![]() |
رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والتسعون بقلم شمس محمد
أحيوا شعائر الإسلام
اللَّهُ أكبر ولِلَّه الحمد، اللَّهُ أكبر كبيرًا، والحَمدُ لِلَّه كثيرًا،
وسُبْحَانَ اللَّهِ بكرة وأصيلًا،
لا إلهَ إلا اللَّه وحده،
صدق وعده،
ونصر عبده،
وأعز جنده،
وهزم الأحزاب وحده، لا إلهَ إلا اللَّه،
ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
“ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ”
_”عيد فطر مبارك”
____________________________________
ياليت الذي بيني وبينك دائمٌ،
وما بيني وبين الناس سرابٌ..
فياليتك لي من العُمر باقيًا، وياليتك أنتَ بكل الأحباب دائمًا، فكيف أسرد لك عن هزائمي وقلبي في غيابك؟ كيف أسرد لك الهزيمة وأنتَ أم الهزيمة بذاتها؟ فكيف كنت تخبر العالم أنني من أخترت له حُبك وأن فراقي لا يهون، وفي النهاية قلبي عليك قد هان؟
أخبرني يا من اعتبرته لي العالم بكل الخِلان كيف أن أرى منك أنتَ كل هذا الخذلان؟ أخبرني ولا تكن بالسرِ كتومًا،
لعل قلبي في غيابك منذ رحيلك مكلومًا،
فأخبرني يا عزيز العين وحبيب الفؤاد؛ كيف ارتضيت لي كل هذا العذاب؟ أخبرني بماذا جنى عليك قلبي كي تمل قربه ووصاله، فتتركه وحده في الطريق تائهًا بحاله؟
قُل أكان حُبي لكَ من الأساس جُرمًا؟
أم أن خذلانك لي في نظرك أنتَ عدلًا؟..
<“ذاك الذي ظننته أقساهم عبأ لي الحنين في قلبي”>
في ليلةٍ أنقسم فيها الظهر من شدة الحمل، وزاد القلب همًا فوق همومه، كان القمر مخبوءًا خلف السُحب الشفافة، فلم يبدُ واضحًا له شكلٌ، كانت البداية لليلة التعافي، حيث بدأ القلب يترمم من ثقوبٍ أصابت مركزه فلم يعد قادرًا على شيءٍ سوى الانحناء ساجدًا للهِ كي تسقط عنه همومه، وقد بدأت “قـمر” تُعالج قلبها وتُخيط جراحه بالصلاة حينما جلست بركن الصلاة في غرفة نومها، وقد كان “أيـوب” يراقبها من على بعدٍ وتركها وحدها تفيض بما تشحنه في قلبها في خلوةٍ مع الذات…
أما هي فبمجرد أن لمس جبينها الأرض؛ بكت، بكت في لحظة ضعفٍ من الخشوع وهي تشعر أن الهموم في قلبها باتت أثقالًا فوق روحها، كانت تتضرع للخالق أن يرحمها ويعطف على قلبها، فيزيل من ذاكرتها أثر الليلة المشؤومة تلك، تعلم أن رحلة التعافي مما واجهت قد تكون مؤلمة؛ لكن الأمل وحده في الخالق رب العالمين، حتى هي لو بالغت بالوصف وشرحت للعالم قسوة ما عانته، لن تستطع إيصال الجُرم في حقها للقلوب، فمن يصدق أن فتاة مثلها عاشت حبيسة بداخل غرفةٍ لمدة يومين كاملين، ومن ثم تتعرض لضرباتٍ مبرحة، صفعات قاسية، صدمات قوية بالأرض سببت لها شروخًا في عظامها، انتهاكات وقعت على حُرمة جسدها، تعديات على طهارة شرفها، مهما صرخت وصرحت، لن يُجدي صراخها نفعًا أمام أمةٍ غافلة عن حقوقها..
أنهت الصلاة والدمع يسيل رغمًا عنها زما إن انتهت نامت فوق سجادة الصلاة، لحظة صمتٍ وسكونٍ غمرتها في أوج فوضوية مشاعرها ورأسها، تنهدت بقوةٍ بعدما انتحبت تُخرج نفسًا عميقًا متقطعًا، وقلبها يتضرع آملًا في الشفاء من رب العالمين، مر “أيـوب” من جوار الغرفة وما إن ولج لها رفع كفه يمسح فوق رأسها حتى حركت عينيها نحوه، وحينها أمسك كفها بين كفيه ثم مسح فوقه كأنه يخبرها أنه بجوارها، وما إن توسلته بعينيها، ابتسم لها وقال بصدقٍ:
_حاسس باللي فيكِ، عارف إنك نفسك تصرخي وتعيطي بس مش قادرة، وعارف إنك نفسك تقولي للناس كلها اللي حصلك، وبرضه محدش هيفهم قسوة حالك، بس أنا علشانك لقيت الحل، بعد الفجر إن شاء الله هنتحرك من هنا، البيت هناك بينضف علشان لما نروح هناك تكوني مرتاحة، يمكن ربنا يكون جاعله سبب علشان تقفي تاني على رجلك، لسه عند رأيك؟.
دارت بعينيها في الغرفة ثم رفعت رأسها كي تواجهه وحينها أسندها هو فوجدها تسأله بصوتٍ ضعيفٍ معلولٍ:
_طب وشغلك؟ هتسيبه هنا؟ الورشة دلوقتي مهمة.
ابتسم لها بحنوٍ وهو يقول بقلة حيلة حقيقية كأن حُبها غلبه على أمره أمامها:
_هتيجي أهم منك عندي يعني؟ المهم أنتِ.
نزلت العبرات منها أمامه كأنها ترثي الأيام الحلوة التي كانت بينهما تغمرهما، تذكرت كيف كان هذا البيت يشبه قطعة من الجنة قبل الحادث، لذا خطر ببالها سؤالٌ في غاية القسوة عليهما، ولم تفلح هي بكل أسفٍ أن تصرفه عن عقلها؛ فصرحت به قائلةً:
_هو أنتَ لو كان حصل اللي حصلي دا وكان كمل اللي هو عاوزه كانت برضه دي هتكون معاملتك معايا ودا موقفك؟ وأيًا كان جوابك لسؤالي صدقني مش هلومك عليه، بس هو سؤال مش سايبني وتاعبني من ساعة ما خرجت، كان هيفرق معاك في حاجة؟.
لم يجد ما يجاوب به على هذا الخبال أمامها، تسمر في موضعه أمام عينيها، بينما هي فازدردت لُعابها كي تُرطب حلقها الجاف، وفي تلك اللحظة شعر هو بحالها، وحتى كي لا يكون منافقًا وضالًا عن الحق الذي يدعو الناس له، قال بهدوءٍ:
_معرفش ليه أنتِ بتسألي سؤال زي دا، بس هجاوبك يا “قـمر” بالنسبة ليا الحاجة واحدة، سواء دلوقتي أو قبل كدا أنتِ عندي زي ما أنتِ، وسواء كان حصل حاجة أو محصلش، فأنا عارف إنه كان غصب عنك، أنتِ حاسة إن اتغيرت معاكِ بعد اللي حصل؟ دا أنا دلوقتي عاوزك أقرب ليا من الأول، عاوزك تعتبريني صاحبك وحبيبك وتقولي ليا كل حاجة، والله العظيم ما هتفرق معايا في أي حاجة، اللي فارقلي بس في كل دا أنتِ..
إجابته أثلجت روحها، شعرت كأن قلبها يتحول لرمادٍ بعد أن توقف لهيب النيران به، تمامًا السكون الذي يتبع صوت السكون بعد لهيب النيران المتصاعدة، لذا بدون أي مزايدات في الحديث ألقت رأسها فوق فخذه فوجدته يمسح فوق ظهرها بحنوٍ حتى أغمضت عينيها في سلامٍ، فظهر صوت جرس الشقة، حينها انتفضت بفزعٍ، بينما هو هدأها ثم قال:
_دا صوت الجرس متخافيش، هقوم أفتح، تقومي تنامي شوية؟.
حركت رأسها نفيًا وأصرت على الخروج معه، وما إن خرج هو أجلسها فوق الأريكة ثم فتح الباب على يقينٍ منه أن الزائر قد يكون “يـوسف” أو أحد أفراد عائلته، لكنه تعجب حينما وجد آخر من فكر في مجيئه، حيث وجد “نـادر” يقف أمامه بتوترٍ وكأنه أتى في غلافٍ من الإحراج، حينها رحب به “أيـوب” وهو يقول بصوتٍ عاد لطبيعته:
_أهلًا يا “نـادر” نورت، اتفضل.
حمحم الآخر ثم قال بثباتٍ حاول أن يتصف به:
_أنا جيت علشان عاوز أتطمن على “قـمر” لو دا مش هيضايقك يعني، أنا حاولت كتير يعني أكتفي بسؤالي عنها بس، بس أنا عاوز أشوفها وأتطمن، لو مش حابب خلاص ممكن أنتَ تطمني.
تعجب “أيـوب” من حديثه فبادر بالاعتراض القاطع قائلًا:
_البيت بيتك يا “نـادر” ميصحش كلامك دا، بعدين هي مهما كان أختك الصغيرة، اتفضل تعالى.
ولج “نـادر” خلفه بإحراجٍ وخوفٍ وترقبٍ من القادم، ولج على استحياءٍ كأنه يخشى اللقاء معها وقد لاحظته هي فعلُقَ بصرها به، تذكرت ليلة الحادث من جديد حينما كانت تصرخ وهي تزحف على بطنها كي تنجو بنفسها قبل أن يضربها “ماكسيم” بالأرض فيتأذى جسدها، تذكرت اللحظات الفاصلة التي جاء فيها إليها مهرولًا كي يُغيثها، تذكرت كيف حملها فوق ذراعه بعد أن سحبها من نيران الجحيم قبل أن تحترق فيها..
حاولت أن تقف أمامه بطريقةٍ لا إرادية ومن شرودها كادت أن تسقط فأسندها “أيـوب” أولًا بينما “نـادر” فثبت عينيه عليها حيث أشفق عليها كثيرًا، وجهها الذي علُقت به أثار الكدمات، شحوب وجهها المُحاكِ لوجوه الموتىٰ، هوان ملامحها وضعف وجهها بعدما كانت بدرًا في اكتماله، حرك عينيه عنها وهو يشعر كأن “مصطفى الراوي” يقف يبكي لأجلها..
أجلسها “أيـوب” ثم جلس بعد أن جلس “نـادر” أمامها ثم رطب شفاه وقال بتأثرٍ بالغٍ غلف نبرة صوته:
_أنا آسف لو جيت فجأة أو يمكن تكوني مش حابة وجودي، بس أنا عاوز أتطمن عليكِ، عارف إن صعب تكوني بخير بس أنا واثق إنك مع “أيـوب” وأكيد وجوده فارق بما فيه الكفاية معاكِ، بس ينفع تطمنيني عليكِ؟ على الأقل علشان الأخوة اللي بينا وتربية خالي “مصطفى” لينا.
هرع الدمع من عينيها بمجرد ذكر والدها ثم مسحت العبرات عن عينيها وقالت بصوتٍ بالكاد وصله كأنها تهمس لهم:
_أنا عاوزة أقولك إني لو فضلت أشكرك من هنا لآخر عمري مش هيكفيك حقك عليا، أنتَ متعرفش ظهورك عمل إيه فيا، رديت الروح فيا من تاني، كان ممكن بكل بساطة متشغيلش بالك بيا وتقول أنا مالي، بس وجودك لما ظهر أنا حسيت إن ربنا استجاب ليا في لحظتها، صدقني أنا اللي عاوزاك تسامحني على طريقتي معاك قبل كدا وتفكيري فيك.
تنهد بقوةٍ حينما تخبط حاله بعد حديثها أكثر وقد لمح الفخر في عيني “أيـوب” بها فابتسم وهو يقول بثباتٍ:
_اللي عملته دا حقك عليا، أنتِ بنت خالي وعرضك وشرفك هما عرضي وشرفي، صحيح اللي قبل كدا في حياتنا كان بايظ وملخبط وكلنا مش شايفين الصورة كاملة، بس أتمنى إن اللي فات كله يتنسي ويروح لحاله، وصدقيني أنا والله العظيم مش زعلان منك، ولا حتى فاكرلك أي حاجة تخليني أتضايق منك، بالعكس أنا مش فاكر غير “قـمر” اللي كنت بروح البيت علشان بس ألعب معاها..
كان يتحدث فاستوطنت الغصة بحلقه وتحشرج صوته وهو يقول:
_أنا كنت كل مرة بتضرب منه فيها ويقطع جسمي كنت باجي ألعب معاكِ وأقولك علشان كنت واثق إنك صغيرة ومش هتقولي لحد، كنت بخاف اشتكي لحد علشان مقلش في نظرهم، وكل مرة كنت بقعد أحكيلك فيها كنتِ بتضحكي ليا وبعدها تترمي عليا، كنتِ السبب اللي خلاني أكمل، بس كبرتي وبقيتي أحلى عروسة في الدنيا كلها.
ابتسمت له بحزنٍ ثم حركت رأسها نحو “أيـوب” الذي مد كفه يربت فوق كفها، وفي تلك اللحظة تنهد “نـادر” ثم وقف كي يرحل، فقال قبل المغادرة:
_أنا كدا أتطمنت عليكِ، أتمنى ماكنش ضايقتك بوجودي، بس عاوز أقولك حاجة مهمة، أنتِ محظوظة أوي بحب “أيـوب” ليكِ يا “قـمر” بيحبك بجد، وعنده استعداد علشانك يعمل أي حاجة، حافظي عليه وأنا متأكد إنه مستحيل يتخلى عنك، وعن نفسي أنا بقيت متطمن عليكِ معاه، عن إذنكم.
هم بالرحيل وقد تحرك معه “أيـوب” وما إن وصلا عند باب الشقة وتم فتحه وجدا “يـوسف” و “غـالية” معًا عند أعتاب الشقة فتواصلت النظرات ببعضها، وقد طالعته “غـالية” بعينين دامعتين حتى بدأ يشعر هو بالإحراج من تواجده فقال بصوتٍ مختنقٍ من فرط المشاعر:
_طب عن إذنكم بقى علشان متأخرش، عن إذنك يا “يـوسف”.
تحرك بالفعل من بينهم وقبل أن يخطو نحو الدرج نادته “غـالية” تستوقفه بصوتٍ باكٍ جعله يتسمر بمحله كأنه فقد مفهوم الحركة:
_”نـادر”..!!
التفت لها بعينين حمراوتين كأن الجمر حاوطهما، بينما هي فرقت ذراعيها له وقالت ببكاءٍ لم تستطع أن تحتوي نوبته:
_تعالى في حضن أمك، تعالي.
وقف يطالعهم بحيرةٍ وخاصةً هي، فظلت تحثه أن يقترب منها حتى اقترب بخطى وئيدة، خطوات مترددة كانت هي التي تقوده إليها، وكان المشهد أقرب للوحةٍ فنية بين الماضي والحاضر، حيث كان هو يقترب بخطواتٍ وئيدة وفي خاطره ذاك الطفل الذي كان يركض لعناقها هي أولًا عند الهزائم قبل النصر، وهو يقترب منها تذكر كل ماضيه، حيث ضحكاتها معه، لمساتها الحنونة على كدماته وضرباته، كان عبارة عن جسد رجلٍ يافع الطول، قوي البنية، والقلب مثل ريشةً تهفو مع الرياح نحو شلال الذكرى.
اقترب يقف أمامها مباشرةً بعينين هرع منهما الدمع فوجدها تخطفه في عناقها بقوةٍ وهي تبكي بصوتٍ عالٍ ما إن استقر هو بين ذراعيها، فاستسلم هو لها وترك حنانها يغمره، استمر الحال قرابة الدقيقة فابتعدت هي عنه ثم مسحت له عينيه وقالت بصوتٍ باكٍ:
_مش هنسى ليك جميلك طول عمري، كدا أقدر أقول ابني وابن “مصطفى الراوي” رجعلنا، ربنا يفرحني بيك ويعوضك خير زي ما كنت سبب ينجد بنتي، قلبي راضي عنك ليوم الدين.
بكى أمامها بوجعٍ وكأن حديثها أتى في موعدٍ متأخر عن ما كان يُريد، بينما هي فمسحت له فوق وجهه ثم التفتت لابنتها التي كانت تقف بجوار زوجها، ولأجل التعب الذي أكل منها جزءًا كبيرًا تأخر اللقاء بينهما، لذا ارتمت “قـمر” في عناقها تبكي وكذلك بكت الأم التي انفطر قلبها على صغيرتها، لذا أدخلهن “أيـوب” الشقة حتى تكونا على حُريتهما..
بينما “يـوسف” فوقف يراقب ملامح “نـادر” الذي بان عليها الوجع، لذا اقترب منه وعلى حين غرة ضمه، ضمه في عناقه كأنه يخبره أنه معه ولن يتركه، ورغم تعجب “نـادر” إلا أنه ضم “يـوسف” وبادله العناق وقال بصوتٍ باكٍ:
_متكرهونيش يا “يـوسف”..أنا ما صدقت عيلتي ترجع.
تمالك “يـوسف” نفسه وكتم تأثره ثم أبتعد عنه وقال بصوتٍ محشرجٍ بان فيه أثر كتم العبرات التي تهدد بالظهور:
_أنتَ عبيط ياض؟ نكرهك إيه بس، الحمدلله كل حاجة بتتصلح أهيه وكلنا دفعنا التمن، وكفاية اللي حصلك مكانش شوية، روح يلا أرتاح شوية ولا روح زور خطيبتك، البت جالها البؤس معاك.
ضحك “نـادر” رغمًا عنه ثم ضمه من جديد قبل أن يرحل كأنه يؤكد لنفسه أن العناق كان ولا زال حقيقيًا، وحينها رحل وترك ابن خاله الذي سحب نفسًا عميقًا يُهديء به من روع حاله، ثم ولج للداخل فوجد شقيقته في عناق أمها، بينما “أيـوب” فكان يجلس بصمتٍ يحترم تلك اللحظة بين أمٍ مكلومة على فلذة كبدها وبين ابنة صغيرة احترق قلبها..
____________________________________
<“النار تحرق القبيلة وفي الجوف ابتلعت المظلومين”>
في قديم الزمان بواحدةٍ من أساطير العرب..
سُردت قصة عن أرضٍ ساد فيها الظلم وعاث أهلها في الدنيا فسادًا، فكان الظلم هو أرق الأوصاف لهم، ومن وسط القرية كان هناك فتى صغير، حالم، طموح، قوي، جريء، كان مُحبًا للحياة، كان يتمتع بطفولته وسطهم، إلى أن أصبح قربانًا للغضب والظلم، لم يكن سببًا لهم في أذى، لكنهم أصبحوا سببًا في احتراق روحه، لذا يوم أن عاد، قام بحرق القبيلة فوق رؤوس أصحابها..
في “إيـطاليا”…
تحديدًا بمقر عائلة “رايدر” أصبح القصر رمادًا بعد أن أحترق بأكمله، الجميع ابتلعتهم النيران والجثث تشوهت وجوهها، أصبحوا كما الجثث المحصول عليها بعد القصف المبرح لأرضٍ مُحتلة، الجثث أصبحت ثابتة كما قطع الأخشاب المحترقة في غابةٍ واسعة، حضرت الشرطة ورجال الأمن، قوات الإطفاء، عربات الإسعاف، وعدد الضحايا والجثث لا يُعد ولا يُحصى، كانت البداية من غرفةٍ واحدة ووصل الأمر للقصر بأكمله بكل أركانه..
وقف رجال الشرطة يحاوطون القصر وهم يراقبون خروج الجثث المحترقة التي تشوهت بالكامل؛ فأصبح من المستحيل معرفة صاحب الملامح أو الوجه، الجميع ابتلعتهم النيران ولم ينجُ أي فردٍ منهم حتى “مُـنذر” نفسه احترق وسطهم، رغم أنه من خطط ودبر لكل شيءٍ، لكن تلك المرة كان الأمر أكبر من قدرته، فيبدو أن هناك من يعمل بالسرِ، والوحيد الذي يصلح له هذا الفعل هو ذاك الذي جلس بسيارته يبتسم بزهوٍ وانتصارٍ، وما إن لمح الجثث المحترقة تخرج خلف بعضها بعد تيقنه من موت الجميع، أغلق زجاج النافذة وهو يقول منتشيًا بانتصارٍ باللكنة الإيطالية:
_Bravo “Marcellino”
_برافو “مارسيلينو”
أغلق النافذة ثم قاد السيارة بعدما نجح في أن يثار لنفسه وطفولته وحياته منهم جميعًا، رغم أن هناك صديقٌ لا يستحق أن يكون بينهم لكن يبدو أن هذا نصيبه وقدره، فكما سبق وأحرقوا غيره، كان الدور عليه ذات مرةٍ كي يحترق بنيرانهم جميعًا، واليوم نجح الطفل الذي قُتِل أباه أمام ناظريه أن يحرقهم ويُطفيء نيران قلبه، حتى لو كان الثمن غاليًا على قلبه، لكن لابُد أن يُدفع الثمن..
____________________________________
<“كيف أخبر العالم أنك هزمتني بعد أن تباهيت بك؟”>
ياليت المرء ما تباهىٰ يومًا بحب أحدهم،
وياليته ما أشار على أحدهم وقال أنه سبب نصره في هذا العالم، فلو كنا نعلم أن نتيجة التباهي هذا الكم الهائل من الخذلان؛ لما كُنا تباهينا قط، ففي الوقت الذي ظن العالم أننا منتصرين بهم، كنا نفكر في طريقةٍ لنخبر العالم أن تلك المرة هم سبب الهزيمة بذاتها..
كانت تجلس وهي تشعر بوجعٍ في قلبها بعد أن عادت من مقابلة “چـودي” وقد تغير حالها من سوءٍ لأسوأ، الآن هي تجلس هكذا بصدمةٍ لم يستطع عقلها أن يستعب قدرها عليه، فكيف تخرج من تلك الدوامة بعد أصبحت في منتصف البحر؟ كيف تعود لنفسها وحياتها بعد أن فقدت في نفسها؟ برحيله عنها كأن الحياة رحلت، وبفقدانه كأن نفسها هي التي فُقِدت، جلست تتمنى لقاءً أخيرًا منه حتى لو للوداع، لكن يبدو أنه بخل عليها بهذا الفعل البسيط، لذا هي تتساءل ألم يغلبه الشوق لها حتى يستمع لصوتها ولو لمرةٍ بعد الفراق؟
لعنة الله على الاشتياق حينما يأكل القلب أكلًا..
ولج “جـواد” يراقبها بعينين مقهورتين على صغيرته التي أنطفأ وهجها وهي تجلس كمن فقد إبل خيراته في الصحراء، لذا اقترب يجلس أمامها بعدما سحب المقعد في الشرفة وجاورها، وما إن انتبهت هي له مسحت عينيها ووجهها سريعًا، فقال هو بحكمةٍ غطت حديثه:
_أنا مش هفضل أكلمك وألوم فيكِ، أنا هحترم زعلك وحزنك، بس مش عاوزك تخلي الزعل دا ياكل فيكِ، فاكرة أنتِ مريتي بإيه في حياتك؟ بلاش، فاكرة عمك وطفولتك اللي دمرها؟ كل دا أنتِ نسيتيه ودوستيه علشان تشوفي طريقك، وأنا علشانك عندي استعداد أعمل أي حاجة إلا أني أشوفك كدا ضايعة وساكتة ورامية نفسك للحزن ياكلك، مش هقدر أعديها دي.
تنهدت بقوةٍ ومسحت وجهها من جديد وأضافت بصوتٍ مبحوحٍ:
_عارف يا “جـواد” أنا ماكنتش ناوية أحب تاني، كنت ناوية أعيش لنفسي وبس وأديها حقها ويعوضها، ودا اللي عملته فعلًا بس معرفش ليه قدامه سكت وخسرت كل حاجة كدا، لقيت نفسي بغرق فيه وخايفة أطلع على الشط أكون لوحدي، عارف رغم إن طريقه كله خطر وصعب بس هو ميستاهلش القسوة دي كلها، ميستاهلش إن عمره يضيع كدا، دا ربنا بيقبل التوبة، البشر بقسوتهم مش قابلين؟ الغلابة اللي زيه مين بيجيب ليهم حقهم؟ تجارة بشر وأطفال وبنات من دور الأيتام وأعضاء، الناس مش سلعة، اللي زيه وزي غيره العالم مبيرحمش حد فيهم، علشان كدا مبيكونش قدامه أي اختيار غير إنه يرمي نفسه في الطوفان. مهما كان مصيره، سواء الموت أو السجن، أو الضياع في العالم بين الناس، يمكن مكانش نصيبي من الأول أكمل معاه، بس نصيبي أعيش بحبه طول عمري ومش هعرف أحب حد غيره.
نزلت عبراتها أمام شقيقها وهي تعبر عن ضعفها، فضمها لعناقه يواسيها بصمتٍ وهو على يقينٍ أنه لن يجرؤ على أي فعلٍ لها، وإنما هي وحدها التي سوف تنجو بنفسها من قسوة هذا الحال، حتى وإن طال تعافيها لكن من المؤكد أنها سوف تتعافى لا شك في ذلك.
في منطقة نزلة السمان ببيت “نَـعيم”..
كان الحال أقرب لمدينةٍ غاب عنها المطر فمات زرعها، هكذا كان الحال بعد غياب “مُـنذر” ورحيله عنهم فماتت قلوبهم بعد الغياب شوقًا إليه وخوفًا عليه، وأكثرهم صعوبة في الحال كان “مُـحي” الذي بدأ يستشعر الفراغ في غيابه، وكذلك “نَـعيم” و “إسماعيل” بالطبع الذي صرخ قلبه بقهرٍ على صديق الطفولة والعمر بأكمله، وقد ولج “تَـيام” غرفة شقيقه فوجده يجلس فوق فراشه بشرودٍ، فأدرك لما يجلس هكذا، لذا جلس في مقابله ثم مد كفه يُربت فوق كفه ثم سأله بصوتٍ مهمومٍ:
_هتفضل كدا كتير؟ طب وآخرتها يا “مُـحي” جرحك لسه مفتوح ومُلتهب ولازم تخلي بالك من نفسك، بس اللي بتعمله دا هيتعبك أكتر، بعدين من إمتى الحب دا يعني؟ أومال لو طارده قبل كدا من البيت؟ دلوقتي قاعد وهتعيط علشانه؟.
انتبه له “مُـحي” فتخلى عن شروده وقال بصوتٍ ثقيلٍ:
_زعلان علشانه، كان تاب وبقى بيصلي وبقى عارف الصح من الغلط، كان قوي بما فيه الكفاية علشان يعرف الصح من الغلط وميرجعش تاني ليهم، زعلان علشان خايف عليه، قللي بيقولي إنه راح يرمي نفسه في النار هناك، وعلشان كدا مش عاوزه يكون لوحده هناك وإحنا هنا منعرفش حاجة عنه، مش كفاية اللي شافه من صغره؟ لو مات أنا هعيش العمر كله مقهور عليه يا “تَـيام” كفاية قهرتي عليك، مش هقدر أتقبل فكرة إنه ظهر وكان وسطنا وفجأة ضاع كأنه مجاش أصلًا، اللي زي دا عاش عمره كله مكسور.
رأى “تَـيام” الحق مُتجليًا في كلماته فتنهد بقوةٍ ثم دعى ربه في سريرته أن يلطف بابن عمه إن كان له في العمر بقية، وما إن خرج من غرفة شقيقه وجد زوجته تنزل الدرج، فاقترب منها بلهفةٍ وهو يسألها عن سبب نزولها فوجدها تقول بصوتٍ تعوبٍ:
_الدكتور قالي لازم أتمشى الفترة دي وأتحرك كتير علشان أولد طبيعي، فبنزل أتمشى وأتحرك هنا وهناك علشان رينا يكرم ويسهلي ساعة الولادة، أدعيلي تكون ولادة طبيعية، مش عاوزة أولد قيصري ويفضل الجرح موجود وتاعبني، كله قالي الطبيعي أسهل وهنسى وجعها.
تحرك بمحاذاتها يمسك كفها وهو ينزل معها ثم قال بصوتٍ هاديء بعدما تخلله شعورٌ بالفرحةِ لمجرد فكرة أن ابنه سوف يحضر له بمرور أيام قليلة ستمضي:
_سيبيها على الله، اللي ربك رايده هيكون يا “آيـات”، محدش عارف الخير فين ويمكن الخير ليكِ يكون في الولادة القيصري، أنا لو عليا مش هبخل عليكِ بحاجة، أولدي يا ستي بدون ألم ميهمكيش.
ابتسمت هي له بحماسٍ واندفعت تخبره بقولها:
_أنا سألت الدكتورة قالتلي بـ ٤٥ ألف بدون ألم.
_طب والألم عاملة كام؟.
هكذا جاوبها بصدمةٍ حتى وجدها تلكزه في كتفه فضحك رغمًا عنه حينما لمح الضجر في عينيها منه، وقد استرضاها حينما ضحك لها وقال بحنوٍ بعدما أبعد جانب المزاح من حديثه:
_خدي كل حاجة يا ستي بس قوميلي بالسلامة أنتِ وهو، متعرفيش أنا عايش على أمل وجوده إزاي، حاسس إن الأمل بييجي مع الولاد الصغيرين، عندي أمل يكبر ويكون حُر زي الطير ومالهوش قيود، يعيش زي الطير يهوى الطير والطير يهواه، مفيش حاجة تكسر حريته وتخليه يقبل بسجن، نفسي أراقبه وهو بيكبر قدامي مفيش حاجة توقفه عن حلمه وطموحه في بلده، نفسي ييجي وييجي معاه بكرة يعدل المايلة.
ابتسمت هي له ثم رددت خلفه بأملٍ في حُلمٍ بدأ يكبر وينمو:
_قول يا رب، ربنا وحده قادر على كل شيء، وأنا بتمنى من ربنا يحبرني في ذُريتي زي ما جبرني فيك كدا، ربنا يسعدك ويكرمك باللي نفسك فيه كله يا “تَـيام”.
ابتسم وتحرك معها حتى خرجا من البيت وأجلسها عند حظيرة الخيول، جلسا وكان الأمل يحاوط قلوبهم وكأن اليأس هو آفة القلوب الحالمة،
لذا لا داعي للقلق على حُلمٍ يغلفه الأمل،
فلولا الأمل لما تجرأت القلوب على الحُلم،
ولولا الحُلم؛
ما كان ربح الأمل في تلك الحياة..
____________________________________
<“دعني أهرب منك ومن قسوة العالم إليك”>
لا شك أن أكثر لحظة تمر الإنسان يرغب فيها بنهاية العالم عندها؛ هي تلك اللحظة التي ينتهي فيها قلقه من شيءٍ ما كان يأكل قلبه ويكأنه لن يمر، لحظات تشبه لحظات انتظار نتيجة يترتب عليها المستقبل القادم بأكمله وأي خطأٍ سوف يودي بحياته لهاويةٍ لن يخرج منها، لذا ما إن تنتهي تلك اللحظة؛ وقتها فقط يستطع الإنسان أن يتنفس بحريةٍ كأن هناك جبلٌ أُزيح عن صدره..
في فجر اليوم التالي رحل “أيـوب” عن البيت بزوجته، قصد وجهته نحو بيت أمه في القرية البعيدة عن أطراف المدينة القاسية عليهما، كانت “قـمر” ترمي رأسها على النافذة وهي تشعر بالبغض تجاه شخصيتها الجديدة، كانت تمر بأسوأ فترات الحياة لذا أغمضت عينيها تمسك دموعها قبل أن تسيل فوق وجنتيها، بينما هو فكان يُراقبها بعينيه اللتين لم تبرحا موضع نظراتها، وقد فاجئها حينما قربها منه فجأةً ووضع رأسه فوق صدره…
كانت تعلم أن الوحيد الذي يدفع ثمن تلك المرحلة القاسية هو “أيـوب” وحده، وحده من يتحمل البكاء في الليل برفقة الكوابيس، وحده من يجلس يتابع الدواء وتناول الطعام ويراقب كل الإنفعالات الصادرة منها، وحده من يحتوي نوبة البكاء والصراخ، وحده من يضمها ويمسح عن عينيها العبرات، لذا تلك المرة بكت لأجله هو.
شعر بالدمع يُبلل ثيابه فأخفض عينيه نحوها ومازحها بقوله:
_بقى أنا واخدك في حضني علشان تعيشي لحظة حلوة وهادية ورومانسية تقومي خرباها كدة؟ أوعي تكون دي مياه من حتة تانية غير عيونك؟ هزعلك فيها دي خدي بالك.
ابتعدت عنه تسأله بتعجبٍ وكأنه استفزها بحديثه:
_وأفرض دا حصل هتعمل إيه يعني؟.
دار بعينيه في المكان ثم جاوبها وهو يحرك كتفيه ببساطةٍ:
_هرميكِ على الطريق هنا، دي مفيهاش مجاملات.
توسعت عيناها ولأجل أن تثأر منه نامت على صدره تمسح وجهها بالكامل في قميصه الأبيض أسفل سترته السوداء، فضحك رغمًا عنه ثم رفع وجهها يسألها بعبثٍ:
_أنتِ قد اللي بتعمليه دا يا قطة؟.
حركت رأسها نفيًا بعدما أسر عينيها بعينيه، فضحك رغمًا عنه حتى ضحكت هي الأخرى ثم عادت تلقي رأسها فوق صدره وهي تتمسك به، حينها أدرك جزءًا من مشاعرها، تلك المشاعر التي تمر بها ما هي إلا مشاعر الخوف من الفقد، هي تخشى فقده لذا تتمسك به في أوج لحظات صراعها النفسي، فقال بهدوءٍ:
_لو خايفة إني أسيبك أو أخليكِ لوحدك في الدنيا فدا مش هيحصل برغبتي أنا، دا شيء قادر على ربك الواحد الأحد، ويعلم ربنا ويشهد عليا إني مش رايد البعد عنك ولا الزُهد فيكِ، أنا بدعي ربنا يحميني من شر فتن الدنيا كلها إلا أنتِ، الفتنة اللي قلبي مش رايد منها توبة، أنا معاكِ يا عبيطة، ليا مين غيرك يعني علشان أرعاه وأخلي بالي منه؟ تعرفي؟ نفسي في يوم ييجي عليا أدخل بيتي ألاقيكِ شايلة ابني أو بنتي علشان يبقى الحلم اتحقق يا “قـمر”.
ابتسمت له وهي تشعر أن الكلمات وحدها قادرة على تخييط جرح قلبها، لذا سكتت وتركت نفسها لغمرة الوله مع الحُلم الجميل الذي حكى لها عنه، تخيلت نعيم الجنة يعود لبيتها بعد أن أصبح يقارب الجحيم في الليل والسجن في الصباح، نامت طوال المسافة المتبقية على صوت القرآن الكريم من محطة الإذاعة، حتى وصل هو للبيت، هذا المكان الذي تبدأ منه القصة الجديدة دومًا، لذا نزل وأوقظها فنزلت معه تسحب نفسًا عميقًا، وما إن ولجت البيت اشتمت رائحة الدفء وعبق الذكرى الذي غلف المكان وحاوطه، فشعرت كأن السكينة تغمرها وتسكن في قلبها، وقفت في المنتصف تتذكر المرة السابقة حينما أتى بها في أسبوع زواجهما، وكيف كانت الحياة وردية اللون وقتها.
ولج وأغلق الباب ثم وقف بجوارها وهو يقول بصوتٍ هاديءٍ:
_أدينا جينا هنا أهو، عاوز “قـمر” اللي جيت بيها مرجعش بيها تاني، عاوز “قـمر” القطة المخربشة اللي بحبها وبحب شقاوتها، معاكِ أسبوع كامل أهو، عاوز أخرج من هنا بحياة جديدة معاكِ.
_قول يا رب، أنا جاية هنا علشان أكون معاك.
هكذا جاوبت والإجابة منها كانت كافية ووافية لكل شيءٍ..
[فـي فـجـر الـيـوم التـالـي] مر اليوم الأول عليهما بسلامٍ حيث قضاه في البيت مع بعضهما بين تحضير الطعام وترتيب الثياب وتناول الطعام ثم صنع أقداح الشاي، وجلوسهما فوق سطح البيت سويًا حتى نامت بعدما وضعت رأسها فوق فخذه، بينما هو فسهر الليل يرعاها وهو يمسح فوق خصلاتها المعقودة بجديلةٍ من صنع يده، كان يراقب بزوغ الفجر فتمنى أن ينير الفجر حياتهما، رأى الأمل بأم عينيه فتمناه لقلبها هي قبل العالم بأكمله، مال برأسه يُلثم وجنتها فوجدها تبتسم له أثناء نومها..
ابتسم وقبل أن يشاكسها صدح صوت آذان الفجر فتنهد براحةٍ ثم أوقظها حتى يذهب للمسجد ويُقيم فرضه، وقتها سألته بخوفٍ وهي تبحث بعينيها في السطح الواسع المُربع:
_طب أنا هروح فين؟ مش هقدر أفضل لوحدي هنا.
أدرك صدق ما تقول حقًا، الجلوس وحدها هنا في هذا الليل أمر في غاية الصعوبة عليهما، لذا اقترح عليها بقوله الحماسي:
_تعالي المسجد، الستات هنا للأسف بيروحوا المسجد يصلوا الفجر، رغم إنه مش مُستحب بس هما دماغهم ناشفة، تيجي تصلي هناك معاهم وتشوفي البلد هنا في الفجر؟.
تحمست للفكرة بمجرد أن أقترحها عليه وبالفعل تحركت ترتدي عباءة فضفاضة بعد أن توضأت وغطت رأسها بحجابٍ كبيرٍ غطى رأسها بكتفيها ثم خرجت من الباب تتنفس الهواء النقي، وقد لمحتها قريبة “أيـوب” فاقتربت منها تقول بصوتٍ مرح:
_الله أكبر الله أكبر، اسم على مسمى، هتيجي تصلي معانا؟.
ابتسمت لها “قـمر” وهي توميء وتحرك رأسها موافقةً فاقتربت المرأة تمسكها من رسغها ثم سحبتها معها وهي تقول لزوجها:
_متخافش عليها معايا، هسلمهالك هنا عند البيت.
أومأ لها موافقًا ثم لوح لزوجته يودعها، وسار خلفها مع الرجال الكثيرين، وقد كانت تلك هي النقطة الأفضل لديه في حياة القرى، تعلقهم بأمور دينهم، حرصهم على حفظ آيات الذكر الحكيم، سرعتهم الفائقة قي ذهابهم للمساجد لقضاء فريضة صلاة الجماعة، وقد ولج المسجد يقف بجوار المُصليين، وهي في الأعلى في مصلى السيدات بجوار نساء القرية، وقد شعرت بالسكينة تغمر روحها وهي تستمع لصوت القرآن الكريم، ثم حضور النسوة الكبيرات في المسجد، والفتيات والآنسات، الجميع هنا في عاداتٍ على عكس المدينة التي تعيش بها.
وبمجرد أن أنتهت الصلاة سارت بجوار أقارب “أيـوب” وبجوار الجارات لهن، كانت تبتسم على لهجتهن وأحاديثهن وعلى عادتهن الطريفة في الذهاب للأسواق، وقد وصلت للبيت قبل “أيـوب” الذي سارع بالخطى لأجلها، فوجدها تنتظره بوجهٍ مبتسمٍ فاقترب أكثر حتى وجد قريبته تقول بصوتٍ ضاحك:
_مراتك معاك أهيه زي ما خدتها منك، عن إذنك بقى علشان ألحق السوق قبل ما الحاجة تتشفط، الستات كلها طلعت على هناك، يلا اقعدوا بالعافية، عاوزين حاجة أجيبها ليكوا من هناك؟ اؤمرني يا حبيبي، دا أنتَ الغالي.
ابتسم لها ورفع كفه يضعه فوق رأسه وهو يقول بحفاوةٍ:
_الأمر لله وحده يا خالة، تسلمي يا رب، البيت مليان خير الحمدلله بكرم ربنا، اتفضلي أنتِ ولو تحبي آجي أوصلك بالعربية عيني ليكِ.
ضحكت له وهي تشكره ثم تحركت من أمامهما، بينما “أيـوب” فاقترب يطمئن على من تخصه فوجدها تقول بأملٍ في القبول منه:
_كلامهم عن السوق خلاني عاوزة أروح أشوفه ينفع توديني هناك؟ عاوزة أشوفهم وأجيب أي حاجة من هناك، إيه رأيك؟.
أومأ لها بسعادةٍ كونها تتفاعل مع الأجواء حولها، لذا قادها للساحة الكبيرة التي يتربع فيها الباعة فوق الأرض وحولهم البضائع والخُضروات والفواكه، تعجبت من الوضع حينما وجدت القرية بأكملها تقريبًا في هذا السوق يبتاعون منه المنتجات الخاصة بحاجاتهم، وقد سار معها “أيـوب” يبتاع لها بعض المشتريات للبيت، وما أثار تعجبها حقًا هو سعر الخضروات الزهيد مقارنةً بأسعار المدينة، لذا تفاعلت مع الأجواء حولها بسعادةٍ.
[بعد مرور أربعة أيام]..
مرت الأيام عليهما سريعًا في هذا البيت، كانت تتعافى بصورةٍ تدريجية مع “أيـوب” والأجواء والبلدة والناس حولها، وبدأت تتقبل تقرب “أيـوب” بصورةٍ أكبر عن السابق، وقد خرجت مع أقاربه في مشوارٍ لأرضٍ زراعية خلف البيت، أنهى هو حينها فرضه في المسجد ثم مر عليها فوجدها مع الفتيات والنساء تضحك وهي تلتقط بجوارهن الصور وسط الحقل الزراعي، حينها وقف “أيـوب” يبتسم لها بعينيه فوجدها تبادله البسمة بأخرى كأنها تشكره على حياةٍ وهبها لها حينما أتى بها إلى هنا..
وقد وجد الصغيرات يركضن خلف بعضهن في الحقل الواسع فاقترب منها يقف بمحاذاتها فقالت له بأملٍ كأنها ترغب أن تفعل مثلهن لولا تواجده:
_نفسي أجري زيهم وأضحك كدا وأفرد جناحاتي زي الطير.
_وإيه اللي مانعك؟ أفردي جناحاتك يا “قـمر”.
هكذا جاوبها وهو يبتسم لها، وما إن حصلت على الجواب منه والموافقة والقبول ركضت وسط الحقل الزراعي تفرد ذراعيها وهي تستنشق آشعة الشمس الدافئة وتشتم رائحة الخُضرة مع الهواء النقي في أجواءٍ قد تكون علاجًا نفسيًا لآلام نفسها، لذا ولج خلفها بخطواتٍ واسعة فوجدها تدور حول نفسها كأنها أسيرة وتحررت لتوها من محبسها، لمست شمس الحرية وجهها وسقط شعاعها على عينيها الكحيلتين، فتنفست الصعداء وأخيرًا التفتت في دورتها حتى وجدته يتلقفها بين ذراعيه…
استقرت أمامه وهي تبتسم له بعينين لامعتين فوجدته يرفع كفه ثم مرره فوق وجهها حتى أغمضت عينيها كأنها تلتقط صورة لهذا الموقف الذي أتاها من حيث لا تحتسب، بينما هو فوقف يُملي عينيه بجمالها الذي بدأ يعود ووجهها الذي أخذ يتورد من جديد بعدما كان شاحبًا يُحاكِ شحوب وجه الموتى، لذا دون أن يشعر بنفسه وجد حاله يبتسم وهو يقول بصوتٍ عميقٍ:
_قلبٌ زهد الناس والهوى،
فماله من الفتن إلا عينيك وفيها سقط وهوىٰ،
فاسأل الله أن يغيث قلبي من كل الفتن،
إلا فتنة عينيكِ تلك التي بها عشق واهتوىٰ..
فتحت عينيها تُطالعه بلمعةٍ تشبه شغف المبدع حين يعود له، وفي تلك اللحظة لثم جبينها كأنه يطمئنها، وقد أخبرته بصوتٍ خافتٍ بعدما تأكدت أن صوتها لازال موجودًا بالفعل:
_”أيـوب”..أنا بحبك أوي.
عاد للخلف يبتسم لها فوجدها تلك المرة ترتمي عليه وتحتضنه، فضمها بقوةٍ كأنها بداخل أحد المشاهد السينمائية، الشمس بدفئها تُسقط الأشعة عليهما، الحقل الأخضر يحاوط وقوفهما، الطيور الحرة تحلق فوق رؤوسهما فتشكل لوحة فنية تُخلد في مكاتيب العشق والهوىٰ، لذا أبتعد عنها يمازحها بقوله:
_ما تيجي نروح البيت وأحكيلك حدوتة، بدل ما تخافي.
ضحكت له تلك المرة بملء صوتها ثم شبكت كفها بكفه وجعلته يركض معها في الحقل وهي تضحك بصوتٍ عالٍ حتى ضحك هو الآخر معها واستمر في الركض بجوارها، تاركين معهما روح الطفولة تغمر اللحظة وتحاوط القلوب فتُجلي عنها حزنها وكمدها.
____________________________________
<“الطيور الحُرة لن ترضخ لسجن قفصٍ ولو من ذهبٍ”>
ما نفع الذهب إن كان المصنوع منه قفصًا لسجن الطير؟
وما فائدة الصوت إن كان المستمع أصمًا؟
وما قيمة الحُرية لو كانت داخل سجنٍ؟
ما القلم إن كان يخشى كتابة الحق، فيبحر بحبرهِ في نهر الباطل؟
ما هي قيمة المُسميات إن كانت بلا معنى؟
وما فائدة الوطن إن كنا بداخل الحدود نفترق ولا يجمعنا؟..
انقضى أسبوعٌ كامل منذ رحيل “أيـوب” إلى بلدة أمه، والأوضاع كانت شبه مستقرة، عدا أمر غياب “مُـنذر” هو الذي لم يكن باستقرارٍ، حيث بدأ “نَـعيم” البحث عنه بمعاونة علاقاته مع رجال الحكومة ورجال الأعمال الذين سبق وتعامل معهم عن طريق الخيول، كان يبحث دون كللٍ أو مللٍ حتى يجده أو حتى يطمئن عليه، وقد لاحظ جهده المضني كل شباب البيت فولج له “سـراج” برفقة البقية وقال بحزنٍ لأجله:
_أنتَ كدا هتموت نفسك، أرتاح شوية وإحنا بندور مش ساكتين حتى “يـوسف” بيدور تجاه معارفه، أبوس إيدك مش هينفع يحصلك حاجة وتروح مننا، هتلاقيه، متخافش وهو بنفسه هيرجعلك تاني، بس اللي بتعمله دا غلط على صحتك.
كان الحديث يؤلمه لذا تجاهله حتى اقترب “إسماعيل” منه يقف بجواره وهو يمسح فوق كتفه ثم قال بحنوهِ المعتاد:
_يا أبويا الله يكرمك، أرتاح وإحنا مش هنسكت غير لما نطمنك عليه وعلى أخباره لحد عندك، بس لفك وقلة أكلك دا غلط عليك.
في وقتها احتج عليه “نَـعيم” بقوله الذي بدا مُنفعلًا:
_وآخرتها؟ هفضل قاعد كدا حاطط أيدي على راسي مستني خبر يجيلي يعني؟ محدش فيكم هيفهمني، دا طير مكسور ماشي في الدنيا، لو مات أنا مش هقدر أعيش وهفضل محمل نفسي ذنبه علشان قصرت معاه، هبقى مفارقتش حاجة عن “شـوقي” واللي عمله في حقه، دونًا عن كل الناس ربنا يديه أب يخلف ويرمي ورا ضهره، ويتكتب عليه الموت بدل المرة مليون مرة، والمفروض أكون عادي؟ طب وحقه مين هيجيبه؟.
حينها تدخل “إيـهاب” يقطع حديثه بقوله الصارم:
_متقارنش نفسك بأخوك واللي عمله، دا راجل زبالة خلف ورمى ورا ضهره مسألش في حد غير في نفسه وكيفه ومزاجه وبس، ولما أتورط في عيل رماه، لكن أنتَ فتحت بيتك وحضنك وقلبك ليه، رغم كل حاجة عرفتها عنه وبرضه قدرته وحطيته فوق راسك، يبقى متظلمش نفسك علشان تأنيب الضمير واجعك، ولو هو حي مسيره يتلاقى.
أثناء الحديث قطعه صوت هاتف “سـراج” برقم حماه فجاوب على الفور ليصله الحديث الصادم الذي سبب له جحوظًا في العينين، والجميع يراقبون ملامحه، وفي تلك اللحظة أنزل الهاتف ونكس رأسه للأسفل، وقد سأله “إسماعيل” بنفاذ صبرٍ:
_حصل إيه؟ ومين كان بيكلمك؟.
تنهد بقوةٍ ثم ازدرد لعابه وهرب بلقاء عينيه من عيني “نَـعيم” وهو يجاوب بقوله القاتل للجميع:
_دا حمايا، بيقول إنه قدم الصورة والمواصفات تبع حد في السفارة ولسه واصله الرد…المواصفات دي للأسف راحت في حريقة قصر العيلة اللي هو كان بيشتغل معاهم، كل الجثث هناك اتفحمت والقصر بقى رماد، البقاء لله يا حج.
وقع الخبر عليه كوقع الصاعقة، تيبس جسده واحترق قلبه وتوقفت أنفاسه، أما “إسماعيل” فاندفع يمسك ذراعه وهو يصرخ في وجهه بقوله:
_أنتَ مجنون؟ مين دا اللي مات، أكيد كدب، شوف كدا حماك خليه يتأكد، اتأكد يا “سـراج” إنه مش هو، مماتش، والله مماتش، هو أصلًا قالي هنعمل فرحنا في يوم واحد، قوله يا “إيـهاب” طيب هو قالنا إيه.
كان رد فعله سببًا في بكاء البقية، لذا ران الصمت عدا صوت “إسماعيل” الذي احتج وصرخ وغضب حتى ضرب المقعد بقدمه وهشمه، وفي الخارج أتت صرخة عالية هزت أرجاء البيت، صرخة على أثرها خرجوا جميعًا فوجدوا “تـحية” تصرخ مناديةً عليهم بقولها:
_يا حج، الست “آيـات” شكلها بتولد، عمالة تصرخ.
ركضوا جميعًا خلف بعضهم وقد صرخ “نَـعيم” وأمرهم بتحضير السيارة، وقتها كانت تجلس فوق المقعد تتلوى من شدة الألم وقد نزلت المياه وبللت ثيابها، فصرخت “سـمارة” في زوجها:
_بسرعة شيلوها، المياه نزلت من حوالين الجنين، يلا.
لم يفهم مقصد حديثها لكنه حمل الأخرى وركض بها نحو السيارة وخلفه ركض “نَـعيم” و “سراج” أما “إسماعيل” فهو ظل حبيسًا عند خبر وفاة رفيق عمره، نزل الدمع من عينيه دون أن يعي، وارتمى فوق أقرب مقعد واجهه ثم مسح شد خصلاته كأنه يحاول إخراج الحديث من رأسه.
بعد مرور ساعتين..
كان الخبر انتشر أن “آيـات” تضع مولودها الأول لذا هرول “أيـهم” وأبيه وزوجها و “بـيشوي” أيضًا، الجميع وقفوا حتى قدم إليهم “يـوسف” ووقف بجوار أعمامه، كان “تَـيام” يشعر بأنفاسه تغلق عليه رئتيه، أما والده فكان في عالمٍ غير العالم، خبر وفاة ابن شقيقه لازال يفتت قلبه لأشلاءٍ لن تنفعه فيما بعد، لذا رفع رأسه يتضرع للخالق بصوتٍ مخنوقٍ..
بعد مرور ساعةٍ أخرى أتى “أيـوب” الذي أوقف سيارته أمام المشفى ونزل منها برفقة “قـمر” التي ولجت تقف مع “تـحية” في نفس المكان، وقد انتبه لها شقيقها فاقترب منها يسألها باهتمامٍ:
_أنتِ كويسة؟ طمنيني عليكِ دلوقتي عاملة إيه؟.
ابتسمت له وهي توميء برأسه فلثم هو جبينها ثم عاد للرجال يقف بجوارهم وخاصةً “أيـوب” الذي كان يسأل كل من يقابله عن شقيقته، حتى خرجت له الطبيبة تقول بوجهٍ منهك:
_للأسف جت بعدما المياه نشفت حوالين الجنين، وخدت ألم الولادة الطبيعي، بس كان لازم نولدها قيصري علشان نقدر نخرج الجنين، هي الحمدلله بخير، والجنين بخير بس هيدخل الحضانة كإجراء احترازي مش أكتر، يتربى في عزكم، ألف مبروك جابت ولد.
تباينت ردود الأفعال بين همسات حمدٍ وتمتمات امتنانٍ للخالق، ثم عناقات متبادلة ومباركات ببن الطرفين، الجميع عاد الأمل يتدفق لقلوبهم كأن الحياة تنفض غبار الخصومة العالق بينهم، ضحك “عبدالقادر” وضم أبنائه بسعادةٍ، ثم لثم جبين “قـمر” التي كانت تبتسم بجواره بسعادةٍ تأثرًا بتلك الأجواء، وقد وقف “يـوسف” بجوار شقيقته وهمس لها بحبٍ:
_عقبالك يا رب لما أفرح وأنا شايل ولادك.
ابتسمت له وهي تقول بحبٍ وتأثرٍ:
_يا رب يا “يـوسف” أدعيلي ربنا يعوضني بالفرحة دي.
تعجب من طريقتها وابتسامتها وحديثها فمال عليها يسأل بشقاوةٍ:
_هو “أيـوب” عمل إيه بالظبط يخليكِ ترجعيلي كدا؟.
ضحكت بخجلٍ أمامه ثم عادت لطبيعتها وهي تجاوب بقولها:
_ساعدني أعيش تاني، عمل كل حاجة تخليني أرجع تاني أحب الحياة من تاني، عارف والله مش كلام وخلاص بس هو عمل فوق طاقته علشاني، فلازم أتخطى أنا كمان علشانه، “أيـوب” مش هينفع أنا أكون أنانية معاه، لازم على الأقل أحاول علشانه، فادعيلي بقى ربنا يفرحنا إحنا الاتنين.
ضمها لعناقه ثم لثم جبينها بحبٍ حتى اغرورقت عيناها بالدمعِ، وقد أقترب منهما “أيـوب” يطمئن عليها فوجدها تبتسم له بحبٍ، نظرة يجزم أنه لم يلمحها بعينيها منذ أن كانا عند البدايات في علاقتهما، لذا تركهما “يـوسف” سويًا وتحرك يجاوب على مكالمة زوجته، فيما سألها هو بعجبٍ في أمرها:
_أنتِ معجبة بيا ولا إبه؟ بتبصيلي كدا ليه؟.
همست له بصوتٍ خفيضٍ لم يصل لغيره بعد أن أعاد لها الحياة في عينيها خلال هذا الأسبوع الفائت عليهما ببيت أمه:
_شكلي كدا، تقريبًا بحبك من أول وجديد، أنتَ مرتبط؟.
كانت تمازحه بالحديث، فضحك لها ثم وقال بأسفٍ:
_للأسف، مرتبط بواحدة مخلياني مش شايف غيرها، مطروف العين بيها ومخلية قلبي متعلق لا طايل السما زي الطير ولا نازل الأرض زي البشر، متعرفيش حل معاها؟.
توسعت ضحكتها أكثر وزاد خجلها حينما تذكرت كيف قضت الأيام الأخيرة معه وهو يفعل ما بوسعه كي يُرضيها ويُرضي قلبها المكلوم، فقالت بمرحٍ:
_عرفاها دي متقلقش، هي عمومًا بتقولك إنها مبتحبش حد غيرك في الدنيا وعندها استعداد ترمي نفسها في النار علشانك، مش بس تسمع حواديتك الكتيرة، وتقريبًا كدا هي بتموت فيك كمان.
تحرك قلبه بين جنبات صدره بفرحٍ كأنه طفلٌ تحرر عشية العيد من بيته وخرج من أسر أبيه، لذا إن أتاه الموت لتوهِ لن يخشاه، فيكفيه أن يموت ميتة هنيئة مثل هذه أمام عينيها ثم يقضي فرضه ويختتم لقاء ربه ثم يرحل، لذا شبك كفه بكفها واقترب منها يقف بجوار أبيه الذي كان مشغولًا مع الرجال.
في تلك اللحظة خرج الصغير ملفوفًا بغطاء الأطفال وأول من حمله كان “نَـعيم” الذي انتفض قلبه بذعرٍ، فالماضي كان يسكنه لم يبرح قلبه، لذا ما إن لمح وجه حفيده تذكر مشهد حمله لابنه الأول، تذكر كيف كانت نفسها سعادته، تذكر كم كان الوقت المار عليه في رحيل ابنه، وكيف سارت الأيام سُراعًا حتى يقف ويحمل حفيده من ابنه، هرولت العبرات خلف بعضها من عينيهِ كأن الحصار أنفك عنها ثم همس مُكبرًا في أذن الصغير وذاكرًا لله بصوتٍ باكٍ مُحشرجٍ، بينما “تَـيام” فوقف بجوار أبيه وقال بصوتٍ هاديء يواري خلفه تأثره:
_يتربى في عزك يا أبو “محمد”.
رفع “نَـعيم” عينيه نحو ابنه بعبراتٍ حبيسة، فابتسم “تَـيام” له وقال بحبٍ بالغٍ له:
_لو وجوده هيقدر يعوضك اللي فاتك معايا، فاعتبره دا “محمد” اللي رجعلك من تاني يردلك اللي غاب عنك، شيل ابنك وأفرح بيه يا بابا.
نزلت العبرات منه كما الكأس المقلوب دون أن يستطع أن يتحكم بها، لذا احتضن ابنه وحفيده ثم مسح فوق ظهره وهو يحمد ربه على عوضه الجميل، هذا الذي عاش عشرات السنين يحمل نيران البراكين في قلبه الآن يضمه اللوحة بكامل الأجزاء الخاصة بها، عادت له ألوان الحياة في عينيه بعد أن كان فقدها بالكامل، لذا ردد عبارات الامتنان، ثم همس لابنه بقوله:
_سميه “تـميم” علشان يبقى “تـميم تَـيام نَـعيم” اسم “محمد” هيفضل طول العمر مخوفني ومخلي اللي فات كله قدام عيني، وأنا ما بصدق أنساه وأرتاح شوية، وموضوع “محمد” كفاية أنا لما بحتاجك بقولك يا “محمد”.
ابتسم “تَـيام” ثم حمل ابنه من أبيه وراقب ملامحه الصغيرة، راقب هذا الملاك الذي تمناه أن بكون نسخة أخرى من أمه وخاله، تمناه أن يكون ذرية صالحة تجعله متباهيًا أمام الناس بما أنجب وربىٰ، وقد أفسد عليه متعته “أيـهم” الذي أقترب يحمل منه الصغير وقال برفضٍ قاطع:
_كفاية عليك أمه، هيبقى أمه والواد كمان؟ يلا يا حبيبي.
فرغ فاه “تَـيام” وهو يرى ابنه في عناق “أيـهم” الذي ضحك وجاوره “أيـوب” يراقب ملامح ابن شقيقته وكذلك فعل “عبدالقادر” فضرب الحائط بجواره ساخطًا وهو يقول بضجرٍ:
_ورب الكعبة أنتوا عالم ظالمة.
نظر له الثلاثة بقوةٍ نظرة أوقفته محله، فتراجع متقهقرًا بقوله:
_يعني تاخدوا الواد وتسيبوا أبوه لوحده؟.
انتشرت الضحكات على رد فعله خاصةً حينما ضمه “أيـهم” بقوةٍ يبارك له وهكذا فعل “بـيشوي” الذي ضم رفيق عمره بفرحةٍ، ولوهلةٍ زار الفرح المكان حتى أخذ الصغير للحضانة ورحل معه “أيـوب” و “نَـعيم” بينما “تَـيام” فولج لزوجته يُطفيء نيران لوعته عليها، وما إن لمحها تتسطح الفراش، اقترب منها يُلثم جبينها ثم كفها وجلس بجوارها حامدًا ربه…
____________________________________
<“مَن منا يعلم قسوة المشهد غير الذي عاشه”>
بعض المشاهد تُصبح مألوفة كأنك تحفظها..
لكن وحده من يعلم قسوة المشهد هو ذاك الذي عاشه وداهمه الشعور وقتها، فمن خاف وارتجف وسقط قلبه من موضعه هو نفسه من كان يشاهد من خلال مسافةٍ؟ هل من حمل الرأس وهي تنزف وقتها يتساوى بمن ضرب كفيه ببعضهما وولى المعركةِ الدبر ورحل؟ هل من ركض وسط الأهوال والمصاعب يتساوى بمن يصله الحديث فيشفق على من اختبر قسوة تلك المشاعر؟..
مرت الليلة بسلامٍ حتى منتصفها،
فبقى “تَـيام” ووالده و “أيـهم” في المشفى بجوار “آيـات” وصغيرها، مجرد فقط إجراءات احترازية وخلال يومٍ سوف تخرج من المشفى هي وابنها معها، بينما “أيـوب” فترك زوجته عند أمها وذهب للوكالةِ يُكمل عمل شقيقه و “تَـيام” بمعاونة “بـيشوي” الذي لم يتركه وحده حتى قال “أيـوب” يطلب منه:
_ما تروح يا “بـيشوي” علشان مراتك الحامل دي وخليك معاها وسيبك من الشغل خالص، أنا مظبط الدنيا والعربيات كلها ساعتين وتيجي، هروح المسجد شوية وأرجع تاني، أتحرك يلا.
رفض الآخر وقال بصرامةٍ:
_ياعمي مراتي عند حماتي، بعدين خليني معاك مش هسيبك لوحدك هنا، المهم الجاموستين اللي جوة دول مصيرهم إيه؟ عمالين يصرخوا زي البهايم ودماغنا ورمت، ترميهم في أنهي داهية دول؟.
حرك رأسه بحيرةٍ وقلب شفتيه ثم أغلق دفتر عمله، رغم فرحته وتشفيه بهما هكذا لكنه إنسانيته كانت تُلح بصوتٍ، وثاره يُلح بالآخر، وفي النهاية ربح صوت الثأر على الإنسانية، فتشفى بصوت الصراخ هكذا، فالملائكة ليس لهم مكانًا بين البشرِ، وإنما القانون يسود وينتشر، وأثناء جلوسه قدم إليه “نـادر” الذي جلس بعد المصافحات والترحيب وقال:
_خالي كلمني وقالي إنك هنا قولت آجي علشان أكون معاك، و “بـيشوي” يروح يرتاح شوية لحد ما العربيات تيجي تنقل الرخام، روح أنتَ كمان ريح شوية أنتَ جاي من سفر.
رفض “أيـوب” التحرك، بينما “بـيشوي” بعد الإلحاح أيضًا رفض هو الآخر التحرك، فجلسوا الثلاثة مع بعضهم يتابعون شئون العمل، بينما في شقة “غـالية” كانت “قـمر” في شرفة الشقة تفكر في “أيـوب” فابتسمت حينما تذكرت الأيام الأولى في عقد قرانهما، لذا ولجت لأمها تسألها بلهفةٍ:
_ماما فيه أكل هنا؟ عاوزة أنزل لـ”أيـوب” ياكل علشان هو في الوكالة وماكلش من الصبح كويس.
تعجبت أمها من سؤالها وردت باستنكارٍ:
_هتنزلي دلوقتي؟ الساعة يابنتي داخلة على ١٢.
انتبهت “قـمر” للساعة فتنهدت بقوةٍ ثم جلست بإحباطٍ وسرعان ما خطر ببالها وجود “يـوسف” مع “عـهد” بالأعلى فقالت بلهفةٍ:
_ممكن أروح مع “يـوسف” أو “عُـدي” لو صاحيين.
لم ترد أمها أن تُحزنها، لم ترغب في إبقائها حزينة كما كانت، فهي لتوها بدأت تستقبل الحياة؛ لذلك رضخت لها وتحركت تحضر الطعام، أما “قـمر” فتجهزت ترتدي ثيابها وهي تشتعل حماسًا لأجل رؤيته، بينما في الأعلى فوق السطح الذي شهد على الحكاية منذ بدايتها، كان “يـوسف” يجلس فوق السطح فوق الأريكة بينما “عـهد” وضعت رأسها على فخذه، وهو يرتشف كوب الشاي صنيعة يديها، ومن بين الأحاديث الكثيرة، قال بصوتٍ هاديء:
_كل ما أشوف عيل صغير أتحمس أكتر للباشا الصغير اللي جاي، صحيح كنت بخاف منهم، بس أنا مستنيه يصلح اللي كان بايظ جوايا، مستنيه علشان أبدأ من جديد.
ضحكت هي ورفعت عينيها له تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_وأفرض طلعت بنت وست هانم بقى.
أخفض رأسه لها وقال بصوتٍ ضحوكٍ:
_مش فارقة حتى لو هتجيبي فار صغير، بس ييجي.
ابتسمت هي بحالميةٍ فوجدته يميل عليها يُلثم مُلتقى عينيها، فوجدها تخبره بصوتٍ خفيضٍ تشاركه تفكيرها في القادم عليهما:
_عارف أكتر حاجة مخوفاني في شهور الحمل إيه؟.
سأل بملامحه، فوجدها ترتفع وتواجهه بقولها الذي تبدل كُليًا:
_هي تنمرك وطولة لسانك عليا وعلى شكلي يا قليل الأدب.
رفع حاجبيه حينما وجدها تتبدل هكذا وخاصةً وهي تلكزه في كتفه فمال عليه الشاي من القدح وحينها قال بصوتٍ ضاحك:
_يا بنت المجنونة، الشاي هيقع عليا.
ضحكت هي له وعادت لموضوعها فوجدته يحرك كفه نحو بطنها ثم قال بصوتٍ هاديءٍ وحنونٍ:
_أنا اتنمر عليكِ؟ يعني أنتِ تكوني زي الكرمبة كدا منفوخة وحلوة ومدورة وشايلة حتة عسولة مني جواكِ وأنا أتمنر عليكِ؟ يا شيخة يتقطع لساني قبل ما أعملها.
رفعت كفها تضربه في كتفه بعدما لاحظت تنمره عليها بينما هو ضحك ثم أمسك كفها وربت فوق خصلاتها، لحظة صفاءٍ مرت عليهما تغمرهما بشوقٍ يشهد عليه القمر، خاصةً حينما أصبحت في شهرها الثالث من الحمل، وبدأت تشعر أن هناك حياة أخرى تُشكل حياتهما، دام الصمت بينهما إلا من أحاديث الأعين الذي تتحدث به القلوب، ولم يقطع الصمت إلا قدوم “قـمر” حينما طرقت الباب فتحرك “يـوسف” يفتحه لها فوجدها تقول بأسفٍ وهي تعتذر منه:
_آسفة لو جيتلك فجأة بس أنا عاوزة أودي أكل لـ “أيـوب” علشان ماكلش من الصبح وكان مشغول، ينفع تيجي معايا؟.
قطب جبينه أمامها لكنه لمح التوسل في عينيها منطوقًا كأنها ترجوه ألا يُخيب أمالها، فتحركت “عـهد” تقول له بصوتٍ ملهوفٍ لأجل شقيقته:
_أنتَ هتقف كدا؟ روح معاها يلا، وأنا هنزل أنام.
راقب عيني زوجته وهي تضحك بانتصارٍ حينما خرب مخططه لقضاء ليلته معها بعد تحقيق انتصاره اللحظي، ومن ثم تحرك مع شقيقته التي كانت تتلهف لرؤية حبيبها، كانت تتعجب من مشاعرها لكنها بالتقريب رجحت أن تجديد المشاعر بينهما هو السبب في ذلك، أما “يـوسف” فكان يسير بجوارها بسعادةٍ لأجلها، كانت كما الآنسة المراهقة تستعد لمقابلة حبيبها سرًا..
في الوكالة رحل “بـيشوي” من المكان بينما بقى “نـادر” و “أيـوب” سويًا مع بعضهما، دارت بينهما الأحاديث مع بعضهما وقد استمع “نـادر” لصراخ أبيه في الداخل، حاول أن يتجاهله قدر المُستطاع، لكن صوت ضميره أنى عليه فجعله يجلس بعدم أريحية، وما إن انتبه له “أيـوب” قال بهدوءٍ:
_قوم شوفه يا “نـادر” مش هتقدر تقعد كدا.
ما إن حصل على الإذن ولج للداخل فوجد أبيه يصرخ بملء صوته، وما إن لمح ابنه قال بصوتٍ مليءٍ بالضعف والوهن:
_فكني يا “نـادر” كدا غلط يابني، ميصحش أفضل كدا، هموت وأدخل الحمام وعاوز أشرب، خمس دقايق بس ورجعني تاني أبوس إيدك يا “نـادر” أنا أبوك حتى.
اقترب منه “نـادر” يقف على مقربةٍ منه ثم قام بحل وثاقه، وقبل أن يقوده للمرحاض هبط “سـامي” بجسده يلتقط قالب حجارة تشبه غلاظة قلبه وعلى حين غُرةٍ هبط بقالب الحجارة فوق رأس ابنه الذي صرخ متألمًا وارتكن على الحائط قبل أن يسقط أرضًا، انبته لذلك “أيـوب” الذي بالخارج فولج مهرولًا وحينها لاحظ “سـامي” وهو يقوم لحل وثاق “ماكسيم” الذي كان يبتسم بإعجابٍ..
ولج “أيـوب” واقترب من جسد “نـادر” الساقط أرضًا وحاول أن يوقظه وما إن انتبه لهروب “سـامي” اقترب يقف على الباب يصد عنه حركته، بينما “سـامي” هدر في وجهه:
_وسع يا “أيـوب” وسيبني أخرج من هنا، متخسرش عمرك ونفسك، كدا كدا هنخرج أنا وهو من هنا، ولا تحب تحصل صاحبك؟ دا ابني مصعبش عليا وهان، أنتَ مش هتهون؟.
وقف “أيـوب” أمامه ودفعه للخلف ثم التفت يمسك عنق “ماكسيم” ورد بغضبٍ أعمى هادرًا:
_مفيش حد فيكم هيخرج من هنا غير على جثتي، أرجع أنتَ وهو، أرجـع بقولك.
دفع جسد “سـامي” وقبض فوق عنق “مـاكسيم” وفي تلك اللحظة ولج “يـوسف” يبحث عنه بعدما أجلس شقيقته عند المكتب، وما إن وجد هذا المشهد، صرخ باسم رفيقه ثم ولج يقبض على “سـامي” كي يُكبله وفي تلك اللحظة نُشبَ صراعٌ بينهم، حتى أن “أيـوب” ضرب “ماكسيم” بكل قوته، فيما قام “سـامي” بدفع جسد “يـوسف” بعيدًا عنه وهجم عليه بقطعةٍ معدنية “سيخ” رفيعة القوام حتى يضربه بها، وقتها ضربه “يـوسف” بقدمه في بطنه ثم انتفض من رقدته يهجم على “سـامي” الذي ارتمى للخلف وظل يزحف على مرفقيه..
وقتها أدمى “أيـوب” وجه “ماكسيم” حتى ألقاه أرضًا ثم التفت يطمئن على “نـادر” إن كان على قيد الحياة أم فارقها، وقتها ولجت “قـمر” لتستبين سبب تأخرهما فلمحت “سـامي” يحاول مهاجمة شقيقها ؛ فصرخت بملء شدقها، وحينها انتفض “أيـوب” من موضعه واقترب يدفع “يـوسف” عن طريق “سـامي” وقتها بكل أسفٍ كان “سـامي” قام بغرس القطعة المعدنية ببطن “أيـوب” بدلًا من “يـوسف” الذي دفعه للخلف بعيدًا عن رفيقه؛ لكن بعد أن سبق السيف العزل..
ففي طرفة عينٍ سقط جسد “أيـوب” على جسد “يـوسف” الذي حمله وسط صرخات “قـمر” العالية باسم زوجها، وفي الجهة الأخرى كان “سـامي” لقى حتفه حينما سقط وولج سيخٌ معدني في رأسه فانفجرت الدماء منه، أما “أيـوب” فكان يلفظ الأنفاس الأخيرة ولم ينتبه إلا على صرخات “يـوسف” باسمه وهو يقول بتوسلٍ له:
_”أيـوب”..علشان خاطري فتح عينك متسبنيش، بصلي.
رمش “أيـوب” بثقلٍ ثم قال بصوتٍ متقطعٍ:
_مش..مش قولتلك..هييجي اليوم..اللي أفديك فيه بروحي؟ خلي..خلي بالك من نفسك ومن “قـمر”..يا “يـوسف”.
صرخت تلك المرة هي وهي تدفع شقيقها وتحمل رأسه تتوسله بكل قهرٍ كأنها بداخل كابوسٍ مروعٍ، ألم يكفيها ما عاشته خلال هذا الشهر، حتى تشهد مقتل حبيبها هكذا؟ ظلت تصرخ حينما غطت الدماء كفها فضمت رأسه لصدرها تتوسله برجاءٍ أخيرٍ:
_علشان خاطري متسبنيش، خليك معايا، “أيـوب” أنا جيبتلك الأكل أهو، قوم يا “أيـوب” علشان تاكل، قوم علشان خاطري، أسأل “يـوسف” حتى مش أنا جيبتله الأكل؟ رد عليا طيب..
لاحظت إغماض جفونه وهو يقول بصوتٍ بالكاد يُسمع:
_أمي ماتت وأنا حاضنها..احضنيني يا “قـمر”..
هكذا أنهى حديثه قبل الشهادة ثم ألقى رأسه على صدرها فصرخت هي بوجعٍ وقهرٍ، أتت صرختها من جوفها لا تصدق موت “أيـوب” بين ذراعيها، بينما “يـوسف” فشهد الأصعب من من وفاة أبيه، شهد وفاة النسخة الأخرى منه وكأن الوجع بأكمله اجتمع لأجل تلك اللحظة، حينها خرج من حالة الإنكار التي تلبسته وما إن أدرك ذلك اندفع يوقظ “أيـوب” صارخًا باسمه، ظل يحاول معه حتى بدأ يهزي بقوله:
_مينفعش، مينفعش تسيبني وتمشي، قوم بصلي، قوم يا “أيـوب” أنتَ لسه فيك النفس أهو، قوم طيب أنا هضيع بعدك تاني، هضيع زي ما ضيعت بعده، متعملش زيه وتمشي، يـا “أيـــوب”.
صرخته شقت سكون الليل والصمت عند دخول “عبدالقادر” الوكالة فلمح المشهد الذي جعله يرتمي أرضًا ويزحف كي يصل لابنه حتى وصل له ولمح عدد الجثث بالمكان، ومن بينهم ابنه “ونـادر” الذي بدأ يحرك جذعه للأمام حتى يدرك ماذا حدث حوله بعد تلك السنة التي أخذته، وما إن انتبه لصوت الصرخات بدأ يفتح عينيه فلمح جثة أبيه والسيخ يخرج منها بتلك البشاعة، ولمح “قـمر” وهي تصرخ ومحاولة إفاقة “أيـوب”..
____________________________________
<“ربما هذا المكروه كان هو الأفضل بين الجميع”>
عزيزتي الحياة، تحيةً طيبةً وبعد؛
أما بعد فأنا أحدثك نيابةً عن كل المظلومين، أحدثك نيابةً عن الجميع بلسان حالهم، أحدثك نيابةً عن الدين المظلومين أهله، أحدثك بصوت الطفولة المقهورة بين شوارع المدينة،
أحدثك بدلًا عن العلم والعلماء الذي أصبحت قيمتهم باليةً كما خرقةٍ لا تنفع، أحدثك بصوت التاريخ والحضارة المسروقين، أخاطبك نيابةً عن الحُرية المقيدة، وعن العلم الغير مفيد، وعن العمل الشاق بغير نتائج، عن أحلامٍ تحولت لأبشع الكوابيس، عن أمالٍ، من بساطتها أصبحت استحالتها بقسوة الآلام..
أحدثك نيابةً عن أبناء الوطن، وليس كأي وطنٍ،
وطني وطنٌ حُـر، وأنا فيه الأسير الوحيد..
[بـعد مـرور ستة أشـهر]..
مرت الأيام بعد تلك الليلة سريعًا، الحياة لم تبقَ عند موضعها، مرت الليالي العصيبة بكل قسوتها دون أن يتأخر النهار، لكن لا أصعب من هذا اليوم عند مشاهدة فراق الأحباب، في مكانٍ يفصل بين الميت العزيز، والحي المُشتاق، ونظرات العين ترجو اللقاء الأخير..
_قال تعالى جل جلاله
” كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”
كُتِبت تلك الآية عند مدخل المقابر التي تقف بها تلك العائلة الحزينة، وقد وقف “عبدالقادر” يستند على عصاه يمسك عبراته ثم تحدث بصوتٍ محشرجٍ باكٍ:
_وحشتني أوي، فراقك صعب والدنيا مش هينة في غيابك، بس أنا واثق إنك مرتاح في مكان تاني أحسن، متقلقش، “قـمر” في عيني واللي في بطنها برضه في عيني، و “يـوسف” كمان في عيني، وأنتَ لسه في قلبي زي ما أنتَ مغيبتش عني..
بكى وازداد البكاء قسوةً عليه كأنه كان يكتمه طوال العمر المار عليه، بينما “قـمر” مسحت عبراتها ومسدت فوق بطنها التي تكررت بشكلٍ ملحوظٍ؛ برفقٍ، أما “يـوسف” فحرك عينيه نحو أمه التي وقفت تبكي ثم أغمض عينيه، وفي تلك اللحظة ولج ذاك الذي قام بتوزيع الوجبات والصدقات بالخارج ثم قال بيأسٍ:
_ما قولنا بلاش نيجي كلنا كدا، بصوا عاملين إزاي؟.
التفت له “عبدالقادر” يقول بصوتٍ غلبه الحزن:
_مستكتر عليا شوية وقت مع أخويا يا “أيـوب”؟.
انتبه له “أيـوب” وتنهد بقوةٍ ثم اقترب من زوجته التي تقف عند قبر والدها باكيةً وكذلك “يـوسف” ثم أشار عليهما وقال بتضامنٍ لأجلهما، كأنهما صغاره:
_يعني يرضيك تنكدلي عليها وهي حامل كدا؟ ماهو أنا اللي بدفع التمن في الآخر، بص الأستاذ عامل إزاي؟ هنقعد أسبوع كامل مكشرين كدا؟ وفين “نـادر” هو كمان؟ أنتوا تعبتولي أعصابي.
رمقه “يـوسف” بغيظٍ ثم التفت له يقول بوقاحةٍ:
_ما أنتَ بتروح عند قبر أمك حد كلمك؟ دا أنتَ غريب أوي.
في تلك اللحظة ولج “نـادر” لهم ثم تنهد بقوةٍ وقال بانكسارٍ:
_يلا علشان نلحق نمشي؟ الليل هيدخل علينا هنا..
تجهز الجميع للرحيل عدا “غـالية” التي وقفت أمام قبر حبيبها وهي لا تصدق أن اليوم ذكرى وفاته الثالثة وعشرين، كيف مرت الأيام بدونه وكيف وصل بهما الحال بدونه؟ كتمت دموعها ونظرت لـ “يـوسف” برجاءٍ ففهم أنها تود البقاء أكثر، فخرجوا دونها، وقد قام “أيـوب” باسناد زوجته للسيارة ثم كوب وجهها ولثم جبينها فوجدها تبتسم له ثم ارتمت عليه تحتضنه..
في مكانٍ آخرٍ..
تحديدًا بمقر المطار، جلست “فُـلة” التي أكملت رحلة التعافي أخيرًا، لقد كلفها الأمر كثيرًا في غياب الحبيب عنها لذا اليوم هي تولي الجميع ظهرها وأتت إلى هُنا، حتى شقيقها لا يعلم ماذا تفعل وما تنتوي عليه، لقد انتظرت عودته بما يكفي، لكن يبدو أنه لن يعود، لذا فتحت مذكرتها التي بها صورته معها وقرأت المكتوب أسفلها:
_رُبما يُكتب لنا اللقاء من جديد،
ربما في يومٍ من وسط الأيام،
رُبما في طريقٍ من بين الطُرقات،
رُبما نتقابل من وسط الزحام،
ربما سوف أعرفك أنتَ من بين الغُرباء، حتمًا سنلتقي..
قلبي يُحدثني أن اللقاءات لم تنعدم بيننا، وأن الطريق لن يكتمل بدوننا، وقتها قلبي سيحلق لك،
وعيني سوف تلتقط الصور لك،
وأنا من بين كل الغُرباء سأكون النصف الآخر لقلبك..
رُبما ليس اليوم وليس غدًا، لكن حتمًا سنلتقي مُجددًا.
أغلقت الدفتر بعينين دامعتين، ثم نظرت في ساعة كفها، وجدت وقت الطائرة تخطى الساعة وأكثر ولم يتم ذكرها، لذا أدخلت الدفتر حقيبتها، ثم توجهت نحو العامل بالمطار وسألته بلهفةٍ:
_لو سمحت الطيارة اللي أنا مستنياها المفروض الحركة إمتى؟.
أثناء حديثها سمعت صوت خطوات مهرولة تأتيها من خلفها وصوت أحدهم يسألها بلهفةٍ حماسية كأنه على مقابلةٍ مع الحياة:
_هو أنا أتأخرت عليكِ أوي كدا؟.
التفتت للخلف لتجده، هو نفسه السبب في تواجدها هنا كي تنتظره، هرولت العبرات من عينيها ووقفت أمامه بغير تصديقٍ ثم ارتمت عليه تعانقه فوجدته يضمها وهو يتنفس بحريةٍ فقالت بصوتٍ باكٍ تعاتبه على غيابه:
_وحشتني أوي يا “مُـنذر” كنت خايفة مترجعليش تاني.
أبتعد عنها يبتسم ببكاءٍ ثم ضمها من جديد ودار بها في المطار أمام الجميع كأنه عاد للحياة من بعد موته، الآن الروح سكنت بجوار الروح، القلب يضم القلب، العين تحتضن العين، الجسد يستقر من آلامه بجوار في عناق من يُحب،
الآن الطيور حلقت من محبسها،
وفي الخلف وقف “مارسيلينو” يحمل الحقائب ثم رفع صوته بضجرٍ ينادي رفيقه:
_أنتَ ياعم !! متفقناش إنك تيجي تحضن وتسيبني كدا.
التفت له “مُـنذر” يحذره بعينيه فيما ضحكت “فُـلة” ثم عانقت زوجها تلك المرة وهي تضحك له حتى صفق لهم هذا المخبول كأنه مخرجٌ بالسينما، وانتهى المشهد الأخير في تصوير الفيلم، لكن تلك المرة سيكون المشهد بالفيلم كاملًا واسمه
“عودة الحق في الحياة”
