقد وعيه، أو هكذا خمدت فوضوية حركاته، بينما “نـادر” فوقف بجوار رفيقه، عادا كما كانا جنبًا إلى جنبٍ، كتف واحد يحمل أثقالهما، لذا مد “عُـدي” كفه يحط به فوق كتف الرفيق الذي نكس رأسه للأسفل وقال بخزيٍ:
_خايف أضعف قدامه يا “عُـدي”…خايف أحنله.
وفي تلك اللحظة ضمه “عُـدي” لعناقه بقوةٍ كي يحميه من نفسه، خلق له من عناقه أمانًا، لذا ترك “نـادر” نفسه في عناق الرفيق، وبخاطره كان يجول أن خير ما وجد في أيامه أن الرفيق الذي ظن به الخير لازال معه بخير، فكان متكئًا عليه حتى هدأت نيران قلبه بقول رفيقه:
_أنا معاك يا “نـادر” مش هسيبك..
تعانق الصديقان وصوت القلوب يتحدث واصفًا حالتهما:
_لي صديق
إن أخبرته أنني أريد أن أحلق للسماء؛
صنع لي من ذراعيه هو جناحين كي أحلق عاليًا..
هذا الصديق
هو درعي في حروبٍ
لم أكن قادرًا على مواجهتها،
ولولا وقوفه في مواجهة العالم معي
لكان كل العالم قتل في أسمى معاني الإنسانية..
____________________________________
<“لو كنت أعلم أنني أخسر اليوم ما ربحت، ما كنت ربحت”>
بعض الخسائر حينما تُدرك المرء تجعله نادمًا على كل ربحٍ..
يندم على تلك اللحظة التي يلتقط فيها الغنائم كأنه الرابح الوحيد في حربه، لذا في بعض الأحايين إذا طالت الهزائم القلوب، تندم على لحظة النصر، فياليتنا من البداية ما ربحنا ما اليوم خسرناه..
في مشفى أخرى غير السابقين..
استقر جسد “عـاصم” فوق الفراش بعد أن داهمت جلطةٌ جسده وقلبه، بدأ يعود لوعيه ويستفيق من تلك الحالة، كما هو وضعه منذ أيامٍ مرت، لكن اليوم هو يعود للوعي، وقد تعطل ذراعه الأيسر وانعوج فمه قليلًا بعد أن أصابته بعض الالتهابات الحادة في العصب السابع، عدة أمراض أصابت جسده، ومنذ باكورة الصباح وهو يخضع لرعايةٍ طبية فائقة، وما إن استفاق من غيبوبته القصيرة تلك فتش بعينيه عن أحدٍ فلم يجد..!!
طاف بعينيه عن من يرعاه فلم ير أحدًا، لذا ما إن ولجت الممرضة تضبط المحلول الطبي له، سألها بقدر ما سمحت له حركة فمه وقدرته الواهية:
_هو..هو مفيش حد..هنا معايا؟.
حركت رأسها نفيًا آسفةً وقد أشفقت عليه، دون أن نعلم حقيقته البشرية، ودون أن تعلم دونية طباعه كانت تشفق عليه كونه رجلًا وحده في المشفى دون رعايةٍ أو حتى يتواجد معه من يُسانده، كانت تتهم أهله وذويه بجحود الطباع ولم تعلم أو حتى يُخيل لها أنه يُسقى مما سبق وسقى به غيره، لذا عادت تصب الأمل في قلبه بقولها:
_أخت حضرتك زمانها على وصول، هي بتروح تغير وتجيب حاجات وترجع تاني، زمانها على وصول خلاص، دا معادها.
بمجرد أن أنهت حديثها ولجت “فـاتن” الغرفة تحمل حقيبة بلاستيكية في يدها، وحينها ابتسمت له الممرضة وقالت بوجهٍ بشوشٍ:
_أهيه المدام جت أهيه، متزعلش نفسك.
تحركت من الغرفة بينما “فـاتن” وقفت هكذا تطالعه بنظرات جامدة ثم تحركت تجلس بقربه فوق المقعد، فوجدته يعاتبها بقوله:
_سايبني..لوحدي كل دا؟..محدش معايا؟.
طالعته بسخطٍ وهي تقول:
_وهو أنتَ سايب فرصة لحد يفضل معاك؟ ما ابني جالك وفضل جنبك واتهمته بالسرقة، وآخرتها اتهمته بالسرقة والخيانة، عاوزه ييجي يقعد تحت رجلك تاني؟ ولا مين المرة دي؟ عاوز “يـوسف” بنفسه ييجي يقولك أؤمرني يا عمي؟ دا لو بأيده هيمنع عنك العلاج علشان يخلص حرقة قلبه طول السنين، أنتَ أناني ليه يا “عـاصم” ولا تكونش عاوز “يـوسف” و “نـادر” يرجعوا يقاطعوا بعض تاني؟ أنسى بقى وخلينا في المصيبة اللي إحنا فيها.
سألها بعينيه عن مقصد كلماته فقالت هي بضيقٍ:
_”قـمر” كانت مخطوفة واللي خاطفها الزفت اللي اسمه “ماكسيم” دا وحاول يعتدي عليها وهي دلوقتي في المستشفى، ربنا يقويها ويقومها بالسلامة، ويقوي جوزها وأخوها على حالهم، ويهديك لحالك.
نكس رأسه للأسفل بصمتٍ بينما هي فتذكرت الراحل وظلت تذكره وتدعو له بالرحمة، بينما هو فبجلوسه هكذا عاجزًا شعر بالقهر يمتد لقلبه يعتصره، لم يظن يومًا أن هزائمه ستكون ساحقة لهذا الحد، ومصابه سيكون صعبًا للغاية، فقد ماله، وعمره وصحته وكل ما كان رابحًا له ذات يومٍ، واليوم على ماذا يبكي أسفًا وكل ما فيه يُبكيه؟..
____________________________________
<“لا تفلت يدك عني، دعني هُنا بجوار قلبك”>
اليوم سوف أخبرك ألا تتركني..
لا أرغب من أسرك في حُريةٍ، أود منك أن تمسك يدي وتعاوني كي أعبر، لست ضريرًا لكني بدونك تأكلني الغُربة، بغيرك أنا وحيدٌ وضالٌ في طُرقاتٍ لم تشبهني، اليوم بكل صدقٍ ستجدني أمد يدي لك كي تلتقط كفي وتتركني معك في أمانٍ..
بعد مرور ثلاثة أيامٍ…
كانت “قـمر” لازالت قابعةً بين جُدران المشفى، تجلس في الغرفة وحدها وهي تحاول صرف الحادثة عن ذهنها، تحاول أن تهرب من عقلٍ وضعها في المصيدةِ، لذا هرع الدمع من عينيها وهي تتذكر كيف كان يصفعها كأنها فتاة ساقطة تأخذ أجرةً نظير العربدة والعُهر، وتلك الصورة ما إن ولجت واستقرت بخيالها بكت وهي تحاول أن تثبت نفسها وتخرج من هذا الدرب المعتم..
ولج “أيـوب” الذي حصل على إذن خروجها ثم اقترب منها يُلثم جبينها فانتفض جسدها واقشعر بدنها، عادت للخلف وهي تخرج من قوقعة شرودها، بينما هو ابتسم بحنوٍ وتقديرٍ ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
_هنخرج خلاص من هنا ونرجع للبيت، متعرفيش البيت كله مستنيكِ إزاي، حتى فيه ضيف جديد هناك مستنيكِ، ساعة ونتحرك من هنا مع بعض علشان نشوف الواد “سيف” والحقه قبل ما “أيـهم” يبوسه.
ابتسمت له رغمًا عنها ثم مسحت وجهها، بينما هو سحب كفها يحتضنه بين كفيه وقال بنبرة صوتٍ هادئة:
_أنا معاكِ أهو، هتلاقيني زي ضلك، متخافيش من حاجة وأنتِ معايا يا “قـمر” ووعد مني والله العظيم حقك هييجي قدام عينك، مش هخليكِ تفضلي كدا قاعدة قلبك محروق، صدقيني علشانك هعمل أي حاجة بس أشوفك بخير، قوليلي يرضيكِ إيه طيب؟.
تنهدت بقوةٍ تمنع نوبة بكاءٍ قبل أن تداهمها ثم جاوبت بصوتٍ ضعيفٍ:
_ينفع تاخدني بيت مامتك؟ أنتَ قولتلي إن البيت دا سبب لكل حاجة علشان ترجع تاني، عاوزة أروح هناك وأبعد عن الناس والكل، هترضى توديني؟.
لم يتوقع أن تكون تلك هي الإجابة، لذا بدد ملامحه هذه ثم اقترب منها يضمه لعناقه ومسح فوق خصلاتها المضمومة بجديلةٍ صنعها لها “يـوسف” قبل أن يرحل للحارةِ يكون بقرب أمه، ثم قال بخضوعٍ لأجلها:
_هوديكِ وأفضل معاكِ هناك لحد ما تطلبي بنفسك تمشي، شاوري بنفسك بس عاوزة إيه تاني علشان أعمله ليكِ، ومن غير خوف ولا كسوف، أنا مش لسه هتجدد على مراتي يا “قـمر”
ابتلعت لعابها وقالت بخجلٍ لا تعلم له سببًا، لكنها رجحت أن الحادث وأثره هو السبب في ذلك:
_ممكن تساعدني ألبس هدومي علشان أمشي؟ أتخانقت من هنا خلاص، روحني يا “أيـوب” ولما نروح من هنا ينفع تخليك معايا؟ متسيبنيش لوحدي، عاوزاك جنبي علطول وماسك أيدي.
أومأ لها بحنوٍ ثم أمسك كفها وعاونها على الوقوف وقد تأوهت هي بسبب كدمات جسدها ووجها ومنطقة الحوض التي تأذت بسبب ضربات “ماكسيم” لجسدها، لكن تواجد “أيـوب” ودعمه ومساندته كانت خير الأثر عليها وهي تتشبث بكفه بحمايةٍ..
في حارة العطار..
بغرفة “غـالية” كانت تعرضت لارتفاعٍ في ضغطها بعد معرفة ما حدث لابنتها، لم يبق الأمر مخبوءًا عليها وبمجرد أن علمت ما حدث سقطت من طولها بسبب ارتفاع في ضغط الدم برأسها وجسدها، وقد هرول إليها “يـوسف” فوجدها برفقة زوجته التي ترعاها منذ الحادث، اقترب منها يلثم جبينها فوجدها تبكي وهي تسأله بقهرٍ:
_أختك كويسة؟ حد قرب منها؟.
حرك رأسه نفيًا بعبرات حبسها في عينيه، بينما هي انفجرت أمامه باكيةً، ظلت تبكي بصوتٍ عالٍ، بينما هو فضمها لعناقه يراضيها ويقسم له أن أخته كما هي لم يمسها ضُرٌ، هكذا كان يقسم لها حتى صرخت هي بقهرٍ:
_معرفتش أحافظ على أمانته ليا، لا قدرت أحافظ عليك وأخليك في حضني، ولا قدرت أحافظ على بنتي وأحميها، مقدرتش أحافظ على عيالي، ياريتني كنت مُت أهون عليا من شوفتكم مقهورين كدا، لو بأيدي كنت قفلت عليكم في صندوق إزاز ومحدش يقرب منكم.
ضمها وظل يُهديء روعها حتى استكانت من تلك الحالة وبدأت تنام بعد نوبةٍ غضبٍ، بينما هو وضع رأسها فوق الوسادة ولثم جبينها وترك الغرفة وخرج منها، وما إن خرج وجدها أمامه، تلك التي اشتاق لها ولقربها ولم يهنأ حتى بخبر حملها، وقف يعتذر منها بعينيه، ثم تبدلت نظراته للشوق، ثم الاحتياج لها، ثم مشاعره النقية في حاجته للأمانِ منها، ولأنها وحدها من تُجيد فك شفرات نظراته اقتربت منه، وقفت أمامه وعلى حين غرة ضمته بقوةٍ..
خطفته في عناقها وكأنها تعلم دواه، هي شبيهته الوحيدة التي تعرف ما يُخفيه وما يُعلنه، لذا مسحت فوق ظهره ثم قالت تشدد أزره بقولها الذي أتى في وقته الصحيح:
_هتعدي، والله هتعدي بكل دا وتقف تاني على رجلك، “قـمر” قوية وهتعدي من المحنة دي وهترجع تاني، صدقني المرة دي مش مطلوب منك غير إنك تكون في صف أختك، ربنا يعينك ويقويك على الحال دا، بس أنا عارفة إنك قدها، هتعدي، والله هتعدي، دي مش أول مرة الحال يضيق علينا، ليها رب اسمه الكريم..
أبتعد عنها بنظرات صافية احتلت عينيه، اختلف حال مجيئه عن حاله للتو، لذا ابتسم لها بعينيه ثم سحب كفها يُلثم راحته كأنه يمتن لها بفعلته تلك، وقف بجوارها يهدأ قليلًا من حرب نفسه مع ذاته، كان يود لو العمر يفوته بأكمله إلا من تلك اللحظة التي يقف فيها بجوارها فتهدأ رأسه من بركانها، وقد ابتسمت هي له بحنوٍ ورفعت كفها وهي تقول بمشاكسةٍ كي تبدل حاله:
_أنتَ بقيت حلو على الشقا كدا ليه؟ وحشتني خد بالك.
ابتسم رغمًا عنه ومسح وجهه بكفهِ ثم قال بغلبٍ:
_يا شيخة إحنا في إيه ولا إيه، هم يبكي وهم يضحك.
شاركته لحظة غُلبه ثم ربتت فوق كتفه حتى طالت النظرات بينهما ولم يقطع لحظتهما تلك سوى صوت “وعـد” وهي تُصيح باسم شقيقتها التي عادت للخلف وابتعدت عن زوجها الذي التفت يطالع وجه “وعـد” التي وقفت بخجلٍ فقال هو بسخريةٍ:
_تعالي ياختي تعالي، خلاص بقت ناشفة، حتى البوسة على الواقف مش عارف أخطفها، عينك جابتني الأرض أنتِ وأمـك.
ضحكت عليه شقيقتها بينما هو ولج غرفة أمه من جديد يجلس بقربها على المقعد ويراقبها بعينيه، رأى شريط العمر المار في ملامح وجهها وحينها تحرك يضع رأسه فوق ذراعها الممدودة ومد كفه الآخر يضم كفها بقوةٍ كأنه يعلن بذلك خضوعه واستسلامه.
في مكانٍ آخرٍ تحديدًا ببيت “نَـعيم”..
قد عاد بالأمس للبيت برفقة ابنه الذي حصل على إذن الخروج بعد انتهاء النيابة العامة من التحقيقات وإنكار الجميع معرفة الجاني حتى “مُـحي” بذاته، الجميع أنكر هوية الفاعل وقد تم تأييد المحضر وتقييده لحين إشعارٍ آخر، وفي البيت كانوا الشباب جميعهم متلفين حوله و”دهـب” تجلس فوق ساق والده، وهو يداعبها بذراعه الحر، بينما “چـودي” فكانت تجلس بجوار “إيـهاب” و “سـراج” الذي استمر في بحثه عن “مُـنذر” كما طلب منه “نَـعيم”…
وقد خرجت “سمارة” تحمل أقداح الشاي وهي تقول بصوتٍ عادت له الروح من جديد بعد غيابٍ:
_البيت نور بيكم، عقبال يا رب رجوع “يـوسف” تاني وربنا يفكها عليه ويكرمه في أخته، والله الغيبة طالت منكم كلكم، رينا يردلنا نصيبنا من الفرح تاني وينور بيتنا.
كان “نَـعيم” قلبه يتآكل بسبب غياب “مُـنذر” عن ناظريه، كان يشعر بجزءٍ مفقودٍ من فرحته، لذا كان يغصب شفاه على البسمة، وما إن تلاقت عيناه بعينين “سـراج” أنكر الآخر معرفته لأي شيءٍ، وفي تلك اللحظة ولج لهم “جـواد” بثباتٍ يلقي التحية..
وقفوا جميعهم يرحبون به عدا “مُـحي” الذي مد كفه نظرًا لوضعه الصحي، وقد وقف “جـواد” بمواجهة “نَـعيم” وقال بهدوءٍ يخبيء خلفه بركانًا:
_آسف إني جيت فجأة كدا وبوظت الجمع دا، بس أنا أختي حالها مبقاش يسر عدو ولا حبيب، أنتَ جيت حطيت إيدك في إيدي وطلبت أختي مني لابن أخوك، وقتها صارحتني وأنا احترمت صارحتك، حطيتك فوق راسي علشان مخبيتش حاجة عليا، ولما طلبت منك ضمان قولتلي كلمتك ضمان وأختي هتكون في أمان معاه وهي وسطكم، ابن أخوك طفش، طلق أختي ومشي وساب البلد كلها، ودي الورقة اللي سابها قبل ما يمشي، حتى مهانش عليه يقف قدامها ويقدرها، أنا جيت بس أقولك يا حج إن أختي أنا معنديش أعز منها، ومهما كنت بحب أبن أخوك وواقف في صفه، فأنا مش هحب حد أكتر من أختي، عن إذنك يا حج.
ترك الخطاب أمامه فتحرك “نَـعيم” يلتقط الورقة بينما الشباب فطالت نظراتهم لبعضهم، قرأ الخطاب مرة وثانية وثالثة ولم يصدق ما يراه بعينيه، أهو أأتمن الخائن؟ أم الخائن هو من وثق به؟ ضاق به الحال ذرعًا وسقطت الورقة فوق الطاولة حينما أصابه الدوار، ركضت حينها “چـودي” تلتقط الورقة، وقفت تقرأ المكتوب بعينين باكيتين ثم رفعت رأسها تسألهم بذهولٍ وحالة إنكارٍ تلبستها:
_يعني إيه؟ هو سابنا ومشي بجد؟.
تطلعوا إليها بصمتٍ كأنهم فقدوا أبجدية الحروف، بينما هي ظلت تكرر سؤالها حتى رمت الورقة ووقفت تبكي فتحركت نحوها “نـور” تحملها بين ذراعيها وهي تضمها فصرخت “چـودي” وهي تنتحب باكيةً حينما قرأت أول جزءٍ من الخطاب، لقد رحل عنها صديقها المفضل وكأنها لم يكن يومًا بصديقٍ لها، بكت وهي تتذكر شريط حياتها معه وكيف كان خير الرفيق لها، أما اليوم فالهزيمة يوم أن أتتها، أتت الهزيمة من رفيقٍ ظنت به الخير، فكان هو أبًا للهزائم أجمع..

تعليقات