![]() |
رواية غوثهم الفصل المائة والتاسع والتسعون بقلم شمس محمد
ناداه يونس آسفًا في بطن الحوت
وأيوب مستغيثًا في فراش المرض
وإبراهيم خائفًا بين لهيب النار
ومحمد متيقنًا في غار ثور
ما الذي يمنع عنك مناداتك له وأنت في عمق مآسيك؟
فأنا عَبدُكَ الضعيف..
عصيتك فسترتني
نسيتك فذكرتني
أغضبتك فرحمتني
لا إله إلا أنت سبحانك
إني كنت من الظالمين
وأنتَ ربي أرحم الراحمين..
_”غَـــوث”
____________________________________
ولو كنتُ مناضلًا بين ربوع الوطن..
لا شك أنكِ مقصد الحُرية بذاتها، ولو كنتُ تائهًا فقد عنوانه، فعيناكِ عنوان التائه هذا ومقصد سكنه، ولو أنني لم أكن زاهدًا لكانت فتنتي في بسمة ثغركِ الوضَّاء، ولو لم أكن عاصيًا، فما كان هناك سببًا لتوبتي غير حُسنكِ، ولو لم أكن قاتلًا..
فلن يكون قتلي سوى بعينيكِ، حتى وأنا وسط الجميع مُهابٌ، لكن سبب ليني كان أنتِ، ولو لم أكن أملك حمل التاريخ في قلبي، لأصبحتِ أنتِ حضارتي بأكملها…
ولو لم أكن فاتحًا ومُحاربًا، لكنتِ أنتِ مدينتي المُحصنة التي ألتجيء إليها من قسوة حربي..
ولم أكن سراجًا مُضيئًا، لكنتِ أنتِ نور الطريق لي،
وفي حين كنتُ مثل الطير الحُر، كنتِ أنتِ عُش الطير ومبغىٰ عودته، حتى وأنا أيهمٌ شديد الجمال، كنتِ أنتِ نهال الجمال بذاته، حتى حينما كنتُ غريبًا بين أطراف المدينة وأنتِ تقبعين فيها، علمتُ أنكِ وطن الغريب، لا شك أن تواجدي في أرضي، ووطني، ومكاني بهم غايةٌ وهدفٌ، لكنكِ موطنٌ لأجله يعود المرء ولو خان، أفيُّعقل أن يخون المرء وعدًا، وهو يحمي موطنه؟
حتى ولو الوطن نفسه خان، فعيناكِ الوطن الذي لا يُخان..
<“إنما تلك الحياة تمضي ونمضي وتبقى السيرة”>
العِبرة بالخواتيم..
بالنهايات التي توضع من قلب العزيمة، فتُثمر طريقًا أضناه العمىٰ عن سقاية أرضه، العِبرة في قلوبٍ عادت لوجهتها لترشد من بعد ذلك كل التائهين، العِبرة في مكانٍ بالقلب لم يمُت منه الضمير، ولم تُعمْ به البصيرة، العِبرة في قلوبٍ صفت؛ فرأت الحق مُتجليًا أمام غِمام الباطل وهي نخفي الشمس الساطعة، لكن منذ متى وشمس الحقيقة كانت غاربة؟..
هرول “مُـحي” بين الزحام يتخبط بالأكتاف، كان يسير بلهفةٍ كي يُسرع للقاء الحبيب، سارع وتحرك وزاحم بين الجميع حتى لمح ابن عمه، وقتها وقف بدهشةٍ وهو يفكر كيف لدعوات قيام الليل أن تُستجاب هكذا؟ كيف عاد الميت من موته؟ هرعت العبرات من عينيه دليلًا على رقة قلبه، وتغير طباعه وفي طرفة عينٍ ضم ابن عمه، الذي بكى معه..
لا شك أن موقفهما سويًا كان الأكثر تأثيرًا بين الجميع حيث استقرت كل الأعين عليهما، فقال “مُـحي” بصوتٍ محشرجٍ باكٍ:
_قيام الليل ردك ليا من تاني، دعوات الليل لا تُرد.
طال العناق بينهما، وزادت الدهشة بتغير “مُـحي” حتى أن “نَـعيم” نفسه أصبح كلما رآه يسأل من هذا، لا يصدق أن ابنه أكمل الطريق حتى نهايته بتلك الطريقة، لا يصدق أن هذا الذي كان يخشى من ذكر اسمه؛ اليوم أمام الناس يقف ليستمع لدعواتهم لصغارهم أن يكونوا بمثل أخلاقه الحميدة، اليوم رأى بعينيه معنى أن يكون العاصي، هو المُصلح بذاته..
ترقرق الدمع في الأعين، زادت الوجوه حرارةً، غطت المشاعر الموقف وهي تسرق الغريب قبل القريب من مقصد سيره، كان الأخوان في خضم عناقٍ أشبه بعناق الغريب للغريب في الغُربةِ فكانا قريبيْن، اقترب منهما “تَـيام” باسم الوجه بعينين لامعتين، فالتفت له شقيقه يخبره بلهفة صغيرٍ ألتقى بأمه بعد تيهٍ:
_رجع أهو، شوفت لما قولتلك إنه هيرجع؟.
ضمه “تَـيام” لعناقه بقوةٍ حامدًا ربه، سعيدًا بما حدث، لمح عبرات “نَـعيم” وهي تُحتبس خلف الجفون وكأنه قد أدىٰ الأمانةِ على أكمل وجهٍ، لذا اجتمعوا الشباب حول بعضهم ومعهم “يـوسف” الذي كان يفهم جيدًا معنى أن يكون الإنسان في غُربةٍ ثم يعود لأرضه، حينها _أقسم بالله العزيز_ أنه سوف يبتلع تُراب موطنه ويحمل نعال الأحباب بغير نقمٍ..
زادت المباركات والتهنئات، و”فُـلة” تقف على بُعدٍ تبتسم بغير تصديقٍ، لا تُصدق أن عودته ردت الروح هكذا في الجميع، لقد كان غيابه فاجعةً، كأنه أتى يستوطن القلوب ويحملها معه ويرحل، في رحيله فقد كل شيءٍ لونه وأصبح السواد يُغطي المكان حتى تعمق وتمركز بالقلب، لمحها بعينيه تقف مبتعدة عن الحشد حوله، فاقترب منها هي، تباينت ملامحها بخجلٍ أمامهم، بينما هو فلم يخجل من حقه فيها، لذا قال بصوتٍ وصلها هي:
_الدنيا خدت مني كتير أوي، وسامحت ورضيت، بس أنتِ حقي فيكِ لا هسامح ولا أرضى الدنيا تاخده مني، هتكملي معايا الطريق؟ صح؟.
دارت بعينيها ترى الوجوه وهي ترتكز بالأعين عليهما، فقالت بصوتٍ أقرب للهمس الخفيض لكنه وصل:
_ماكنتش جازفت معاك من الأول، طريقك هو طريقي.
ضحك بسعادةٍ أخيرًا ثم اقترب مُلثمًا جبينها أمام الجميع كأنه يعلن أن قتله قد كان وحان على يديها، هي وحدها من تستطع أن تقتله بنظرةٍ، وتُحييه بكلمةٍ، وحدها من آمن لها من جنس البشر فكانت حصنًا يقف في مواجهة العالم ضده، لقد سبق له الأمر وسمع عن ما يُسمى بالقتل الرحيم، لكنه لم المقصد إلا بلُقياها..
أعلنت السيارات الفرحة في الحارة بصوت الأبواق المرتفع خلف بعضها، حيث بيت “عبدالقادر” الذي تولى مكان العزيمة ومجلس الرجال، كان اقتراحًا قدمه له “أيـهم” حين قال بنفاذ صبرٍ:
_طب ما نفتح المندرة يومها ونستقبل الناس بعد كتب الكتاب بما إنك خال واحد وعم التاني؟ وبكدا تبقى عملت الواجب ومبهدلتناش معاك، والأكل يا سيدي عليا وعليك، ها رأيك إيه؟.
وقتها وافق “عبدالقادر” على المقترح، فتح الاستبقال ببيته حيث نصف الطابق الأسفل ليستقبل الرجال، والنصف الثاني تركه لاستقبال النساء بالحديقة المُزينة، ولم يكتف بهذا الأمر، وإنما أخذ الطابق الأول وتركه للعروسين، وصممه ليليق بهم في تلك الليلة المُباركة بعد أن تم إشهار الزواج بمسجد الحارة وقد كان حاضرًا معهم “عبدالمعز” وسط الرجال، وزوجته “مـادلين” وابنته الصغيرة عند النساء..
عند الحديقة من الخلف حيث الباب المُفضي للداخل وعند الرجال لمحها “إسماعيل” وهي تختلي بنفسها هناك كي تُناديه، هي وحدها من تملك الجرأة لهذا الفعل، لذا اقترب منها سريعًا وضحك وهو يقول بسعادةٍ جعلت قلبها يطير لأجله:
_”مُـنذر” رجع تاني، خدته في حضني وحسيت معاه نفس إحساسي وأنا صغير لما كنت بترمي عليه بعد أي خناقة في الحارة وهو كان بيقف في ضهري لما “إيـهاب” يكون في الشغل، حسيت نفسي بترجعلي يا “ضُـحى”.
ضحكت لأجله وفي طرفة عينٍ كانت أسيرة بين ذراعيه، مُكبلة في عناقهِ، طريقته الأمثل في التحدث عن كل شيءٍ تتلخص في العناق، عن خوفه، أمانه، سعادته، حزنه، كل شيءٍ يحتاج لحديثٍ كان يُلخصه في عناقٍ، لكنه لم يدم طويلًا حيث قطع صفو اللحظة صوت “فـضل” يهتف بسخريةٍ:
_ألا قولي يا “إسماعيل” إمتى أول مرة حضنت وبوست فيها؟.
توسعت عيناه حيث أتاه الصوت من خلفه، بينما هي تخشبت في عناقه وشهقت كمن قُّبضِ عليها في الجُرم المشهود، فتدافعت للخلف دفعًا وقبل أن تفر قد كان وصل بالفعل “فـضل” وسيطر على كليهما أسفل ذراعيه _يمنع بذلك هروبهما_ ثم كرر السؤال بنبرةٍ أكثر غموضًا، فالتفت له “إسماعيل” يمازحه بقوله:
_حلوة البدلة دي يا عمي، ذوق مين يا ترى؟.
_مالكش دعوة بالبدلة، فكرني باللي سألتك عنه.
جاوبه من بين أسنانه المتلاحمة، فتنهد “إسماعيل” ثم رفع رأسه للأعلى ورفع كفه يعد عليها بتفكيرٍ مذكرًا نفسه:
_تقريبًا أول حضن كان بعد كتب الكتاب، وأول بوسة مش فاكر بصراحة بس تقريبًا كانت بعدها بأسبوع، ولا كانت إمتى؟..
توسعت عينا “فـضل” وقبل أن يأخذ رد فعلٍ كان “إسماعيل” طبع لثمته فوق وجنته ثم لاذ بالفرار من جوارهِ وهو يرفع صوته أثناء عودته لمجلس الرجال قائلًا:
_أوعدك هبعتهملك واتساب يا عمي.
ضحكت هي بملء صوتها خاصةً حينما ضحك “فـضل” رغمًا عنه وابتهجت ملامحه، ثم ضم رأس ابنته السعيدة داخل عناقه، لقد عانت كثيرًا وكثيرًا حتى وصلت معه لتلك المرحلة، وهو لن يقبل بظلمٍ لها أكثر من ذلك، يكفيه معاناة شقيقته، لذا كل النساء خاصته تعهد لهن بالخير، وما إن تذكر كيف كانت “قـمر” على شفا حُفرةٍ من الجنون، تنهد بثقلٍ يبحث بعينيه عنها، فإذ بها تقترب منه وترتمي بين ذراعه وصدره..
لن تنسى دوره العظيم معها، كان الكتف والحماية والأمان لها، لقد حملها طوال عمره وكان لها أبًا وهي التي لم تعرف معنى كلمة “أب” لكنها إن سُئِلت فالجواب حتمًا سيكون فيه هو، حتى وإن لم يكن دوره ظاهرًا، لكنه دومًا يرعاها في الخفاء وهي تعلم ذلك، بينما هو ضم ابنتيه لصدره وهمس راجيًا ربه:
_اللهم اكفنا شر فواجع القدر، وحكم النفس على النفس..
وحكم النفس على النفس أشد وطأةً من حكم الحاكم على المحكومين، أكثر فزعًا من حكم ساهٍ في الصحراء بغير بغيةٍ أو هدفٍ سامٍ ففقد عقله، حكم النفس على النفس يُقهر وإن كان فوق الحُكم عسلًا، وحُكم الحر يبقى حُرًا ولو كان في وطنه مُرًا..
____________________________________
<“ألم يحن للخائف مثلي أن يطمئن في عينيكِ؟”>
نظرات العين لا تُكذب ولو تفوهت بغير ذلك الألسنةُ..
فمهما بلغ الحديث مبلغًا لن يكن ببلاغة نظرات صادقة صفت للقلب فتحدثت عنه، لذا بعض النظرات أمان، حتى وإن كان القلب يرتجف من فرط المخاوف، لذا أعني بقولي هذا أن عينيك أمان الخائفين، ألم يحن لخائفٍ مثلي أن يطمئن؟..
غيمة من البهجة ظللت البيت فوق رؤوس أصحابه، الجميع يجلسون في مكانٍ واحدٍ بسعادةٍ، مجلس الرجال يمتليء بهم، حيث رجال عائلة “حـنين” ورجال عائلة “رهـف” من المجتمع المخملي، بوسطهم “نَـعيم” يجلس بشبابه، معهم رجال عائلة “أسماء” وأخوتها لحضور عقد قران ابن شقيقتهم، وعلى رأس الجميع يخدمهم “أيـوب” و “أيـهم” و “إيـاد” الذي كان يتولى تقديم الضيافة للجميع بكرمٍ وسخاءٍ، حتى أغدقته الدعوات من الجميع..
كان “أيـهم” يُنصت للدعوات بفرحٍ وهو يراقب ابنه يسكب الماء ويسقي الحاضرين بوجهٍ بشوشٍ، وخاصةً الكبار حينما ساند البعض منهم للمرحاض، وما إن تحدث جد “حـنين” بمكان الصلاة قبل أن يفُّته الموعد، تطوع الصغير يمسك كفه، ثم قاده لموضع القبلة ووضع له كرسيًا، ثم فرش أسفله سجادة الصلاة وابتسم قائلًا:
_ربنا يتقبل منك، عقبال ما تصلي في الحرم.
ابتسم الجميع ونظروا لوالده الذي لمعت عيناه بفخرٍ كأنه يرغب في رفع صوته ليخبر العالم أن هذا الصغير ابنه، ووسط الدعوات تحرك الصغير من المكان يخرج هاتفه ثم هاتف أمـه، جاوبت عليه من وسط الزحام بالداخل، فطلب مطلبه ثم وقف ينتظرها، أما بالداخل فمال “إيـهاب” على “نَـعيم” يحدثه بصوتٍ هامسٍ:
_أعمل حسابك، وإحنا ماشيين هنخطف “إيـاد” ونجوزه “دهـب”.
التفت له “نَـعيم” بعينين ضاحكتين كأنه لا يصدق أن مُدللة أبيها ورجال بيتٍ بأكمله يتم التفريط فيها هكذا، لذا طاح السؤال من عينيه وأكده بلسانه ينطق ساخرًا:
_بقى أنتَ هتفرط في حبيبة أبوها كدا بالساهل؟.
_ماهي هتبقى قادرة عاوزة راجل محترم يربيها، هو أولىٰ.
هكذا كان الرد فضحك “نَـعيم” على مزحته وكذلك هو ثم حرك عينيه نحو “إيـاد” ليجده بالخارج، ظن أن هناك شيءٌ معه لكنه تفاجأ به يلتقط شقيقه من أمه وهو يقبله، وفي الخارج ضحكت “نِـهال” وهي تقول بصوتٍ مبهجٍ:
_والله طول عمرك حبيبي، خليه معاك علشان بيعيط عليك.
أومأ له بتفهمٍ ثم حمل شقيقه ووقف يداعب الصغير الذي ما إن رآه ضحك وحرك كفيه يلوح بهما كأنه وجد ضالته، كان “إيـاد” يعيش عصرًا جديدًا بمجيء أخِـيه لحياته، كان يهرب من الخارج له، ينام مع بنفس الفراش، يسهر في الليل ويرعاه، لم يفت يومًا وإلا ونزل به الحارة يصول ويجول به والآخر عالقًا بكتفه يعضعض في قبضة يده الصغيرة، والغريب أن “إيـاد” كان يشبه والده، أما “سـيف” فكان يشبه “أيـوب” بوجهه الصغير، وخصلاته السوداء الكثيفة، عيناه الواسعتين الضاحكتين، حتى تجويف خديه كانا في وجه “سـيف” الذي حمله “أيـوب” في قلبه..
اقترب منهما “إيـهاب” بعد أن رحلت “نِـهال” ثم وقف مبتسمًا ومسح بكفه فوق رأس الصغير وقال بنبرةٍ هادئة:
_تعرف؟ أنا نقطة ضعف الأخوات الحنينين على بعض، أي أخ بشوفه بيحب أخواته بيفرح قلبي، علشان كدا فرحت لما شوفتكم مع بعض، بحس فيك مني كتير، بفرح لما بشوفك.
طالعه “إيـاد” بحيرةٍ كأنه لم يستعب أن الحديث له، لكن “إيـهاب” ابتسم بحنوٍ ثم قال بتأكيدٍ لسابق حديثه:
_متستغربش، من يوم ما شوفتك وأنتَ جميل وحنين وشهم، بتخاف على اللي منك ومستعد علشانهم تعمل أي حاجة، فكرتني بيا وأنا صغير، كنت بعمل كل حاجة علشان حبايبي، خصوصًا “إسماعيل” لو كان في ليلة طلب روحي؛ معزهاش عنه، ربنا يحفظك يا عمنا.
ضحك له “إيـاد” مؤمنًا دعوته ثم عاد معه للداخل بين الرجال وفي يده شقيقه الذي تخطى الستة أشهر الأولى من عمرهِ ومع كل يومٍ يزداد البيت حُبًا له وبهجةً به وفرحًا بتواجده.
في الأعلى حيث الطابق الأول الذي تم تجهيزه لاستقبال العروسين والعريسين، وضع لهم العشاء، لكل زوجٍ منهما طعامه وحده، وقد جلست “رهـف” بجوار زوجها ضاحكةً وهي تقول بمزاحٍ:
_لأ بس كتر خيرك يعني، جيت كتب الكتاب وسيبت الماتش.
دار بعينيه حتى وصل لها ثم قال بعتابٍ مرح:
_دا أنتِ قلبك أسود أوي، لسه فاكرة، خلاص.
ضيقت جفونها فوق زرقاوتيها فوجدته يقبض فوق وجنتها بمزاحٍ ثم اقترب يُلثمها في لمح البصر حتى تضرج وجهها بحمرة الخجل منه، أما هو فهو لأول مرةٍ يعهد قربها بهذا الشكل، دارت الأحاديث بين عينيهما، فابتسم هو لها ثم مد كفه يقبض فوق كتفها وقال بحبٍ:
_سيبك من كل حاجة، المهم أني وصلتلك أخيرًا.
شدت بيدها فوق يده وهي تخبره أنها أصبحت تخشى الدنيا بدونه، أصبح تواجده هو الأمان الذي تعرفه، لم تنطق الحديث شفهيًا لكن عيناها فعلت، أقسمت له بنظراتها أنه وحده من استطاع بوصوله لها أن يُعيد لها نفسها التي سبق وفُقِدت منها، فهي لم تنس من رحل، لكن ذكراه خالده كُلما تذكرته سوف تدعو الخالق برحمته، فهو أصبح في غنى عن الدنيا بحاجتها، لذا تدعو الخالق أن يرحمه ويسكنه مع الشهداء والصديقين، وأن يبارك لها في زيجتها.
لاحظ “عُـدي” صفو نظراتها فضم رأسها لعناقه بقوةٍ، يعلم التخبط الذي تُعانيه، يعلم كيف فقدت جزءًا من روحها ولم يُسترد، يعلم أن مثلها كما الهرة الصغيرة تعيش في حالها، ولم تنبش بأظافرها إلا من أتاها بغتةً ينتوي القسوةَ لها، سكنت بقربه وهي تتنفس بحريةٍ بعدما تحررت من أغلالٍ كانت تُقيد جناحيها.
في الجهة الأخرى جلس “نـادر” بجوار زوجته التي حاولت أن تعتاد عليه وهي نضحك معه تارة وتشاركه الطعام تارة أخرىٰ، ثم تبتسم له، بينما هو يسألها عن سبب جمالها، فتخجل منه وتشكره بسعادةٍ، وفي خضم تلك اللحظة أتته المزعجة، تلك الفتاة التي لعن ساعة معرفته بها، ولجت كما الطلقة من فوهة السلاح وجلست بجواره وهي تقول بمرحٍ:
_أنتَ بتاكل من غيري؟ جايلك نفس؟.
التفت لها يعض فوق شفته ويكتم غيره منها، فوجد “قـمر” تلحق بها وتجلس بجوار عروسه التي ضحكت بسعادةٍ ما إن رأتهما، أما هو فالتفت يهمس لـ “ضُـحى” بحنقٍ:
_خدي أم كُلالة اللي جنبك دي وأخفوا من هنا.
عاتبته هي بدراما مُصطنعة وهي تصدر صوتًا يدل على النفي:
_لأ لأ لأ يا سيادة القبطان، دي مش طريقة بروفيشنال خالص، معقول عاوزنا ننزل ونسيبك لوحدك؟ أومال إحنا أخوات إزاي؟ بعدين جايين نتطمن على أخونا؟.
في تلك اللحظة ندم أشد الندم على تلك العلاقة، كره أن أصبح له أخوة مثل هذه التي لم تكف عن مشاكسته، وقد لحقت بها الثانية حيث تقول بخبثٍ ومشاكسةٍ:
_وأنتِ بقى يا “حـنين” حبيتي “نـادر” ولا لسه؟.
دارت العروس بعينيها تبحث عن مفرٍ لكنها لم تجد، حينها زادت نظراته هلعًا حيث أنه السبب حينما أخبرهن ذات مرةٍ ومعهما نسوة العائلة:
_خايف تكون لسه مش حباني، مش هقدر أتعامل مع واحدة وأفرض نفسي عليها من جديد، كفاية اللي حصلي أوي.
ولأجل هذا الحديث يبدو أن تطفلهما طفح بالمكان حتى أن زوجته قالت ببعض الخجل النسبي لكنها تحاول لأجله:
_وهو “نـادر” برضه ميتحبش؟.
علُقت عيناه بها حيث كان لحديثها أثرًا جميلًا على سمعهِ، وحينها ابتسمت هي له ثم أضافت بمزيدٍ من القوة الواهية على عكس نيران خجلها المتقد:
_أكيد حبيته طبعًا وبتمنى ربنا يجعلني عوض الدنيا ليه.
ضحكت لها “قـمر” بشقاوةٍ لذيذة، فيما مالت عليها “ضُـحى” تخبرها بطريقةٍ جادة كأنها تمثل في عرضٍ مسرحي تُجيد لعب الدور فيه:
_بصي يا حبيبتي، أخونا دا طول عمره في عنينا، عمر ما واحد فينا زعلته ولا داستله على طرف.
_دا طبعًا علشان مشافونيش قبل كدا.
هكذا قاطعها “نـادر” فوجدها تضربه بمرفقها في جانبه وقد كتم تأوهه لحين إشعارٍ آخر، بينما “قـمر” فربتت بكفها فوق كف الأخرى وهي تقول بصوتٍ هاديءٍ وضحكة بشوشة:
_متزعليش إحنا والله مش طالعين نرخم، إحنا بس جايين نهزر معاكم ونفككم كدا وعاوزينك تاخدي علينا لإن زي ما أنتَ شايفة كدا إحنا عيلة واحدة ودوقنا المر في كاسات أكتر من الفنان “حسن الأسمر” فخدي علينا بسرعة علشان كلنا والله طافحين الدم طفح.
أومأت لها مبتسمة وهي تقول بودٍ:
_أنا بس مش مستوعبة يعني إني قاعدة معاكم كدا، بحاول استوعب الأحداث لكن والله أنا مبسوطة بيكم وطول عمري ماكنش عندي أخوات بنات، وربنا رزقني بيكم.
شدت وقتها “ضُـحى” أخيها تهمس له بحنقٍ:
_البت دي محترمة أوي وذوق كدا ليه؟ مش هقدر أحربق عليها دي، عاوز الحق؟ البت دي خسارة فيك وفي أهلك كلهم.
قبل أن يتحدث أو تزبد كلتاهما في الحديث أتته النجدة بصوت “غـالية” يهتف باسميهما فركضتا سويًا من المكان خلف بعضهما، بينما العروس فضحكت وهي تلوح لهما، على عكسه هو تعلقت عيناه بعينيها الضحوكتين، فتوسعت بسمته لأجلها، بينما هي فلا تعلم كيف فعلتها ودفنت رأسها بكتفهِ، كانت تود أن تستشعر الأمان منه، مثلها عانت في حياتها كثيرًا حتى أنها أصبحت تخشى الحياة بناسها، النساء يتحدثن عنها بكل مكرٍ وسوءٍ، والرجال يطالعونها بطمعٍ في جمالها، والشباب يسخرون من أمر تطليقها، يطلقون عليها عبارات الإساءة والذم، وهي تتحمل المجتمع العقيم بناسه الجهلاء…
مر شريط عمرها المُعذب كاملًا أمام عينيها، فرفعت رأسها تواجه “نـادر” وهي تقول بصوتٍ مبحوحٍ كأنها تكتم البكاء في حلقها فلا تُتيح له مكانًا يأخذه:
_عارف؟ أنا والله العظيم شوفت الويل في حياتي كلها، سواء شغلي أو بيتي أو أي حاجة قبل كدا، ماكنتش مصدقة إن ممكن ربنا يعوضني عن كل دا، ولما شوفتك اتمنيت من ربنا يرزقني العوض فيك، قولت عادي لما أدعي ربنا يهديه وينور طريقه ويمكن يشوفني، معرفش ليه بس من أول مرة شوفتك فيها زعلان قدامي كنت بتمنى أكون معاك في اللي جاي، ودلوقتي خايفة تاني تسيبني.
لمح الصدق في عينيها، رأى العذاب الذي سبق وعانته يعود ويكوي قلبها بأسواط الذكرىٰ، لمح الخوف والرجاء منها، لمح كل شيءٍ جعلها تتوق للحظةٍ مثل هذه لو لمرةٍ بعمرها، لذا ضمها بكف يده يمسح فوق رأسها بكتفها وقال بصدقٍ:
_أنا جايلك قليل الحيلة مستنيكِ تشدي بأيدي، يبقى إزاي أسيبك؟.
ابتسمت له بسعادةٍ ثم دفنت نفسها بعناقه، بينما هو فتنهد بثقلٍ متمنيًا أن يختبر تلك الراحة التي يخلو منها معجمه، كانت كلمة غريبة عليه كُليًا لم يختبرها في أي مرحلةٍ عُمرية، حتى في زواجه الأول كان مجرد مخاطرةٍ فحسبٍ، مجرد تضحية منه لأجل العائلة وياليته تم تقديره بدور البطولة في تلك المسرحية السخيفة، كان مجرد ممثل ثانوي أُضيف للكدر التصويري كي يصبح مكانه شاغرًا، أما بعد؛ فهو الآن في خضم بطولة مُطلقة، أصبح البطل الأكثر تقديرًا واحترامًا من بين الجميع هُنا..
لذا لك حُرية الاختيار، إما أن تقبل بدورك الثانوي في مسرحية الآخرين، وإما أن تكون البطل في مسرحيتك أنتَ..
____________________________________
<“وما فاتني لم يكن لي، لذا اليوم أحسب ما أنا عليه”>
كل ما فات الإنسان من شيءٍ لم يكن له..
وكُل ما تمناه القلب ربما قد يكون له نصيبٌ به، لكن أبدًا لن يفوتك الرزق لطالما قدره الإله لك، لطالما حفظ الله لك رزقك من بين كل العباد، فمن المؤكد رزقك سيجدك وستجده أنتَ، فاطمئن وأرح قلبك، لعلك في طريقك لمقابلة رزقك..
الليل دخل أكثر بعتمته، كانت تقف أمام المرآة بعد أن تحممت ووقفت تُصفف خصلاتها، تعجبت كيف صغرت هكذا كي تصبح أكثر حيوية وشبابًا عن ذي قبل، لقد أصبحت أصغر من عمرها حتى أن عين الرائي لن تصدق أنها أتمت عمرها الخمسة وأربعين، ابتسمت بعد أن جففت خصلاتها وتركتها حُرة، وصورته أمام عينيها فوق طاولة الزينة، تنهدت بقوةٍ ثم التقطت صورته تمرر أناملها فوقها وبسمتها تتسع شيئًا فشيئًا…
فجأةً فتح الباب وانطلقت منه فتاة صغيرة العمر وهي تضحك بسعادةٍ ثم رمت نفسها عليها، حينها وقبل أن تترك الصورة كانت ابنته ضحكت وهي تقول بمزاحٍ:
_قفشتك، كنتِ بتعملي إيه؟.
خجلت “مـادلين” منها ومن الجواب، فكيف تخبرها أنها كانت تتأمل صورة أبيها؟ كيف تخبرها أنها كانت تراقب ملامحه، لذا حركت كتفيها وهي تبتسم بوجهٍ خجولٍ، فضحكت صغيرته صاحبة السنين السبع ثم عانقتها وهي تقول بدلالٍ عليها:
_أنا جعانة طيب، مش هتاكلي؟.
أومأت لها موافقةً ثم حملتها وتحركت بها لمطبخ الشقة، تركتها تجلس أمامها عند الحافة الرُخامية ثم قالت بصوتٍ هاديءٍ:
_تاكلي إيه؟ أعملك طبق من الغدا؟ ولا أعملك سندوتشات؟ ولا أحمرلك بانيه، نفسك في إيه تاكليه؟.
دارت الصغيرة برأسها بحثًا عن شيءٍ ما ثم همست بصوتٍ خافتٍ:
_عاوزة بطاطس محمرة وكاتشب من غير عيش.
ضحكت “مـادلين” على طريقتها ثم بدأت تنفذ طلبها، بينما الصغيرة فركضت تفتح شاشة التلفاز كي تشاهد كرتونها المفضل، أما “مـادلين” فراقبتها بعينيها المُبتسمتين وهي تشعر أنها التحفة الثمينة التي تخشى عليها من خدش العالم القاسي، تخاف عليها من ظُلمة القلوب ومن قساوة الطباع، لذا اختارت البقاء معها كي تعوض ما فاتها في حياتها مع “عـاصم”..
عند ذكره استغفرت ربها سرًا ثم همست لنفسها توبخها أن حتى مجرد ذكر حياتها القديمة لنفسها لم تنفعها بشيءٍ، وسرعان ما عاد القلب الساذج يخفق لأهله، حضرت صورة زوجها وهي تتذكر ليلة أمسٍ كيف ظل يُطريء عليها وعلى جمال عينيها وهيئتها حينما أخبرته أنها كبرت في العُمر، أنهت ما تفعل ثم اقتربت من الصغيرة “رودينة” ووضعت لها الطعام أمامها، فيما ركضت فتاته تجلس بقربها وترمي رأسها في عناقها وهي تتناول الشطائر المفضلة بالخبز الفرنسي “فـينو”..
كانت تعشق هذا البيت منذ أن أتت إليه بصفتها زوجته منذ أربعة أشهر، وقعت في حب تفاصيله الهادئة التي تشبه ذوق صاحب البيت، وقعت في حب بتلات الزرع، وقعت في حُب ركن القراءة، وقعت في حب تنسيق الألوان بين الأبيض الكريمي والأزرق البترولي، كل شيءٍ جدده لأجلها وترك عليه بصمته، كانت كما ابنة العشرين وهي تنتقي معه بيتها، شتان بينه وبين ما سبق، يومها كانت حرة بملء إرادتها، بينما في السابق جُرِت كما الشاه وفُرِضت على المكان بأهله..
طال شرودها ليوم عقد القران حينما استقرت الأوضاع لدى الجميع بعد ليالٍ عصيبة وقاسية، وبعد أن نال السجين حُريته، وتم انتشار خبر حمل “قـمر” وحاول “نـادر” أن يعود للواقع من جديد بعد أن باغتته الليلة القاسية وسرقت منه روحه..
[منذ أربعة أشهر مضوا] وقتها اكتفت هي بعقد قران بسيط بمسجد الحارة وقد أشعر زواجه منها أمام الجميع بعد صلاة العصر يوم الجمعة، ثم جلست في بيت “غـالية” بعد أن تولى رعايتها وكان وكيلًا لها كلًا من “يـوسف” و “نـادر” وشهدا على عقد قرانها كذلك، فأصطحبها الطبيب لبيته، كان هادئًا، رزينًا كما يبدو عليه، التهذيب أسمى صفاته، وعيناه تنطق بالحبِ، لذا هي كانت تشعر معه بالأمان، ترى فيه صفات لم يسبق لها أن تعهدها، وهذا ما حدث بالفعل.
يوم أن عاد بها للبيت بعد احتفالٍ بسيطٍ من أفراد العائلة؛ أتى بها لهنا، ولجت البيت بثباتٍ ورأسٍ مرفوعٍ بينما هو فكان يشعر بشيءٍ من الاستقرار في شتات نفسه، لذلك ولج معها بهدوءٍ حتى جلست هي فسألها بهدوءٍ:
_تحبي تغيري حاجة هنا، أو معترضة على حاجة؟.
انتبهت له وأومأت نفيًا، بينما هو فابتسم ثم جلس على طرف الطاولة وهو يقول بصوتٍ هاديءٍ:
_بصي أنا فاهم كل حاجة، طبيعي يعني تستغربي وتحسي إننا اتقابلنا بسرعة واتجوزنا بسرعة بس إحنا كبار بما فيه الكفاية، أو أنا اللي كبير يعني، فقادر أحدد مشاعري ناحيتك، وعلشان كدا مش هقولك كلام أفلاطوني، بس هقولك قلبي اتفتحلك لما شوفتك، حسيت تاني إني أقدر أحس، علشان كدا وصلنا لهنا، وبغض النظر عن أي حاجة، أنا معاكِ اعتبريني نفسك، أي حاجة قبلي ملهاش علاقة بحياتنا، وماليش حق ألوم عليها أو أتكلم، ولو عاوزة تعرفي حاجة عني تاني، أنا تحت أمرك.
هي بالفعل كانت تعلم عنه كل شيءٍ، لقد سبق وأخبرها ما يكفي ويزيد عن حياته، أخبرها أنه الابن الثالث في أسرته وأنه الوحيد الذي يعيش وحده بعيدًا عن بيت العائلة، أخبرها عن ابنته التي يفعل كل شيءٍ لأجلها، أخبرها عن زوجته السابقة وكيف توفت في حادثٍ أليمٍ غير متوقعٍ، كان صريحًا حينما أخبرها أنه لازال يتذكر زوجته المتوفية ويدعو لها بالرحمة ويتصدق لها أيضًا..
لذا يومها همست بثباتٍ وقوةٍ كانا سمتين فيها:
_أنا تقريبًا عارفة عنك كل حاجة، ومقدرة صراحتك، وعلشان كدا هكون صريحة معاك وهقولك أنا هنا لأني حسيت إنك فرصة ليا، أرتاحت ليك آه، حاسة إني متطمنة يمكن شوية، بس هكدب وأقول إني حبيتك وشغل المراهقة دا، أنا طول عمري عملية وعندي ١+١ يساوي اتنين علطول، فعلشان كدا وقت ما هحس إني فعلًا مش قادرة وخايفة، هطلب أمشي، موافق صح؟.
طالعها بصمتٍ يراقب ملامحها ولا يفهم منذ متى أحب تلك الملامح التي تصرخ بالقوة، فتُنافيها نظرة العين الضعيفة بانكسارٍ، راقب شكلها الرقيق وكل شيءٍ بملامحها وهو يفكر كيف له أن يتركها ترحل بعد أن وجد راحته؛ وهو منذ ما يقرب الست سنوات يفقدها؟ طال النظر منه لها وتقابلت المُقل في حديثٍ كان منها خوفًا، ومنه كان أملًا، فتشكلت الكلمات منه:
_أنا وعدتك وقت ما تطلبي إنك تتحرري مني أو أقصر في حقك، هتنولي حُريتك مني، بس ليا عندك طلب واحد، تحافظي على بيتنا وتراعي ربنا فيه وتخلي بالك من بنتي لما تيجي تعيش معانا، هي طيبة خالص والله وعسولة وهتحبك.
وقتها لمحت الطيبة في أمله، لم يكن سليطًا فيما يرغب، بل كان يأمل منها في شيءٍ، لذا وافقت هي بترددٍ وخاطرها يجول بالعديد من الخيالات المريبة، إلا أن انقضى أول أسبوعٍ بينهما في هدوءٍ ورُقي منه فيما يود وفي احترامٍ منها له ولمكانته، ويوم العطلة سافر لبلدة حماته ثم أتى بابنته وعاد، وقتها أنفتح قلبها لصغيرته، أشفقت عليها وعلى ما عانته بدون أمها، لذا أي نية لها في الرحيل تبخرت كما يتبخر السراب أمام الحقيقة..
وقتها جعلها تقسم أن لا حياة لها بدونه..
جعلها تراه وحده صورة موحدة لكل الرجال، أقسمت أن الذي سبقه كان عصر إضمحلال تاريخي، وهو وحده أزهى العصور، كان عطوفًا عليها، ودودًا معها، أبًا لابنته وصديقًا لها في المقام الأول قبل أي شيءٍ، لذا هي حتى فكرة الابتعاد قامت بمحوها من رأسها، بدأت تعمل على تكوين أسرة تكون لها مأوىٰ بعد ما عانت وشاهدت من قسوةٍ، خرجت من شرودها على فرقعة أصابعه أمام وجهها وصوت ابنته تُهلل باسمه..
تنهدت حينما انتبهت له ثم وقفت أمامه وهو يحمل ابنته بين ذراعيه يُلثم وجنتها بحبٍ ثم أنزلها فركضت هي نحو الحقيبة الخاصة بها تحمل شعار محل اللعب المفضلة لديها، أما هو فابتسم لزوجته وقال بمزاحٍ:
_ما قولنا نبطل نسرح شوية، مش معقول كدا خبي شوقك.
ضحكت على طريقته ثم لكزته بكفه حتى ضحك هو وضع طلبات البيت فوق الطاولة أمامها وولج الغرفة كي يبدل ثيابه، بينما هي رمت نظرة نحو صغيرته التي تتابع الدُمية الجديدة بين يديها ثم ولجت خلفه للغرفة، كان يُحضر ثيابه من الخزينة، بينما هي ولجت تطمئن عليه، أرادت أن تسأله عن سبب تأخره لكن بدلًا من كل ذلك، اندفعت بقولها:
_أنتَ كنت فين كل دا؟.
التفت عاقدًا حاجبيه لها ثم قال ببساطةٍ:
_في الصيدلية، النهاردة “مُـحي” مشي بدري علشان ابن عمه رجع من السفر وسابني مكانه بعدما وصلتكم، مالك فيه حاجة مزعلاكِ؟.
حركت رأسها نفيًا ووقفت أمامه بصمتٍ تفكر لما ما يُقارب اليومين وهي تشتاق إليه، ترغب في بقائه الدائم، تتمنى أن تظل معه أكثر الأوقات الممكنة، وقفت أمامه بصمتٍ بينما هو أقترب ووقف أمامها يسألها بهدوءٍ:
_عاوزة تقولي حاجة؟ قولي وأنا هسمع وأحكم.
لم تعلم ماذا ترغب وماذا تريد، لكن ما استطاعت فعله فقط أن تحتضنه، فعل غريب في وقتٍ أغرب فعادةٍ تفعلها عند نومها، لكن في مثل هذه الأوقات تتصنع الجمود، لذا ضمها هو بين ذراعيه، فيما قالت هي بصوتٍ مختلط المشاعر:
_شكلي حبيتك يا “عبدالمعز”.
خفق قلبه لأجل تلك الكلمة التي حُرِمَ منها من اللقاء الأول بينهما حتى وهي زوجته بصفة رسمية، تقبل شخصيتها القوية والعنيدة، سمح لها أن تخفي هوجائية مشاعره المُضطربة في حضرته، سمح بكل شيءٍ حتى أصبح آهلًا بهذا القلب، لذا عادت للخلف تراقب ملامحه الطيبة كأنها كانت تعيش مع شيطانٍ، راقبته وابتسمت وهي تقول بصوتٍ هاديءٍ:
_بقيت حابة هنا أوي، حابة حياتي كست بيت هنا، وليا راجل بيشاركني حياتي، وليا بنوتة صغيرة عرفتني إحساس عمري ما حسيته، حابة الهدوء اللي ملا حياتي فجأة دا.
ضحك بعينيه ثم قرب وجهه من خاصتها يسألها بحنوٍ:
_طب وحُريتك مني؟ لسه عاوزاها يا “مـادلين”؟.
تذكرت هذا الجواب حينما أخبرته يوم عقد قرانهما، وقد ظهر الجواب في عينيها قبل لسانها وأيدت بقولها:
_الحُرية من غيرك سجن ليا، مش عاوزاها.
ضمها بقوةٍ لعناقه ومسح فوق ظهره، جعلها تستقر بعناقه فتشعر بالأمان يتوغلها، أرادت أن تبقى هكذا تعيش في سلامٍ، بلا مؤامراتٍ أو حروبٍ أو ميراثٍ يأكل في قلوب أصحابه، أرادت أن يبقى العمر هكذا بينهما حتى أنها اكتفت بتلك الصغيرة ابنة لها، وتحاول جاهدةً أن تعوضها عن فقدها لأمها.
بعد قليل جلسوا حول الطاولة وهو يترأسها وقد لمعت عيناه بسعادةٍ وهو يرى ابنته تشاركها سكب الطعام بفرحةٍ كأنها تعتبرها أمًا لها، لذا حمد ربه سرًا وجهرًا ثم بدأ يتناول الطعام وعيناه لم تبرح تلك التي ردت له الروح بكلمةٍ منها فقط..
____________________________________
<“عهدي لكِ باقٍ لا يُخان، أيخون المرء وطنه بعينيكِ؟”>
ثمة بعض العهود لا تُخان…
حيثُ لا يجرؤ المرء على أن يفعلها ويخون وطنًا، أيعقل أن يخون المرء وطنًا في عينيَّ من يُحب؟ تلك الأعين التي كان بهما مسكنه وموطنه ومأواه، أيعقل أن يفعلها ويخون عهده حتى ولو كل الوطن خانه؟.
سعادة تليها سعادة تليها فرحة، تغمرها لحظة أمانٍ..
مشاعر هادئة كما غيمة لطيفة تُمازج آشعة شمسٍ ساطعة بدفءٍ في نهارٍ شتوي، الجوي نديَّ غير جافٍ، الهواء لطيف كما بلسمٍ يُرطب الوجوه، ثم ليلٌ صافٍ من كل عكرٍ يزينه ضوء القمر، ثم سعادة من نوعٍ خاص تُشيء بحياة جديدة، حيث “عـهد” تتسطح فوق الفراش، وجهاز الآشعة التلفزيونية يدور فوق بطنها، وما تحمله في رحمها يظهر خلف إطار الشاشة، ومع كل حركةٍ منه، ينبض قلبان بالحياة..
كان “يـوسف” يقف بجوار الفراش يتابع الشاشة بسعادةٍ وكذلك زوجته التي كانت تضحك لرؤية جنينها، تنهدت بحبٍ ثم انصتت للطبيبة وهي ترفع الجهاز عن بطنها، وقد عاونها “يـوسف” حتى اعتدلت وعدلت ثيابها ثم تحركت تجلس عند المكتب، بينما هو فانتظر على أحر من الجمرِ موعد الولادة، فقالت الطبيبة بنبرةٍ ضاحكة:
_عملتي الواجب في كتب الكتاب النهاردة؟.
ضحكت “عـهد” وقالت بقلة حيلة:
_متحركتش من مكاني والله، فضلت قاعدة بس كنت مبسوطة.
أومأت الطبيبة ثم تنهدت وقالت بصوتٍ هاديء:
_طيب يا ستي بما إن الساعة عدت ١٢ بليل، فولادتك بكرة الساعة ٩ بليل هنا إن شاء الله.
نشغت “عـهد” بسعادةٍ فيما ضيق “يـوسف” حاجبيه وسأل بعجبٍ من الموعد الغريب على سمعهِ:
_الميعاد دا بناءً على إيه؟ مين حدده يعني؟.
_هو.
لفظتها الطبيبة هكذا من فمها بكل تلقائيةٍ، ووقتها ارتسمت السخرية على معالم وجهه وهو يقول:
_لأ والله !! البيه بيتشرط عليا قبل ما ييجي؟ من دلوقتي بيحدد الميعاد وجايلي ٩ بليل؟.
ضحكت “عـهد” على سخريته من مولوده قبل المجيء وكذلك الطبيبة التي أصبحت في كل استشارةٍ تستمع لتعليقاته، بينما هو فتح دفتره ليرى في هذا الموعد تحديدًا اجتماعًا هامًا ينتهي بعد منتصف الليل، فسأل بهدوءٍ لم يُوشِ بسخريةٍ كما في باطن الأمر:
_طب مينفعش الميعاد يتأخر شوية؟ يعني علشان أكون فضيت نفسي ليهم وأعرف أكون براحتي من غير ما حاجة تشغلني.
حركت الطبيبة رأسها نفيًا بأسفٍ، فتحدث هو بتهكمٍ ساخر تلك المرة وكأنه حقًا لم يستعب موعدًا هكذا للولادةِ:
_ليه؟ الأستاذ عنده إيه؟ وراه إجتماع مع رابطة ماسكين الحبل السُري؟ من أولها عقوق ما شاء الله؟ دا بدأ معايا بدري أوي.
ضحكت كلتاهما وقد لكزته “عـهد” في قدمه حتى لا يسخر من مولودها، فضيق عينيه نحوها ثم توعد لها بنظراته، بينما الطبيبة فسرب سبب الموعد بقولها العملي الهاديء:
_يا باشمهندس “يـوسف” هي هتيجي نجهزها هنا ونحضرها وتكون مستنية وقت ما الجنين يتحرك ويكون جاهز للنزول، هنستعد ونولدها، هي ما شاء الله هتولد طبيعي إذا أراد ربنا، يعني ممكن أصلًا تولد الصبح مش شرط بليل، بس علشان هي هتولد بدون ألم، لازم نكون محضرين نفسنا، ويمكن برضه حسبتنا تكون غلط، كله بأمر الله.
أومأ لها بهدوءٍ ثم حرك رأسه لزوجته وهي تستأذن لدخول المرحاض، وما إن ولجت لمح نظرة الطبيبة لها وهي تتابعها ببسمةٍ غريبة، فسألها عن السبب بصوتٍ خفيضٍ، ليأتيه الجواب بحبٍ بالغٍ:
_مش هقدر أوصفلك فرحتي بيها مهما فضلت أتكلم، كانت جاية هنا وهي لسه في جامعة، بنت صغيرة باباها توفى، عيلتها رموهم في الشارع من غير رحمة أو حتى فكروا فيها وفي سنها الصغير، بعدها جاتلي هنا علشان تشتغل ورفضت أي مساعدات من أي حد، كانت علطول خايفة ولوحدها ورفضت حد يشيل مسئوليتها، دلوقتي أنا فرحانة علشانها، فرحانة علشان ربنا عوضها بيك وباللي في بطنها، مبسوطة إن البنت اللي كنت بشوف في عينها الكسرة والخوف، دلوقتي بقت مبسوطة وحياتها بتتعدل، دا الفرق بينك وبين “سـعد” إنك حبيت “عـهد” علشانها هي، إنما هو حبها علشان نفسه.
ابتسم لها “يـوسف” بهدوءٍ ثم سحب هاتفه ومفتاح سيارته واستعد للرحيل وهو يقول بثباتٍ:
_الحب في المقام الأول تضحية يا دكتورة، أنا بحب حد يبقى هحب أشوفه مبسوط ومرتاح في حياته، بحبه علشان عاوزه مبسوط ومتطمن مش خايف، إنما الحب اللي الغرض منه أنانية وآخد بس ماديش وكل حاجة فيها بمقابل دا قصاد دا، عمره ما بينفع، وأنا الحمدلله ربنا رضاني بيها في الدنيا.
خرجت “عـهد” له بوجهٍ بشوشٍ ثم مدت كفها تحاوط ذراعه، بينما هو رحل بها ببسمةٍ بشوشة ووجهٍ مرتاحٍ للغاية، نعم مرا معًا بالكثير والكثير، لكن على قدر الصبر تأتي العطايا، حتى لو كان في كهفٍ مُظلمٍ فرزقه المُقدر لن يضيع هباءً، وهي كانت رزقه المُقدر منذ أن وطأ بقدمه هذه الحارة..
ولجا السيارة مع بعضهما وقد نظر لها هو لبرهةٍ ثم قاد السيارة حتى لاحظت أنه تخطى بيتهما فالتفتت له بحيرةٍ وحينها وجدته يهتف بهدوءٍ كعادته وبثباتٍ قال:
_هنروح مشوار خفيف كدا، جاية؟.
رمت رأسها فوق كتفه وقالت بضحكةٍ واسعة:
_طالما معاك جاية لآخر الدنيا.
كان جوابها مبتسمًا وسعيدًا وهي تحاوط بطنها بكفها وتمسح فوقها بحركةٍ دائرية وقد انتبه لها هو، فابتسم ورمى ذاكرته للخلف، حيث ما يزيد عن الستة أشهر، حيث الليلة المشؤومة التي كانت رعبًا في النفوس، ليلة لن تنسى مهما طال الزمن عليهم جميعًا وهو على رأسهم، حيث كان فاقدًا لكل معاني الحياة وقتها، كان ميتًا على قيد الحياة يتنفس بغير معانٍ لعيشه..
[منذ ما يزيد عن الستة أشهر]..
يوم الحادث بعد أن شقت صرخته سكون الليل باسم رفيقه الذي لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعي “قـمر” التي صرخت هي الأخرى، وفي تلك اللحظة كان المكان أشبه ببركة دمٍ، رأس “سـامي” المنفجر بأبشع ميتةٍ، وبجوار جسد “نـادر” يحاول أن يرتفع بجسده، وجسد “أيـوب” مُغطى بالدماء، وقتها زحف له “عبدالقادر” بانكسارٍ وحينما صرخت “قـمر” كذبها هو، كذب أن فلذة كبده راح عنه في طرفة عينٍ هكذا، كذب أن “أيـوب” الصورة الأخرى للدين المُضطهد يموت هكذا، لذا انتفض يحمل ابنه رغم وهنه، حاول وأثناء حركته كان قد سقط جسده…
وقتها ظهر “إيـهاب” من العدم، أرسله الخالق من حيث لا يعلمون هُم، لمح الموقف فظن نفسه داخل أحد المقالب وليس إلا، كيف كان المشهد بتلك القسوة؟ هرول يحمل “أيـوب” ووضعه في السيارة ثم انتبه لزوجته التي تصرخ وتهزي بجنونٍ ثم “يـوسف” التائه في موضعه، الجميع في حالٍ لا يُحسدون عليه، لذا أتى “بـيشوي” بعد أن هاتفه أحد الشباب العاملين وحينها قاد السيارة وتحرك بها بجسد “أيـوب” ولهفة “عبدالقادر” وخوف “يـوسف” وجنون “قـمر”..
بينما “إيـهاب” فوقف يتابع البقية بعينين متحجرتين، تلك الليلة تشبه ليلة وفاة “أشـرف” إلى حدٍ كبيرٍ، لذا عاون “نـادر” الذي بدأ يستفيق ويُدرك ما حدث، فهرولت العبرات من عينيه، وبنظرةٍ شمل بها جثمان “سـامي” أغمض عينيه، أما “مـاكسيم”..!! رأس الشيطان فهو هرب وسط تلك الحالة الفوضوية، كما الحية تلدغ من أسفل التبن ثم تعود إلى حيث أتت في الخفاء..
وقتها كان “أيـوب” محتفظًا بأنفاسه، العقل كان يعمل، والقلب هكذا، لكن الجسم فقد كمية كبيرة من الدم، وقتها تبرع له “عبدالقادر” بما إنه نفس الفصيلة بذاتها، بينما “يـوسف” فكان يخشى فراقه، لن يستطع أن بعيش هكذا وهو يفقد “أيـوب” أو الصورة الأخرى من “مصطفى الراوي” لذا كان بعالمٍ آخرٍ، بينما “قـمر” فكانت تبكي بصمتٍ وعيناها معلقة فوق الغرفة تهزي بضياعٍ، لتوها استفاقت من صدمتها بمحاولة الاغتصاب بفضل تواجده معها، هل يُعقل أن يكون الطريق عبثيًا معها لهذا الحد؟..
مر يومٌ كاملٌ على “أيـوب” في غرفة الرعاية وفي المساء، أتت الشرطة وعلى رأسهم مأمور الضبط يطلب بالقبض على “عبدالقادر” بتهمة اختطاف “سـامي” و على “يـوسف” بتهمة القتل..
تحولت المشفى لميدانٍ من الفوضى، صوت الصياح المرتفع من كل مكانٍ، رفض “أيـهم” واحتجاجه على الموقف واشتباكه باليد مع مأموري الضبط والإحضار، صراخ “قـمر” التي تعلقت بذراع شقيقها الذي رحل بصمتٍ وإنكسارٍ خلف “عبدالقادر” الذي خرج مُطأطأ الرأس وقلبه في الداخل تركه بجوار “أيـوب” في الغرفة التي قبع بها ويقال أنه تارةً يُحتسب من الأحياء، وتارةً أخرى من الأموات…
قضى “يـوسف” ليلة أخرى في غاية الصعوبة، كان “عبدالقادر” معه يضمه كأنه يرى فيه صورة أخرى يحتاج للحمايةِ منها، حتى طُلب التحقيق معهما، فخرج “عبدالقادر” أولًا ليجد الضابط من عمر ابنه الكبير يتحدث معه باحترامٍ بعد أن أشار له بالجلوس، فجلس “عبدالقادر” بانكسارٍ ولم يرفع رأسه إلا عند دخول “جـورج” المحامي قريب “بـيشوي” وقد وجه له المحقق سؤاله:
_ها يا حج “عبدالقادر” إيه أقوالك على تهمة خطفك للمدعو “سـامي السيد محمد عباس” القتيل في محل العمل الخاص بيك.
رفع عينيه له بحدةٍ ثم حرك رأسه نحو “جـورج” الذي تدخل يقول بحنكةٍ داهية في مجاله:
_يا فندم الحج “عبدالقادر” موكلي مالهوش دخل إطلاقًا بالمخازن، هو مسئول عن الدفاتر برة وتسليم المال ومتابعة العمال، المخازن في قبضة المدعو “نـادر سامي السيد محمد عباس” ابن المتوفي “سـامي السيد” وهو معايا وحضرتك تقدر تاخد أقواله.
وقتها زفر المحقق باختناقٍ ثم مسح وجهه بعنفٍ، وقد استدعى “نـادر” الذي كان بالفعل حاضرًا بالخارج، وقد ولج بحالةٍ يُرثى لها، كان أشبه بمجذوبٍ نادته نداهة الموت، فنجى من خبالها بأعجوبةٍ لكنه فقد على إثر ذلك عقله، وقتها وقف أمام “عبدالقادر” الذي انتظر الرد منه، فكلمةٍ واحدة هي التي تشكل الحياة أو الموت، بينما “نـادر” استمع للسؤال وقال بصوتٍ واهٍ:
_حصل، أنا المسئول عن المخازن كلها وأنا اللي حاطط “سـامي السيد” هناك بنفسي، لو حضرتك عندك تهمة وجهها ليا، خالي مالهوش دعوة بحاجة.
طالعه “عبدالقادر” بدهشةٍ، فيما تعجب المحقق من الجواب فخاطبه بحدةٍ مقصودة وهو يضرب سطح مكتبه:
_أنتَ واعي لكلامك !! معنى كلامك إنك كنت خاطف أبوك وحابسه؟؟ يعني عادي تطلع عامل كدا بس مش عادي إن خالك يخطف أبوك؟ ركز علشان مش هعيد كلامي تاني ليك.
ازدرد “نـادر” لُعابه في محاولةٍ منه لترطيب حلقه ثم قال بثباتٍ واهٍ وكاذبٍ على عكس العصفور المكسور بداخله:
_آه، علشان هو غلط وماكنتش حمل غلطاته، حاول يعتدي على بنت خالي وكان هيخطفها، وعلشان رفضت أحطه في السجن قولت هأدبه في المخزن من غير شوشرة، وعلشان كمان خوفت يأذي حد تاني حتى وهو في الحبس، غير إني خوفت على اللي ليا من الفضيحة.
كلامه كان منطقيًا، يستحق أن يتم التفكير فيه من باب المنطق والعادات، لذا باستكمال سير التحقيقات ومطابقة الردود والشهادة بأن الذي أتى بـ “سـامي” هو ابنه، تم إخلاء سبيل “عبدالقادر” بضمان محل إقامته واستكمال التحقيق مع “يـوسف” الذي ظل في مقر النيابة لمدة يومٍ آخرٍ..
اُستدعى “يـوسف” وقتها للتحقيق فخرج من محبسه ليجد “جـورج” أمامه، دفع جسده للأمام يوازي مشي العسكري وما إن وصل له وجده يقول بلهفةٍ كي يُطمئنه:
_مش عاوزك تقلق، القضية هتخلص هنا بالدفاع عن النفس، وأنتَ ماكنتش قاصد تموتـ….
_يا سيدي سيبك مني أولع أنا، “أيـوب” فين دلوقتي؟ و “قـمر” أختي حصلها إيه؟ طمني يا “جـورج” بس، “أيـوب”…كويس صح؟ كويس لسه؟.
هكذا قطع حديثه بإندفاعٍ جعل الآخر يكف عن الحديث ثم تنهد وقال بصوتٍ غلبه التعب:
_لسه في المستشفى، بس صلي وأدعيله ربنا يكرمه بفرصة تانية، الدكتور قال إن الحالة كانت صعبة، نزف كتير والاكسجين أنخفض في الجسم، بس هو محطوط على الأجهزة، الأمل في ربنا.
وقتها ظل يُناجي ربه، ظل يدعوه بأملٍ أن يرد له الرفيق الصالح، لم يكترث بحاله أو يشغل نفسه بما هو فيه، بل كان عقله أسيرًا في لحظة الفراق بينه وبين الرفيق الغالي، خرج من شروده على صوت “عـهد” التي كانت تتحدث معه، فانتبه لها بعينيه، لتقول بعتابٍ مرحٍ:
_رجعنا تاني نسرح؟ أومال لو مش أنا جنبك.
ابتسم بيأسٍ ثم ضمها بذراعه الآخر يربت فوقه، دقائق مرت عليهما وأوقف سيارته عند المكان المفضل لكليهما، كان يعلم أنها المرة الأخيرة له قبل أن تضع مولودها الأول في مهده، لذا أراد أن يشهد المكان كل أركان الحكاية، منذ أن أعترف لها، حتى تلك اللحظة وهي بجواره تحمل جنينها، ولجا سويًا وقد خلع هو سترته ثم شمر أكمامه وبدأ يحضر لجلستهما سويًا..
دقائق مرت وقد كان انتهى بالفعل من تحضير جلستهما سويًا، حيث وضع الأريكة البلاستيكية، ثم المقاعد المصنوعة من ورقٍ، ثم أشعل الضوء البرتقالي الخافت، ووضع العشاء الذي طلبه في المنتصف، بينما هي فكانت تنام فوق ساقه ممدة جسدها على الأريكة، وقد أضاف للحظة لمستها بصوت “فـيروز” الساحر:
_سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا..
بيعز عليِّ غني يا حبيبي
ولأول مرة ما بنكون سوا..
سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا..
بيعز عليِّ غني يا حبيبي
ولأول مرة ما بنكون سوا..
_سألوني الناس عنك سألوني
قلتلن راچع وعاتبوني
سألوني الناس عنك سألوني
قلتلن راچع وعاتبوني..
غمضت عيوني خوفي لا
الناس يشوفوك مخبا بعيون
وهب الهوىٰ بكاني الهوىٰ
لأول مرة ما بنكون سوا.
وهكذا أختتم اللقاء بينهما وهي تضع رأسه فوق ساقه وتُدندن مع الأغنية بسعادةٍ فيما خلل أنامله في خصلاتها وهو يرتشف الشاي من الكوب ثم ترك نفسه لغمرة الانتصار في تلك اللحظة..
____________________________________
<“يا قمري في الليل وشمسي بالنهار، أنا أؤنس بكِ”>
لم تكونِ مجرد فردٍ في الحياة ويمضي..
دومًا كنتِ ولازلتِ الحياة بنفسها، المنفس الوحيد من كل تعبٍ وشرٍ، كنتِ الحياة بذاتها في حين أنني أفقد معنى الحياة، كنتِ قمر الليل، شمس النهار، كنتِ أرضي وسماي، وعيناكِ هي النجوم التي تُرشدني في تيهي..
ينام أخيرًا بعد يومين مرا في غاية الصعوبة لتحضير عقد القران، كان قد تعب وبذل قصارى جهده لهذا اليوم، تولى مهمة العمل بأكمله وحده حتى يتاح للبقية التحرك والتحضير، وقد وصل للفراش بأعجوبةٍ بعد أن قضى فرضه وأدى قيامه، ثم ألقى بتعبه فوق الفراش، لكن هيهات !! كيف له أن يرتاح في حضور “قـمر” ؟ زفرت بحنقٍ بعد أن هجر النوم جفونها، وغادر النعاس من عينيها، لذا حاولت أن توقظه؛ ففشلت، حاولت من جديد وأيضًا فشلت، فتحركت بعنفٍ فاصطدمت بقدمه، انتفضت من موضعها والتفت لها يهتف بحنقٍ:
_وربي وما أعبد، لو ما نمتي وعديتي يومك لأرزعك راس تنيمك شهر في السرير، نامي أنا مش قادر.
طالعته بنظراتٍ شرسة وهي ترمقه بغضبٍ أعمى، بينما هو أولاها ظهره بعنفٍ يبحث عن نومه الهارب، وما إن نام وأولاها ظهره، ضيقت جفونها نحوه، وقد مدت أناملها لظهره، هي تعلم أن نقطة ضعفه في ملمس ظهره، لذا باغتته حينما وضعت كفها بظهره أسفل سترته، فانتفض من جديد يمسك ذراعها ثم قربها منه يهتف من بين أسنانه:
بت !! أنتِ حد مسلطك عليا؟ عاوزة إيه في ليلتك دي؟.
_عاوزاك تقعد معايا، مش جايلي نوم يا “أيـوب” بعدين عليك تسيبني لوحدي بوضعي دا، هي دي شهامتك ورجولتك؟ والله ما عارفة أنام، ومش حابة أسهر لوحدي، قولتلك أروح مع ماما اعترضت، يبقى تتحمل بقى.
طالت النظرات بينهما وهي حقًا تتمنى أن يشاركها هذا التعب، بينما هو فلم يكن ذاك الذي يتجاهل أهل بيته، لذا نظر لها ثم ترك الفراش وتحرك من جوارها وولج الشرفة، ظلت تراقبه، لكنه التفت وابتسم لها بشرٍ لم يُطمئنها بذرة خيرٍ…
مر بعض الوقت عليهما، حتى انتهى الأمر بها تجلس فوق الأرجوحة تضع شالًا صوفيًا فوق كتفيها، بينما تأكل الطعام من أمامها بنهمٍ، والأرجوحة تهتز بها، بينما هو فكان ممدًا فوق الأرض بجوار الأرجوحة، وقد مد ذراعه يحرك بها الأرجوحة وهي تجلس فوقها، وقد أغلق الأضواء وترك الخافتة وكان ضوء القمر هو الأكثر سيطرة وانتشارًا..
شعرت بحركة طفيفة في بطنها فأمسكتها وهي تضحك رغمًا عنها وهي تتأوه بصوتٍ مكتومٍ، فيما ضحك “أيـوب” وتشفى بها قائلًا بلمحة انتصارٍ كست صوته وكلماته:
_يُمهل ولا يُهمل، بياخد حق أبوه وقتي.
ضحكت بألمٍ وهي تحاول أن تصل لـ “أيـوب” كي تثأر لنفسه، بينما هو فكان يعلم أنها لن تصل له فتركها تحاول بغير فائدةٍ، وعلى حين غرة تحرك من الحديقة، اختفى من أمام ناظريها لدقائق ظنته هرب فيها للنوم، وقد عاد يحمل زجاجة مياه والدواء في يده ثم جلس بقربها يناولها حبة الدواء..
التقطتها منه باسمة الوجه ثم ثبتت عينيها عليه، بينما هو فتنهد وجلس بجوارها فوجدها تفعل حركتها المفضلة، تمامًا كما الهرة الضعيفة التي تحتمي بصاحبها، تركها في عناقها ثم دثرها بالشال وقال بحنوٍ غطى على صوته ولهفته:
_أنتِ دلوقتي كويسة؟.
أومأت له موافقةً ثم رفعت عينيها تراه من جديد، لا تصدق أنها تجلس هكذا بجواره، لا تصدق أن العلقم انتهى أثره وهي تعاصر حلو الأيام، لا تصدق أن الأيام الصعبة التي عاشتها بدونه أنقضت وولت، لا تصدق أنه لازال بخيرٍ، في بعض الأحيان تظن نفسها مجنونة وهو لم يكن موجودًا، لذا شردت في الشهور الماضية وكأنها حُفرَت بالعقول والقلوب، فيكويهم أثرها بأسواطٍ حادة..
كانت في تلك الآونة في المشفى قلبها يحترق لأجله، ولأجل شقيقها الذي لم تعرف كيف تصل له، كانت كل عينٍ تبكي لأجل عزيزها، كانت على حافة الجنون حتى وصل “عبدالقادر” للمشفى أن تم الإفراج عنه، وقد ركضت له بلهفةٍ تسأله:
_فين “يـوسف” مجاش معاك ليه؟ المحامي قال هيخرجه.
وقتها طالعها بانكسارٍ وأخبرها أن “يـوسف” سيظل حبيسًا بتهمة القتل، لذا صرخت في وجهه وهي تنفي التهمة عن شقيقها، ظلت تصرخ وتستغيث بزوجها حتى سقطت مغشيةً عليها أسفل أقدام “عبدالقادر” الذي صرخ باسمها، وقتها تم نقلها للمشفى في الداخل ووضعت تحت الرعاية ليتضح بعدها عن طريق تحليلٍ تم إجراءه لها؛ أنها بأول أيام حملها…!!
ولجت الطبيبة لها ثم ابتسمت لها وهي تقول بعتابٍ:
_مش نخلي بالنا؟ على الأقل علشان اللي في بطنك دا.
فرغ فاه “قـمر” وتوسعت عيناها بغير تصديقٍ، فقالت الطبيبة بنفس الطريقة الودية الأكثر من العملية:
_عمومًا متقلقيش، أنتِ بخير بس خلي بالك أنتِ لسه في الأول خالص، وإن شاء الله هيكون هو كمان بخير، خلي بالك من نفسك وربنا يطمن قلبك، المهم ياريت بلاش الفترة دي تعملي أي جهد وحركة كتيرة، لحد بس ما الجنين يثبت.
كانت فرصة من وسط أسواط العذاب، نورٌ أتاها من حيث لا تحتسب، لا تعلم كيف ومتى لكنها وُهِبت حياة جديدة، لذا مدت كفها بغير تصديقٍ تربت فوق بطنها، كأنها تسأله وتنتظر منه جوابًا، بكت بحرقةٍ حينما تذكرت أمر العزيزين عليها، صرخت بقوةٍ حيث فسدت فرحتها وهي التي كانت تود مشاركتهما هذا الخبر السعيد..
جلست يومين آخريْن بجوار باب غرفته، مرابطة بجوار الجدار لم تتزحزح قيد أنملةٍ حتى، تنتظره وتنتظر الخبر الذي ربما يعاونها على الحياة من جديد، بينما “يـوسف” فكان التحقيق مستمرًا معه طوال تلك الفترة، وجوابه في مقر النيابة ثابتًا:
_كان دفاع عن النفس، حاول يقتلني، و”أيـوب” لحقني منه وجه يغز “أيـوب” زقيته من غير قصد، لا كان معايا سلاح ولا كنت موجود قبلها، أنا كنت رايح بالصدفة هناك أودي أكل لـ “أيـوب”.
نفس الرد يتكرر منه بغير كللٍ أو مللٍ، تمامًا كما أوصاه “جـورج” أن يفعل، بينما هو فكان كل همه أن يطمئن على رفيقه، أدمن السجائر من جديد بعد أن كان تركها، لكن مع أول احتكاكٍ بصخرات الحياة، عاد لها كي ينفث فيها عن غضبه..
طالت رحلة الشرود بها حتى ناداها “أيـوب” فانتبهت له بعينين دامعتين، لمح السبب دون أن يسأل، فمد أنامله يكفكف لها دمعها ثم ضمها لصدره يحميها ويخفيها بعيدًا عن الماضي الموحش، ثم قال بصوتٍ رخيمٍ:
_أنا معاكِ خلاص، كل حاجة خلصت وراحت، الحمدلله على نعمه وكرمه والفرص التي لا تُعد ولا تُحصى، أحمدي ربنا طول الوقت ومتخليش الشيطان يلعب بيكِ، ودايمًا رددي لنفسك إن الدنيا دي دار الشقاء، ما يصيب المسلم في هذه الدنيا من مصائب كفارة له، إذا احتسبها عند الله تعالى ولم يتسخط، وفيها إيقاظ لقلبه من الغفلة، وموعظة في المستقبل، وتذكر قول ابن تيمية رحمه الله «مَا أخذَهُ الله لِحكمَةٍ، ومَا أبقَاهُ لِرحمَةٍ، ولن يضِيعَ المُؤمِنُ بينَ حِكمةِ ربِّه ورحمتِه».
روحنا ولا جينا إحنا عباد الله، لا يحق لنا اليأس، مهما طال الأمر في القسوة، ومهما زاد ظلامه، إلا أنه بالحكمةِ كُتِبَ، وبالرحمةِ ينقضي، وتبقى دومًا الحمدلله دومًا وأبدًا..
رددت خلفه عبارات الحمد للخالق ثم رفعت رأسها تبتهل وتدعوه بتضرعٍ أن تكتمل فرحتهما على خيرٍ بإنجاب مولودٍ يكون لهم خير الذرية الصالحة كما تربى والده، وقد ظلت في عناقه وهو يتحدث معها عن طفولته وعن أفعاله حينما كان صغيرًا، وهي تستمع له بضحكاتٍ واسعة، وتتمنى من كل قلبها أن ترى بذرتها صالحةً مثله، وحديثه يتردد بعقلها وقلبها:
_”قد لا يتعافى المرء في الدنيا
لأن الدنيا دار شقاء
لكنّ التعافي كله في سماع:
“سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ”
وتمام التعافي عند أول غمسة في الجنة
ستقول بعدها: والله ما مر بي شقاء قط!
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل”.
____________________________________
<“لو كان الخيل أعمىٰ، لكان ربح عليه كل عدوٍ”>
لستُ ذليلاً كي اُعز بِقُربهم
أنا عزيزٌ لا يُذل جواري
اخترت نفسي والنفوسُ عزيزةٌ
أنا لا أعيشُ العمرَ دون خيارِ
لك أن تغيبَ.. لن أموت بغُربةٍ
فالأرضُ أرضي والمدارُ مداري
لك أن تجِفّ لن أموت من الظمأ
أنا من جرت فوق الثرى أنهاري
لك أن تهُبّ لن أطيح، فداخلي
جبلٌ وريحُ الحبِ محض غبار
يقولون لا يعشق الخيل إلا من يشبهها في عزتها وقوتها، فلا يعشق الأصيل إلا الأصيل، والأصيل هذا يقف أمام العالم بأكمله يحارب ويُكابد لأجل من يُحب، يرفع الراية معلنًا حربه وإقامة الساعة فوق رؤوس عدوه، لكنه لن يقبل أن يُهان أو يُذل، وقد وصل “نَـعيم” بأفراد بيته والفرحة تسكن معالم وجههم، “مُـنذر” بعودته عادت معه الحياة، حتى أنه حمل ابن “تَـيام” بحبٍ ولم يتركه، كان الصغير صاحب أعين رمادية واسعة، وملامح رقيقة تشبه ملامح أمه، كان ملاكًا كأقرب وصفٍ له..
كان البيت مكتظًا بالجميع، وقد أوصلهم “إيـهاب” ثم حمل ابنته التي أصبحت تركض وحدها وتستند على ما يقابلها كي تصل له، وما إن وصلت حملها وهو يُلثم وجنتها، بينما زوجته فاقتربت تحملها منه وهي تقول بصوتٍ هاديء:
_عاوزة تغير، بس فيه مشكلة، عاوزاك معاها يا هتفضل تعيط.
يعلم هو تلك العنيدة التي أنجبها تحمل صفاته، لطالما لمحته لن تتركه يفر هكذا، تحرك وهو يحملها ووقف هو يبدل لها ثيابها بدلًا عن أمها، فكانت الصغيرة تضحك وهي تلوح بكفيها وتضحك وتضرب بقدميها، بينما هو فضحك رغمًا عنه ثم رفعها يرفع لها بنطالها ولثم وجنتها وتركها على ذراع “سـمارة” التي حملتها تتشدق بحقدٍ زائفٍ حيث العلاقة التي أصبحت هي مجرد طرفٍ بها:
_يا بختك يا بنت المحظوظة.
التفت لها بسخريةٍ وقحة:
_لو عاوزة مساعدة أنا موجود في الخدمة.
ضربته في ظهره فضحك لها ثم سحب مفاتيحه ورحل، لم يخبرها إلى أين ذهب، آمن عليهما في شقته ثم ركب سيارته وغادر البيت، كان كعادته يعلم المقصد والوجهة، لم يكن يومًا تائهًا أو ساهٍ، اليوم عاد ابن عمه، استقر قلب شقيقه، فرح بفرحة “تَـيام” و “مُـحي” معًا، اطمئن قلبه لأجل قلب “نَـعيم”..
الجميع استقروا من الشتات عداه هو، لازالت النيران في قلبه مُضرمة..
أوقف السيارة أسفل بنايةٍ مُتهالكة، بيت قديم كما البيت الأثري في تلك المنطقة التي يظهر من آخر ممرها قمة الهرم الأكبر، أطفأ سيجاره حينما دهسه بقدمه، ثم ولج البناية بثباتٍ، قصد الطابق المعني، ثم ولج الغرفة التي أراد، ما إن ولجها حيث مقر الحفر الكبير، اقترب أكثر وجلس على عاقبيه، نظرة تشفٍ منه جعلته يشعر بالنيران تنطفيء وتُثلج روحه…
أما عن الحُفرة فهي حملت جسد “ماكسيم” الذي رفع رأسه يتوسل “إيـهاب” بالرحمةِ، ابتسم له “إيـهاب” بشرٍ لمعت به عيناه ثم جلس بوضعٍ أكثر أريحية وقال بسخريةٍ:
_ما هما قالوها زمان، اللي يصعب عليك يفقرك، وبصراحة أنا في غنى عنك وعن فقرك، ما تخلينا كدا بنلعب مع بعض، دا حتى اللعبة أحلوت أوي، واللي ليا رجع، يلا علشان اللعبة بدأت يا خواجة.
