رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والتسعون 198 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والتسعون 


ندعوك
أن تشرح صدورنا،
وتُيسّر أمورنا
وأن تفتح علينا -بفتحك المُبين- كُلَّ الأبوابِ المُغلقة.
ونسألك أن تجعل لنا نصيبًا في كلِّ خيرٍ تقسمه،
وفي كلِّ نورٍ تنشره،
وفي كلِّ رزقٍ تبسطه،
وفي كلِّ ضُرِّ تكشفه،
وفي كلِّ بلاءٍ ترفعه يا الله
‏واللّٰه حين يؤنس عبدًا يُغنيه،
والعبد حين يستأنس يستغنى
يا ربّ آنِس قلوبنا بك…
_”مُناجاة”
____________________________________
عزيزتي تلك التي هي أنا بصورةٍ أخرىٰ..
لقد بدأت القصة تضع النهايات الأخيرة لفصل الختام، لكني لم أرغب أن يكون ختام قصتي معكِ قاسيًا، لم أرد يومًا أن أرى في عينيكِ الحزن والقهر وأنتِ تستمعين لأشعار الحُب _غير المكتمل_ بين “وردة” و “بليغ” ولم أرد لكِ الحزن وأنتِ تقرأين عن قصة “فيروز” بعد رحيل زوجها وهي تفتش عنه بين الناس ؛ فلم تجده، لم أرغب في تأثرك وأنتِ تعيشين وترين صورتي فتبكين رثاء حُبك..
لم أرغب أن أكون الجاني في عينيكِ، بل رغبت أن أكون الضحية التي أظهرها العالم على هيئة الجاني، لم أرد يومًا أن تطرق الظنون الخائبة عقلك أنني لم أفعل لأجلكِ شيئًا، بل فعلت لأجلكِ كل شيءٍ، ولأجلك أفعل بدل المرة ألف مرة…
ففي النهاية قُتلت وانتهت القصة، لكن قتلي كان من نوعٍ آخر،
لذا أخبريني، أيعقل أن يُقتل القاتل بنظرة عينٍ وهذا ما لم يجرؤ عليه سلاحٌ؟…أم أن عينيك عليَّ أقوى من كل سلاحٍ؟.
<“راجعين يا هوى؛ لتكتب عنَّا المكاتيب، نحنا أحباب”>
يقولون أن وعد الحُر دينٌ عليه..
وقضاء الدين لا يعرفه إلا الرجال، ورجلٌ مثلي لن يمُت قبل أن يُقضى دينه، وديني لكِ كان بالحياةِ كلها، فأنا لن أقبل أن توهبيني أنتِ الحياة، وأسلبها أنا منكِ، لن أرضاها لكِ، أن تغدقني عيناكِ أنا وقلبي بالأمل، وأنا أجعله في قلبك ألمًا..
فديني الآن يُقضى أمام عينيكِ، وأنا أرى عودة الحياة فيهما..
لم يكن مجرد عناقٍ عابرٍ للتعبير عن الشوق، وإنما كان التشبث بكف الحياة، كأنه لتوهِ عاد من الجحيم وخرج من الموت ليرى بعينيه لون الحياة، كانت الحياة في صورتها هي، في عناق أهدابها لعينيه، في تمسك ذراعيه بكتفيه، في رائحة خصلاتها الوردية، في صوت أنفاسها المُضطربة،
فكانت الحياة ولازالت فيها هي، لذا عاد للخلف يراها بأم عينيه، يرى البسمة من العينين قبل الثغر، فوجدها تخاطبه بصوتٍ متهدجٍ:
_طولت في الغياب، خوفت اللي قولت عليه يحصل.
ابتسم بعينيه لها ما إن وجد شعاع شمس حُريته في عينيها ثم كوب وجهها بين راحتيه وقال بصوتٍ مفعمٍ بالحياة والأمل:
_قولتلك ليكِ دين في رقبتي وهوفيه، وقولتلك لو فيا النفس هاجي أخرج آخر نفسي في حضنك أنتِ، ويكون آخر مشهد ليا في عيونك يا “فُـلة” وأهو أنا قدامك بوفي بديني وحقك عليا.
في الخلف وقف “مارسيلينو” مبتسمًا بعينيه لأجل رفيق الرحلة، تذكر كم كانت الأيام قاسية عليهما وحدهما في إيطاليا منبع رجال العصابات في العالم أجمع، الآن يرى رفيقه منعمًا بالحياة، بعد نجاته من الجحيم، راقبهما وما إن طال المشهد وهما في عناق بعضهما، رفع صوته بمزاحٍ يقول:
_اقفلها قفلة حلوة خلينا نصقفلك.
في تلك اللحظة حملها “مُـنذر” ودار بها في المكان وكأنه لم يُبالِ بالبقية، كانت ضحكتها فقط هي التي ترنو في سمعه، أما البقية لطالما دونها فهم مجرد سرابٍ خالٍ من أي معنى، صفق له الصديق وأطلق الصفير العالي، بينما هو أنزلها ضاحكًا حتى وجدها تضمه وهي تحمد ربها على عودته من جديد،
كانت تشبه في حالها حال زوجة المحارب العظيم الذي سافر عبر البحار والحدود والبلدان، ومن ثم طال الغياب، وخفت الأمل في العودة وانتشرت الشائعات حول خبر وفاته.
لكن لولا اليقين في القلوب، وعدم توقع الخذلان من الحبيب لكانت صدقت خذلانها منه، لذا هي الآن ترى قلبها يتعافى، روحها تسقى من عطشها له، جسدها يهدأ من شتاته وتشنجاته، لذا لثم جبينها ثم أمسك كفها مستعدًا للرحيل، وقد ولج السيارة الخاصة بها يقودها هو وهي بجواره، بينما “مارسيلينو” فجلس في الخلف يتنفس بحريةٍ بعد أن عاد لعناق الوطن، كانت حياته صعبة، مليئة بالتحديات، لذا يستحق لقب البطولة هو الآخر..
بدأ “مُـنذر” يقود سيارتها حيث المكان المرغوب، بينما هي طالت نظراتها له، لا تصدق أيهما كان حُلمًا وأيهما كان كابوسًا، لذا عادت بذهنها ليوم الرحيل تتذكر ما حدث، وحينها ألقت رأسها فوق كتفه تتمسك بذراعه لتبرهن لنفسها أنه معها وأن ما يُقحمها به عقلها مجرد خبالٍ عابرٍ فقط، والحبيب أمسي هُنا بجوار الفؤاد…
[عـودة ليوم الرحيل]..
يومها كانت في الحقيبة تتجهز للقاء معه، كانت تضحك وهي تتخيل رد فعلها حينما تباغته بمطلبها أنها ترغب في تقليد أحد المشاهد الرومانسية في مسلسلٍ أسيوي، حينما ولج الطبيب وراقص الطبيبة في غرفة العمليات الجراحية، وقتها أرادت هذا معه، لطالما كانا في مشفى للأمراض العقلية، فيضعها في عين اعتبار الجنون، لكنها لم تتوقع أن تكون الليلة بتلك القسوة عليها..
ولجت يومئذٍ مكتبه دون أن تطرقه، فتحت بالمفتاح فوجدته يضع الخطاب فوق المكتب، لكنه ما إن رآها وقف مشدوهًا من حضورها الغير متوقع، قامت بقلب الموازين قبل أن يهرب هو، رمقها بعينين متسعتين ثم هدر في وجهها بغضبٍ أعمى يُخرج فيه جمَّ غضبه الكثير:
_أنتِ إيه اللي جابك؟ جيتي ليه دلوقتي؟؟!.
كان يهدر بغضبٍ جعلها ترتعد من صرخاته فوقفت تسأله بخوفٍ:
_في إيه يا “مُـنذر” لكل دا؟ ما كل مرة بخلص وأجيلك هنا، أنتَ اللي مالك بقالك يومين؟ مش بترد عليا وغريب في تصرفاتك وبعيد عن الكل، بترجعنا تاني ليه لورا بعد اللي حصل كله؟.
ضاقت الغرفة به كأنه في قبره، ضاق الحال به ذرعًا، أصبحت أنفاسه ثقيلة كأنه يَجُرها جرًا من رئتيه، وقف أمامها ضئيلًا وهو يفكر بأي ذنبٍ يُعاقبها؟ أكان منذ البداية الخطأ يقع عليه لأنه صدق أن مثله يستحق الحياة؟ عصفت برأسه الأفكار المحتدة فارتمى فوق المقعد يشد خصلاته، بينما هي فأدركت أن تلك لم تكن طبيعته، لذا اقتربت من مكتبه تربت فوق كتفه وقبل أن تفتح فمها وقع بصرها على الخطاب المتروك منه..
مدت كفها تلتقطه في حين أنه رفع رأسها بعنفٍ، كان تائهًا أمامه لا يعلم أين مقصد السُبل فيها، بينما هي ففتحت الخطاب تقرأ وداعه، قرأت كل ما كتب ودون، لكنه لم يكن طلقها في الخطاب، لم يكتب هذا، لذا سقط الخطاب من يدها ونزلت على ركبتيها أمامه وهي تسأله بصوتٍ متهدجٍ باكٍ:
_أنتَ كنت ماشي؟.
وبقدرة بسيطة منه استجمع جزءًا من شجاعته الهاربة ورد:
_ماكنتش، أنا ماشي فعلًا.
وجوابه منه قتل الباقي منها هي، فهرولت العبرات منها تباعًا بدون توقف، شهقاتها بدأت تعلو، النار أُوقِدت في قلبها فحولت ربيعها للرماد، لذا هرب بعينيه من عينيها وهي تسأله بقهرٍ:
_ليه يا “مُـنذر” عملت فيك إيه علشان تعمل فيا كدا؟.
وحينها لم يتحمل أصابع الإتهام توجه إليه، لذا التفت بكامل جسده فوق المقعد وضم وجهها بكفيه وقال بصوتٍ مملوء بالتوسل ألا تُزيد من قسوة حاله:
_والله العظيم علشانك، أنا روحي مش ملكي، أنا روحت ولا جيت عبد عندهم، عاوزين يأذوكِ أنتِ وعمي وكل اللي ليا، مش هفكر مرتين روحكم ولا روحي، كان لازم أختار صح المرة دي، والاختيار كان أنتوا حتى لو على حساب نفسي، علشان لو ماروحتش هبقى مجرم دولي، حتى لو ماتوا كانوا يستاهلوا الموت على أيدي، بس هما مش هيفهموا غير إني مجرم.
نزلت العبرات من عينيها أكثر وعلا صوت نحيبها، كانت بين يديه ترجف كما فرخٍ ابتل ريشه وأصبح صريعًا في دياره، بينما هو فرفع إبهاميه يمسح عينيها ثم ضم وجهها وألصق جبينه بجبينها وهو يتنفس بعنفٍ، وحينها قال بأسفٍ:
_حقك عليا، والله العظيم ماعنديش حل تاني.
بدأت تدرك الوضع، الجانب العملي منها بدأ يستعيد طاقته، لذا عادت للخلف تقرأ الخطاب من جديد وكل ما جال بخاطرها سؤالٌ عابر فقط كان كما السكين فوق نحره:
_وليه مطلقتنيش؟.
توسعت عيناه أمامها كأنه تضربه في مقتلٍ، هو حقًا لا يعلم لما لم يُطلق صراحها ويناولها حُريتها، هو لم يتجرأ أن يُجرد حياته منها تمام التجريد، لذا تنهد بقوةٍ وقال بصوتٍ غلبه كل شيءٍ ليبدو بهذا الثقل أمامها:
_مقدرتش، قولت يمكن يكون فيه أمل واحد يخليني أرجعلك ويكون ليا الحق فيكِ، يمكن يكون ليا نصيب معاكِ مش عاوز أفرط فيه، أنا عاوز أحافظ على روحك، مش عاوز أسيبك، أفهمي بقى الفرق بينهم، هما مراقبيني، عينهم عليا وروحي في إيدهم.
وفي تلك اللحظة أدركت مقصد جوابه، لذا تنفست بعمقٍ ثم طلبت منه أن يمسك القلم وكتب جملته الأخيرة بدون الطلاق، هي من طلبت منه أن يوصفها بـ “مليحة الوجه” و “جميلة الروح”..
ثم أضافت هي الطلاق بخط يدها، راقبها متعجبًا بعينين واسعتين حدَّ الجحوظ، فيما تملكت هي من شخصية الطبيبة العملية وقالت:
_كدا هتكون اتصدقت، طالما مراقبينك، وعارفين أنتَ بتعمل إيه، وأنا عن نفسي أهون عليا إنك تمشي بالطريقة دي، أحسن من إنك تمشي وأنتَ غادر بيا، وأنا هقول إنك طلقتني ومشيت، كدا طلاقنا مش هيقع لأنك مطلقتنيش، ولا حتى ناويتها ولا كتبتها، علشان لو طلقتني فمش هينفع لينا رجوع غير بجواز تاني وكتب كتاب تاني، مش هينفع تردني، وأنا عن نفسي مستنياك.
تعجب من قدرتها على الأمر، تعجب كيف تفكر وكيف تتصرف وكيف تستطع حل العُقد الصغيرة، تعجب كيف فكرت وتصرفت، لذا انتفض واقفًا وهو يقول بعجبٍ ودهشةٍ منها:
_أنتِ واعية طيب؟ بتتعاملي كأني راجع تاني، أنا رايح وشايل روحي على كفي، ممكن مارجعش تاني، ومش هطلقك علشان يكون ليكِ حق في ورثي بعد موتي، في الآخر تقولي نمثل إني طلقتك؟ دي مش لعبة، ومش نافع فيها الهزار.
أومأت له من بين عبراتها وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
_متحسسنيش إني جاحدة للدرجة دي، أنا زيي زيك وأكتر، تفتكر بالسهل عليا إني أسيبك عادي وأبقى قاعدة حاطة أيدي على قلبي هترجع ولا لأ؟ تفتكر عادي أقعد قدام الناس من غيرك وفرحنا كمان شهرين؟ أنا بتعامل مع الأمور صح عنك، المرة دي ماشي ورا قلبك، بس أنا سامعة صوت عقلي، ودلوقتي قدامك حاسة إنك هترجعلي، قصتنا مخلصتش كدا.
تهدج صوتها أكثر وتوقف الحديث على طرف لسانها، وحينها ضمها، لم يجد بُدًا من الحال سوى أن يُعانقها وهكذا فعلت وارتمت عليه تبكي وهي تتكيء عليه قبل أن تسقط كما البناية المقصوف أساسها، لذا كانت الليلة هي الأقسى حقًا، وكان وداعه في غاية الصعوبة حينما همس لها بقوله:
_لو مرجعتش خلال سنة بالكتير، أعرفي إني خلاص مش هرجع تاني، ووقتها عيشي حياتك من غيري، كملي وخليكِ زي ما أنتِ، ووعد لو فيا الروح والنفس هجيلك، ووعدي ليكِ هيفضل دين في رقبتي لازم أوفيه، بس عاوز منك وعد، لو حصل ومرجعتش من هناك، متنسينيش، كل ما تفتكريني أدعيلي بالرحمة، محدش غيرك هيكون عارف اللي أنا رايحه، وخلي بالك من اللي ليا..
نزلت عبراتها أكثر، بينما هو لثم جبينها ثم التفت يحمل حقيبته، كان وداعًا حقًا لكن في غاية الصعوبة، رأت في عينيه تشبثه في الحياة في حين أن الطريق يفرض عليه الموت، رأته كما طفلٍ صغيرٍ يُجر من عناق أمه في حربٍ طلبوا فيها الصبية الصغار، وهو يتشبث بطرف عباءة السيدة الوحيدة التي وهبته الحياة، لمحت عبرات خائنة تمردت عليه وهي تتلألأ فوق وجنتيه وهو يرحل ونسبة عودته قد تكون منعدمة، وما إن وقف عند الباب كي يغادر مولي الجميع الدُبر، طالبه قلبه بعناقٍ أخيرٍ منها..
التفت وقتها مُفرقًا ذراعيه عن بعضهما ونظرته ترجوها أن تقترب، حتى لو كان هو وطنًا رثًا وخَرب، دعاها وترجاها أن لا تبتعد وعن موطن عينيه تغترب، فارتمت عليه تعانقه وهي ترجوه أن يزيل عنهما الحدود الفارقة ولأرضها يقترب..
طال حينها الغياب منه، انقطعت أخباره لما يقرب الأربعة أشهر _إلا من خبر وفاته في حريق القصر الذي وصل عمه_ كل الأخبار حولها أخبرتها أنه مات، بدأ عقلها يتوغل بما يضمر كي يُغطي على صدق قلبها له، بدأت تصدق أنه مات ولن يعود، وحدها من كانت تعلم أن قلبه لن يفعلها، لن يستسلم لقسوة الحياة عليهما، كانت تنتظر، تحارب الحياة، تُكابد الصعاب، تطور حُلمها، تصعد الدرج وحدها رغم صعوبته، حتى أتتها مكالمة من شهرين فقط..
جاوبت وقتها بعملية شديدة؛ ظنًا منها أن الطالب هو مجرد عميل أو زائرٍ له مريضٌ هُنا، لكن صوته الذي تعرفه عن ظهر قلبٍ قال بهدوءٍ شديدٍ بعد استماعه لصوت أنفاسها كأنه صوت الحياة ينبش بسمعهِ ليؤكد له أنه لازال حيًا:
_أيعقل أن يُقتل القاتل بنظرة عينٍ وهذا ما لم يجرؤ عليه سلاحٌ؟
وقتها انتفضت من موضعها، رمت الملف من يدها، عادت للخلف بالمقعد، تباينت ردود أفعالها، لم تصدق أن صوته يصلها من جديد، هرع الدمع من عينيها وبحثت عن صوتها كي تجاوب عليه، لكنه تنهد بثقلٍ وقال بصوتٍ ممزوجٍ بالشجنِ:
_معاكِ شهرين من دلوقتي، هاجي علشان نكمل طريقنا مع بعض، وعرفيهم إني لسه فيا النفس، ووعد هرجعلك.
حينها انتفضت من موضعها وهي تصرخ بغير تصديقٍ، قفزت عدة مراتٍ وهي تهزي باسمه، بينما هو فضحك ثم قال بنفس الهدوء الشديد:
_سلام يا غريبة الأطوار.
وها هو الغوغائي يعود، هو بنفس ثباته وقدرته على بعثرة خلجاتها، هو بنفس قدرته وتحكمه فيها، هو ذاته بنفس نجاحه في السيطرة عليها، مجرد مكالمة عادت لها رونقها، وأعادت لها الحياة، لذا كانت ترى أن تلك المكالمة هي بوابة أخرى للعيش في رغدٍ، وقتها ركضت لشقيقها تخبره، ثم ركضت لبيت عمه تؤكد له الخبر، الجميع اتهموها بالجنون، وحده “إسماعيل” من صدقها، ووحده من تحمس للخبر، ومن بعدها أكدت لهم صدقها “چـودي”… والآن هي ستبرهن للجميع.
خرجت من شرودها على وقوف السيارة عند بيتٍ كانت تعلم أنه سيأتيه بمجرد أن يعود للوطن، كانت تضحك بسعادةٍ وهي تراه يفتح سيارته ثم نزل ضاحكًا وشبك كفه بكفها، بينما “مارسيلينو” فهو نام في الخلف من كثرة تعبه في الطريق،
والآن باب الحياة يُفتح لاستقبال الميت..
____________________________________
<“الجميع ربما يُكذبونك، لكن وحدي من بينهم أنصفك”>
لكل شبيهٍ شبيهٌ..
فلا أحد يستطع أن يُكمل الرحلة فُرادى، الجميع يحتاجون لنصفٍ آخرٍ يكون أقوى عند المصاب، يكون أرحم عند القسوة، يكون الألطف عند الصعوبة، كلٌ منا يحتاج للنصف الآخر منه، لذا اليوم بدلًا من النصف، قد تجد الأكثر في صفك..
في الداخل كانت “نـور” تقف في مطبخها استعدادًا لتحضير الطعام، كانت تجهز الطعام والبسمة تُزين وجهها، تنتظر قدوم المساء بفارغ صبرها كي تخبره عن المفاجأة، كانت تتأمل في فرحته، خاصةً وهو يتتوق شوقًا لأجلها، حاولت كثيرًا أن وهو أيضًا وكان الجواب من الطبيبة عن تأخر حملها لأكثر من عامين:
_مجرد تأخير طبيعي ومحدش فيكم عنده أي مانع.
وقتها اطمئن قلبه، وهي أيضًا، لكن منذ يومين ساورتها الشكوك، بدأت تشعر بشيءٍ غريبٍ في طبيعتها، وبالأمس حصلت على خبر التأكيد من المعمل، أنها حامل في شهرها الثاني، لذا هي تشعر بحياةٍ أخرىٰ فيها، نورٌ جديدٌ وُهِبَّ لها ليمحو في طريقه كل ظلامٍ، وقد تذكرت أمر الصغيرة، فقامت بسكب العصير وأخذت الشطائر وخرجت للحديقة في بيتها، بينما “چـودي” فكانت تجلس بعبوسٍ وهي تذاكر مادتها البغيضة، مادة الرياضيات باللغة الإنجليزية، ويعاونها فيها “سـراج” الذي تولى كافة مسئولياتها على عاتقه الشخصي، ولولا عبقريته هو و “يـوسف” في حل تلك المسائل المُعقدة لكانت رسبت منذ أول مرةٍ لها.
تركت القلم بعدما فشلت في إيجاد الحل وقالت بسخطٍ:
_طب وربنا ما هروح الإمتحان.
توسعت عينا خالها الذي كان يمسك هاتفه وطالعها بدهشةٍ فوجدها تتذمر وهي تقول بنفاذ صبرٍ:
_بجد والله خلاص مش فاهمة حاجة، نسيت كل اللي ذاكرته، و “يـوسف” لسه مش هييجي غير لما “عـهد” تولد، يبقى إيه بقى؟ تعالى نذاكر من الأول تاني طيب؟ ولا خلاص كدا كفاية.
تنهد بقوةٍ ثم قال بصوتٍ هاديءٍ وهو يسحب الكتاب من يدها:
_تعالي نراجع خطوات الحل وبعدها نرجع نحل، أنا معاكِ ومفضي نفسي ليكِ، ومراتي جوة بتعمل ليكِ الأكل اللي نفسك فيه، يبقى وحدي الله وخدي نفسك كدا ويلا نبدأ عِدل من تاني.
وفي تلك اللحظة أرادت أن تتدلل، لذا اقتربت منه وجلست فوق ساقه وهي تقول بصوتٍ طفولي تعب من كثرة المسؤوليات الواقعة على كتفيها الصغيرين:
_أنا مش عاوزة أذاكر، عاوزة أقعد معملش أي حاجة وأفضل معاك شوية، ماليش نفس والله، بقالك كتير ملعبتش معايا ولا خدتني في حضنك.
تنهد بثقلٍ ثم ضمها بين ذراعيه ولثم وجنتها فوجدها تتمسك به بنظرة انتصارٍ بعدما أستطاعت أن تفر من الدرب الذي رماها في مقتبله، وقد خرجت حينها “نـور” التي ما إن لمحتهما؛ ضحكت بيأسٍ ثم وضعت الحامل الخشبي وهي تقول بتشفٍ في زوجها:
_ضحكت عليك؟ أحسن والله فرحانة فيك.
أبتعد عن صغيرته وهو يقول بقلة حيلة:
_هعمل إيه؟ البت حبيبة أبوها، صحيح بتشتغلني بس فداها.
ضحكت الصغيرة عليهما وبدأت تتناول الطعام وهي تلتهم الشطيرة المحببة لديها، شطائر الخبز باللحم صنيعة يد “نـور” التي تصنعها لأجلها هي خصيصًا، وقد طال الصمت بينهما، فلاحظ “سـراج” أنها تهرب من عينيه، لا يعلم لماذا لم يزعجه الأمر، لكنه قبل أن يتحدث وجد أحدهم يقتحم الحديقة من باب حديقة حماه وهو يقول بصوتٍ عالٍ:
_”چـــودي”..!!
انتبهوا للخلف وقد نشغت الصغيرة بفرحة اللقاء، قفزت من فوق ساق خالها، تركت الموضع وركضت حيث وقوف صديقها، كانت تضحك وهي تراه يقف والفاصل بينهما مجرب بابٍ صغيرٍ قفزه لأجلها، وقف أمامها يبتسم بسعادةٍ لأجل رؤيتها بخيرٍ، بينما هي فارتمت عليه بغير تفكيرٍ وبكت، كانت تبكي لأنها اشتاقت له، وربما لطيلة غيابه، وقد يكون السبب خبر وفاته، وربما لأنه منذ ما يقرب الشهرين هاتفها مرة واحدة ولم يُكررها، بينما هو فتنفس بعمقٍ ثم استقام في وقفته بها، تلك الحورية الصغيرة كما هي لم تتغير، لقد ظن أن العمر مر عليه في تلك الرحلة حتى زاد عمره عشرين عامًا.
لكن برؤية مُحياها الجميل؛ تأكد أن الحياة لم تسر كما ظن، وإنما هي لازالت كما هي فقط مرت مجرد شهورٍ عابرة، لذا عاد للخلف يراقب وجهها الباكي بعينين ضاحكتين، فلثم جبينها ثم هتف بصوتٍ متهدجٍ أقرب للبكاء:
_وحشتيني أوي، طمنيني عليكِ، كنتِ كويسة؟.
أومأت له ثم ضمته وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
_قالوا إنك مُت زي بابا ومش هتيجي تاني، بس أنا ماكنتش مصدقة، كنت عارفة إنك هتيجي تاني وإني هشوفك، بس ليه قعدت كتير كدا، وحشتني أوي يا “مُـنذر”.
جاء له “سـراج” الذي ابتسم ما إن رآه ثم ضمه فجأةً يُربت فوق ظهره، كان سعيدًا لرؤيته، ولأجل عودته، كانت سعادته أكثر لأجل الجميع، بينما “مُـنذر” فامتن له بعينيه ثم قال بصوتٍ غلبته العواطف:
_وحشتني على فكرة، بس سيطك مسمع هناك، أنتَ عامل فيهم إيه؟.
ضحك له “سـراج” وقال بثقةٍ في محلها:
_خدت حق أمي منهم، ماهما ولاد عمها كلهم، بس أنا لو ليا حق مبعرفش أسيبه، علشان كدا خدت حقي منهم هنا ومعرفوش يسلكوا معايا، المهم إنك رجعت تاني، خلينا نكمل الفرح الفقر دا.
كانت “فُـلة” وصلت لهم وتقف في الخلف، فاقتربت “نـور” تفتح لها الباب ثم ضمتها ورحبت بها وأشارت بها نحو موضع الجلوس، وقد اقتربت هي من زوجها، تضم كف الصغيرة ثم لثمت باطنه، فعادت الصغيرة للخلف وهي تقول لرفيقها بضحكةٍ:
_كدا هتتجوز البِنية الغلبانة دي؟ تعبت معانا أوي.
ضحكوا عليها جميعًا بينما هو ضمها بسعادةٍ ثم حرك رأسه نحو “فُـلة” التي كانت تبتسم بعينيها له وحينها همس بصوتٍ خافتٍ لكلتيهما:
_ماهو أنا رجعت علشان أعوض البنية الغلبانة دي.
ضحكت “فُـلة” لهما وطال عناق عينيها لعينيه، وفي تلك اللحظة تدخلت “نـور” تعرض عليهما الجلوس والبقاء معهما وتناول الطعام، فرفض “مُـنذر” بقوله الهاديء:
_يدوب هلحق أتحرك علشان ألحق أروح لعمي، بس جيت آخد “چـودي” معايا علشان مش عاوز أروح من غيرها، ووعد هجيبها لغاية عندك هنا، هاتلي حاجتها بس ولو فيه حاجة تذاكرها هاتها معاها.
كان يحملها بكفٍ ويمسك يد زوجته بكفٍ آخرٍ كأنه يعاند الحياة بانتصاره عليها، عاد لهم أكثر حيوية وحُبًا للحياة، حتى أن “فُـلة” كانت تفكر أنها سوف تقع في حب هذا الرجل من جديد، وقد رحل بعد دقائق حاملًا عامله بين يديه، زوجته في كفٍ، وصغيرته في كفٍ والحقيبة وضعها في الخلف بجوار “مارسيلينو” الذي لازال نائمًا، تحرك بالسيارة وبجواره زوجته تحتضن الصغيرة وهي تضحك معها بسعادةٍ عادت تفرد جناحيها عليهما، بعد أن عاد رجلهم المُفضل.
في الداخل كان “سـراج” سعيدًا بعودته، ولأجل ابنة شقيقته، لذا جلس وسحب الطعام وبدأ يتناوله وسرعان ما تذكر أمر تلك التي كانت تراوغه منذ قليل، لذا تحرك نحو المطبخ حيث تقف هي ثم ولج ووقف بجوارها وهو يقول بعبثٍ:
_البيت بقى فاضي، يعني لف ودوران مش عاوز، مخبية إيه؟.
تورد وجهها خجلًا ورفعت عينيها له فوجدته يتقرب قاطعًا المسافات الفاصلة وهو يقول بصوتٍ أقرب للهمس:
_قولي اللي عاوزة تقوليه، بس بلاش بالله عليكِ تشتغليني، طول عمرك صريحة وآخر حاجة ممكن تعمليها هي إنك تكدبي عليا وتخبي، فيه حاجة مزعلاكِ؟ موضوع الخلفة لسه مضايقك؟.
تنهدت بقوةٍ ثم التفتت تغلق الموقد الغازي وعادت تقترب منه ثم أمسكت كفه وهي تطلب منه أن يتبعها، بينما هو بوقاحته فلم يكن ليمررها هكذا، فأطلق صفيرًا عبثيًا عقبه يقول بوقاحةٍ:
_طب ما تقولي إنك عاوزاني في سر في الأوضة فوق، على فكرة أنا معنديش أي مانع خالص.
التفتت له تحدجه بسخطٍ زائفٍ وهي تستعد لكتم ضحكتها، فتصنع البراءة بقوله:
_والله نيتي خير، أنتِ اللي دماغك بتحدف في حتة تانية مني.
جاهدت نفسها لتكمل الطريق ولازال كفها يقبض فوق كفه، وقد ولجت الغرفة أولًا ثم ولج خلفها ولا يعلم السبب، لكنه يرى في عينيها شيئًا غير تفكيره، لذا جلس فوق المقعد بينما هي اقتربت تجلس أمامه على مقعدٍ آخر وسألته بوجهٍ مبتسمٍ:
_أنتَ نفسك في إيه يا “سـراج”.
رفع أحد حاجبيه ثم التفت حوله وأشار على نفسه مستنكرًا:
_أنا !!.
أومأت له بأهدابها فوجدته يقترب وهو يقول بشقاوةٍ:
_بوسة.
قلبت عينيها بمللٍ ثم قالت بجهادٍ لنفسها:
_غير سفالتك وقلة أدبك دي، نفسك في إيه بجد؟.
شعر بجدية الحديث فتنهد وعاد للخلف وقال بسهولةٍ:
_تكوني بخير معايا، ونفضل مع بعض علطول من غير ما تيجي حاجة تسرق حد فينا من التاني، تكوني دايمًا كل حاجة ليا زي ما إحنا حاليًا كدا، وأشوفك أنتِ و “چـودي” معايا في أمان وبخير علطول، ونفسي أكون في عينك أحسن راجل في الدنيا كلها.
ابتسمت لجوابه المُفرح، ثم اقتربت تُلثم وجنته، وحينها راوغها بقوله:
_شوفتي إنك أنتِ اللي ناوياها أهو؟.
ابتعدت عنه بيأسٍ ترشقه به من عينيها، وولجت للمرحاض ثم غابت لمدة دقائق، ومن ثم خرجت ترتدي فستانًا فضفاضًا من خامة الجينز وفوق رأسها وضعت حجابًا مزركشًا كبير الحجم، انتبه لها هو، فوجدها تقول بوجهٍ باسمٍ:
_أنا قررت خلاص هتحجب، عارفة إنك طلبت مني كتير وأنا ماكنتش عارفة ولا فاهمة، بس البركة في “آيـات” بقى هي السبب بعد هداية ربنا، قالتلي ربنا ميز البشر بالعقل، وواجب على كل مسلم إنه يدور ويفهم أمور دينه، وهي ساعدتني كتير أوي، علشان كدا قررت إني هتحجب خلاص وربنا يهدينا جميعًا.
لمعت عيناه بزهوٍ، كان يشعر بفخرٍ غريبٍ، وقف أمامها مبتسمًا بعينيه الجميلتين، ملأ عينيه بطلتها فاقترب منها ولثم وجنتها ثم انتقل لقمة رأسها يكرر فعله، وقال بصوتٍ محشرجٍ من تباين المشاعر فيه:
_وأنا مبسوط بيكِ، فرحان إنك خدتي الخطوة دي، وفرحان أكتر إنك خدتيها من نفسك من غير ضغط وزن، ربنا سبحانه وتعالى بينور للعبد بصيرته، شوفتي “مُـحي” دلوقتي؟ بقى حافظ كتاب ربنا، بقى إمام مسجد، بيخطب في الناس ويدعي الشباب للهدايا، شوفتيه وهو بيتحرك بين الناس و الحج ماشي رافع راسه؟ مين كان يصدق؟ بس الحمدلله على نعمة الإسلام.
تأثرت بحديثه ولمعت المقل بدمعٍ بدأ يظهر، لذا سحبت كفه نحو بطنها تحركها صعودًا وهبوطًا ثم ابتسمت بسعادةٍ وهي تخبره:
_وكلها سبع شهور واللي نفسك فيه ينور الدنيا كلها، أنا أتأكدت إني حامل وفي الشهر التاني، الحمدلله ربنا أراد يفرحك ويفرحني وميزيدش قلقنا كدا كتير، علشان كدا خليت فرحتك فرحتين، فرحان يا “سـراج” صح؟.
وفي الحقيقة هو في عالمٍ آخرٍ، فكان يفكر كيف للمرء أن ينل كل ما يود ويرغب بين ليلةٍ وضُحاها، كيف يحصل على كل شيءٍ بعدما كاد أن ييأس من عدم تحقيق مراده، لذا ابتسم وهو يحرك كفه فوق بطنها، فوجدها تضحك حينما غارت من ملمس يده، بينما هو عاد يُطالع وجهها بالحجاب، وفي تلك اللحظة خطفها في عناقه بقوةٍ، أحكم حصاره عليها وهو يردد عبارات الحمد والامتنان لربه، فيما بكت هي في تلك اللحظة، خاصةً حينما تذكرت كيف هربت منه وكيف ابتعدت عن سبيله، ولم تجد سبيلًا غيره هو، لذا عاد للخلف بعينين دامعتين وقال بصوتٍ محشرجٍ:
_كنت فاكر ربنا هيحرمني من الخلفة بسبب عمايلي زمان وكنت راضي، ماكنتش هعترض، بس الحمدلله كرمني وكرم قلبي من وسع، مرة لما ردك ليا تاني، ودلوقتي وهو بيكرمني بيكِ ومنك أنتِ، أنا ماليش غيرك أنتِ في الدنيا دي.
أعادها لعناقه من جديد، تركها بين ذراعيها ثم حملها فجأةً حتى شهقت هي بقوةٍ وطالعته بضحكةٍ من عينيها، فوجدته يقول بمرحٍ وقد عاد له عبثه من جديد أثناء الحديث:
_هباركلك بنفسي.
ضحكت بسعادةٍ حينما وجدته يتركها، ثم لثم جبينها وهي تقف أمامه كأنه يشكرها، لطالما كانت ولازالت سببًا قويًا في أن تمحو الظلام من دربه، كانت هي السبب الأقوى حتى تعود له نفسه كل مرةٍ يتسبب في ضياعها، كانت هي نفسه التي كلما أراد أن يجدها، وجد نفسه تعود له بعودتها، وكأن السراج المُظلم لم يُضء بغير “نـور”..
____________________________________
<“ياليت الحياة معنا لم تكن بتلك القسوة”>
في المعتاد الحياة لم تكن مثالية..
وأيضًا لم تكن دومًا صاخبة، هي تتراوح مثل أمواج البحر بين الهدوء والفوضى، بين اللين والقسوة، لكن بعض البشر بمحض أرادتهم يتركون الحياة قاسية في عيون أنفسهم، يبقون كما هُم دومًا في محلٍ ثابتٍ، يطالعون الحياة من منظور اليأس والخسارةِ، وهناك بعضٌ يعلمون أن الحياة بأكملها، تشبه مقطوعة موسيقية، لولا تباين أوتارها، لما ظهر النغم فيها..
حارة العطار..
أندلس القاهرة كما أطلق عليها “يـوسف” وأيد رأيه “إسماعيل” في تلك الحارة، مكانٌ وهبه “أيـوب” حبه فانعكس عليه شغفه، لذا الجميع كلما تحركوا ولمحوا بيوت الشعر وأبيات الحكمة، ثم الأذكار، ثم العبارات التاريخية القديمة، الأواني الفخارية، كل شيءٍ حديثٍ فيها، به لمحة قديمة من الأندلس المفقودة، لطالما كان “أيـوب” مهووسًا بحب الأندلس الفقيدة، فجعل من بيئته المُعاصرة؛ أندلسًا جديدًا…
واليوم الفرح يُزين الحارة، المسجد بعد صلاة العشاء يمتليء بالرجال لحضور عقد قران “نـادر” أخيرًا، تولى مهمة تزويجه “عبدالقادر” الذي اعتبره الابن الثالث له، بينما “نـادر” فأخيرًا وجد الحياة تُرضيه، كان يستعد في تلك الأثناء بغرفته، وقف أمام المرآة يُصفف خصلاته، ثم تنهد ووقف هكذا يتذكر زواجه الأول من واحدةٍ لم يعد يتذكر منها حتى ملمح وجهها، لكن هناك ليلة قاسية لن تُنسى، ليلة يفقد فيها المرء جزءًا من روحه..
عاد بذاكرته ليوم الحادث، تحديدًا يوم وفاة والده..
وقتها استفاق بعد مرور دقائق أخذته فيها سنةٌ من نفسه بسبب تلك الضربة التي تلقاها، وما إن فتح عينيه لمح المنظر حوله، المكان أصبح بركة من الدماء، الجثث مُلقاة فوق الأرض، ومن بينهم جثة “أيـوب” وصرخات عائلته، ثم حرك عينيه ليرى جثة أبيه، لكن مظهر الجثة كان في غاية القسوة، حيث كان السيخ المعدني قائمًا من الأرض لعدة مترات للأعلىٰ، وبمجرد أن أرتمى عليه جسد “سـامي” بعد أن دفعه “يـوسف” اخترقت القطعة المعدنية رأسه، وانفجرت الدماء منها…
كانت موتته في غاية القسوة، موتة تلق به وببشاعة طباعه، حتى أن ابنه لازال يتذكر كيف كان رأس أبيه مُنفجرًا والدماء تحاوط المكان وعيناه بكلٍ أسفٍ جحظتا للخارج وكذلك لسانه كاد أن ينقطع وهو يضغط عليه من هول صدمته، وقتها أسبل عينيه باكيًا ثم التفت يطمئن على “أيـوب” الذي في طرفة عينٍ كان محمولًا بين أيدي الرجال نحو المشفىٰ…
كانت الرحلة بعد تلك الليلة أكثر قسوةً عليهم، ما بين قضايا ومحاضر وزيارات للمشفى، وما بين ذهابٍ وإيابٍ للإطمئنان على “أيـوب” وما بين الخوف على “قـمر” التي كانت على شفا حُفرةٍ من الجنون بعد تلك الصعاب التي عاشتها خلال شهرٍ فقط، وما بين العديد والعديد ودخوله في مرحلة نفسية بغاية البشاعة حتى أنه فقد قدرته على النوم لما يقرب الخمسة أشهر لولا المهدئات النفسية، والمنومات التي عاونته في ذلك…
خرج من شروده على صوت زغرودة عالية من “ضُـحى” التي أتت بالخارج، فتنهد بقوةٍ ثم قام بضبط البذلة السوداء بأكملها وخرج من الغرفة، حينها وجد “ضُـحى” تقترب منه وهي تقول بصوتٍ هاديء:
_مراتك جهزت، ولبست، وأخواتك جهزوا ولبسوا، مفاضلش غيرك، هتخلص إمتى سيادتك؟ مبحبش الدلع دا أنا.
رمقها بتيهٍ ثم أولاها ظهره وهو يقول بسخريةٍ يرتشف المياه من زجاجةٍ موضوعة خلفه:
_والهانم سايبة أخوها وجايالي أنا ليه؟.
سخرت منه وهي تقلده بقولها:
_علشان أخويا شاطر ولبس وراح يجيب خطيبته، الدور والباقي عليك أنتَ، ما تخلص ياض أنتَ أنا هتحايل عليك؟ دا أنتَ عيل رخم والله العظيم.
التفت لها من جديد يضحك بيأسٍ ثم قال بقلة حيلة:
_بت يا “ضُـحى” مش شايفة إن من ساعة ما عرفتي إني أخوكِ في الرضاعة وأنتِ لسانك معايا عاوز يتقص؟ بكلمك والله أنا مستحملك ليه؟ دا أنا نفسي أجيبك من شعرك والله، ساكتلك ليه مش فاهم.
اقتربت منه وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة وثقةٍ في موضعها:
_علشان أنتَ ماعندكش أخوات تانيين وفرحان إني أختك وإنك رجعت تاني وسطنا أخونا، وإحنا فرحانين إنك من تاني بقيت معانا زي الأزل زي ما كان عمو “مصطفى” بيتمنى، بس ممكن تخلص وتكمل فرحتنا؟ المأذون قرب يوصل خلاص.
أومأ لها موافقًا ثم ولج للداخل وخرج من جديد يمسك في يده علبة صغيرة الحجم، مخملية باللون الأسود، رمقته بعجبٍ فيما ابتسم هو لها ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
_دي هدية بسيطة ليكِ، يعني كتر خيرك ساعدتيني كتير وحاولتي معايا لحد ما قدرت أقف تاني على رجلي، وكمان شكرًا إنك جيتي الشركة معانا وبقيتي شايلة مسئوليتها بعد “مـادلين” ما اتجوزت، أنتِ أصيلة وبنت حلال، وأنا محظوظ إنك أختي.
ابتسمت له بحبٍ ثم قالت تلك المرة بصدقٍ:
_محدش فينا عمل حاجة زيادة عليه، أنتَ سبق ووفيت باللي عليك لما لحقت “قـمر” وعرضت نفسك للخطر علشانها، وساعتها عمتو “غـالية” قالتلنا إن خالك جابك ليها وأنتَ صغير وخلاها ترضعك علشان طنط “فـاتن” وقتها كانت تعبانة في المستشفى، وعلشان كدا كنا كلنا أخوات مع بعض وإحنا صغيرين، وعرفنا ليه كمان مبتقدرش تكرهك، علشان أنتَ ابنها، المهم إنك تكون بخير وتنسى اللي فات.
ابتسم لها ثم اقترب ولثم جبينها، بينما هي رفعت كفها تُضلل على فمها وهي تطلق الزغاريد العالية لأجله، وقد خرجت “فـاتن” تمسك الذهب في يدها، وقد تحسنت العلاقات بينها وبين البقية وقبلت “غـالية” تواجدها بعد معاناة، لكنها فعلتها فقط لأجل “مصطفى” كما أخبرتها بكبرٍ ورفعة أنفٍ تواري خلفهما رقة قلبها:
_أنا هوافق وخلاص، بس مش علشانك أنتِ، علشان “نـادر” اللي مرمطيه معاكِ، وعلشان “مصطفى” الله يرحمه كان موصيني أحطك في عيني لو حصل حاجة، علشان بس متسوقيش فيها وتفتكري الأمور عدت وخلاص يعني.
ووقتها انتهى الخلاف بعناقٍ بين نساء العائلة وعادت المياه لمجاريها فقط لأجل القادم، فالجميع هنا كانوا ضحايا لغدر بشرٍ لم يرحموا غيرهم من البشر، لذا قاموا بالتسليم لأمر الله حين قال في كتابه العزيز:
{وَإِن جَنَحوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ} وحينها توكلت على الخالق خاصةً حينما حدثها “أيـوب” عن صلة الرحم وفضلها وكيف أوصى الرسول ﷺ بصلة الأرحام، فظل يومها قرابة الساعتين يحدثها عن فضل صلة الرحم، وقد كان حديثه بشاكلة:
_قال النبي ﷺ:
“من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه”.
_قال النبي ﷺ:
“يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام” (رواه الترمذي).
قال النبي ﷺ:
“ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها” (رواه البخاري)، فالفضل الحقيقي أن تصل من قطعك وتعفو عن من أساء إليك، كان النبي ﷺ يبر عمه أبا طالب رغم اختلاف الدين، كان يصل أقاربه بالهدايا والزيارات والاهتمام، قال ﷺ:
“تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم” (رواه الترمذي).
أي أن معرفة الأقارب من وسائل صلة الأرحام.
وقتها لم تستطع أن ترفض أو تُصر وتُعاند، فرضخت للسلمِ وقبلت تواجد “فـاتن” بينهم، كما تقبلت عودة “نـادر” ابنها لها من جديد ليرتمي في حضنها ويصبح الخامس بين أولادها.
في الأسفل وقف “إسماعيل” بجوار سيارته ينتظر قدوم زوجته وما إن لمحه تتمسك بكف “نـادر” وهي تقترب منه، حاول يذكر نفسه أنها أخته، وأنه من محارمها، هكذا ظل يذكر حاله حتى وجدها تقترب منه ثم وقفت بجواره وهي تضحك بوجهٍ بشوشٍ، حينها رمقها بغيظٍ ومال يهمس في أذنها:
_هاخد حقي منك تالت ومتلت النهاردة.
راقصت حاجبيها ثم فتحت باب السيارة وركبت بجواره، بينما هو انتظر قدوم “نـادر” ثم بارك له بضمةٍ وتربيتةٍ فوق ظهره، وعاون “فـاتن” على الركوب ثم ركب بجوار زوجته، التي في الحال فتحت المذياع وأخرجت هاتفها تلتقط مقاطع تصويرية بالسيارة وزوجها يضغط على بوق السيارة مُعلنًا بذلك الإحتفال..
أمام المسجد توقفت سيارة “عُـدي” ونزل منها وخلفه نزلت “رهف” التي كانت تضحك وهي تستعد لعقد قرانها عليه، كانت تبتسم بزرقاوتيها وهي ترتدي فستانًا باللون الأبيض الكريمي، يرسم جسدها من عند الكتفين ويتسع من منطقة الخصر بتنورةٍ جعلتها رقيقة مثل العرائس اللعبة، كانت تبتسم وهي في الحارة وسط الزغاريد وقدوم الجميع للتهنئة، وقد لمحت “قـمر” تترجل من سيارة زوجها وهي تبتسم بحماسٍ وتقترب من أخيها تبارك له..
كان “عُـدي” يقف بجوار أبيه ثم التفت لأخته يضمها وهي تبارك له وهو يشاركها سعادته، في تلك اللحظة أتى الشباب والرجال من بيت “نَـعيم” عداه هو، آخر قدومه بسبب بعض الأعمال التي تولى مهمة نهايتها، بينما “نـادر” فوصل أسفل بيت “حـنين” يقف في انتظارها، وما إن ظهرت أمامه، وجد نفسه يبتسم تلقائيًا، اقترب يمد يده بباقة الزهور لها ثم فتح باب السيارة لها، بينما أمه فتحركت تجاور “غـالية” بسيارة من بيت “نَـعيم” تركها لتولي مهمة نقلهم.
أما بشقة “مـي” كانت “عـهد” تقف أمام المرآة وهي تُتمم على هيئتها، وخاصةً بهذا الفستان الذي جلبه لها يخفي بطنها، ويليق بها وبحملها، كانت تبتسم بعد أن قضت ليلتين متواصلتين في البكاء وهي تخبره أنها لم تجد ما يُناسب جسدها، ولا يُناسب حملها، فاستقرت في نهاية الأمر ببكاءٍ:
_مش هروح خلاص، روح أنتَ.
وبعد جدالٍ عقيمٍ بينهما ومحاولات استرضاء لم تنفعه بشيءٍ، لثم جبينها وصمت، أما بالأمس فهو ولج البيت يحمل هذا الفستان لها، بكافة أشيائه، حقيبة، حذاء، حُلي، حجاب، كل شيءٍ قد يسلب منه راحته، لذا تنهدت براحةٍ وهي ترتدي الحذاء الأبيض الذي ناسب طريقة سيرها في الحمل، ووقفت تبتسم بسعادةٍ، وما إن ولج هو الغرفة يُهندم قميصه الأبيض الذي شمر أكمامه، فأطلق صفيرًا ثم اقترب يقف بجوارها ولثم وجنتها وهمس بقوله:
_العسولة زادت حلاوة، هو الحمل بيحلي أوي كدا؟.
تورد وجهها وهي تلتفت له ثم ظلت تراقب ملامحه وقالت بصوتٍ ضاحكٍ وهي تتغزل به صراحةً:
_سيبني أملي عيني منك علشان يكون شبهك.
زاد ابتهاج ملامحه أمامها، ثم اقترب ولثم جبينها، وما إن لمح السلسال خلفه التفت يأخذه ثم وضعه برقبتها وقال مبتسمًا بحبٍ لها:
_كدا أحسن، ها لسه مش عاوزة تروحي؟.
حركت رأسها نفيًا بلهفةٍ، فضحك عليها ثم سحب متعلقاته وسترته وتحرك بها بعدما ركضت خلفها “وعـد” وأمها، وفي تلك اللحظة تنهد “يـوسف” براحةٍ عادت له بعد شهورٍ قضاها في كربٍ، وبعد أيامٍ قضاها في معزلٍ، حتى ظن أن عودته لهم مم جديد تتطلب منه سنينًا عددًا، لكنه دومًا يثق في ربٍ رحيمٍ، يمن عليه بكرمه، فيغيث روحه.
____________________________________
<“وإني لكَ أقرب من نفسك، لكنك تحب الابتعاد”>
الهدوء النسبي عاد للبيت..
الجميع رحلوا وهو قد عاد، عاد للصمت والسكون على عكس عادة البيت في تلك الفترات الأخيرة خاصةً بمجيء “تَـميم” ووجود “دهـب” فأصبح البيت أكثر ضجيجًا، لكن هذا الضجيج هو المُحبب للقلب، كان يسعد بركضات “دهـب” في البيت وهي تشاكس وتخطف وتضرب وتضحك معهم، ثم صوت “تَـميم” المُحبب لقلبه، لذا جلس فوق المقعد بتعبٍ وهو يستعد للرحيل إلى حارة العطار..
في تلك اللحظة كان أتى من خلفه صوتٌ يناديه بلهفة الشوق المُلتاعة للقاء الحبيب ونصف الفؤاد الآخر:
_بابا…وحشتني أوي.
التفت لمصدر الصوت بعدما خمن صاحب الصوت، التفت بقلبٍ يهفو للقاء صغيره وهو يبتسم بعينيه، كان يرتدي قميصًا باللون الأسود فوق بنطاله الرمادي دون أن يرتدي سترته، بدا أصغر من أيام عمره الاثنين وستين، اقترب بخطواتٍ وئيدة وهو يزدرد لُعابه ووقف أمام ابن شقيقه، طال الحديث بالأعين، هذا الحديث الذي يترجمه القلب ويفهمه حتى لو ينطق به لسانٌ، ضحك له “مُـنذر” وهو يقول بصوتٍ غلبه البكاء، فطغى عليه:
_وحشتني أوي، وحشني حضنك..
قبل أن ينهي حديثه كان “نَـعيم” ضمه في عناقٍ خاطفٍ، وجد نفسه في حصار قلعته التي تحميه، لذا ضم عمه وترك نفسه لغمرة الأمان هذه تحاوطه، هرعت العبرات من عيني “نَـعيم” وكذلك عيني ابن شقيقه الذي لثم كفه عدة مراتٍ ثم قال بصوتٍ محشرجٍ وباكٍ:
_أنا والله العظيم ما كان قصدي أوجع قلبك عليا، ماكنتش عاوز أخليك عايش مقهور بسببي على حد من ولادك تاني، بس رجعتلك علشان اللي جرب أمانك مش هيقدر يعيش في الدنيا من غيره، كان لازم أرجعلك تاني علشان أكمل معاك.
ابتسم له “نَـعيم” ثم تصنع صفعه بخفةٍ وقال بعتابٍ طفيفٍ على قدر محبته له أتى من القلب بغير جمودٍ:
_يا عبيط هو أنتَ مش ابني؟ ما أنتَ لحمي ودمي وزيك زيهم كلهم عندي، مش مهم أي حاجة، المهم إنك رجعت تاني لحضن أبوك، متعرفش غيابك عمل فيا إيه، مش فيا لوحدي بصراحة، فيه أتنين كانوا قالبين حياتي ميتم على دماغ أهلي.
كان يقصد الفتاتين، فضحكتا سويًا حينما أشار عليهما بالحديث، وقد ركضت “چـودي” تحتضن “مُـنذر” بعدما وقفت فوق المقعد وما إن تعلقت به ضحكت بسعادةٍ عادت لوجهها، بينما “فُـلة” فوقفت تبتسم لهما حتى وصلها حديث “نَـعيم” وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_ياريت نفرح بيكم بقى علشان البت اللي عيونها باشت من البُكا
خجلت من الحديث وقالت بصوتٍ متقطعٍ:
_مش عيوني بس، أنا كلي والله عمري داب في الزعل، والأمل كان عمال يقل جوايا، بس كنت حاسة إنه هييجي تاني، كنت واثقة فيه إنه مستحيل يسيبني لوحدي أكمل الطريق من غيره.
ابتسم لها “مُـنذر” بعينيه بعد أن تحدثت عن ثقتها عنه، لذا كان يشعر أن قلبه يُهلل ويركض بين أضلعه كي يركض لقلبها ويحتضنه، طالت النظرات بينهما، فحمحم عمه يلفت نظرهما له وما إن انتبها له قال بهدوءٍ وملامحه لم تكف عن التبسم لأجلهما:
_يلا علشان نتحرك مع بعض ونروح كتب الكتاب، أخواتك هيفرحوا أوي، وشد حيلك علشان كلها أسبوع وتتجوز، شقتك خلصانة من شهرين يا بيه، أنا ما صدقت توصلني أخبارك.
ابتسم له “مُـنذر” ثم اقترب منه يُلثم كفه وقال بعينين عادت الحياة تُضيء الدرب فيهما بعد أن كان مُعتمًا:
_ربنا يباركلي في عمرك يا بابا.
وتلك الكلمة الأخيرة منه تعد حياة أخرى، كان لوقعها على سمع عمه سعادة بالغة وهو يرى ابن شقيقه يتقبله بتلك الطريقة، لذا ضحك له ثم استعد للرحيل معهم، وفي الخارج وقف “مارسيلينو” ينتظرهم وما إن خرجوا لهم قال بصوتٍ هاديءٍ لرفيقه:
_كدا بقى الرحلة انتهت خلاص، أنتَ بقيت بخير وعملنا كل حاجة تخلص ذمتنا، واتطمنت عليك، هروح بقى أشوف حالي بعدما رجعت هنا تاني، أكيد هنتقابل تاني، مخلصتش الحكاية كدا.
وقتها سأله “مُـنذر” بلهفةٍ قلقة أعربت عن الخوف:
_هتمشي وتروح فين؟ إحنا متفقين نكمل سوا طالما رجعنا سوا، ليك هنا إيه في مصر؟ لو على الشغل هلاقي ليك شغل، ولو على المكان يا سيدي هتتدبر، بس بلاش تمشي في وشك كدا كأنك زاهد في الدنيا دي.
بالفعل هو يشبه الزاهد، تألم قلبه وهو غريبٌ وسط الجميع، عاد لمن؟ ولأجل من؟ أين السبب الذي جعله يفر هاربًا من بلدٍ أخذ منها موطنًا ثم وصل لهنا؟ تنهد بقوةٍ ثم قال بألمٍ تشكل في حلقه:
_أنا معنديش حاجة أعيش علشانها، وماليش حاجة هنا، ولا في أي حتة تانية، أنتَ ليك عمك وعيلتك وحبايبك، بس أنا هنا روحت ولا جيت غريب، وأنتَ أحضانك كتيرة بصراحة، عن إذنك.
استعد للرحيل كي يذهب من هنا، فأوقفه “نَـعيم” الذي اقترب منه وقال بصوتٍ هاديءٍ:
_أنا بيتي طول عمره مفتوح للغريب، محدش قصدني وخليت بيه، لو على الشغل محلولة، ولو على القعاد في مكان برضه محلولة، ولو على الأحضان دي برضه محلولة.
أنهى حديثه يفرق بين ذراعيه كإشارةٍ منه لإقتراب “مارسيلينو” في عناقه، كان المشهد مؤثرًا للغاية حتى لمعت عينا “مارسيلينو” وفرغ فاهه كي يستطع أن يتنفس، وفي تلك اللحظة أومأ له رفيقه بأهدابه أن يفعلها، حثه على العناق، فاقترب بتوترٍ ليجد نفسه داخل أدفأ مكانٍ في حياته، عناق “نَـعيم” غلف الصقيع بداخل روحه، لذا ترك العنان لعبراته ثم ابتسم بحبٍ لرفيقه الذي بادله البسمة بمثيلتها، والمشاعر بينهما تتحدث عن نفسها..
____________________________________
<” من نفسي خُلقتي أنتِ لتُكملي الناقص في نفسي”>
لو أن المرء قضى المتبقي من عمره يحدث الناس عن معنى الزواج لن يستطع أن يفعلها، فكيف للمرء أن يفلح في تفسير تلك المعجزة التي تحمل أسمى معاني الإنسانية؟ كيف تخبر إنسانًا أن هناك روحٌ أخرى خرجت منه، ومن ثم سوف يجمعهما الله يوم أن يُريد؟ كيف تخبر غيرك أن هناك يومٌ ما إن يأتيك للبشر سوف تجد روحك ترتاح من شتاتها، سوف تستقر الضلوع في مكانها بعد أن تجد الناقص منها..
في المسجد جلس المأذون يُنهي الأوراق بين الطرفين، يأخذ البصمات والتوقيع أولًا، وقد أنهى أوراق “رهـف” و “عُـدي” أولًا، ثم تبعها بأوراق “نـادر” و “حـنين” وسط الهمسات والضحكات والمباركات والضجيج بين الأصدقاء والناس جميعًا، وقد وضع “عُـدي” كفه بكف “كمال” خال “رهف” كوكيلٍ لها وتمم عقد قرانه، وكذلك فعل “نـادر” الذي ضم كف “عاشور” وتُمم عقد قرانه وانتهى الأمر بمباركاتٍ، وقد حمحم المأذون في المكبر فانتبه له الحاضرون، بدأ حديثه بقوله:
_﷽، والصلاة والسلام على محمدﷺ..
أما بعد، فالسلام عليكم ورحمه الله وبركاته،
تلك اللحظة هي الأسعد في حياة المرء، لحظة الاقتران بشبيه الروح ورفيقها، وفطرة الإنساند دايمًا البحث عن الونس والسكون، إيه هو السكون؟ يعني السكينة والسكن، ومكانهم فين؟ في الزواج، ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز “وَخَلَقْنَا لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا” يعني سكنك في الدنيا هنا، يبقى ربنا يكرمك وتراعي ربنا في بنت الناس اللي معاك، تراضيها وتسعدها وتكون زوج صالح قوَّام عليها ، معنى القوامة إنك الراجل المسؤول عنها، مش معنى كدا إنك تهينها ولا تشوف نفسك عليها، لأ قوامتك إنك أمين عليها ومسؤول عن أمانها وحمايتها، مسؤول عن إنك تكون نور طريقها علشان زي ما ربنا جمعكم في الدنيا ، يجمعكم في الجنة مع بعض..
لذا الإنسان دومًا في حالٍ دائم يبحث عن حياةٍ مستقرة، والاستقرار ربنا وضعه في الزواج، علشان كدا من متاع الدنيا الزوج الصالح، وكذلك الزوجة الصالحة، ليه؟ لأن “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” كل واحد فيكم مسئول عن اللي معاه..
توقف يبتسم لهم ثم قال بصوتٍ عادت له البهجة:
_الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، أوصى الرجال على النساء، ليه؟ لأنهن القارورات الضعيفات، كائن زي الطير كدا عطوف، تلاقيه في أغرب الأوقات مش فاهم هو عاوز إيه، هي أصلًا مش فاهمة نفسها، بتكابر وخلاص، بس أنتَ حكم عقلك، خليك واعي وعاقل، بلاش تحط واحد قصاد واحد وتعاندها، دي بالذات لازم تكون معاها لين وهادي، لازم تكون عارف إن هي مش قاصدة كلامها اللي ممكن يزعلك، وممكن تكون خايفة من غيرك، الست في الأصل في علاقة الزواج بتدور على الصداقة، لو الزوج بقى صديق خلصت الدنيا خلاص، لأن واجبك تصاحبها، واجبك تكون ضلها ومعاها وبتاخد بإيدها، تقولها للطريق الصح، واجبك خلاص، مش مجرد رعاية مادية بس، واجبك ترعاها معنويًا إنك تحاوطها بأمان وهي معاك..
أنهى الحديث ثم قصد الفتيات بقوله الضاحك:
_نيجي لدورك بقى كست، ماهو أنا مش همسك الرجالة بس، الست ليها دور زي الراجل، لأن البيت عمره ما هيتظبط بكفة واحدة بس، مفيش مكان في الدنيا كلها يقدر يمشيه طرف واحد، لازم كل الأطراف تتساوى في المسؤولية، يعني هو مسئول مادي، ممكن حضرتك تكوني المسؤول المعنوي، ممكن تكوني أكبر داعم، وفي نفس الوقت ممكن تكوني أكبر هادم، ” البيت نعمة عظيمة وأمان واستقرار وعصمة من الفتن للمرأة المؤمنة، تقدري تتسلحي بالعلم وتاخدي دينك حتى أثناء وقفتك في المطبخ، أثناء ترتيب البيت،.تطبيق الملابس وتجددي نوايا وترسخي وتأسسي أسرة مسلمة، بس لازم تعرفي إن البنت مهما وصلت في طموح الدنيا، وفشلت في تكوين أسرة وبيت مستقر لها فهي مسكينة، لأن الهدف الأساسي ليها ضاع منها، وتذكروا قول الحبيب محمدﷺ في خطبة الوداع حينما قال صلَّ الله عليه وسلم:
“وإني مُباهٌ بكُم الأمم يوم القيامة”
يعني دوركم تسعوا لتكوين أسرة مسلمة صالحة تكون نصرة لكم ولدينكم يوم القيامة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبارك عليكم الزواج وبالرفاء والبنين وبارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خيرٍ..
أنطلقت المباركات والزغاريد من خارج المسجد، بينما الشباب بدأوا يعانقون بعضهم، بدأت التهليلات تسقط والفرحة تأخذ حيزًا كبيرًا، وصل في تلك اللحظة “نَـعيم” بجوار ابن شقيقه وما إن ظهر هو كان يبحث بعينيه عن “إسماعيل” وكأن قلبه لا يعرف غيره، الطفل بداخله كان يبحث عن مكانه منذ الصغر، وكأن قلب “إسماعيل” شعر به، فالتفت وقتها للخارج ولمحه، لمحه من بين الزحام، وكأن روحه تألفه، من بين الحشود وجده، فهرول ناحيته ووقف أمامه يزدرد لُعابه وحينما ابتسم كلاهما للآخر، لا يُعلم من منهما بدأ وخطف الآخر في عناقه، لكن الواضح للجميع أن الصديقين وجدا بعضهما أخيرًا..
في الداخل نزلت “حنين” بفستانها الذهبي برقةٍ ماثلت لون عينيها الجميلتين والنمش الرقيق المنثور فوق أنفها، وما إن نزلت الدرج وجدت “نـادر” أمام عينيها، توقفت عن الحركة بينما هو فرفع عينيه نحوها، طالعها بتوترٍ حينما تذكر كيف كانت حالته طوال الأشهر الماضية، كان دومًا في حالة إرهاقٍ عقلي وبدني، خاصةً بعدما رأىٰ رأس أبيه بهذا الوضع..
نزلت له، وقابلها هو، ابتسم لها مرغمًا ثم قال بصوتٍ عميق:
_مبسوطة؟.
دارت بعينيها بخجلٍ، فهي حتى رغم زواجها الأول لم تكن بهذا الكم من الخجل، لا تعلم لما أمامه هو تصبح هكذا، بينما هو فقدر موقفها وحالتها فاقترب منها ولثم جبنيها، لثمة عميقة طالت جبينها وأسرت روحها، لذا ارتجفت من قربه، فيما عاد هو للخلف وقال بصدقٍ من قلبه بعدما خبأ كل ذلك لحين موعده:
_أنا هقولك إني مبسوط، وكنت مستني اليوم دا من كتير أوي، كنت عايش على أمل كل حاجة تتصلح بوجودك معايا فيها، يمكن اتقابلنا متأخر بعدما الدنيا غيرت فينا كتير، بس دا الوقت اللي ربنا أراد لينا فيه نتقابل، علشان دا الوقت الصح، صدقيني أنا مش عاوز غير وجودك معايا ونكمل الطريق مع بعض.
ابتسمت له بتوترٍ وسحبت كفها حينما وجدت جسدها يفرض تشنجات غريبة من فرط توترها وهمست له بخوفٍ وخجلٍ:
_إن شاء الله يا “نـادر”.
لاحظ خوفها فأشار لها أن تتبعه كي تتحرك بالسيارة معه، وما إن ولجت السيارة وأغلق هو الباب تعجبت من خوفها منه، أو ربما خوفها من الناس ونظرتهم لها، فالجميع يعلم أنها سبق لها الزواج، لكن هل يعلم أحدهم كيف كانت قاسية تلك الزيجة عليها؟ كم عانت وسطهم؟ يبدو أن هاجس المجتمع أثر عليها سلبًا حتى في وقتها هي لنفسها.
في الداخل ركض “عُـدي” للقاء حبيبته، كان يتسلق الدرج لحين يصلها وبمجرد أن رآها بعينيها الزرقاوتين وجدها تضحك له، تجاهل الجميع وتجاهل “قـمر” التي وقفت تناديه، واحتضن زوجته، العناق الأول في تلك المسيرة الطاهرة، الفاتح ظفر المعركة وولج المدينة أخيرًا بعد أن هدم حصونها، ربح المعركة عن بُكرة أبيها وفاز خير المفاز، لذا كان عناقه لها من نوعٍ آخرٍ، كان يحتفل بنفسه ونصره، ولم يأبه بخجلها مثقال ذرةٍ..
أبتعد عنها يطالعها بوجهٍ مبتسمٍ وقال بسعادةٍ طاغية:
_بحبك، بحبك يا وش السعد عليا.
ضحكت هي بخجلٍ ثم دفنت رأسها بصدره وقالت بصوتٍ أقرب للهمس وصله دونًا عن جميع الحاضرين:
_وأنا كمان بحبك على فكرة، وأوي خد بالك.
طالت النظرات بالعين بينهما حتى صدقها في عينيها، رآها تتباهى به أمام نفسها، وقد داهمته خيالات وراوضته بعض الشكوك التي جعلته يرتاب يوم عقد القران بشأن الحبيب الأول، لكنه الآن يرى في عينيها سعادة من نوعٍ آخرٍ، يرى الفرحة به منطوقة منها، لذا ضمها من جديد يخفيها بين ذراعيه فارضًا بذلك عليها الأمان الذي وعد..
في السيارة ولج “نـادر” وجلس بجوار زوجته فوجدتها تتنهد بعمقٍ كأنها تحاول ترتيب أفكارها المُبعثرة، بينما هو قدم لها زجاجة مياه وزجاجة عصيرٍ ثم قال بصوتٍ هاديءٍ بعد أن ضربت بخيالاته عرض الحائط:
_أشربي العصير وأشربي شوية مياه، عرفت إن ماكلتيش من يومين، لما أنتِ خايفة طيب يا بنت الناس ورافضة معرفتينيش ليه؟ أنا معنديش استعداد أفرض نفسي على حد تاني، مش حمل الوجع دا، إحنا لسه على البر، عرفيني.
كان يرجوها ألا تُخيب أماله، بينما هي فرفعت كفها تضعه فوق شفتيه، وفي لحظةٍ ارتمت في عناقه كما تمنت منذ أن رأته، ارتمت برأسها فوق صدره وقالت بصوتٍ أقرب للبكاء:
_علشان خاطري متقولش كدا، أنا ما صدقت ربنا كرمني وعوضني بيك، كنت بفضل أتمنى من ربنا يكرمني ويعوضني بيك أو على الأقل بحد يحبني زيك، دا أنا من فرحتي والله العظيم عاوزة أفضل العمر كله جنبك، أنا بس خايفة، حاسة الناس بتاكلني بعينها، بس أنا لو عليا بحبك ومش عاوزة غيرك يا سيادة القبطان.
تحدثت وياليتها ما فعلت، فهذا القبطان ضل طريق الإبحار، تاهت سُفنه بوسط المياه ولم يجد مُرشدًا حتى الآن، لذا ضمها بقوةٍ وهو يقول بعتابٍ مرح بعد أن خرج من دوامة أفكاره:
_يا شيخة وقعتي قلبي من مكانه.
يقولون الشيء الساكن قيمته لا تتغير،
والشيء الثابت مهما علت قيمته، فهو يظل ثابت مقدوره لن يرتفع، وهذا الشاب اليوم يجلس في رحاب الله في مسجدٍ صغيرٍ بالحارة، يخطب بالصغار، أصبح شابًا خلوقًا الجميع يتمنون رؤية صغارهم مثله، كان يجلس والصغار حوله في المسجد وهو يركض خلفهم ضاحكًا بعد أن أنهى الخطبة ودورس القرآن، من يصدق أن هذا هو “مُـحي” ذاته؟..
ولج له “أيـوب” ضاحكًا وما إن لمحه وقف يقول بسخريةٍ بعد أن ألقى عليه التحية كاملةً:
_بقى سيادتك سيبت كتب الكتاب وقاعد هنا؟ سبحان الله.
ضحك له “مُـحي” واقترب يقول تحية الإسلام ردًا عليه ثم قال:
_كان عندي درس والله، بعدين وجودي هيعمل إيه يعني؟ بس حاضر هروح علشان بابا رن عليا وعمال يقولي لازم أروح، وأكيد هو اللي باعتك، صح؟.
خمن سبب قدوم “أيـوب” فقال له الآخر:
_لأ، ابن عمك هو السبب.
تعجب بملامحه من قوله وزادت حيرته، بينما “أيـوب” قاده للخارج حيث المسجد الكبير قبل انطلاق السيارات، وقتها كان “تَـيام” يحتضن ابن عمه بقوةٍ يرحب به والسعادة تكسو وجه كليهما، وكذلك كان رد الفعل ذاته من “إيـهاب” الذي ضم ابن عمه وتذكر اللقاء الأول عند عودة رفيقه من الموت، وها هي المرة الثانية التي يعود له فيها من الموت وشائعاته..
وقتها هرول “مُـحي” بين الزحام يتخبط بالأكتاف، كان يسير بلهفةٍ كي يُسرع للقاء الحبيب، سارع وتحرك وزاحم بين الجميع حتى لمح ابن عمه، وقتها وقف بدهشةٍ وهو يفكر كيف لدعوات قيام الليل أن تُستجاب هكذا؟ كيف عاد الميت من موته؟ هرعت العبرات من عينيه دليلًا على رقة قلبه، وتغير طباعه وفي طرفة عينٍ ضم ابن عمه، الذي بكى معه..
لا شك أن موقفهما سويًا كان الأكثر تأثيرًا بين الجميع حيث استقرت كل الأعين عليهما، فقال “مُـحي” بصوتٍ محشرجٍ باكٍ:
_قيام الليل ردك ليا من تاني، دعوات الليل لا تُرد.
طال العناق بينهما، وزادت الدهشة بتغير “مُـحي” حتى أن “نَـعيم” نفسه أصبح كلما رآه يسأل من هذا، لا يصدق أن ابنه أكمل الطريق حتى نهايته بتلك الطريقة، لا يصدق أن هذا الذي كان يخشى من ذكر اسمه؛ اليوم أمام الناس يقف ليستمع لدعواتهم لصغارهم أن يكونوا بمثل أخلاقه الحميدة، اليوم رأى بعينيه معنى أن يكون العاصي، هو المُصلح بذاته..

تعليقات