رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والتسعون 196 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والتسعون 


‏”يا ربّ أدعوك
أن لا تغلبني هذه الدُّنيا أكثر
أنا الذي لا حول لي ولا قوة
وما يُزكيني هو يقيني
بأنني عبدك
ولن تُضيعني أبدًا…
ولا تبتليني في مطالبي،
واجبُرني في الأشياءِ التي أقصُدها وأسعى إليها.
وامنُن عليَّ بلُطفِك في كُل خطوةٍ
وامنُن عليَّ بقُرَةٍ عينٍ غير مُنقطعة،
وارزُقني نورَ البصيرة،
ووفقني للخير،
الخير الذي ترضاهُ لي وتحبه.
وارضَ عني
ارضَ عني رِضًا لا أشقى بعدهُ أبدًا يا ربّ “))
_”مُناجاة”
____________________________________
أخبروا من كانت الروح تهفو لها؛
أن اللقاء لم يكن مستحيلًا…
فرُبما اليوم كان وداعي قاسيًا؛ لكني أقسم لكِ أنكِ لم ترِ القسوة حق رؤيتها، لذا أُبلغكِ وداعي في مرتي الثانية بقسوةٍ أكبر، تلك القسوة رأيتُها وروحي تُسلب مني..
فاليوم كنت عاجزًا حتى عن الدفاع عن نفسي وأنفاسي، كنت أُسلب من روحي وجسدي وأنا ها هُنا أغرق في بحور الظلام، اليوم رأيت بعيني الخوف في صورة وحشٍ ضارٍ وقف أمام الطفل الذي أحمله في قلبي؛ ليقتله كمدًا، اليوم قلبي ودعني، وروحي لوحت رافعة الراية بسلامٍ وهي تُفارقني، اليوم أخبرك أن جسر الأمنيات كُسِر قبل أن يسمح لنا باللقاء، ولازال اللقاء لم يكن مستحيلًا..
فربما في دنيا أخرىٰ غير تلك التي نحن بها؛ صُدفةً من بين العابرين نلتقي، ربما يُصادفك وجهي في جسدٍ آخر يُشبهني، رُبما تريني في عينيكِ كُلما تطلعتِ لمرآتكِ، ربما تجدينني بين الناس في وجوهٍ حاضرة ونفوسٍ غائبة، ربما أكون في قلبك حاضرًا وأمام ناظريكِ غائبًا، لكن على كل حالٍ ستجدينني في كل وقتٍ وحينٍ بين السائرين،
وحينها أرجو منكِ أن تنظري لي بعين رحمتك، لا عين نقمتك،
وأسألك حينها الدعاء لي ولقلبي لعلكِ أقرب في المُناجاة مني، وكما وعدتُكِ، لو كان موتي بين يديكِ هو آخر نصيبًا لي في دنياي، أعدكِ أنني لن أتردد وأنا ألفظ آخر أنفاسي بين ذراعيكِ..
<“وفي الأرض رُزِقتُ بقمرٍ وفي قلبي رُزِقتُ بحبهِ”>
لعل المشاعر هي المحرك الأساسي الوحيد لأفعال الإنسان..
فلولا الخوف ما كنا سنندفع ونُلقي بأنفُسنا في جُرف هاويةٍ محظورة الخُطى والإقتراب، ولولا الحب ما كنا سنأمن قلوبٍ أحببناها وألقينا أنفسنا بين أذرع من نأمنهم، ولولا الأمان المحاوط للقلب لما كنا سنستسلم لعناقٍ يغمرنا من وسط غياهب الظلام، ولولا المشاعر لكان المرء فقد عقله وهو يتحرك كما آلةٍ مُجردةٍ من كل صحيحٍ يُصح فعله..
كان معها لا يتركها وحدها في تلك الغرفة وهي تستعد للرحيل بعد أن عاد “يـوسف” وأحضر لها ثيابًا أخرى غير تلك التي كانت ترتديها، وقد عاونها “أيـوب” في ارتدائها وهي تحاول أن تخفي عن عينيه الكدمات التي أصابت جسدها، بينما هو فلاحظ جلطات دموية متفرقة عند ساقيها، وجيدها، وفي ذراعيها، حبس حينها دموعه في عينيه، وكتم قهره في قلبه، ثم أكمل ما يفعله وهو يحاول أن يبقى ثابتًا، لكن القهر في قلبه قد بلغ عليه أشده.
أمسك الحجاب الأخضر الزمردي في يده ووقف يراقبها، راقب ملامحها الحزينة أولًا بعينيه، ثم تطلع إليها وهي ترتدي الزي الفلسطيني الذي قد جلبه لها “يـوسف” في السابق، فكانت عبارة عن صورة أخرى لـفلسطين المُحتلة، هي حقًا في تلك اللحظة وبتلك الحالة تُشبه نساء فلسطين الحزينات، حيث الحزن الذي أكل من جمالهّن والقهر الساكن في أعينهُّن، فكانت كما أشجار الزيتون المُحترقة، الرماد يغطي أنحاء الميادين في عينيها، وأنطفأ في روحها وهج الحياة، احتِلَّت من قبل من لا عهد له ولا ذمة، غُدِرَ بها في لحظةٍ نومٍ من العالم بأكمله، اليوم هي وحدها في ركنٍ بعيدًا عن صخب العالم، هي وحدها من تعاني رفقة صرخات الروح بالألم..لذا تنهد بقوةٍ ثم اقترب منها يُلثم جبينها بحنوٍ، كان يحاول أن يسترضيها بذلك، وقد أجفل جسدها وهي تعود للخلف كحركةٍ تلقائية من جسدها عند الاقتراب منه بشرتها…
تجاهل هو رد فعلها _الذي أصبح طبيعيًا في نظره_ ثم رفع الحجاب يُغطي به رأسها المكشوفة خصلاته، وقد عاونها وهو يقوم بلف الحجاب حول وجهها ورأسها ثم ضحك لها يجبر نفسه على المزاح بقوله:
_دا الحمدلله أني راجل، بتلفوها إزاي دي؟.
تنهدت بقوةٍ وحاولت أن ترفع يدها كي تعاونه بعد أن خرجت من شرودها، لكن حتى تلك الحركة البسيطة طلبت منها مجهودًا مضنيًا كي تفعلها، لذا أكمل هو ما يفعل ثم وضع المشبك المعدني وأحكم الحجاب حول وجهها ثم قال من جديد بنفس روح المزاح:
_طلعت سهلة أهيه، أومال عاملين حوار ليه يعني؟.
جبرت بخاطره حينما أوزعته بسمة هادئة لم تصل لعينيها لكنها تتضامن معه حتى ولو بالملامح، وقد ولج في تلك اللحظة “يـوسف” الذي طرق الباب أولًا ثم دخل بعد إذن “أيـوب” له فولج يجلس بجوار شقيقته الصامتة التي لم تغير موضع عينيها وهي تهرب بالنظر منهما، فقال “يـوسف” يشكو لها زوجها حين هتف:
_يرضيكِ أقوله أنا جاي في الطريق استناني علشان أجيبلك الهدوم ونغير لـ “قـمر” يقولي أنا اللي هغير لمراتي؟ وزعلان علشان بقوله كنت بقف أحميكِ مع ماما؟.
تذمر حينها “أيـوب” وصاح بإنفعالٍ مفتعلٍ:
_أنتَ عبيط يا بني آدم أنتَ؟ فيه حد يقول كدا؟ اسكت.
_يعني أخبي عليك إني كنت من المشرفين على حملة نضافتها؟ طب دي لما كانت تخرج من الحمام وهي صغيرة كانت بتجيلي أنا الأول علشان ألبسها.
توسعت عيناها وحركت رأسها نحوه بعنفٍ، بينما “أيـوب” فضرب وجهه بكفه يمسحه بعنفٍ وقبل أن يأخذ رد فعلٍ قد كان “يـوسف” سبقه واقترب أكثر من شقيقته يمسح لها موضع الكدمة بوجهها ثم قال بصوتٍ هاديءٍ إلى حدٍ ما، ناهيك عن حزنه:
_قوليله إننا طول العمر واحد مش اتنين، وطول عمرك بنتي مش أختي، هتداري عيونك عني؟ أرفعيهم وبوصيلي طيب.
نبرته مع كلماته كانت سببًا في حزنها أكثر، لذا هرع الدمع من عينيها وهي تُغمض جفونها كي لا تفيض بدمعٍ مدرارًا، فأمطرت وابلًا أمامهما، حينها جثى “أيـوب” على عاقبيه يضم كفيها، بينما “يـوسف” فضم رأسها يضعه فوق موضع نبضه؛ حينها انتحبت باكيةً بصوتٍ متقطعٍ، تذكرت كل شيءٍ وكيف تم تعنيفها، أشفقت على حالها حقًا، فهل يعقل أن أنثى مثلها مُدللة من الجميع، تُهان وتُذل وتُعامل بمثل تلك الطريقة؟ تُعنف وتُضرب وتشق صرخاتها سكون الليل؟ عادت الضربات من جديد تؤلم جسدها كأنها تًضرب لتوها، لذا ضمها “يـوسف” بكل قوته يضغط عليها في عناقه، حتى صرخت هي بين ذراعيه..
أما عن “أيـوب” فهو كان يعلم أن دربه معها أصبح في نفقٍ مُظلمٍ، هو يعلم جيدًا قسوة الاعتداء على حُرية الإنسان كيف تُغيره وكيف تُظلم روحه، فما باله باعتداءٍ جنسي على جسد إمرأة حُرة وعفيفة؟ لذا ترك لها كامل الحق، ثم سحب كفها يُلثم باطنه وهو يقول بصوتٍ هاديء:
_أعملي كل اللي أنتِ عاوزاه، صرخي وعيطي وأتكلمي وقولي حصلك إيه، بس خليكِ معايا، وأنا معاكِ والله مش هسيبك، لو بطلوع روحي من جسمي مش هسيبك، مش أنتِ عارفة كدا؟.
أومأت من بين العبرات المُنسكبة من عينيها ثم سكنت من جديد حينما وضعت رأسها فوق صدر “يـوسف” الذي كان أقرب في وصفه لأبيها الراحل، لذا اتكأت عليه وهي تشعر أنها تتكيء على فؤاد أبيها الراحل، وبنظرة عينٍ منها طالت عيني “أيـوب” فطال الحديث بينهما بالعينِ، العين تشكو للعين، والفؤاد يشعر بالفؤاد، والروح تحتضن الروح رغم أن الأجساد مُتفارقة..
____________________________________
<“فتى جاهد الدنيا بناسها، وأمام نفسه نسى الجهاد”>
رُبما لم يكن العالم معي أشد قسوةً من نفسي…
فمن ربح جهاده أمام العالم، أيُعقل أن تهزمه نفسه؟ فنعم ربحت جهادي أمام الدنيا وأهلها، وأمام جهادي مع نفسي لم أكن آهلًا بها، فاخبرني أيها العالم، هل قسوتك تلك معي لأنني استحقها، أم لأنني حقًا أستحق القسوة وما شُبِه بها؟..
أنقلب البيت في طرفة عينٍ، مجرد قصاصة ورقية تركها الطبيب ورحل فكان الأثر غريبًا، نظرات خزي وضياع، شكوك تنتاب القلوب، بكاء فتاة صغيرة غدر بها رفيقها المُفضل، وقلب أب شعر بمرارة العلقم في روحه فحمل حاله وورى نفسه بعيدًا عنهم داخل مكتبه، ولج “نَـعيم” مكتبه يُنكس رأسه للأسفل، ليس خزيًا منه، وإنما حُزنًا عليه، كان يعلم أن ابن شقيقه لن يرحل هكذا إلا إذا تاهت مراكبه في منتصف البحر، ولولا أن الطوفان سوف يبتلع الجميع لما كان فعلها ورحل مُغادرًا..
ولج له “إسماعيل” الذي كان يشعر به، كان أكثر الموجودين علمًا بقلب عمه، لذا ولج له يقدم قدمًا ويؤخر الأخرىٰ حتى أدرك “نَـعيم” هويته دون أن يرفع رأسهر، لقد أخبرته رائحته عنه، لذا اقترب “إسماعيل” منه وجلس على عاقبيه وهو يسأله بصوتٍ حزينٍ:
_أنتَ مش مصدق صح؟ هو مش هيغدر بينا أكيد، دا صاحبي وطول عمري أنا وهو صحاب مالناش غير بعض، دا أنا حتى معرفتش أصاحب حد زي ما صاحبته كدا، قولي هو ميعملش كدا فينا، أكيد معذور، أكيد من البداية مكانتش دي نيته.
رفع “نَـعيم” عينيه الحمراوتين بعد أن حاوطهما الجمر المُشتعل وطالت النظرات بينه وبين الآخر الذي كان يتوسله بنظراته، فقال بصوتٍ حمل الهموم أثقالًا فوق قلبه:
_العلم عند الله، بس اللي أنا آمنتله في بيتي وخدته في حُضني وكان ابني ميعملش كدا، وقلبي ميصدقش إنه يكون غدار كدا، إنما اللي هو عمله دا أكيد وراه حاجة، وحاجة كبيرة أوي، بس هو غبي، غبي علشان خاف ومشي، كان فضل وسطنا أحسن ما يروح يرمي نفسه في حضنهم، ربنا يسترها عليه ويرجع…
حينها تذكر “إسماعيل” ذات مرةٍ حينما تحدثا سويًا بمزاحٍ وهو يشاكسه بماضيه بعد أن أخبره بموته، فكان الحديث عبارة عن:
_إيه ياعم الميت !! طلعت حي أهو والتُرب ردتك لينا..
_مفيش ميت بيرجع تاني يا “إسماعيل” أنا لسه ماموتش، دي حلاوة روح مش أكتر، بس قريب هموت، ما كدا كدا أنا ميت.
أغمض “إسماعيل” عينيه آسفًا ثم اعتدل واقفًا كي يرحل، وأثناء حركته، لمح خطابًا موضوعًا فوق الجارور بجوار المكتب، اقترب يحمله فقرأ عليه خط “مُـنذر” الذي لم يقرأ مثيله قط، لمحه “نَـعيم” فانتفض يسحب الخطاب منه بلهفةٍ ثم قام بفتحه، وجد به رسالة الوداع المتروكة من ابن شقيقه، فدارت عيناه في أنحاء الخطاب تقرأه بعُجالةٍ، ثم بدأه من جديد يقرأ المدون بأنين القلب الحزين:
_السلام عليكم ورحمة الله، لو الجواب دا وصلك يبقى أكيد أنا مشيت وأنتَ عرفت باللي حصل، حقك عليا طبعًا إني عملت كدا بس صدقني مكانش في أيدي أي حلول، أنا ابن موت من أول ساعة ليا في الدنيا دي، من أول ما حتى كنت لسه مجرد جنين أتحكم عليا بالموت من أبويا، فطبيعي اللي زيي مهما عاش عمره يكون قصير، بس أنا مش عاوزك تزعل مني، ومش عاوزك تضايق علشاني، أنساني خالص، بيتك مينفعش يكون فيه قاتل زيي، واللي زيي مالهوش مكان غير الموت، أنا عن نفسي مهما طال بيا الزمن ومهما اتأخرت لحظة موتي، هفضل عايش على حياتي معاك، مش هنسى إنك حسيت بيا وعرفتني لوحدك، عينك قرتني وقلبي عرفني، عملت اللي أبويا مقدرش يعمله، علشان كدا أنا فرحان إني في يوم من الأيام كنت ابن لأب جميل زيك، وعلشان مبقاش أنا الخيل الهجين وسط خيولك الحُرة كان لازم أمشي..
توقف لهنا عند الفقرة الأولى ثم بدأ الفقرة الثانية، وكتب:
_فاكر لما قولتلي إن لو بإيدك تغير حاجة في حياتك، يبقى إنك تغير حياة الشباب كلهم؟ في الحقيقة أنا أتحطيت مكانك وكان في أيدي أختار بيني وبينكم، بس كان لازم أختار صح، علشان كدا المرة دي مش ندمان على اختياري، أنا أخترت اللي يخليني متطمن عليكم، اللي يخليني مرتاح إني وجودي بينكم مكانش هيضر حد، هطلب منك بس تخلي بالك من “چـودي” ومن “فُـلة” في غيابي، وعرف “إسماعيل” إني مش خاين زي ما هيتقال عليا، وقول لـ “إيـهاب” إني مستقلتش بيه يقف في ضهري، بس كفاية عليه هموم لحد كدا، وشكرًا إنك في يوم من الأيام آمنتلي وفتحت ليا بيتك، ولو ليا حقوق أو ورث زي ما قولت وكتبته ليا، أدي “فُـلة” حقها الأول، وبعدين خلي “إيـهاب” و “إسماعيل” ياخدوا أي حاجة ويعملوا بيها حاجة للأيتام أو العيال اللي في الشارع، متخليهمش يسيبوهم كدا، كفاية اللي راحوا واللي لسه بيروحوا، ولما “تَـيام” ربنا يكرمه ويخلف خليه يخلي باله من ابنه، يحطه في عينيه ويخلي باله منه، وقول لـ “مُـحي” ميزعلش مني، وأدعيلي يمكن يكون ليا فرصة تانية أقدر أرجع بيها وسطكم…
مع السلامة يا بابا.
هرع الدمع من عيني “نَـعيم” الذي سقطت الورقة من يديه، وقف يحبس أنفاسه المُضطربة، بينما “إسماعيل” فامتد قهر الطفولة لقعر قلبه، شعر كأنه يهبط من فوق القمة لسفح القاع، تألم قلبه لأجل رفيق عُمره، وتألمت روحه، شعر كأن الجرح يتوسط روحه وليس جسده، لذا نزل بجسده يحمل الورقة، يحملها كي يُخفيها في قلبه، فدومًا الوداع الأخير يظل له مشاعر خاصة به، خاصةً وإن كان الوداع قاسيًا بتلك الطريقة..
في الخارج عند حظيرة الخيول، جلست “چـودي” تضم ذراعيها وهي تبكي بكاءً مدرارًا، كانت تواري عينيها عن “نـور” التي جلست بجوارها ثم مسحت فوق خصلاتها الشقراءة، بينما الأخرى فمسحت وجهها بكُم سترتها ورفعت عينيها ووجهت نظرها نحو “نـور” التي قالت بصوتٍ هاديءٍ:
_متزعليش نفسك، أنتِ عارفة إنه أكيد مشي كدا علشان فيه حاجة حصلت، هو أكيد مش هيكون عاوز يمشي ويسيبك، مش هو كان قالك إنه هيفضل معاكِ علطول؟ ممكن يرجع تاني ويكون وسطنا، اعتبريه مسافر شغل.
اعتصرت الصغيرة عينيها وقد بح صوتها وهي تجاوب من وسط نوبة البكاء على زوجة خالها:
_بس هو كان قالي إنه لو مشي وسافر بعيد كدا مش هيرجع تاني، وهو قالي كمان لما قولتله ياخدني معاه، إنه ممكن ميرجعش زي بابا وماما، أنا زعلانة منه علشان هو كان صاحبي وسافر علشان يجيبني تاني هنا، إزاي رضي يمشي قبل ما يخليني أشوفه؟ هو مش عارف إني بحبه طيب؟ كان فضل معانا أحسن.
بكت معها آنذاك “نـور” التي ضاق عليها المكان فجأةً، مدت كفها تجاه الصغيرة تمسح عنها عبراتها المُنسابة وكأنها لم تجد ما تقوله في لحظتها هذه، كانت صامتة كأن كل أبجديات الحروف لم تستطع مواساة تلك الصغيرة في موقفها، وفي لحظتها حضر “سـراج” الذي جلس على عاقبيه أمام ابنته ثم مد كفه يزيل عن عينيها أثر البكاء، طال النظر منه لها فابتسم بحنوٍ ثم قال بصوتٍ رخيمٍ ودافيء:
_تفتكري حد ممكن يعرفك أو يحبك ويسيبك ويمشي إلا لو كان مجبور؟ هو ليه عذره يا “چـودي” وربنا ليه عذره، شوفتي كلامه ليها؟ دا واحد أتحط تحت رقبته سكينة تضيع حياته، وهو أختار لينا كلنا الحاجة اللي تأمننا، هو مش أناني، ومسابناش ومشي، مش يمكن يرجع تاني وسطنا؟ راح شغل وراجع تاني، عادي، أدعيله ربنا يرجعه تاني لينا.
وبالطبع لن يفهم أحدهم قسوة ما تُعانيه هي، فكيف تسرد لهم عن مشاعر لا تستطع هي وصفها؟ لقد كان ذات يومٍ هو الأيام بأكملها، لقد كان الصديق والصاحب والأب والشقيق، علمها كيف تقف قوية وكيف تُجابه الحياة بمصاعبها، علمها كيف تستخلص من نفسها الجيد والحلو، علمها كيف يكون الإنسان أكثر وعيًا وقوةً رغم صغر سنه، علمها كيف تكون مأوى لضعيفٍ مثله رأى فيها حياة كاملة..
وقف “إيـهاب” يراقبها بصمتٍ حتى وجد “سـراج” يضمها لعناقه ثم رفع ذراعه وضم زوجته هي الأخرى لصدرهِ كأنه يحوي عالمه في كنفه بين ذراعيه، لذا التفت مُغادرًا ينوي الاختباء داخل شقته، ولج بصمتٍ أطبق عليه وعلى المكان ولم ينافسه سوى صوت صغيرته وهي تزحف له حتى حملها هو بملامح بدأت تنبسط شيئًا فشيءٍ، ثم ابتسم لها حينما رفعت اصبعها تضعه في عينيه، أتت وقتها “سمارة” وجلست بجواره وهي تقول بصوتٍ غلبه الحزن والتعاطف:
_شكلك مهموم، بس نعمل إيه؟ دا حال الدنيا مبتروقش لحد.
حرك عينيه نحوها ثم قال بقلة حيلة:
_على رأيك، هي مبتدومش لحد، بس مش كدا، الحياة نازلة فينا ضرب وتلطيش وأظن كفاية كدا، اللي وجعني بجد إن اللي زي “مُـنذر” دا نصيبه كدا وهو مالهوش ذنب، ماهو ماختارش يكون دا أبوه، ولا أختار يكون دا نصيبه، ولا أختار يكون دا مصيره وطريقه، فليه؟ ليه اللي زيه مش لاحق يتنهى حتى؟ ربنا يقويه وينصره بقى عليهم، ولو كان ليه عمر ونصيب يبقى يرجع تاني لينا ويفضل وسطنا، مع إني أشك.
اقتربت تلك المرة هي تضمه لها بابنتها، كان الحال ليس على ما يُرام، الجميع تلك المرة يجلسون بحزنٍ، الخذلان سيد الموقف، القهر والتيه سيطرا على القلوب، الجميع هنا منذ لحظة الغياب غلبهم الحزن وكأنهم يشبهون مُحبين الشتاء حينما يصبحون على شمسٍ حارة ودرجة حرارة قاسية تحرق الجبين، أما هو فاستسلم تلك المرة، لقد أتعبه طول الطريق والركض في ساحة القتال، أنهكته قسوة الطُرقات المُظلمة، لذا لابُد من إتكاءٍ فوق كتف زوجته لعله يهدأ من تعبه.
____________________________________
<“لم تكن تلك الحقيقة المُجردة، لقد طالتها الشوائب”>
بعض الحقائق لم تكن مجردة هكذا،
وإنما هي مزودة بشوائب تُضلل الرائي، تطمس رؤية المُصبر، بعض الحقائق أصبحت مُندثرة خلف غمام الباطل، فترى شمس الحقائق غائبة، وسحاب الباطل ظاهرة، فتظن أن الشمس اختفت وأن الليل قد عاد، لكن الشمس أبدًا لن تنطفيء أمام قوة الغمام..
في حارة “العطار”..
كانت قد وصلت سيارة “أيـوب” أمام بيته، وقد قصد الدخول من الجهة الأخرى حتى لا تتبعهم الأنظار كما كثرت في غيابهم الأحاديث، نزل من السيارة وأسند زوجته التي كانت تمسك كف شقيقها وترجلت معه، وقد وقفت برهبةٍ أمام البيت كأنها تخشى الدخول، لكن “أيـوب” حثها حينما أومأ لها موافقًا فتنهدت هي بقوةٍ ثم خطت معه نحو الداخل، كان والده في انتظارها وما إن رآها ركض نحوها ثم وقف على بُعد خطوةٍ منها وهو يقول بلهفةٍ:
_طمنيني عليكِ، أنتِ كويسة يا بنتي؟.
أخفضت عينيها عنه وهي توميء له موافقةً كأنها تُطمئن قلبه بذلك، بينما هو ولأجل صورة رفيق العمر اقترب يُلثم جبينها ثم ربت فوق رأسها حتى عادت هي للخلف تُطالعه بعينين دامعتين، فيما تنهد هو وابتلع غصته وقال بصوتٍ هاديءٍ:
_حقك على راسي أنا من الدنيا كلها، ووعد حقك هييجي ولغاية عندك وتحت رجلك، واللي يرضيكِ كله هنعمله، بس أنتِ تضحكي وتنوري الدنيا لينا من تاني، ينفع يا حبيبة بابا؟.
هرع الدمع من عينيها مُجددًا، وكأن مخزون الدمع في مُقلتيها لم يفرغ بعد، لذا ابتلعت غصتها من حلقها وحركت رأسها نحو “أيـوب” الذي أومأ لها بأهدابه كأنه يرجوها أن تُصدق القول، لذا تنهدت بقوةٍ ثم قالت بصوتٍ ضعيفٍ بالكاد يُسمع:
_كتر خيرك يا بابا، بس أنا عاوزة أرتاح شوية، ممكن؟.
أومأ لها بتفهمٍ وتقديرٍ لحجم مصابها، بينما “أيـوب” فقادها للأعلى حيث شقتهما، كانت تستند عليه بسبب ألم جسدها، وقد شعرت ببعض الآلام تتفرق في أنحاء مختلفة في جسدها، لذا كتمت ألمها وتأوهها خاصةً منطقة الحوض التي تقريبًا تعرضت لشرخٍ كبيرٍ، وأثناء تحركها فتح “أيـهم” باب شقته ثم خرج يأمر شقيقه بصوتٍ هاديءٍ:
_هاتها ترتاح هنا، تعالي يا “قـمر” يلا.
وقفت بتعبٍ وقد أحتقنت الدماء في وجهها بسبب كتمها للألم، وحينها لاحظ ذلك “أيـوب” فولج بها للشقة الخاصة بشقيقه كي تأخذ قسطًا من الراحة _وقد سبق ورفضت أن يحملها_ بينما “يـوسف” وقف على أعتاب الشقة فأمسكه “أيـهم” وأمره بقوله:
_البيت بيتك، مش هتقف كدا، أدخل مع أختك.
ولج معه وجلس بجوارها وهي ترتاح فوق الأريكة، بينما “إيـاد” فهرول نحوها وهو يقف أمامها وما إن لمحها أجبر نفسه كي يبتسم ثم قال بلهفةٍ لم يقو على إحتوائها:
_أنتِ بقيتي كويسة؟ بابا قالي إنك خلاص جيتي هنا علشان بقيتي أحسن، عاملة إيه دلوقتي طيب؟.
أومأت له موافقةً بوهنٍ فوجدته يقترب منها ثم قال بصوتٍ ظهرت فيه بسمته:
_البيت كله نور بوجودك فيه من تاني، ماما خلفت وجابت “سـيف” وجدو قال إنه شبه “أيـوب” أوي لما كان مولود، تيجي معايا نشوفه؟ ماما هتفرح أوي لما تشوفك، تعالي.
كانت بالفعل ستقوم معه، لكن “نِـهال” خرجت من الغرفة تحمل صغيرها ثم وقفت ترحب بهم وتُلقي التحية، لاحظتها “قـمر” التي ابتسمت رغمًا عنها، بينما الأخرى اقتربت منها وهي تمد الصغير لها ثم قالت بصوتٍ مختنقٍ:
_كان نفسي نكون مع بعض، فرحتي كانت ناقصة من غيرك.
نزل الدمع من عيني كلتيهما، فتمالكت “نِـهال” نفسها أولًا ثم تركت الصغير على ذراع “أيـوب” الذي حمله منها واقترب به من زوجته التي مسحت فوق كفه ثم مالت تُقبل تلك القبضة الصغيرة، أما “يـوسف” فابتسم تلقائيًا لمجرد رؤيته هذا الملاك الصغير، وحينها قال “أيـوب” يشاكسه بقوله:
_ما تشيل ولا سيادتك لسه بتخاف منهم، كلها شهور وتشيل ابنك.
توسعت بسمة “يـوسف” وقد حمل الصغير منه وهو يذكر الخالق ويُكبر ويُحصنه بالمُباركة، وحينها انتبهت له “قـمر” فتنهدت بقوةٍ وهي تتذكر كيف هُدمت أحلامها فوق رأسها، كيف كانت تحلم بتلك اللحظة التي تتوج فيها قصتها مع زوجها بالطرف الثالت كي يكتمل المُثلث، لكن بعدما حدث من المؤكد ستطول رحلة العلاج كي تعود وتشتهي هذا الحلم من جديد، لذا حركت رأسها نحو “أيـوب” البريء الذي شعرت أنها بهذا التفكير تظلمه.
تبدلت ملامحها وتغضن وجهها وفي تلك اللحظة همست له بصوتٍ خافتٍ بالكاد يُسمع منها:
_عاوزة أطلع الشقة يا “أيـوب”.
أومأ لها موافقًا ثم استأذن من شقيقه الذي فهم السبب فلم يزد في المُعارضة وإنما سمح لهم بالرحيل، أما هي فلم تعلم لما أنطفأ وهج الحياة هكذا في عينيها، لقد خفت ضوء أحلامها، أصبحت تشعر بثقل المُحيط في روحها وماهي إلا فراشة صغيرة تحاول أن تُحلق بجناحيها الصغيرين…
عاونها “يـوسف” حتى ولجت شقتها واتجهت لغرفتها بمساعدتهما، وقد شعرت حقًا أن التعب بلغ عليها أشده فنامت فورما لامس جسدها الفراش _أو هكذا تصنعت النوم_ بينما “يـوسف” فقد وقف يُراقبها بشفقةٍ حتى لمح السواد يكسو أسفل عينيها، وجهها المُضاء أصبح مطفيًا، لذا مال عليها يُلثم وجهها، وما إن علا صوت أنفاسها؛ أدرك أنها تتصنع النوم، وحينها طالت النظرات بينه وبين “أيـوب” الذي وقف بوجعٍ وهو يُطالعها..
في الأسفل بشقة “أيـهم” بغرفته كانت “نِـهال” تجلس فوق الفراش وهي تبدل ثياب صغيرها لكن عيناها لم تنس مظهر “قـمر” التي بان في وجهها أثر الحزن والقهر، لمع الدمع في عينيها فمالت على صغيرها تُلثم كفه وهي تتنفس بقوةٍ، اقترب منها “أيـهم” وجلس فوق الفراش من الجهة الأخرى، فلمحها تزيل الدموع من عينيها، فاقترب يمسك وجهها وهو يقول مستفسرًا بلهفةٍ:
_مالك؟ أنتِ لسه تعبانة ولا إيه؟.
حركت رأسها نفيًا ثم جاوبته بصوتٍ متهدجٍ:
_زعلت علشان “قـمر” وشكلها، وشها يا حبيبتي بايظ خالص ووارم، بقى دي “قـمر” اللي مكانتش الضحكة بتفارقها؟ دي كانت هي السبب اللي بيصبرنا هنا ويخلينا نضحك وكانت بتهون علينا كلنا، مين يصدق إنها يحصلها كدا؟ شوفت عينها مكسورة إزاي؟.
تنهد هو بثقلٍ ثم اعتدل في جلسته وقال بقهرٍ:
_اللي صعبان عليا كمان غيرها هو “أيـوب” اللي مش لاحق يفرح ويتهنى شوية، تعرفي إنه من ساعة ما بقى معاها وهو بقى واحد تاني خالص؟ بقى بيعرف يحلم، “أيـوب” قبلها مكانش عمره بيحلم بحاجة، عمره ما اهتم ببكرة ولا فلوس ولا أي حاجة، كان ماشي زاهد في الدنيا دي، بس فجأة كدا بقى بيهتم علشانها هي، بقى عاوز ليها كل خير، بقى بيسعى علشان هي تكون مرتاحة، دلوقتي هيضطر ييجي على نفسه برضه علشانها، هيضطر يستحمل بعده عنها وحالتها وتعبها، وهييجي على نفسه برضه كتير، ربنا يهون عليه ويقويه.
كأنه حقًا قد سبق ولمح المستقبل بعينيه، لذا كان حديثه أتيًا من القلب بصدقٍ كمدًا وألمًا على شقيقه، كأنه بالفعل يراه لتوهِ وهو في عمق المحيط كأنه يحمل زوجته بعد أن أنقذها من الغرق، رآه يقف في عرض اليَّم يحملها فوق ذراعيه..
ولج في تلك اللحظة لهما “إيـاد” الذي أصبحت الغرفة مكانه المفضل من بعد مجيء أخيه، وقد قفز فوق الفراش يلقي بنفسه عليه حتى لامس وجهه وجه الصغير، فلثمه بحبٍ ثم داعب كفه بسعادةٍ، كانت تلك هي لحظاته المفضلة منذ أن وطأت قدم أمه بصغيرها للبيت، ظل يبتسم وهو يسمع مواء الصغير وقد حمله بين ذراعيه وقال بصوتٍ ناعمٍ كنعومة أظافر شقيقه:
_يمكن الدنيا مالهاش أمان، بس وجودك فيها بقى كفاية.
ابتسم والده بحبٍ وخاصةً “نِـهال” التي وقعت أسيرة تلك العلاقة منذ اللحظة الأولى، وقد ظلت تراقب صغيريها معًا حتى بدأ يغفو “أيـهم” بجوارهم ورأسه بدأ يسقط للأسفل، وقد نام “سـيف” هو الآخر بين ذراعي أخيه، لذا سحبت الصغير من يد أخيه ثم وضعته في عناق “أيـهم” وقد راقبها “إيـاد” بحيرةٍ في أمرهِ فوجدها تخطفه هو في عناقها وقالت بهمسٍ خافت:
_خليه هو مع ابنه، وخليني أنا مع ابني.
ضحك لها “إيـاد” بسعادةٍ لم تجرؤ عيناه على أن تخفيها، وقد طاف السؤال بعينيه وهو ينظر لها بدهشةٍ غلفتها السعادة فوجدها تهمس له بحنوٍ وهي تمسح فوق كتفه:
_من غير ما تسأل بعينك اللي شبه عيون أبوك دي، هو ابني آه ويمكن شيلته جوايا وحسيت بيه، بس أنتَ الكبير عندي، أول واحد يخليني أحس يعني إيه أم وقلب أم، علشان كدا أنتَ عندي مش زي حد، هفضل طول عمري ممنونة ليك علشان كل مرة حسستني فيها إني عندي اللي كنت فاكرة نفسي محرومة منه، عرفت بحبك ليه؟ علشان أنتَ من غير ما تحس خلتني أم، وبسببك ربنا قدرني أكون أم، صح ولا إيه؟.
ابتسم بعينيه لها ثم التفت ينظر نحو أبيه فوجده يعتدل في نومته وهو يضم صغيره ويُشدد عليه العناق، فابتسم له ثم عاد بعينيه نحو أمه يقول بصوتٍ هاديء:
_هقولك سر، أنا بشوف “أماني” تاني، لما بتقابلني في الحارة بسلم عليها عادي، ولو شايلة حاجة تقيلة باخدها منها أوصلها ليها، ولما بتكون واقفة في مكان زحمة بقف مكانها، كل دا أنا بعمله علشان “أيـوب” قالي حرام أقطع صلة الرحم بينا، بس ينفع أقولك حاجة؟ أنا مش عارف أحبها زي ما بحبك أنتِ، بحس كل مرة وأنا قدامها أني عاوز أرجعلك أنتِ، المرة الأخيرة شوفتها لما كنت بتولدي، قالتلي ينفع تيجي معايا البيت تقعد لحد ما يرجعوا، بس أنا قولتلها لأ، علشان كنت خايف عليكِ، كل مرة بكون قدامك بحس إني عاوز أكون ليكِ أنتِ، مش ليها هي.
ابتسمت بسعادةٍ كأنها إمرأة أنانية تحقق مُرادها، أنانيتها في حبه ربحت على كل شيءٍ، وخاصةً قلبه البريء، لذا ضمته تداعب خصلاته حتى بدأ يغفو بين ذراعيها، وقد ابتسم “أيـهم” الذي كان يتصنع النوم منذ البداية، لذا اعتدل يضم الصغير “سـيف” ثم رفع الغطاء يُدثر أسرته ولأول مرةٍ يشعر براحةٍ تخصه هو وأفراد أسرته بتلك الطريقة..
____________________________________
<“لن أنسى العُمر الفائت بدونك، لن أنسى لقاء عيونك”>
في لحظةٍ ما من بين الزحام وسط المدينة بأكملها..
ستتقابل الأعين وتتشابك القلوب وتتضافر رابطة الحُب، وقتها ومن بين العالم بأكمله ستكون تلك اللحظة هي بداية العمر الجديد، وقتها سوف نتذكر كل لحظةٍ مرت علينا دون هذا اللقاء وكيف كانت قلوبنا في غاية القسوة، سوف نتذكر تلك اللحظات التي سهرنا فيها نُصادق الآلام ونُرافق التعب، لذا العمر الفائت بدونك لا يُنسى ولو مر فوق العمر عمرٌ…
في اليوم التالي صباحًا..
تحديدًا بالتاسعةِ صباحًا في مشفى علاج الإدمان، جلس “باسم” في انتظار “نـورهان” التي من المفترض تخرج لرؤيته، كان يجلس في الحديقة بحواسٍ مُتأهبة، كان يصول ويجول بعينيه بحثًا عنها بأي ركنٍ في المكانِ حتى لمح طيفها وهي تخرج من الباب الزجاجي وتعبر للجهة الأخرى، كانت ترتدي فستانًا باللون الأبيض مُزركش بزهورٍ صغيرة الحجم خضراء اللون..
وقف أمام طلتها مشدوهًا، كان فستانها محمكم الإغلاق من الأمام كأنه أقرب لوصف العصر الفيكتوري، وما زاد دهشته وإنشداهه هو مظهر خُصلاتها الناعمة، كانت تفرد خصلاتها خلف كتفيها وقد استرسلت على عكس عادتها المُجعدة، داعبت الشمس ملامح وجهها، فلأول مرةٍ يلمح هو تلك البراءة فيها، وقف يبتسم بعينين لامعتين فوجده تقف وهي تدير رأسها بحثًا عنه..
اقترب منها بخطواتٍ مُترددة حتى وقف أمامها وطاف بعينيه في وجهها الصفيِّ، وقف يحتضنها بعينيه وقد لاحظ أثر الشفاء والتعافي عليها، وجهها عاد مُشرقًا كما لم يرهُ من قبل، بينما هي ما إن لمحته هي ابتسمت له حتى ظهرت أسنانها البيضاء ثم قالت بصوتٍ هاديء خجول:
_عامل إيه؟ فرحت علشان أنتَ جيت أوي، ماكنتش مصدقة إنك هتيجي، بس فرحت بصراحة جدًا، أنتَ كويس؟.
وهذا المسكين لم يجد جوابًا يرد به عليها، فكيف يشرح لها أن الحُر أصبح أسير الطلَّة من عينيها؟ كيف يخبرها أن ثورة الثائر لديه خمدت بمجرد أن لمح شمس الحرية في عينيها؟ كيف يسرد لها أن وقفته في الميدان وهو يُطالب بالعيش والحُرية والعدالة الاجتماعية لن تضاهي جرأته وهو يُطالب بالعدل منها في الوصال، لذا اقترب منها يضمها لعناقه فجأةً حتى أجفل جسدها من لمسته، بينما هو فجاوب بصوتٍ رخيمٍ:
_كويس علشان شوفتك قدامي بخير، وهكون كويس أكتر لما أعرف إنك بقيتي كويسة، طمنيني عليكِ، أنتِ بقيتي أحسن؟.
عادت للخلف بخجلٍ منه وهي توميء برأسها له ثم ابتسمت بوجهٍ أصبح لونه أحمر داكنًا بسبب خجلها منه ثم قالت تجاوبه:
_كويسة جدًا الحمدلله، متقلقش عليا أنا مبقاش عندى ذرة واحدة بس تخليني أرجع لورا، كل اللي نفسي فيه أخرج من هنا حُرة من اللي كنت فيه، مش عاوزة أكسفك قدام نفسك حتى.
وجوابها حقًا أذهله، لم يصدق أنه يسمع هذا الحديث منها، لقد ظن الكثير من الظنون عنها في هذا المكان، لكن قدرتها وامتثالها للشفاء والتعافي كانا سببًا كافيًا له كي يُصدق ما يراه بعينيه، لذا سحبها من كفها ثم جلس بها على أقرب المقاعد التي وجدها في طريقه، جلس ثم أتى بالحقيبة التي تم تفتيشها ووضعها أمامها ثم قال بصوتٍ مغلوب على أمره:
_الأكل دا عمايل إيد “كـنز” ليكِ أنتِ، بس هما فتحوه برة وفتشوه علشان لو فيه حاجة أو مسربلك حاجة تخليكِ تعلي، مع إن دا مش من مصلحتي أصلًا، مكسبي هو شوفتك بالمنظر الحلو دا قدام عيوني.
زادت خجلًا فوق خجلها لذا نكست رأسها وهي تبتسم، بينما هو خطف زهرة صغيرة من الحقل خلفه ثم وضعها في خصلاتها وقال يُغازلها بصراحةٍ مُحببة لفؤادها العطش لقربه:
_كدا الحلو زاد حلاوة.
ضحكت بسعادةٍ وهي تتلمس الزهرة الموجودة بجوار أذنها بينما هو فلمح أجمل لوحات العالم، وقع بصره عليها فورما لامست أناملها تلك الزهرة الرقيقة وحينها شعر أن رقتها وحلاوة روحها التي بدأت تعود لمكانها أنها تتوغل لداخله هو، لذا سحب الهاتف ثم طلب منها بهدوء:
_ينفع تخلي وشك الناحية التانية؟.
استفسرت بالعين أولًا، ثم فعلت ما طلب منها وحينها التقط لها الصورة حينما ركز عليها وعلى الزهرة التي تُعانق خصلاتها، فتعالت لديها نبضات فؤادها وهي تشعر أن الحب معه هو خصيصًا له المذاق الخاص به، هو وحده من جعل الحب جميلًا هكذا في عينيها، لذا كانت البسمة تشع أملًا ونورًا، طالعته بشرودةٍ وهي باسمة الوجه والعينين فوجدته يلتقط لها صورة أخرىٰ وتلك المرة كانت آشعة الشمس تتعامد على عينيها العسليتين الصافيتين، فزاد عمره عُمرًا فوق عمره بتلك الجلسة وتلك الرؤية معها، حتى سألته هي بنبرةٍ ضاحكة:
_هنقصيها تصوير طيب؟ عاوزة أتطمن عليكم.
أغلق حينها الهاتف واقترب يجلس بجوارها وقال بصدقٍ:
_ كلنا برة كويسين، وعمك كمان بخير هو ومراته، اتطمنت عليهم بنفسي ولقيتهم بخير وتقريبًا كدا يعني ربنا هداه وبقى بيصلي وعارف ربنا، وأنا من البيت للشغل ومن الشغل دا للشغل دا، مبروحش مكان تاني، “كـنز” قاعدة تبكي على الأطلال مستنية رجوعك تاني، وأنا والباندا قاعدين نواسي بعض على غياب الحبايب.
كان يقصد بذلك الدُب الخاص بها، فضحكت هي بملء شدقها ثم قالت تمازحه بقولها كأنها بذلك تشاكسه:
_دلوقتي بقيت تحضنه عادي صح؟ ما كان في الأول وحش.
ابتسم هو بهدوء ثم تنهد أمامها وجاوب بصوتٍ هاديء:
_مفيش حاجة تخصك وحشة، اكتشفت بعدما مشيتي إن كل حاجة ليها علاقة بيكِ حلوة أوي، ومستني رجوعك علشان الحاجات دي حلاوتها تكمل كمان بيكِ، بس أرجعي أنتِ.
لمحت في عينيه شيئًا من الحزن أو ربما الخُذلان، فسألته عن السبب قائلةً:
_هو أنتَ في إيه مزعلك؟ باين إن فيه حاجة مضايقاك، ممكن تقولي عادي؟ وأنا هسمعك علطول، أنتَ ياما كتير كنت بتسمعني.
كأنها قد أتطلعت على فؤاده لتقرأ ما به، لذا رماها بنظرةٍ مطولة ثم قال بصوتٍ غلفه الحزن بعدما حرك رأسه ينظر للأمام:
_”مُـنذر” سافر تاني وساب مصر، سابني هنا لوحدي برضه ماليش حد ومعرفش حد غيره هنا، وماليش وش أفضل وسط أهله وأنا غريب عنهم، ويمكن أكون خايف عليه ومن رجوعه هناك تاني، أنا لسه متعافيتش من موت “حـمزة” وإنه سابني ومشي، ومش عارف حتى أوصل لـ “مُـنذر” علشان أول مرة أحس إنه ميستاهلش الموت، وكل اللي ماتوا كانوا فعلًا يستاهلوا يموتوا، يستاهلوا إن الدنيا تخلص منهم.
أدركت لما يظهر عليه أثار الحزن بتلك الطريقة، تيقنت أن الحزن بلغ عليه أشده وأكل من قلبه نصيبًا كبيرًا، لذا مدت كفها تمسك كفه وتضمه كأنها تُشدد من أزره وهي تقول:
_محدش عارف الخير فين، يمكن لما مشي كدا يكون أفضل ليه من قعاده هنا، عارفة إن حقك تزعل وتضايق عليه ورغم إني معرفش تفاصيل كتيرة عن علاقتكم بس أنا مش عاوزاك تضايق نفسك، بكرة يرجعلك تاني وتكونوا سوا مع بعض، صح ولا أنتَ شايف إيه؟.
أومأ لها موافقًا بتيهٍ ثم أخفض عينيه نحو كفها المستقر فوق كفه وتعجب من موقفها هذا، لكنها سحبت كفها سريعًا واتضحت عليها علامات الخجل الشديد، بينما هو فأدرك أن الرحيل قد وجب عليه لذا وقف وقال بصوتٍ عاد لطبيعته:
_كدا أنا اتطمنت عليكِ، واتطمنت على نفسي لما شوفتك كدا، خلي بالك من نفسك وأنا هجيلك تاني في أقرب وقت يسمحولي فيه بزيارة، وعلى فكرة أنا فخور بيكِ أوي، مبسوط بيكِ علشان بتحاولي، ومبسوط أكتر إني جزء وسبب من المحاولة دي منك.
ابتسمت هي تلك المرة بفرحةٍ، بينما هو أولاها ظهره كي يرحل، مشى خطوتين فقط وتوقف محله لسببٍ لا يعلمه، التفت لها يراها تجلس بفستانها هذا وسط الزهور وغُرتها ترتسم فوق جبينها والهواء يُراقصها بنعومةٍ، وقف هكذا يُملي عينيه منها ثم ابتسم لها والتفت، وقبل أن يعود ويجر خطاه التفت لها يقول بصوتٍ تأكد أنه سيصلها:
_”نـورهان” أنا بحبك، ويمكن أكون بحبك من أول مرة شوفتك فيها، بس كنت غبي وبكابر على الفاضي، افتكرتك طريق موت، وماكنتش أعرف إنك طريق الحياة اللي جاي كله، شدي حيلك علشان مش عاوز أفضل لوحدي أنا والباندا برة كتير.
رمى حديثه وعقبه بغمزةٍ من عينه اليُسرى، بينما هي توهج وجهها وعادت الحياة ترتسم عليه، عاد النور يملأ مُحياها ونور قلبها، بدت بسمتها واضحة للعيانِ، لذا ما إن اختفى أثره قفزت من محلها تفرد ذراعيها وهي تدور لتوازي حركة الطير أثناء طيره، حلقت فوق الأرض بمجرد اعترافٍ أخيرًا خرج منه، ظلت ترقص وتدور وهي تضحك وتقفز، كأنها زهرة وأتى الربيع يمحو بالمجيء أثر خراب الخريف..
أما هو فوقف يلتقط لها مقطعًا تصويريًا وهي تدور وتضحك ليكون ذكرى خاصة به يضعه في ملف إنجازاته كونه استطاع أن يوصلها لتلك المرحلة ويراها وهي تضحك هكذا بسعادةٍ، والآن عاد الأمل في غدٍ مُشرقٍ يتدفق نحو قلبه، لعل الآمال تمحو الآلام..
____________________________________
<“ياليت كل الأيام وجدتها كما وجدتُ أماني معك”>
عند اقتران حياة المرء بلحظة الأمان؛ سيدرك حقًا قسوة المخاوف عليه وعلى طريقه، سيتمنى لو أن كل الأمان الذي وجده كان يغمر أيام عمره بأكملها، كان سيتمنى لو أن فرحته لم تكن منقوصة بمخاوفٍ اقتحمت أيام عمره، فسلبت منه طمأنينته، فترى المرء لطريقٍ مضياعًا والمخاوف تحاوطه، لكنه لن يُفرط في لحظة أمانٍ واحدة غمرت طريقه وحاوطت روحه..
انتصف النهار، وانتهى مع نصف التعب، حيث العمل الشاق، والمسؤوليات الكُبرى الواقعة على عاتق الرجال المحاولين والنساء المكلومات في قلوبهن، وقد كان “يـوسف” عاد لشقته بعد أن قضى نهاره في تعبٍ بين الأعمال المُتراكمة فوق بعضها، وما إن عاد كانت “عـهد” تقوم بترتيب الشقة التي تم إغلاقها لفترةٍ لا بأس بها، لتوها كانت تنهي آخر الأشياء وقد اشتد عليها التعب فجلست تمسك بطنها..
ولج لها الغرفة الصغيرة التي صممها هو لذاته كي يختلي بنفسه، وتتخذ هي منها مكانًا مُفضلًا لها، وما إن رآها اقترب منها بخوفٍ وهو يتفحصها فوجدها تعود لوعيها وهي تقول بصوتٍ واهنٍ وضعيفٍ:
_أنا كويسة، بس بطني وجعتني شوية علشان من الصبح بتحرك، الشقة كانت كلها تراب ومكركبة، يدوب لسه مخلصة، طمني خلصت شغل ولا لسه هترجع تاني؟.
أومأ لها موافقًا ثم اعتدل في جلسته بجوارها وهو يقول بقلة حيلة:
_خلصت، روحت الأول على الشركة بتاعة البترول خلصت الورق بتاع المواقع علشان البراريم تبدأ شغل وعينت المهندسين الجداد، وبعدها روحت على الشركة بتاعتنا أشوف حل مع “نبيل” اللي معتبرها شركة اللي جابوه دا، وبعدها روحت قابلت “باسم” علشان كان بيزور مراته ولسه راجع وظبطت معاه كام حاجة وجيت، هغير وأشرب كوباية شاي وأروح أشوف “قـمر”.
أومأت له موافقةً ثم عادت تغفو بتعبٍ بجوارهِ فوق الأريكة الكُحلية، وما إن رآها هو التفت لها يمسح فوق جبينها بحنوٍ وهو يطمئن عليها، وقد فتحت عينيها تُطالعه بتعبٍ فسألها بصوتٍ رخيم:
_تعبانة ننزل طيب للدكتورة؟ على الأقل نتطمن على الباشا.
ابتسمت بوهنٍ ثم قالت وهي تعود لإغماض جفونها:
_مش قادرة أنزل، سيبني أنام أنا والباشا ويبقى كتر خيرك ولو هتعمل شاي أعملي معاك كوباية وحطلي فيها ورقة نعناع.
تحرك هو من جوارها ثم بدل ثيابه لأخرى بيتية مُريحة ثم ولج المطبخ، لتوهِ بدأ يتذكر أنه لم يتناول شيئًا منذ الصباح سوى أعقاب السجائر المتوالية وأقداح القهوة ثم الشاي الكثير، لذا أخرج الخبز من البراد ثم أخرج معلبات يصنع بها شطائر له ولزوجته، وقف يندمج فيما يفعل حتى أنهى ذلك فحمل ما صنع وتحرك لها، جلس بقربها ثم أوقظها حتى اعتدلت في جلستها تتثاءب بتعبٍ وإرهاقٍ ظهرا فوق ملامحها، فقبض على كفها ثم تحرك بها من الغرفة حيث الغرفة المرحاض، وقف بجوارها يغسل لها وجهها ويُبلل خصلاتها حتى شهقت هي بفزعٍ…
بينما هو فكان نفذ صبره من كثرة المحاولات لذا قال موجزًا:
_مفيش وقت أحايل وأدادي، يلا فوقي.
كان يتحدث وهو يضرب وجهها بكتلة مياه حملها بقدر راحته فشهقت رغمًا عنها ثم دفعت يده بعيدًا عن وجهها وهي تقول بصوتٍ عادت له القوة:
_خلاص اتنيلت فوقت، وسع بقى خنقتني.
عاد للخلف يرفع حاجبيه ذاهلًا ثم هتف ببرودٍ:
_طب لأجل الخنقة دي وريني مين هيأكلك، هروح آكل لوحدي وأبقي كلمي أمك تجيبلك أكل لحد عندك، صحيح عالم ناقصة رباية.
تركها ورحل بينما هي فأدركت محاولاته فقامت بمسح وجهها بالمنشفةِ ثم ذهبت خلفه، وجدته يرتشف الشاي، فجلست تمازحه بقولها:
_مبتاكلش ليه يعني؟.
ضيق جفونه نحوها ثم قال بصوتٍ هاديءٍ مغلوب على أمره:
_من إمتى باكل من غيرك؟ كُلي أنتِ علشان علاجك.
تدللت هي حينما تمددت للخلف ثم قالت بمكرٍ:
_طب ما تأكلني أنتَ؟ دا أنا حتى ست حامل.
ابتسم رغمًا عنه ثم أمسك الصحن وبدأ يُطعمها في فمها، كانت تأكل وهي تبتسم له بينما قال بضحكةٍ يائسة:
_بتطلبي دلع في أوقات غريبة أوي أنتِ، يبقى الواحد فيه اللي مكفيه بس مش هاين عليه يزعلك، كُلي يلا خليني ألحق أنزل وأرجع علشان متأخرش عليكِ.
كانت تتناول الطعام من يده وهي حقًا تشتاق له، لقد شعرت أن المسافات بينهما قد ازدادت حتى أنها لم تجلس معه تلك الجلسة منذ ما يقرب الشهرين تقريبًا، لذا اقتربت تضع رأسها فوق كتفه، وبالتزامن مع اضطراب الهرمونات لديها بسبب حملها كانت الأوضاع في غاية الصعوبة، لذا بكت وهي بجواره كأنها أتيحت لها الفرصة كي تُعبر عن الضغوط التي واجهتها فيما سبق..
بينما هو فلم يتعجب مما تفعل هي، لقد كان على يقينٍ بحركتها تلك لذا ضم رأسها بكفهِ وظل يمسح لها فوق خصلاتها حتى سمعها تقول بصوتٍ غلفه البكاء:
_خايفة عليك أوي، المرة دي بجد خايفة علشان عارفة إنك مش هتعديها، ومش هقدر أقولك اسكت عن حق أختك، زي ما خليتك تجيبلي حقي، هات حق أختك وشرفها، بس أبوس إيدك فكر فيا وفي اللي في بطني دا، مالناش غيرك أنا وهو، اتصرف بالعقل.
لمح الخوف يحاوط المكان، استمع لنبرتها المُعذبة بحبال الخوف لذا ضمها بقوةٍ أكبر ثم حاوطها بذراعيه ومسح فوق ذراعها وقال بصوتٍ هاديءٍ كأن الحكمة أصبحت نهجه الوحيد:
_مبقاش فيه وقت تاني للغشومية خلاص، اللي فات مش قد اللي جاي عليا يا “عـهد” صحيح حقها في رقبتي بس كلكم وهي أولكم ليها حق عليا إني متهورش وأضيع نفسي، أوعدك والله هتصرف بالعقل.
رأت الصدق في عينيه وتلك هي عادته، كُلما قطع لها عهدًا نفذه، وتلك المرة صِدق وعده كان مُتجليًا في عينيه، لذا عادت برأسها للخلف ومسحت دموعها ثم مدت كفها له تُطعمه حتى التقط منها الشطيرة ثم ضمها تضع رأسها وتتكيء بها على صدره، بينما عقله فذهب حيث قـمره المخبوء خلف سُحبٍ من الحزن والقهر غطت جماله، لكن لأول مرةٍ في غضبه يتريث بهذا الشكل، لأول مرةٍ الفراغ الناتج عن كثرة التراكمات تؤتى ثماره بتلك السرعة.
وقبل أن تشمله الحيرة كان حديث قلبه له:
“ظننتُ أن وجودي بالعالم أكبر الداء،
ووحدي أسير بين الناس لم أجد لي بينهم الدواء،
كنت أحسب قلبي عليلًا ليس له شفاء،
ومدينتي بظلمها لي أكبر دارًا للشقاء،
فكان وجودك لي من علة الدنيا هو الدواء،
وبات قلبي حُرًا من كل قيدٍ يُحلق فوق السماء..
____________________________________
<“الليل اليوم مُعتم والقمر في دارنا حزين”>
اليوم الحدث كبيرًا..
السماء لم تعد بصافيةٍ كما كانت من قبل،
الدار لم تصبح أمانًا كما كُنا نعهدها،
السكوت لم يكن سببًا في الهدوء، لكن كان سببًا في الخوف،
اليوم الأركان لم تحمل طيب الذكريات،
بل حملت وحشة الطُرقات، اليوم الحزن غلف الأعين
والقلوب بكت قهرًا..
كانت نائمة، أخيرًا بعد معاناة مع الذات، وخوف من المكان، ومحاولة الهرب من وحش الذكريات، لجأ عقلها لهدنةٍ من حربه مع الفائت، لذا نامت “قـمر” قُبيل العصر حتى الآن، بدأت تستفيق بكابوسٍ مروعٍ، تندى جبينها، تعالت بالتزامن نبضاتها، الضربات تنزل فوق وجهها وجسدها، محاولة اقترابه منها ورائحته الكريهة تغزو أنفها، غدره بها وهي ضعيفة تضربه ضربات واهنة، صوت صرخاتها يعلو في الخلفية وفي الكابوس لم يظهر لها صوتٌ، حاولت أن تصرخ وتستغيث لكنها انتفضت فجأةً في الظلام الدامس..
رفرفت بأهدابها بحثًا عن أي شيءٍ تسترشد به وسرعان ما أدركت أنها في مكانٍ آخر، ظلت تنادي على زوجها بصوتٍ هامس، كانت تُناديه بخوفٍ جلجل حروفها وقهقرها عند أعتاب الشفه، خرجت من الفراش بجسدٍ يرتجف تنادي وتنادي حتى زاد الخوف والهواجس لديها فوقفت في المنتصف وسط الظلام، المكان أصبح أكثر بشاعةً، الظلام يقتلها بغير شفقةٍ، الموقف كاد أن يتكرر في عينيها، لذا تهاوت فوق الأرض الرخامية تبكي وهي ترتجف، بكت بكاءً صدع حنجرتها، ونزل الصدع منه لقلبها بين أضلعه، صرخت وهي تضع كفيها فوق أذنيها كي توقف صوت الصرخات والعويل الذي عَلُقَ بذهنها منذ يوم الحادث..
صرخت وآخر صرخاتها كانت باسم “أيـوب” الذي ولج الشقة لتوهِ واسترشد لمكانها بصوت صرخاتها العالي، هرول لها حيث غرفتها وما إن رآها ضمها لعناقه يُهديء من روعها فوجدها تتمسك به بضعفٍ، كان يحتويها بين ذراعيه وهو يتحدث بصوتٍ هاديءٍ:
_أهدي أهدي، أنا جيت أهو والله، أهدي يا “قـمر” بالله عليكِ.
بدأت تهدأ شيئًا فشيءٍ وتعود لواقعها، طافت بعينيها في أنحاء الغرفة المُضاءة التي ظهرت ملامحها ثم بدأت أنفاسها تعود بعدما كانت مسلوبة منها، طافت بعينيها حتى استقرت فوق وجهه فسألته باكيةً بعتابٍ لما فعل ووصلت له بسبب غيابه:
_مشيت ليه يا “أيـوب” وسيبتني.
وفي الحقيقة هو لم يفعلها عن طيب خاطرٍ منه، وإنما هو ذهب يطمئن على أمها ويقضي فرضه بالمسجد، فتنهد وهو يعتدل في جلسته ثم مسح فوق موضع نبضها المرتفع بصخبٍ:
_والله العظيم ما كنت قاصد، لقيتك أخيرًا نمتي قولت ترتاحي شوية ونزلت أشوف مامتك وأطمنها عليكِ، وصليت في الجامع وجيت علطول، إيه اللي حصل ووصلك لكدا؟ مش اتفقنا إنك معايا بخير خلاص؟.
كان الدمع ينسكب من عينيها كما الكوب المقلوب، نزل دمعها مدرارًا وهي تطالعه وتتذكر كابوسها المُطابق لواقعها:
_شوفت كل حاجة من تاني، ضربه ليا، وقربه مني ونفسه بيحرق فيا، أيده وهي بتتمد عليا، كأني بعيش الليلة دي تاني، أنا بقيت حتى أخاف أقعد لوحدي ألاقيه ظاهرلي وأنا صاحية، مش طايقة نفسي وقرفانة مني حتى، حاسة إني عاوزة أحرق جسمي كله علشان أنسى اللي حصل، اللي حصل دا أنا مش هقدر أنساه لو عدى عمر فوق عمري، والذنب كله هتشيله أنتَ..
ضيق جفونه بريبةٍ ساورته وضاقت حول عنقه، فتنهدت هي بقوةٍ ثم قالت بصوتٍ ضائعة روحه في غياهب الهزيمة:
_أنا مش هقدر يا “أيـوب” أرجع تاني زي الأول، هتعب واتعبك معايا على الفاضي، مالهاش لازمة أتعبك على الفاضي، أحسن حاجة تعملها ليك ولنفسك إنك تسيبني عند ماما، خليني هناك أحسن لحد ما أحاول أرجع تاني زي الأول، وأنتَ شوف شغلك وحياتك وشوف نفسك، اهتم بنفسك شوية.
تباينت ملامحه بين حيرةٍ وغضبٍ وحزنٍ وتقديرٍ لها ساد الكل، لكنه لمح التخلي منها عنه، لذا سألها بتهكمٍ مريرٍ كأنه يسخر منها:
_وياترى بقى العرض دا معاه جواز؟ ولا سادة كدا.
ضايقها بحديثه وسخريته فاندفعت بعنفٍ في وجهه:
_أنا مش بهزر ولا بتريق، عاوز تتجوز كمان اتجوز وعيش حياتك، بس متحطش فيا أمل على الفاضي، أنا بقيت بواقي روح عايشة وخلاص، كل يوم هفضل افتكر اللي حصل، وكل وقت هيحصل قرب بينا هخاف، كل يوم هفضل عايشة كل يوم كدا زي الضحية بغرق؟ خليني أخرج من هنا وشوف حياتك وشغلك، أنا خلاص مش هقدر أديك حاجة، وحرام عليا أفضل آخد منك.
_ ياستي ما تاخدي إن شاء الله تاخدي عمري كله حتى، هو أنا جيت اشتكيت ليكِ؟ قولتلك خلاص مش قادر؟ محسساني إني هرميكِ في الشارع لو ماخدتش منك حاجة، دا تفكير البهايم بس، مفيش بني آدم واعي وعنده دين وربنا كرمه بمروءة ينفع يسيب مراته في ظرف صعب مهما كان هو إيه، دلوقتي أنتِ اللي عاوزة تمشي وتسيبيني يا “قـمر” لوحدي؟…
سألها بعتابٍ بعدما قطع حديثها فهرع الدمع منها وهي تقول بصوتٍ مقهورٍ تخبره عن حالها وحال قلبها:
_أنا تعبانة أوي يا “أيـوب” تعبانة وحاسة إني بغرق في الهم دا وعمري ما هخرج منه، عاوزاك تبعد عني وأنا من جوايا هموت لو أنتَ غيبت عني، أبوس إيدك ساعدني، أعمل أي حاجة تخليني أنسى اللي حصل، خليني أرجع تاني “قـمر” اللي أنتَ بتحبها، أنا كرهتني أوي وأنا كدا، خايفة أكرهك فيا وتمشي غصب عنك وعني.
بكت ولأول مرةٍ تخونه العبرات وتظهر من عينيه وهو يبكي معها، وجدها ترتمي في عناقه وهي تبكي بصوتٍ عالٍ فضمها لصدره بقوةٍ ثم مسح فوق ظهرها وخصلاتها وهو يتلو عليها آيات الذكر الحكيم، كان صوته عذبًا ينشرح به فؤادها المكلوم، كانت الكلمات تمر على سمعها كأنها تُخيط جروحًا دامية، كانت تستكين على صوت التلاوة العذبة، وكأنها أدركت أن الشفاء في القرآن والتقرب لرب العالمين، لذا رفعت رأسها دون أن تنقطع التلاوة الخاشعة، فوجدته يقرأ من آيات القرآن ما يُداوي جراح قلبها، بينما هو أنهى التلاوة، ثم سبح باسم ربه الذي خلقه، وكأنه تعمد أن يتلو عليها تلك السورة تحديدًا، حيث قرأ سورة الشرح:
_ ﷽
” أَلَم نَشرَح لَكَ صَدرَكَ ۞ وَوَضَعنا عَنكَ وِزرَكَ ۞ الَّذي
أَنقَضَ ظَهرَكَ ۞ وَرَفَعنا لَكَ ذِكرَكَ ۞ فَإِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا
۞ إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا ۞ فَإِذا فَرَغتَ فَانصَب ۞ وَإِلى رَبِّكَ فَارغَب”.
طالعته بعينين باكيتين كأنه قصد تلك السورة كي يمسح فوق فؤادها وفي الحقيقة هو قصدها عمدًا، لذا تعمد أن ينطق بالتفسير أيضًا فقال بشيءٍ من المنهجية السَلِسة:
_قال تعالى:
﴿ أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ ﴾ :١
لقد شرح الله لك صدرك فحبَّب إليك تلقِّي الوحي.
﴿ وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ ﴾ :٢
وحططنا عنك الإثم ورفعنا عنك الحمل وكتبنا لك الاتصاف بمكارم الأخلاق
﴿ ٱلَّذِيٓ أَنقَضَ ظَهۡرَكَ ﴾ :٣
الذي أتعبك حتى كاد أن يكسر ظهرك.
﴿ وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ ﴾ :٤
وأعلينا لك ذكرك، فقد أصبحت تُذْكَر في الأذان والإقامة وفي غيرهما فجعلناك بما أنعمنا عليك من المكارم في منزلة عالية رفيعة؟.
﴿ فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا ﴾ :٥
فإن مع الشدّة والضيق سهولة واتساعًا فلا يثنك أذى الأعداء على نشر الرسالة، فإن مع الضيق فرجًا.
﴿ إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا ﴾ :٦
إن مع الشدة والضيق سهولة واتساعًا، إذا علمت ذلك فلا يهولنك أذى قومك، ولا يصدنك عن الدعوة إلى الله.
﴿ فَإِذَا فَرَغۡتَ فَٱنصَبۡ ﴾ :٧
فإذا فرغت من أعمالك، وانتهيت منها فاجتهد في عبادة ربك.
﴿ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرۡغَب﴾ :٨
واجعل رغبتك وقصدك إلى الله وحده، فإذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها فجد في العبادة وإلى ربك وحده فأرغب فيها عنده.
كان يسرد لها تفسير كل آيةٍ على حدى وهي تُنصت له قلبًا وقالبًا، كان جرح قلبها يبرأ شيئًا فشيءٍ حتى قال هو مستأنفًا حديثه:
_السورة دي ربنا قصد بيها الحديث لسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، الحديث بيها كان مقصود بيه ثقل حمل الرسالة اللي ربنا كرم بها سيدنا محمدﷺ وكل الآيات مقصود بيها الكلام اللي ربنا وجهه لسيدنا محمد، والرسالة والعظة من السورة دي موجهة لسائر المسلمين أجمعين، في أوقات الضيق والهم، تذكّر أن الله عز وجل قد وعدنا في سورة الشرح بأن بعد كل تعب هناك فرج…“أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ” تلك الكلمات تفتح أمامك أبواب الأمل وتفكرك بأن الله يزيل عنك كل هم وييسر لك كل صعب وكلما قرأت سورة الشرح، ستشعر بالسكينة في قلبك، وكأنك تتنفس أملًا جديدًا..
أومأت له موافقةً ثم مدت كفها تستند عليه وهي تطلب منه بصوتٍ ضعيفٍ بعدما عاد الأمل يتدفق لنهر فؤادها:
_قومني علشان أتوضا يا “أيـوب”..
وكأن الرسالة وصلت لها عبر حديثه، فهمت المقصود وبدأت العمل برسالة الحديث، بينما هو عاونها ووقف معها وهي تتوضأ وتستند عليه، وما إن عاونها وضع لها المقعد بعدما ارتدت ثياب الصلاة وقد جلس على مقربةٍ منها وهي تُقيم فرض العشاء، بينما هو فكان يعلم أن لولا السير إلى الله ولو بخطواتٍ عرجة، لما كان وصل لأي وجهةٍ مهما وصل وبلغ من طرقات..
____________________________________
<“حرقوا الفتى الصغير بالنيران، فعاد يحرقهم في الجحيم”>
قتلوا الفتى البريء…
ودفنوا جثته حيًا في أرض البلدةِ، حرموه من الدفء بين أذرعتهم وألقوه في النيران والحُجة كانت وصول الدفء لجسده؛ والآن عاد الفتى ينتقم ويأخذ كل ما سلب منه،
يأخذ منهم الراحة ويسرق النوم من أعينهم،
وبنيران الدفء يحرقهم ويبتر أذرعتهم، حتى ولو احترق جسده هو ذات نفسه…
في بيت “نَـعيم” بمنطقة نزلة السمان…
كانت الأوضاع مختلفة الحال ما بين حالٍ وآخر، وأكثرهم همًا كان “نَـعيم” الذي شعر بغربةٍ تجتاحه بعد أن فقد جزءًا هامًا من حياته، والجميع هنا كانوا بنفس منوال حزنه، الجميع سار على خطاه ونهجه، وقد وقف “إسماعيل” بجوار الخيل الخاص به ومعه وقفت “ضُـحى” التي هربت من العالم بالخارج له هو، وقف يمسح فوق الخيل الخاص به، وعيناه لم تبرح صورة “مُـنذر” فمنذ أن كانا في الصغر وهما كما الكتِف الواحد..
بينما “ضُـحى” فكانت تحمل هم “قـمر” أو نصفها الآخر كما تصفها، كلاهما كان يتألم لأجل الآخر الذي يمثل له نصف الروح، وما إن لمحت بعينيه القهر سألته بصوتٍ مملوءٍ بالهمِ:
_وجعنا على الحبايب صعب أوي يا “إسماعيل” لا أنتَ قادر تمد إيدك وتساعد ولا أنتَ حتى قادر تشيل الهم عن قلبك، “قـمر” وجعاني أنا كأن اللي فيها فيا، مش قادرة أصدق إن دي هي “قـمر” نفسها أختي اللي كنا روح في جسمين، نفس اللي فيك فيا، أنتَ كمان موجوع على صاحبك واللي عمله في نفسه، بس تصدق؟ لا أنا ولا أنتَ هنلاقي علاج للي إحنا فيه غير بشوفة الحبايب كويسين..
التفت لها يقرأ تعابير وجهها ثم قال بصوتٍ غلفته الحكمة:
_أيام الفراعنة زمان، كان الأخ ليه أهمية كبيرة أوي عندهم، حتى أنهم اختصروها في “البا” و “الكا” ومعناها النفس أو الروح، بمعنى الحياة الروحية في حياة الإنسان، والأخ دي علاقة تنشأ بعد الممات، و”الـبا” هي روح الإنسان، إنما “الـكا” قوة الحياة الحامية له، ودي بتسكن في تمثال بيعملوه للميت، وكانوا بيقدموا قرابين للموميا دي باستمرار فتعيش علطول، وكانوا مقتعدين إن علاقة الآخ دي مش بتنشأ في الدنيا، وإنما هي بتنشأ في الآخرة حيث الخلود، يعني العلاقة الأقوى، علشان كدا كانوا بيعملوا مراسم جنائزية سليمة، علشان ترتفع آخ الإنسان الميت للسماء، فيكون بعدها نجم مضيء، وبعدها النجم دا ياخد مركزه وسط بقية النجوم، أو يكون مع أتباع أوزوريس، علشان كدا المصريين القدماء كانوا مصدقين إن الآخ ليها تأثير على حياة الإنسان الدنيا، فلخصوا أثره بمقولة على جدران مومياء الأخوات:
«مصير الآخ في السماء، وتبقى الجثة على الأرض.»
سكت هُنيهة يترك الآثر لحديثه ثم أضاف بقهرٍ:
_الأخوات والصحاب أثرهم باقي حتى لو هما مشيوا، يمكن ننسى غدر الدنيا كلها بينا، بس مش هنقدر ننسى وجعنا من أخواتنا أو على أخواتنا، ومفيش حد بيشفى من جرح صحابه، حتى لو بقوا نجوم في السما، بس أثرهم وأثر حياتهم واصل لقلوبنا، ربنا يقوي “قـمر” و يسترها مع “مُـنذر”..
في فناء البيت الواسع كانت “چـودي” تجلس وحدها بجوار دراجة “مُـنذر” تنتظر مجيئه كما أخبرها الجميع أنه لأجلها سيعود، نعم ملت الإنتظار وأصبح ثقيلًا على روحها، لكنها تنتظر الرفيق، تنتظر الوعد الذي قطعه له أن يوفيه، لذا وأثناء جلوسها، وجدت آخر من توقعت ظهوره أمامها، رفعت رأسها فوجدت “فُـلة” أمامها، بدت عكس وصف اسمها، حيث ذبل وجهها، وشحبت ملامحها، أصبحت كقعدٍ من الفُل الذابل، كانت ترتدي ملابس سوداء على عكس حيويتها، وقد جلست بجوارها بدون حديث ثم نظرت أمامها..!!
راقبتها “چـودي” بتعجبٍ وحيرةٍ في أمرها فوجدتها تقول بصوتٍ مهزومٍ وضعيفٍ:
_جيت علشان أنا متأكدة إنك أكتر واحدة حاسة بيا، أنا وأنتِ أكتر اتنين حبوه في الدنيا دي، بس هو مشي، مشي وسايب وراه قلوب بتتحرق، مشي وساب وراه مليون سؤال مالهمش أي إجابة، ساب سؤال هيفضل طول العمر معلق معايا، كل دا كان ليه من الأول؟ ليه خلاني أعيش على أمل قربه؟ وفي الآخر يمشي؟ مشي وسابني بعد ما أخيرًا بقيت واحدة بتحب الحياة ونفسها تعيش، بس عارفة؟ الغلط مش غلطه هو، هو حاول بدل المرة مليون يبعدني عنه، قالهالي بدل المرة مليون، عينه صرخت بيها في وشي كتير، وأنا كنت غبية ماشية ورا قلبي، لاغيت عقلي وفضلت مكملة وراه، وفي الآخر بدفع التمن أهو، تمن أني حبيته.
بكت وهي تتحدث، فمدت “چـودي” كفها الصغير تمسح العبرات عن وجهها وعينيها ثم قالت بصوتٍ حزينٍ حينما تذكرته:
_على فكرة هو مكانش بيحبك تزعلي ولا تعيطي، أكيد هيرجع علشان مش هيكون عاوزك تزعلي، وأنا كمان مكانش بيحبني أعيط، تعرفي إنه ركب الطيارة وسافر علشاني؟ علشان عرف إني بعيط في البلد اللي كنت فيها لوحدي؟ متعيطيش وخلي بالك من نفسك، علشان لما رجع ميزعلش منك.
وبالطبع هذه الصغيرة لن تدرك قسوة الحال،
لن تفهم تعقيدات الأمور أكثر من ذلك، لن تفهم معنى كلمة الطلاق بدون رجعة له، لن تفهم معنى أنه رحل عن قصدٍ تاركًا خلفه كل شيءٍ، تلك الصغيرة قلبها مملوء بالأمل، لذا لن تُبدده هي بالألم، فسكتت “فُـلة” عن الحديث بخيبة أملٍ، حتى وجدت “چـودي” تُعانقها بقوةٍ، فاستسلمت كلتاهما لعناق الأخرى وكأنه يحاوطهما بظله وحبه..
في [إيـطاليا بمنزل عائلة “رايدر”]..
كان “مُـنذر” في غرفةٍ ما بوسط هذا الجحيم، كان يفتش بين الأوراق ويبحث عن عدة أشياء مختلفة، منها تطورات الأسلحة بكافة أنواعها وخاصةً النووية منها، أسماء كبيرة لدول عربية وكبار العلماء بها، خرائط لأكبر المُدن الأثرية بالعالم، خرائط تحمل نجمة سُداسية الأبعاد وأسفل منها قرأ “من النيل للفرات” فأدرك المخطط الذي يتم السعي إليه، كان يلتقط كل ما تطوله يده حتى يؤمن نفسه، كانت البداية حينما أدرك بحتمية موت “ماكسيم” وضياعه الأكيد، ثم تحصله على كل ما يُدين ماضيه وتاريخه في القتل…
وجد أسماء وبيانات لقيادات عربية وإسلامية تقع في فخ تلك الشبكة الضخمة التي تسير وفق نهجٍ علماني وشيوعي، فإذا كان “ماكسيم” مجرد طرفٍ في تلك الحكاية له هوسه بالآثار والجمال الشرقي، فمن يخلفونه ويتبعونه هوسهم هو الدمار الشامل للعالم بأكمله حتى تتم السيادة، لذا زادت رغبة الانتقام لديه، فقام بنقل كافة البيانات والمعلومات لجهازٍ آخر حتى إذا كتبت له النجاة، يستطع فعل أي شيءٍ، انتهى وأنهى نقل كل شيءٍ لجهاز الذاكرة الصغير “فلاشة” ثم التفت كي يغادر تلك الغرفة الجحيمية، فوجد “بـاتريك” وأبناء عمومته خلفه..
حُصِر بين المطرقةِ والسندان أمامهما، فاقترب منه “بـاتريك” بضحكةٍ سمجة وثقةٍ في خير محلها، حيث رمقه بنظرات محتقرة ثم سأله بتهكمٍ:
_ليه غبي كدا؟ كنت فاكرني أهبل زي “ماكسيم” ولا إيه؟ من أول يوم جيت فيه ورجعت هنا كنت متأكد إنك مش ناوي تفضل كدا ومش هتعديها، طالما رجعت علشان تقتل “مُـنذر الموجي” يبقى خليني أقتل معاه “مُـنذر الحصري” كمان !! إيه رأيك؟.
توسعت عينا “مُـنذر” وأدرك أن النهاية قد حانت لا محالة ولا شكٍ في ذلك، لذا عاد للخلف ووقف يرمقهم بنظرةٍ جحيمية كأنه يتذكر كيف انقلبت حياته لجحيمٍ على أيديهم، فجل ما فعله حينها أنه سحب القداحة من فوق المكتب _قد تركها هو_ وعلى حين غرة أشعلها ورماها فوق المكتب فاشتعلت النيران بمجرد لمس النيران للمادة الكحولية التي غلف بها الغرفة بأركانها..!!
النيران نُشِبت في كل مكانٍ وتمت محاصرتهم جميعًا وقد تم إغلاق الباب من الخارج، بدأت النيران تأكل في المكان بكل شبرٍ فيه، المكان تحول لقلعة رمادية، بدأت الأجساد تتهالك والنيران تتمسك بها، وقد حاول “مُـنذر” أن ينجو بنفسه عن طريق الباب لكنه فشل، عاد للشُرفة فوجدها مُحكمة الإغلاق، حاول وهو يطرق الأبواب وكأن الجحيم ابتلعه في جوفه، تذكر مقولته الدائمة “إذا أردت الخروج من الجحيم عليك أن تمر بطرقاته” لكن اليوم يبدو أن طريق الجحيم يحرقه قبل أن ينجو منه، فبمجرد أن التفت للخلف سقط عليه حامل خشبي ملتهب بالنيران فاحترق جسده ومن قبلها روحه.!!
والآن عاد الفتى ينتقم ويأخذ كل ما سلب منه،
يأخذ منهم الراحة ويسرق النوم من أعينهم،
وبنيران الدفء يحرقهم ويبتر أذرعتهم،
حتى ولو احترق جسده هو ذات نفسه وكان المقابل روحه…


تعليقات