رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم دهب عطية


 رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثالث والعشرون 

الحب يشبه الفصول الأربعة لكنه لا يأتي بالترتيب…

الصيف معروف بحرارته اللاهبة لكني أرى
الصيف يرمز للغيرة… تلك النار التي تشتعل في القلوب كلما تسللت فكرة أننا استبدلنا بغيرنا أو أننا خُذلنا من أقرب الناس إلينا....

من لا يستطيع تحمّل الغيرة عليه أن يتجنّب الحب... لكن من منا اختار السقوط فيه بإرادته؟!

"نــغـم... نــغـم... اقفي واسمعيني أنا بكلمك..."

أمسكها أيوب من ذراعها وأدارها إليه فنظرت إليه بشراسة صارخة بعنف...

"عايزة إيه مني؟!..... سيب دراعي"

انتبه طاقم الحرس الواقف أمام الفيلا لتلك المشادة الكلامية بينهما... حين وصلت إلى هنا رأتْه خلفها مباشرة ينادي عليها لكنها تجاهلته والآن يتجرأ ويوقفها ممسكًا بذراعها وكأنه يملك الحق لفعل ذلك....

"اسمعيني يا نــغـم... متخليش واحدة زي دي تنجح في إنها تبعدنا عن بعض.. دي خططها..."

ابتسمت نغم باستهزاء وهي ترمقه شزرًا
قائلة....

"أنت مصدق نفسك... أنا شيفاك عندها في شقتها..."

عيل صبر أيوب فهادر فيها باهتياج...

"محصلش حاجة... ماكناش في وضع مُخِل عشان تبصمي بالعشرة إني بخونك... "

استنكرت الأمر وهي تنظر إليه بقرف...

"والله؟!... وقميص النوم اللي كانت لابساه وشعرها والرُّوج اللي حوالين شفايفها... كل
ده ومحصلش حاجة؟!"

دوى صوت أيوب كالرعد القاصف...

"ملمستهاش... والله ما لمستها ولا خونتك بالله عليكي.... بلاش تظلّميني..."

أغمضت جفونها ممتنعة عن الرد والنظر إليه بخوف فخفف من حدته وهو يسحبها من ذراعها نحو سيارته....

"نــغــم..... تعالي معايا... تعالي ونتكلم..."

حاولت التملص من قبضته وهي ترفض التحرك معه قائلة بانفعال...

"مش عايزة أتكلم... ممكن تسيبني دلوقتي لحد ما أفوق وأستوعب..."

استنكر ردها بتهكم وهو يرمقها بنظرة مشتعلة.....

"تستوعبي إيه؟!.... بقولك ملمستهاش.. "

"والمفروض أصدق في لحظتها إنك بريء
وكل ده تخطيط جِيداء... مش كده؟!"

صاحت نغم بعناد تتبادل معه النظرات في حرب شعواء لا تهدأ بينهما مهما قيل....

عقب أيوب متجهمًا....

"أمال تخطيطي أنا؟!.... اللي بيحب حد 
بيبقى واثق فيه... فين ثقتك فيا؟!"

التوت شفتيها بسخط وهي تقول بازدراء...

"ثقتي فيك؟!.... وأنا شيفاك في شقتها... إيه ربطتك وجابتك عندها بالغصب... كنت عندها بتعمل إيه بالضبط؟!"

لم تتحرك عضلة من وجهه وهو ينقل عينيه القاتمتين بينها وبين الحرس الواقف من بعيد يراقب الموقف....

أوغر صدرها الغضب والغيرة وهي تترجم صمته قائلة...

"سكت ليه؟!.... مش لاقي كدبة تقولها؟!"

مسح أيوب على وجهه بعصبية وهو يقول باحتجاج....

"مش هينفع أقول أنا روحت عندها ليه... بس إنتي ظلماني..... والله ظلماني..."

"لما يبقى عندك رد على سؤالي... ساعتها هاعرف إذا كنت مظلوم أو خاين..."

رمقته نغم ببرود وهي تبتعد عنه خطوة واحدة....

لحق أيوب بها وأمسك ذراعيها يديرها إليه محتويًا إياها بعينيه وهو يقول بصوت خافت يحمل رجاء يضعف قلبها...

"نغم..... بلاش عِند... أنا بحبك وانتي كمان بتحبيني... بلاش مع أول مشكلة تعملي كده..."

لمعت مقلتَاها بالدموع وهي تنظر إليه بعينين مجروحتين مستنكرتين حديثه....

"المفروض بعد اللي شوفته آخدك في حضني؟!......الغريبة إنك مستهون بالموضوع وكأنه عادي لكن لو أنا اللي كنت مـ..."

قاطعها أيوب بصرخة مدوية أجفلتها 
لبرهة...

"ولا كلمة.... إيه اتهبلتي خلاص.."

قالت بنظرة محتدة...

"مجرد كلام خلاك عامل إزاي..."

ثم نزعت يديه عنها في اللحظة التالية
ولكمته في صدره بعنف....

"تعرف... أنا مش عايزة أعرفك تاني... "

شملها أيوب بنظرة إنكار مشتعلة بالهيمنة وهو يقول بلهجة جادة كمن يفرض أمرًا واقعًا....

"وانتي فاكرة الكلمتين دول هيخلوني أبعد عنك؟!..... تبقي عبيطة..."

سالَت دموعها رغمًا عنها باهتياج وهي تعترض.....

"مش بالغصب هو..."

بصوت عنيف بالمشاعر وملامح مشدودة بالغضب صاح فيها...

"لا بالغصب وهتصدقي بالغصب إني مش خاين ولا بصيت لواحده غيرك... بالغصب يا نغم هتفضلي حبيبتي ومش هسيبك حتى لو إنتي عايزة كده..."

مسحت دموعها بعنف وهي ترمقه بنظرة جامدة محتدة....

"اللي بينا شغل وبس... وإياك إياك تقرب من الفيلا أو مني... سامع؟!"

ثم ابتعدت مقتربة من الحرس وهي تقول 
بأمر متعجرف....

"حسام... أيوب ما يدخلش الفيلا مهما حصل."

جز أيوب على أسنانه وقد وصل معها إلى ذروة غضبه فاقترب منها بخطوات همجية وقبل أن تصل إلى باب الفيلا الكبير همس بالقرب من أذنها وهو يقبض على ذراعها...

"لما أعوز أشوفك هشوفك... شوية الحرس بتوعك دول مش هيمنعوني عنك... سامعة؟!"

"سيب إيدي..... "

قالتها وهي تحاول سحب ذراعها من
بين قبضته الفولاذية.....

قربها أيوب منه بهسيس مكتوم بالغيظ....

"هسيبك... لحد ما تهدي وبعد كده هنتكلم..."

قالت وهي في أوج غضبها....

"مفيش كلام بينا..."

زمجر أيوب بغيظ شديد...

"في كل حاجة بينا... إنتي اللي شيطانك عماكي... وساعة غضبك ما عندكيش عزيز 
ولا غالي..."

سألته بتهكم....

"وأنت؟!... "

تبرم أيوب بنظرة مشتعلة بالحنق...

"لسه ما اتخلقتش الحاجة اللي تخليني أغضب عليكي وأبعد... بس إنتي سهل تعمليها..."

حاولت التحرر من قبضته القاسية بوجه محتقن بالغضب والألم قائلة بكبرياء.....

"سيب إيدي يا أيوب... إنت اتخطيت كل الحدود..."

استنكر أيوب قائلًا بسطوة....

"مفيش حدود في الحب ولا في الحرب..."

اقترب حسام منهما ينوي التدخل بعدما رأى محاولات نغم اليائسة للتحرر من مسكة أيوب.....

"أيوب سيب إيدها..... اللي بتعمله ده غلط..."

أغمض أيوب عينيه بقوة وقد اندفع الغضب فجأة كبركان ثائر نحو حسام فباغته بلكمة قوية أطاحت به أرضًا جزاءً على تدخله بينه وبين امرأته...

امرأته؟!... نعم رغم أنفها وأنف المعارضين
هي امرأته.....

شهقت نغم بصدمة بعينين متسعتين وهي تنظر إليه لترى تعابير وجهه المتوحشة بالغضب ونظرته الشرسة نحوها...

ازدردت ريقها بخوف ولم يسعفها لسانها بكلمة...

اقترب باقي الحرس من أيوب ينوون إبعاده بالقوة لكنها تدخلت بسرعة صارخة فيهم أن يبتعدوا من هنا...

حينها اقترب منها أيوب حتى تلاحمت أنفاسه بأنفاسها يشرف عليها بهيمنته كقيد يشتد بهما
معًا....شعرت نغم بحرارة كلماته المتملكة تصفع وجهها قبل أن تخترق قلبها بلا رحمة وهو يقول....

"روحي....بس حطيها في دماغك...لما اعوز أشوفك محدش هيقدر يمنعني ولا حتى
انتي....."

رأته يبتعد عنها يحررها مؤقتًا لكن قلبها ما زال في قيد الهو أسيرًا ولا فكاك منه...
.............................................................. 
نفض رماد سجارته في المنفضة وهو يتحدث عبر الهاتف قائلاً بغضب مكتوم....

"أنا صبرت عليك كتير... ومفيش معلومة مفيدة بتجبها... إيه تكونش فاكر إنك أكلتني الأونطة بالكلمتين بتوعك دول..."

صمت شكري قليلاً يستمع إلى المتصل وحين أفرغ ما عنده قاطعه بملل ضاجر...

"اسمع إنت... يا تنفذ اتفاقنا يا إمّا مش هتلوم غير نفسك..."

أغلق شكري الخط بملامح منزعجة ونظرة ضاجرة ولم يلبث إلا وانفتح باب المكتب الذي يقع في قلب قصره الكبير فجأة بقلة تهذيب لتصيح صفيقة الوجه وهي تقترب كعاصفة هوجاء نحوه...

حتى توقفت كفرس غبي لا يعرف خطواته جيدًا ولا بمن يقترب منه...

"إيه الدخلة دي يا عبلة؟!..... إيه اللي جابك هنا؟... "

وبملامح تنذر بالشر قالت...

"إنت طردت هيثم من الشركة؟"

بهدوء أقرب للبرود أخبرها ببغض...

"متجبليش سيرة الحرامي ده... واحمدي ربنا إني اكتفيت بطرده مش بسجنه... وده عشان خاطرك بس..."

التوى فمها في ابتسامة هازئة قاتمة....

"عشان خاطري؟!.... هو إنت لو عاملي خاطر هتفضحه الفضيحة دي قدام الشركة؟"

سحب شكري من سجارته ثم نفث دخانها في الهواء بأعصاب باردة....

"والله يستاهل... حد قاله يمد إيده على خزنة المكتب... صحيح الخزنة فتحها بمفتاح... يا ترى جاب النسخة منين؟... "

حدجها باتهام صريح وعلى أثر نظراته القوية ارتبكت وجلسَت على مقعد في الجهة المقابلة للمكتب....

"وأنا إيش عرفني.... كنت أسأله..."

مط فمه هازئًا وهو يرى غضبها يتراجع ويحل مكانه التوتر والحنق وقد تساقطت قطرة عرق من جبينها....

"مانا سألته... وتوتر زيك كده... إنتوا كنتوا متفقين على سرقتي سوا...لدرجة إن الحقارة وصلت بيكي تسرقي أخوكي؟!..."

هزت رأسها نافية وقالت بتلعثم..

"أنا... أنا هعمل كده ليه يا شكري؟"

امتعض شكري معقبًا بسخط واضح...

"فيكي خصلتين أوحش من بعض حب الرجالة وحب الفلوس... وعشان توصلي للاتنين مستعدة تعملي أي حاجة وتدوسي على أي 
حد عشان توصلي للي عايزاه... وأهي ختمت بيا وبسرقتي..."

اندفعت عبلة حانقة تدافع عن نفسها 
بمسكنة..

"إنت فاهم غلط يا شكري... إيه اللي يخليني أعمل كده خصوصًا إنك معيشني في خيرك
زي ما بتقول..."

نظرت حولها والغل والحقد ينبعان من عينيها.

استجهَن شكري حديثها قائلاً....

"وياريت طمر فيكي... جاية تسرقيني إنتي والعيل اللي متجوزاه..."

أنكرت عبلة بضيق...

"أنا معملتش كده... وهيثم معذور في اللي عمله هو كان مديون ومحتاج يسدد الدين اللي عليه..."

استنكر تبريرها الأهوج...

"يقوم يسرقني عشان يسدد دينه؟!"

ثم استرسل بسخرية لاذعة...

"ويا ترى الدين ده من إيه؟!.... من البذخ اللي عايشين فيه... سهر وخروجات كل يوم ويمكن أكتر من مرة في اليوم كمان..."

امتقع وجه عبلة وقالت متشفية..

"لازم الواحد يعيش حياته. أمال عايزنا ندفن نفسنا بالحياة زيك؟!"

رمقها شكري بعينين مظلمتين باردتين فأضافت عبلة بصفاقة..

"عشت طول عمرك تشتغل وتكبر في مالك وفي الآخر وصلت لإيه؟... ولا أي حاجة... مراتك مقدرتش تكمل معاك سابتك إنت وابنك وسافرت وحتى ابنك مات بسبب حتة بتّ خايبة رفضت حبه... في نهاية أبشع من كده؟"

ثم واصلت بشماتة وتهكم..

"قولي في النهاية كسبت إيه من كل الفلوس اللي قعدت عمرك تجمعها وتكبرها؟... "

بلع شكري حديثها كمن يبتلع شفرة حادة قادرة على شطر حلقه نصفين....

"بتعيريني يا عبلة بموت ابني الوحيد؟! طب وبالنسبة ليكي... كسبتي إيه لما اخترتي نفسك وسعادتك... مبسوطة إن ابنك كبر بعيد عنك؟"

ثم استرسل يرد لها الصاع صاعين...

"مبسوطة بكرهه ليكي وإنك بالنسبة له زي الغريبة؟!...ده يمكن الغريب يحس من ناحيته بحاجة عنك..."

ابتسمت عبلة ابتسامة جافة كجفاء قلبها 
وهي تقول بجمود....

"لو كان ياسين فارق ليا زمان... كان فرق ليا النهاردة..."

جادلها شكري بنظرة باردة....

"لا فارق وهتموتي عشان يرجع تاني لحضنك... مش بعيد تكوني بتخططي إزاي ترجعيه ليكي مش كده؟.... "

احتقن وجهها بالغيظ وقالت باهتياج...

"لو عملت كده فعشان آخد حقي من صالح الشافعي وأمه... وأخليه يكرهم ويشيل منهم زي ما عملوا معايا زمان..."

ضحك شكري هازئًا وهو يوجه لها اللكمة القاضية...

"وعشان تنتقمي من صالح اللي رفضك وطردك زمان بعد موت أخوه ومراته..."

ارتفع حاجبها بصدمة وقد أجفلها الرد غير المتوقع فسألته بخفوت والصدمة تثقل لسانها.....

"إنت عرفت الحكاية دي منين؟... مين قالك؟"

امتعضت ملامح شكري وهو يخبرها....

"هو بنفسه جه زمان واشتكى منك... جه للراجل اللي المفروض يلم عرضه ويلِم أخته اللي رامية نفسها على كل واحد شوية..."

شردت عيناها الحانقتان في مكان آخر 
وهي تقول بغل أسود....

"لو كان وافق كان زماني دلوقتي عايشة معاه ومع ابني..."

تبرم شكري قائلاً بوجوم...

"الحب مش بالعافية...وهو عمره ما استلطفك حتى إنتي اللي كنتي بتقولي ده زمان قدام أبوكي وأمك في كل زيارة ليكي عندنا... أكيد فاكرة..."

قالت بصفاقة وجه....

"كان لازم يوافق عشان ياسين..."

قطب شكري جبينه بصدمة وهو يعقب
بمقت.....

"عمري ما شوفت أم جاحدة زيك... كنتي بتستخدمي ابنك وسيلة للضغط عليه عشان يتجوزك..."

أومأت برأسها بجمود قائلة بوقاحة...

"هو عرض عليا أرجع البيت وأربي ابني...
بس أنا اشترطت عليه لو عايزني أرجع أكون مراته... وقتها مكنش فات على موت جميلة أسبوع.... وبنته كانت في المستشفى..."

زمت فمها بإحباط قائلة بتكبر..

"افتكرت إن ممكن يكون عرضي طوق نجاة ليه... لقيته ضربني بالقلم وطردني... وأمه كانت حاضرة الموقف من أوله... وقَفلت
الباب في وشي وهي بتلعني..."

نظرت إلى أخيها وقالت بتبجح...

"تفتكر أنا غلط لما طلبت بحقي فيه؟"

استهجن شكري حديثها قائلاً....

"إنتي ملكيش حقوق... حتى حقك في ابنك ضيعتيه..."

برقت عينا عبلة بخبث وهي تقول...

"بالعكس...حقي في ياسين هو اللي هيخليني آخد كل حقوقي اللي راحت مني... وأولهم صالح الشافعي..."

وأضافت بحسرة مريرة...

"ده الراجل الوحيد اللي تمناه قلبي واتحرمت منه..."

نظر شكري إليها قليلًا ليرى الصدق مرتسمًا على ملامحها الحزينة وعينيها الصارختين بالحرمان الدفين...حرمان من رجل لم تستطع نيله أو تعويضه بآخرين...

تنهد شكري تنهيدة طويلة وهو يقول
بهدوء....

"الباب لسه مفتوح قدامك طالما لسه متجوزش...

وبصراحة أنا شايف إنه أنسب راجل ليكي... هو اللي هيرجعك لعقلك... وغير كده هتبقي جنب ابنك... وده علاجك يا عبلة... ابنك هو علاجك..."

هزت رأسها نفيًا وعيناها تبرقان برغبة لنيل ما تريد....

"أنا علاجي هو صالح الشافعي... لو بقيت مراته مش هكون عايزة حاجة تانية غيره..."

امتعض شكري وهو يقول بقنوط...

"مفيش فايدة فيكي... للأسف خسارة فيكي الأمومة..."

لم تعقب عبلة على كلمته فقد كانت في عالم آخر... ما بين الرغبة في تحقيق هدفها....

والتفكير في تلك المرأة التي رأتها بجواره... هل حقًا الباب ما زال مفتوحًا أمامها أم أن الأوان قد فات؟....
................................................................
كان يجلس أمام ماكينة الخياطة يُنهي أحد التصاميم التي عمل عليها خلال الفترة الماضية.....

كانت ليان تشاركه العمل تُثبّت الدبابيس على قماش المجسم وهي تتأمل التصميم الذي أبدع أيوب في رسمه والآن يُبدع في
تنفيذه...

يضيف لها كل يوم شيئًا جديدًا في هذا المجال وكأنه موسوعة من المعرفة والتفاصيل... ورغم ما تتعلّمه منه كانت تشعر دائمًا أنّه من الصعب أن تكون مثله أو حتى أن يتهيّأ لها عقلها تقليده....

إنه حالة خاصة… السهل الممتنع. فتصاميمه رغم بساطتها الظاهرة يصعب تقليدها أو الوصول إلى مستواها....

موهبة فريدة استثنائي في كل قطعة قماش يختارها والوان يدمجها معًا... يعرف بطريقة مبهرة القماش المناسب لكل قصة....

يحول القماشة إلى لوحة فنية رفيعة تليق بأذواق أنثوية من الطراز الأول.....

وبينما كانت ليان غارقة في التفكير بكمّ التصاميم الرائعة التي صنعها كان هو شارد الذهن أمام ماكينة الخياطة حتى وخزته الإبرة في إصبعه... أوقف الماكينة فجأة ونهض من مكانه بعصبية....

رفعت ليان حاجبيها بدهشة تتابع خطواته الحانقة ورأته يقف أمام الحائط الزجاجي للغرفة ثم يرفع الهاتف إلى أذنه ليجري
اتصالًا....

كانت قد رأته يكرر هذه الحركة أكثر من عشر مرات منذ وصوله…. تقريبًا يفعلها كل يوم ولثلاثة أيام متواصلة منذ أن بدأت العمل 
معه في غياب نغم....

فـ نغم لم تأتِ إلى الشركة منذ ثلاثة أيام تاركة العمل على عاتق أيوب والموظفين ومن بينهم هي....

غياب نغم كان يثير في نفسها التساؤلات والشكوك فهي لم تفعل ذلك من قبل حتى حين احتُجز والدها في المشفى لعدة مرات
لم تترك الشركة يومًا ولم تتخلَّ عن مكانها.

عقدت ليان حاجبيها وهي تراقب أيوب يبعد الهاتف عن أذنه زافرًا بغضب مغمغمًا بكلمات
لا تسمعها جيدًا....

يبدو أن غياب نغم عن الشركة مرتبط بـ أيوب… وإلا ما كان سيتصرف بهذه الطريقة المكشوفة.....

"ليان…"

قطع صوتُه أفكارَها الفضولية وهو يقترب منها لأول مرة ليسأل عن نغم وكأنه تخلى عن ثباته
امام الجميع وتمكن منه الخوف....

"إنتي بتكلمي نغم؟… هي كويسة؟..."

نظرت إليه ليان بتركيز تحاول قراءة تعابير وجهه المشدودة وعينيه القلقتين ثم قالت بوجوم....

"كلمتها من يومين… وقالت إنها مش هتقدر تيجي الشغل عشان تعبانة...."

ثم استرسلت متذكرة اتصالها هذا الصباح..

"والنهارده هي بنفسها اتصلت بيا تسأل عن الشغل ماشي إزاي… وبصراحة صوتها كان باين عليه إنها تعبانة...."

شعر أيوب بان قلبه سقط من أعلى مكان مرتفع فسألها بصوت متحشرج...

"تعبانة؟!… صوتها باين إنه تعبان إزاي؟"

أجابته ليان بفتور....

"تقريبًا برد… صوتها كان رايح خالص."

هتف أيوب بعصبية وهو يرتدي سترته ويلملم أغراضه على عَجَل....

"وليه ما قولتيش من الصبح؟!"

قالت ملامحها الغاضبة باستنكار....

"إنت ما سألتش يا أيوب… وبعدين دول شوية برد وهي قالت إنها هتاخد حاجة ليه."

لكنها فوجئت به يتجه نحو الباب بالفعل فسألته بصدمة

"رايح فين؟… إحنا لسه مخلصناش شغلنا."

أجاب دون اكتراث....

"كل حاجة تتأجل… المهم أطمن عليها."

"أيــوب…"

توقف أيوب واستدار لها حاجباه معقودان في نفاد صبر.... اقتربت منه ليان تفصل بينهما خطوات قصيرة وسألته بجرأة...

"هو إنت… في حاجة بينك وبين نغم؟"

صمت للحظة ثم أجاب بهدوء مزلزل...

"بينا حاجة؟… الأكيد يا ليان إن نغم هي
كل حاجة بنسبالي… مش حاجة واحدة."

كان اعترافه أشبه بلكمة مباغتة في معدتها قاسية جعلت الألم ينتشر في عينيها وتلمع دموعها بينما وجهها شحب فجأة كأن الدماء انسحبت منه....

لكن أيوب كان قد غادر سريعًا… قبل أن يرى أثر كلماته عليها....
................................................................"إنت بتقول إيه… يعني إيه مش هينفع أدخل؟!... "

انفجر أيوب بالهتاف ملامحه متجهمة وهو يقف وجهًا لوجه أمام حسام الذي يسد الطريق مع طاقم الحرس أمام باب الفيلا الكبير.

قال حسام ببرود بقسمات جامدة ونبرة
هادئة.....

"زي ما سمعت… الهانم مأكدة علينا… إنك ممنوع تدخل."

هذا الهدوء المستفز أشعل غضب أيوب
فهدر....
"يعني إيه ممنوع.... دي تعبانة جوا وتلاقيها جرالها حاجة… أنا لازم أدخل دي أمانة… أمانة سابهالي كمال الموجي."

ثم مسح على وجهه بعصبية واقترب 
محذرًا....

"أبعد عن طريقي يا حسام…وبلاش
تخليني أغيب عليك....."

ابتسم حسام بسخرية باردة....

"أنا أقدر أرد القلم اتنين يا أيوب بس الهانم منبهة علينا… نمنعك من غير أذى...."

رمقه أيوب بعينين متقدتين....

"كتر خيرها… طب ابعتلها خبر إني هنا."

هز حسام رأسه رافضًا...

"مش هينفع..... "

زمجر أيوب بغيظ مكتوم....

"لا… هينفع أول ما تعرف إني هنا مش هتسيبني واقف كده."

تردد حسام قليلًا أمام نظرات أيوب المصر
على الإنتظار....

تافف حسان بضيق وهو يبتعد عدة خطوات 
مجريًا اتصالًا.... وقف أيوب مكانه أمام الباب في انتظار إشارة من معاليها...

لم يشعر بالمهانة يومًا كما شعر بها الآن… وكأنه يشحذ رؤيتها وهي ترد له الصاع صاعين ببرود وجحود لم يظنها تمتلكه...

عاد حسام بعينين تلمعان بالتشفي فما زالت لكمة أيوب قبل أيام تترك أثرًا مهين على
فكه وأمام زملائه الأقل رتبة منه في 
العمل....

"لازم تمشي يا أيوب… هي تعبانة دلوقتي ومش عايزة تشوف حد."

تسمر أيوب يسأله بصدمة...
"هي قالتلك كده؟"

أومأ حسام مبتسمًا فتراجع أيوب محبطًا نحو سيارته النصف نقل....

فتح الباب لكن قبل أن يركب رفع عينيه فجأة إلى نافذتها… لمح طيفها يبتعد بسرعة عن الستارة.....

لكنه لمح طيفها على كل حال متاكدًا انها كانت تراقب انصرافه....

ضغط أيوب على أسنانه متوعدًا....

"ماشي يا بنت الذوات… اليلة مش هتعدي غير وأنا طابق في زمارة رقبتك… عشان تعرفي تمنعيني حلو عنك."

عاد يراها تحوم خلف الستارة البيضاء 
بتردد وجبن.....

"جـبـانـة…"

تفجرت الكلمة من بين شفتيه بغضب فهو يعرف أن هروبها الغبي ليس إلا خوفًا من الخضوع له… لكن أوامرها اللعينة أصابته 
في مقتله ووجهت له إهانة لم يتعرض لها
يومًا !....
................................................................
نهضت من على الفراش بتكاسل تشعر أن جسدها أصبح ثقيلًا كالصخرة منذ أن ألمّ بها المرض وأصابها البرد. كلما وقفت دار رأسها ورأت الدنيا أمامها بلون أصفر مزعج يرهق عينيها....

نزلت إلى المطبخ ببطء سكبت قليلًا من الماء في كوب وأخذت رشفة لكن ألمًا حادًا اخترق حلقها وكأن شفرة مسننة تستقر في منتصفه.

انحنت نغم على رخامة المطبخ بتعب تشعر أنها ستسقط من شدة الإعياء... كان يجب أن تتناول شيئًا يخفف ألمها لكنها أهملت نفسها وبقيت حبيسة غرفتها وفراشها حتى اشتد عليها المرض وأرهقها....

عادت تصعد الدرج بخطوات ثقيلة تستند بيدها على السور الخشبي حتى وصلت إلى غرفتها.... وما إن أغلقت الباب حتى هبّت ريح قوية من الشرفة المفتوحة فشعرت بصقيع يجمد عظامها....

نظرت نحو الشرفة بحيرة والإعياء يتمكن منها لكنها لم تلبث أن سمعت حركة قريبة 
كخطوات أحد يقف خلفها....

تجمّدت الدم في عروقها واستدارت بهلع لمواجهة من خلفها لكنها لم تكد تصرخ حتى كمكم أحدهم فمها بيده ودفعها إلى الحائط قابضًا على خصرها بقوة كي لا تفلت منه...

اتسعت عيناها رعبًا حتى التقت بعيناه وانساب عطره المألوف إلى أنفها فاستكانت للحظة بين الصدمة والغضب.....

بينما ابتسم هو بظفر وقال بنبرة متوعدة

"اسم الله عليكي من الخضة يا حلاوة… متخافيش دا أنا أيوب… اللي ناوي يطلع عليكي القديم والجديد…"

ضربته في صدره بعنف وهي تلتقط أنفاسها المسلوبة من حالة الذعر التي سببها لها منذ لحظات...

"إنت إيه اللي جابك هنا؟!... خلاص اتجننت وإزاي الحرس يسيبك تدخل؟!"

دس يده في جيب بنطاله بزهو وهو يخبرها بفخر...

"محدش شافني وأنا بدخل...نطّيت من السور اللي ورا.... ودخلت من البلكونة..."

جحظت عيناها الرماديتان بصدمة من تفاخُره بالوضع فقالت بغيظ شديد...

"يا سلام..... بسهولة كده؟!"

أومأ برأسه وهو يقول بغضب متأجج....

"إنتي فاكرة هتقدري تمنعيني أشوفك أنا كنت سايبك بمزاجي...بس واضح إنك افتكرتي إن سكوتي ضعف..... فسوقتي فيها بزيادة..."

أشاحت بعينيها عنه قائلة باقتضاب....

"أنا ماسوقتش فيها... أنا مكنتش عايزة أشوفك عشان مـ..."

"عـشـان جـبـانـة..."

قاطعها بهذه الكلمة التي أشعلت الدماء في عروقها فقالت بتشنج وهي ترمقه بنظرة نارية.....

"عشان مش طايقاك... مش طايقة أبص في وشك يا خاين..."

اقترب أيوب منها بنظرة قاتمة حانقة...

"لا... أنا اللي طايق أبص في وش واحدة مغرورة زيك... بتعاملني وكأني عبد عندها..."

جرحها ذلك الرد وذلك الاتهام الذي انبعث من عينيه قبل أن تنطقه كلماته لكنها هربت منه وتجنبته تلك الأيام حتى لا تضعف أمام سطوة مشاعره عليها...

لكن وكعادته رأى الأمر من منظوره هو انها تتباهى بكونها ابنة ذوات....

بلعت الغصة في حلقها وهي تقول باختناق...

"وجيت ليه بقى طالما... أنا وحشة أوي كده؟"

من بين أسنانه المطبق عليها بعصبية زأر....

"جيت عشان أطبق في زمارة رقبتك... أشفي غليلي منك..."

صاحت بتشنج....

"اعمل كده وخلصني من كل الوجع ده..."

تبادلا النظرات في صمت مشحون بكل المشاعر المضطرمة بينهما...

شعرت نغم أنها لم تعد قادرة على تحمل نظرات اللوم في عينيه وكأنها بتصرفاتها الطفولية الغبية جعلت لديه كل الحق في عتابها...أم هي فأضاعت حقها بهروبها 
منه؟....

قالت نغم بضجر....

"ساكت ليه؟..... اعمل اللي إنت عايزه... استفزيتك لمّا بعدت عنك... بس كان عادي أشوفك عندها في شقتها... مش كده؟"

مد أيوب يده يتحسس حرارة وجهها 
فأجفلتها حركاته المفاجئة وهي تنظر إليه ببلاهة....

"إنت سخنة؟!..."

لم يكن يسألها بل كان يقر بالأمر الواضح وضوح الشمس...

عادت تنهره بأسلوب فظ....

"ملكش دعوة... اتفضل اخرج لو سمحت وجودك هنا غلط..."

رد عليها بجفاء....

"مش هينفع أمشي وأسيبك كده..."

أسلوب جاف لكن الكلمات كانت تحوي دفئًا يصعب على امرأة مثلها مقاومته...

ومتى نجحت في مقاومة هذا الرجل؟! إنه لصٌّ تسلّل إليها دون أن تعي واستحوذ على قلبها ومشاعرها دون أن تدرك آثار ذلك عليها فيما بعد...

"جاي تطمن عليا؟... "

ألقت السؤال بنظرة تحوي من الحيرة والغباء ما يستفز رجولته...

مما جعله ينفعل عليها بأسلوب عاطفي...

"وبتسألي كمان؟!.... إنتي غبية خلّيتيني أدخل زي الحرامية لحد هنا... عشان إيه غير إني هموت من القلق عليكي؟!... وانتي جاحدة ولا فارق معاكي حاجة..."

أسبلت عينيها أرضًا وهي تشعر بالأرض تميد بها فتشبثت بذراعه فجأة فأسنَدها أيوب بكلتا ذراعيه قائلا بفزع....

"إنتي دايخة..."

اكتفت بإيماءة بسيطة فتحرك بها على مهل نحو الفراش وضعها عليه بخفة ودثرها 
بالغطاء وهو يقول....

"أنا هكلم حسام يشوف دكتور..."

رفضت نغم بصوت خافت....

"دول شوية برد... هيروحوا..."

هز أيوب رأسه مفكرًا....

"مش هيروحوا من غير علاج... هكلمه يجيب حاجة من أقرب صيدلية للبرد والسخونية اللي عندك..."

وقبل أن يتحرك نادته نغم بصوت ضعيف

"أيـوب..."

اقترب منها أيوب وانحنى إليها سائلا ب
لهفة....

"عايزة حاجة تانية؟"

نظرت إلى عينيه الدافئتين في حبهما والقريبتين منها بلهفة فسالت دمعتان من عينيها وهي تقول بإعياء.....

"خليك جنبي... بلاش تمشي..."

تنهد أيوب بخشونة وهو يمسح دموعها هامسًا بلوعة الحب...

"إنتي مجنونة... وجنانك ده هيضيعنا إحنا الاتنين... من غير ما تقولي أنا جنبك..."

أثناء نومها شعرت بشيء بارد يُوضع على جبينها ووخزة خفيفة في ذراعها ثم همسات لامرأة قريبة منها تعطي تعليمات بالراحة والعلاج...

هل أتى بطبيبة....لكنها كانت قد أخبرته أنها لا تحتاج لشيء... حاولت فتح عينيها وبصعوبة فعلت لتشعر بحرقة شديدة في مقلتيها فما كان منها إلا أن أغلقت جفونها مستسلمة للنوم والتعب....

كانت كل نصف ساعة تشعر بأنفاسه قريبة منها... كان يعمل على خفض حرارتها بالكمدات الباردة وهمساته الحانية تتسرب إليها في غفوتها...

كم مرة أخبرها وهي بين النوم واليقظة
انه لم يخنها ولا حتى بأفكاره... 

كم مرة همس بعشقه لها وبغضبه منها على عدم ثقتها به وعلى إبعادها له بتلك الطريقة الجارحة لكبريائه...

عاتبها كثيرًا ظنًا منه أنها نائمة ولا تسمعه
لكنها سمعت الكثير...حتى تضاعف حنقها 
من نفسها....

جعلها ببساطة المخطئة في حقه بعد أن كان
معها كل الحق !.....

داعبت جفونها أشعة الشمس المتسللة من شرفتها ففتحت عينيها وهي تشعر بأن جسدها يصب عرقًا بينما رأسها ثقيل جدًا.... نهضت ببطء وتكاسل وهي تبحث عنه في أنحاء الغرفة فلم تجده...

تحركت نحو الحمام بخطوات كسولة بعد أن أخذت معها ثيابًا نظيفة....

بعد ما يقرب من الساعة كانت قد انتهت من الاستحمام وارتداء ملابس أخرى أكثر راحة عبارة عن بنطال أبيض يعلوه بلوزة بنصف 
كم بنفس اللون مطبوع عليها قلوب حمراء صغيرة.....

تركت شعرها حرًا بعد أن صففته بعناية....

نزلت إلى الأسفل محبطة من مغادرته قبل أن يطمئن عليها...

متى ذهب؟..... هل غادر بعد أن انخفضت حرارتها؟.....

بدأ عقلها يعيد عليها ما حدث بينهما أمس 
من بداية دخوله عليها كالصوص إلى مشادتهما الكلامية التي انتهت بدوار رأسها واستنادها عليه كركيزة بين أمواج ثائرة كلما شعرت بالخطر والضعف تراه أمامها....

علاقتهما غريبة وما بينهما من حب تعجز عن فهم مستقبل تلك العلاقة !...

"قولي يا حبيبتي... سامعك..."

عقدت نغم حاجبيها مصدومة بعدما سمعت صوته يأتي من مطبخ منزلها....

اقتربت بخطوات حذرة نحو المطبخ تسترق النظر والسمع إليه...

رأته يقف أمام الموقد يقلب في الإناء وهو يتحدث عبر الهاتف قائلاً...

"إي يا صفصف بقولك واحد صاحبي تعبان... وقاعد أمرضه..."

زمت نغم فمها وهي تراقب تجهمه عبر
الهاتف قائلاً....

"خلصي بقى يا صفصف... أحط إيه تاني؟..."

غطى الإناء وهو مندمج مع والدته في الحديث....

"يعني كده تمام.... أسيبها تستوي..."

"متعبة أوي شربة الخضار دي..."

صمت قليلاً ثم ارتفع حاجبه متوجسًا...

"صاحبي حلو؟!.... إنتي دماغك راحت فين
يا صفصف..."

اكفهرت ملامحه مدعيًا الحنق وهو يقول..

"نغم مين؟!... عيب عليكي... أنا عندي أخلاق إيه اللي هيخليني أفضل معاها لحد دلوقتي..."

عاد يصيح بعد أن سمع استنكار والدته 
نحوه...

"يا صفصف بقولك أنا عندي أخلااااااق تقوليلي يا كداب؟!..... طب وغلاوة الواد سلامة عندي ما حصل..."

قطب جبينه متذكرًا أن أمه ليست على علم بأن صداقتهما بقيت كما هي....

"ما أنا قطعت معاه... بس لازم أحلف بغلاوته دا إحنا بينا عيش وملح برضه..."

وضعت نغم يدها على فمها تكتم ضحكاتها بينما سمعت أيوب يحاول بشتى الطرق إقناع أمه بأنه صادق....

"يا صفصف صدقيني دا أنا تربيتك... طب أقولك على حاجة... أنا قاعد معاه مش عشان شوية البرد اللي جم ليه لا... دا طلع نظره ضعيف.... ومخه على قده..."

توقفت نغم عن الضحك مصعوقة من تعليقه فألقت عليه نظرة شزراء... بينما تابع أيوب لأمه مؤكدًا...

"آه... مخه على قده يعني حالة إنسانية... بقولك إيه حضريلي فرشتي على ما أجي
أنا طول الليل سهران..."

فغر أيوب فمه بصدمة مما سمع منها...

"أنا حاسس إني بكلم واحد صاحبي عيب يا صفصف مش كده... سهران بعمل كمادات وبدي علاج..."

بعد لحظات أغلق الهاتف وهو يطلق زفرة استياء وعاد إلى الإناء على الموقد يقلب 
فيه بالمعلقة....

"صاحبك نظره ضعيف...ودماغه على قده..."

قالتها نغم وهي تقترب منه بحنق بالغ 
ودون النظر إليها وبقلة تركيز أجابها
أيوب...

"آه وياريتها صدقت..."

ثم رفع عينيه عليها مدركًا وجودها وسماع صوتها...

احتواها بنظرة خاصة تشع دفئًا وهو يقول بمداعبة...

"عيني عليكي باردة... إيه الحلاوة دي بقى دي نغم اللي كانت بتفرفر إمبارح على السرير..."

رغم احمرار وجهها خجلاً من نظراته إلا أنها عقبت متبرمة...

"بفرفر؟!..."

أومأ برأسه قائلاً بغلاظة...

"ما انتي نايمة ولا حاسة بنفسك... دا أنا كنت شوية وهطلبلك الإسعاف..."

أشار لها أيوب بأن تجلس على أحد المقاعد المحاطة بسفرة مستديرة في قلب المطبخ

"تعالي اقعدي.... إنتي لسه قايمة من التعب..."

فعلت نغم على مضض لأنها تشعر بالدوار بينما قال أيوب معتذرًا وهو ينظر إلى حالة الفوضى التي سببها على رخام المطبخ حتى يعد حساء الخضار....

"لمؤاخذة منتشر في البيت وواخد راحتي... بس للضرورة أحكام..."

سألته نغم وهي تنظر إلى الإناء الذي يغلي على النار....

"إنت بتعمل إيه؟..."

رد أيوب بفخر وهو يعدل ياقة قميصه...

"شربة خضار على طريقة صفصف... هتاكلي صوابعك وراها..."

قالت بنظرة متعجبة...

"اتصلت بمامتك عشان تعرف الطريقة؟!..."

لوى فمه متهكمًا وهو يقول...

"عشانك... وياريت بيطمر فيكي حاجة 
دماغك على قدها بجد... ونظرك ضعيف..."

اوغر صدرها بالغضب وهي تسأله بانزعاج...

"يعني إنت كنت قاصد بقى اللي قولته؟..."

رد ببرود مستفز...

"أنا ما بقولش حاجة من فراغ..."

نهضت نغم بعصبية تنوي المغادرة فأشار أيوب لها بالجلوس بسطوة قوية آمرًا....

"إياكي تتحركي من مكانك... اقعدي..."

نظرت إليه بتحدٍ فأضاف وهو يشير إلى
الإناء...

"محدش هيشرب حلة شربة الخضار دي غيرك..."

صدمها الحديث فعادت تجلس على مقعدها مستنكرة...

"هشرب اللي في الحلة لوحدي؟!..."

أومأ مؤكدًا بنظرة ثاقبة...

"وماله... تعوضي التلات أيام اللي كنتي قاطعة فيهم الأكل..."

اهتزت حدقتاها بتوتر وهي تعقب...

"مين قالك إني كنت قاطعة الأكل؟..."

زفر بغضب مكتوم وهو يقول بجزع...

"الدكتورة اللي كشفت عليكي... إيه بتنتحري بالبطيء؟!...... عايزاني أشيل ذنبك؟..."

رمقته بعينين مشتعلتين وهي تقول 
باهتياج....

"محدش قالك تشيل ذنبي... وبطل أسلوب التيران ده..."

رد عليها بجفاء...

"دا الأسلوب اللي ينفع معاكي..."

قرأ انفعالاتها الظاهرة في عينيها العاصفتين فأمرها قبل أن تتحرك....

"إياكي تتحركي..."

قالت من بين أسنانها بوجه محتقن بالغيظ..

"مش عايزة أطفح..."

هتف بتسلط لعين....

"هتطفحي غصب عنك..عاملها لأمي أنا ولا إيه؟!... دا أنا بقالي تلات ساعات واقف 
بعمل فيها..."

وضع أيوب طبق الحساء أمامها وأحضر لنفسه كذلك وجلس في المقعد المجاور لها قائلًا...

"حطيت ليا وليكي... يلا سَمِّي الله..."

نظرت إلى الحساء ولأول مرة منذ ثلاثة أيام تشعر برغبة في الأكل.....

وضعت الملعقة في الحساء الدافئ ثم أوصلتها إلى فمها ورفعت عينيها نحو أيوب فرأته ينظر إليها يراقب ردّة فعلها على مذاق الحساء.

سألها أيوب بابتسامة مداعبة....

"حلوة؟.... "

أومأت برأسها مؤكدة وبشيء من الحرج أن مذاقه شهي.... فقال أيوب وهو يتناول من حساء الخضراوات مثلها....

"كلي بالف هنا... عشان تاخدي علاجك المضاد الحيوي محتاج أكل.... "

استمرت نغم في تناول الحساء اللذيذ في صمت وكذلك فعل هو....

وحين انتهيا من الطعام أرجعت نغم ظهرها للخلف وقد شعرت بتخمة بعدما سكب لها أيوب ثلاث مرات من الحساء....

أثناء ذلك كان يرغمها على الأكل وهي تدّعي الامتناع والشبع لكن في الحقيقة كانت جائعة لدرجة أنها في كل مرة يسكب لها كانت تُنهي طبقها بسرعة قياسية وبشهية مفتوحة....

قالت بتردد...

"شكرًا..."

نظر إليها أيوب قليلًا ثم أجاب بفتور...

"العفو...أنا عملت اللي أي حد مكاني هيعمله."

عبست من رده الفاتر وقالت باندفاع
أهوج....

"يعني مش عشان بتحبني؟"

سخر أيوب منها بنظرة معاتبة...

"بتتكلمي عن الحب وانتي لا عارفة تثقي
فيا ولا في حبي ليكي..."

أسبلت جفنيها بحرج وقالت بصعوبة..

"الموقف لخبطني... وجودك معاها..."

قاطعها أيوب بملامح مضطرمة بالغيظ...

"هي اللي ورا الرسايل... زي ما هي اللي ورا موت أسر العزبي..."

رفعت عينيها مصعوقة من رده فاصطدمت بالجدية والصدق المرتسمين في عينيه.

"جيداء؟!....وجيداء تعمل كده ليه؟..."

أشاح أيوب بوجهه متأففًا بضيق فهو لا يريد أن يخبرها الآن بشيء قبل أن يحصل على دليل قوي...غير تسجيل (عدي) الذي بحوزته.

"إنت مخبي عني إيه يا أيوب؟"

سألته نغم بتشنج.....

أعاد أيوب عينيه إليها ثم مد يده يعانق يدها بحنو قائلًا بصوت أجش هادئ...

"كل حاجة مع الوقت هتعرفيها يا نغم
بس دلوقتي أي كلام هيتقال ملوش دليل.

أمسك الدليل وهحكيلك على كل حاجة خبتها عنك. بس بالله عليكي ثقي فيا شوية أنا بعمل ده كله عشانك... أنا حاطط حياتي على كف عفريت.... عشان إنتي تكوني بخير...."

رمقته نغم بحيرة والقلق يستوطن قلبها بينما هو رفع يدها إلى شفتيه وطبع قبلة طويلة عليها بثّ فيها كل مشاعره الصادقة نحوها...

اختلج قلب نغم بالخفقات وهي تنظر إليه بملامح مشدوهة ونظرة مترقّبة حتى قال أيوب لها وعيناه تداهمان عينيها بلا هوادة..

"بلاش تكسريني بإيدك يا نغم... أنا مش شايف حد غيرك... ولا بحب غيرك..."

كنت في البداية أخشى على قلبي منك وحين تمكّن مني الهوى غدوتُ أخشى على حبّنا !...
............................................................... 

الحب يشبه الفصول الأربعة لكنه لا يأتي بالترتيب…

كثيرون يرون الخريف بداية جديدة أما أنا فأراه في الحب نهاية كل شيء جميل....

وبداية الإدراك أن بعض الأوراق لا بد أن تسقط وبعض العلاقات لا بد أن يُعاد النظر فيها !....

فالحب وحده لا يكفي ومهما تشبثنا به سيأتي الخريف ويسقط معه ما لا يصلح للاستمرار...

"مش ناوية تروحي الجامعة؟...."

سألتها ندى وهي تسحب الغطاء عن وجه أختها....

رفضت نهاد متشبثة بالغطاء بشدة وقالت برفض....

"مش عايزة أروح..."

انفجرت الدماء في وجه ندى وهي تصيح بغيظ شديد.....

"يعني إيه مش عايزة تروحي؟!... إنتي بقالك أسبوعين على الوضع ده مش بتخرجي من أوضتك وحتى الأكل بقى بالعافية...

أنا قولت فترة وهتعدي وهتعرفي تتخطي بسرعة بس اليوم جرى أسبوعين...خمستاشر يوم ووضعك بيسوء أكتر ليه بتعملي كده يا نهاد؟!.... مين هو عشان تموتي نفسك عشانه بالشكل ده؟!.... "

أبعدت نهاد الغطاء عنها قليلًا ثم مدت يدها تأخذ هاتفها تتصفح سجل المكالمات والرسائل على أمل أن تجد شيئًا منه لكن كالعادة ولمدة خمسة عشر يومًا... لا شيء منه....

وكأنه حذفها من عقله وقلبه بمجرد أن افترقا في طريقين متعاكسين......

تبرمت ندى وهي تراقب حركاتها التي باتت محفوظة بوجع.....

"ولا كأنك سمعاني... بتبصي في التليفون كل نص ساعة... ده إنتي بتصحي من عز نومك تفتشي في تليفونك... لا يكون بعت رسالة أو رن وانتي مش سمعاه... حرام عليكي نفسك."

ألقت نهاد ظهرها على الفراش تنظر إلى السقف بعينين حمراوين مرهقتين وقالت بضياع....

"معقول نسيني يا ندى؟... معقول مش بيحنّ ليا ؟...... مش باجي على باله؟"

استشاطت ندى غضبًا وقالت....

"ده يأكدلك إنه ما يستهلش لا حبك ولا لهفتك
ولا زعلك عليه.... "

همست نهاد بضعف...

"عايزة أرن عليه... عايزة أكلمه..."

توسعت عينا ندى وهي تعقب باستنكار...

"هتبقي عديمة الكرامة لو عملتي كده."

قالت نهاد بقلق...

"طب افرضي جراله حاجة؟"

بتهكم أجابتها....

"لو كان جراله حاجة كنا سمعنا من أيوب
هي دي حاجة بتستخبى؟"

ظلّت نهاد تنظر إلى سقف الغرفة وقلبها متخبط بوجع بين قرارات عقلها الصارمة القاسية.....

خففت ندى من حدتها متنهدة وهي تقترب من أختها برجاء....

"نهاد... بلاش تعملي في نفسك كده. اتصالك بيه أكبر غلط.... إياكي تهيني نفسك عشان بتحبيه.... يغور الحب اللي هيجبلك الإهانة والذل... يغور بناسه...."

همست نهاد بصوتٍ مرير ينبض بالوجع
الحي....

"أنا مش عارفة أعمل إيه يا ندى... حاسة إن كل حاجة وقفت جوايا وحواليا... مش شايفة حاجة غيره... ومش عايزة حاجة غيره... مش عارفة أعمل إيه عشان أرجع تاني زي الأول."

هتفت ندى بصوت العقل والمنطق...

"ترجعي للجامعة ودراستك لأصحابك 
والناس اللي كنتي بتحبي تكوني معاهم.
ده هيساعدك...

دراستك ومستقبلك هيساعدوكي. بلاش تضيعي حلمك يا نهاد... أيوب وماما من 
حقهم يشوفوكي زي ما بيتمنوا...يا دكتورة."

ثم لمعت عينيها بالكراهية مضيفة بعداء...

"وانتي كمان ده حقك ما تضيعهوش... عشان قصة حب فاشلة.... وسبب فشلها واحد مش عارف قيمتك ولا قيمة الحب اللي قدمتيه ليه...."

قالت نهاد بنبرة تقطر ندمًا...

"يمكن سبب الفشل أنا... يمكن المشكلة فيَّا."

علا صوت ندى بحنق شديد....

"هو اللي عايز يحسسك بكده... ده شخص نرجسي وعارف هو بيعمل إيه كويس."

رفضت نهاد بدفاع....

"سلامة مش كده..."

جزّت ندى على أسنانها بانفعال وقالت بنظرة شرسة تماثل ردها....

"سلامة ده لو شوفته هطلع مصارينه بإيدي. أنا بكرهه... عشان وصلك لكده. وأنا قولتلك بلاش... بلاش إنتوا مش مناسبين لبعض. عنّدتِ ومشيتي ورا قلبك.... وادي النتيجة."

زفرت نهاد بضيق وهي تسحب الغطاء على وجهها هاتفة باحتجاج...

"اخرجي يا ندى... اخرجي روحي جامعتك وسيبيني... أنا مش هخرج من أوضتي."

تململت ندى في وقفتها معترضة....

"امتحاناتك قربت يا دكتورة... دي تاني 
سنة ليكي.... "

تجاهلتها ولم ترد فصاحت ندى بضراوة 
حانقة....

"نهااااااااد...ردي عليا..مش بكلم نفسي أنا"

وكأنها تحدث نفسها مما جعلها تستسلم
خارجة من الغرفة بعد أن أخذت أغراضها معها......
.................................................................أخذ رشفة من الشاي الساخن وعيناه لا تزالان معلقتين على شاشة هاتفه حيث تملأ صورتها الباسمة واجهته… صورة التقطها لها يوم كانا على الشاطئ....

يوم أطعَمته من يدها وأغوته بعينيها الشقيّتين فدللها بكلامه المعسول…

ركضا على الرمال حتى أنهكهما التعب فجلسا يتسامران ويتشاكسان....

أتراه أصبح كل ذلك مجرّد ذكريات؟....

ألن يعودا كما كانا؟....

ربما الأفضل أن يبقى كما هو يقاوم شوقه ورغبته في التواصل معها حتى يتخطاها… 

أو على الأقل تتخطاه هي فذلك سيجعل الباقي أسهل عليه....

وحين يتيقن من نسيانها يبدأ هو بالتخطي بطريقته… الطريقة الأسهل عند الرجال....

سمع صوت طرقات على الباب الخشبي فنهض بخطوات متكاسلة.....فتح الباب... ورآها أمامه.

اتسعت عيناه وتجمّد مكانه مصعوقًا لوهلة 
ظن أنه يتخيل...قلبه انتفض بين أضلعه ينادي عليها بشوق العالم كله....

لكن ما إن التقى بعينيها ولم يجد فيهما الدفء والحب المعتادين بل رأى مكانهما الكراهية والنفور حتى توقفت دقات قلبه كعقرب 
ساعة تعطّل فجأة......

ثم أدرك… إنها ليست هي.....

إنها توأمها ندى تقف أمام بابه تصوب نحوه أشرس النظرات وأكثرها بغضًا.....

التشابه بينهما يفوق الحد… حتى وزنهما يكاد يكون متطابقًا.....

لكن ما كان يميّز بينهما دائمًا وما يعرفه هو جيدًا… تلك العينان....

كانت عينا حبيبته تفيض حبًا وحنانًا حتى الإفراط بينما ندى تنظر إليه ببرود مستهينة 
به كما يفعل معه كل شخص قابله في 
حياته.....

الاختلاف الأقوى بينهما… كانت النظرة نحوه.
النظرة التي كانت تجعله يميز حبيبته وسط ألف شبيهة.... لا وسط توأمها فحسب !....

"إزيك ياندى....."

ظهرت أمارات الإحباط والغيظ على وجه
ندى فقد أفسد خطتها قبل أن تبدأ....

ورغم أنها حاولت أن تخرج اليوم بهيئة قريبة من نهاد لدرجة أن والدتها اختلط عليها الأمر وصدّقت وهي تناديها بـ(الدكتورة)

إلا أنها فشلت أمام هذا الغريب وقبل أن تتحدث عرفها… كيف عرفها؟....

الشبه بينهما قوي ويصعب التفرقة بينهما…

تتذكر أنها في فترة من الفترات تبادلت مع أختها الأدوار حتى تساعد نهاد في التهرب
من أمرٍ ما ولم يكشفهما سوى أيوب وسلامة.

وقتها سألتهم بغيظ كيف كشفا الأمر؟

أخبرها أيوب أمام سلامة أنه رغم التطابق القوي والصعب التفرقة فيه إلا أن نظراتهما كستار يكشف شخصيتهما دون أن تتفوه إحداهما بكلمة واحدة....

حينها ضحك سلامة وأكد أن ندى تمتلك نظرة قاسية نحوه بينما نهاد نظراتها حانية ولطيفة.

ومنذ ذلك الحين حاولت كثيرًا أن تستحوذ على نظرة نهاد لتخدعهما كما تخدع أمها والجميع

لكنها كانت تفشل فالنظرات تنبع من داخلنا ولا أمل في تغيير شيءٍ صادق فالنظرات يصعب تلوينها مهما حاولنا....

إن أردت أن تعرف شخصًا جيدًا تمعن في النظر إلى عينيه فهي لا تكذب مهما بلغ 
مكره وشره !.....

"ممكن اتكلم معاك شوية....." 

أومأ سلامة برأسه بملامح واجمة وهو يراها تبتعد لتقف عند السور في انتظار قدومه.

أغلق سلامة باب غرفته خلفه واقترب منها بتردد وهو يعلم أن وجودها سيفتح بابًا آخر من الوجع هو في غنى عنه....

"خير يا ندى..."

نظرت إليه ندى بملامح جامدة غير متهاونة معه وقالت....

"بص يا سلامة مش هلف وأدور عليك... نهاد حكت ليا عن كل حاجة بينكم... وكمان عن
آخر مرة كنتوا فيها مع بعض..."

"هي كويسة؟... "

سألها سلامة بلهفة فمطت ندى شفتيها قائلة بجزع....

"للأسف لا.... قافلة على نفسها أوضتها ومش عايزة تخرج ولا تشوف حد."

شحب وجه سلامة مضطربًا وشعر بانقباض في صدره....

لاحظت ندى تغيّره فقالت بجدية...

"مش بقولك كده عشان أحنّن قلبك عليها فترجع تكلمها تاني وتدمر حياتها..."

تشدق بصدمة....

"أدمر حياتها؟!...."

هتفت ندى بصوتٍ قاسٍ كعينيها الكارهتين
له....

"هو أنت مش ملاحظ إنك دمرت حياة أختي من ساعة ما قربت منها وقولت لها إنك بتحبها ووعدتها إنك هتتعلم وهتتغير وهتبقى واحد تاني... وفي الآخر ما فيش وعد من اللي 
قولته نفذته..."

"وفي الآخر اتهمتها إنها قاصدة تهينك
لمجرد إنها حبت تحضر معاك خطوبة 
واحدة صاحبتها..."

سألها سلامة عابسًا والوجع يعصف في
صدره....

"هي قالت لك كده؟"

أظهرت ندى انزعاجها وهي تعقب...

"أنا أختها يا سلامة... أقرب حد ليها... إيه
مش عايزها تحكي لي؟... "

أخفض سلامة عينيه وهو يقول بصوتٍ
ميت....

"أنا بعدت عنها عشان مستقبلها... عشان من الأول ما كانش ينفع... لا كنت بلعب بيها ولا بتسلى... دي أخت أيوب... وبنت الراجل اللي حنّ عليا ولمّني في أوضة قعدت فيها..."

عاد إلى عينيها قائلًا بدفاع عن نفسه...

"أنا مش برد الجميل بأذى... عشان كده بعدت عشان عارف إني مش هقدر أوفي بأي حاجة وعدتها بيها...."

لم تلِن نظرات ندى وهي تأمره بجفاء...

"وياريت تكمل على كده... حتى لو هي حاولت تكلمك... ياريت تقفل كل الأبواب في وشها..
أنا عارفة إنها هتتوجع شوية بس بعد كده هتفوق وتعرف إنه ده لمصلحتها."

أومأ سلامة برأسه بكآبة مطمئنها...

"اطمني يا ندى... إحنا مبقناش ننفع لبعض... وكلامك فوقني أكتر..."

لم تجد ندى ما تقوله أكثر فشعرت بالارتياح وبنجاح المهمة التي أتت من أجلها... أخذت نفسًا طويلًا ثم استدارت لتغادر السطح.

"ندى..."

توقفت ندى بملامح مقتضبة تنظر إليه
بترقّب....

فقال سلامة وهو ما زال على وقفته الحزينة البائسة.....

"خدي بالك منها... دي أغلى حاجة في حياتي.... "

كلام يلين الحجر لكن بالمنطق والعقل 
أجابته ندى باستنكار ترد له الصاع صاعين
حتى يستوعب أن فشل تلك العلاقة بسببه هو وليس أختها المسكينة....

"لو كانت غالية فعلًا... كنت حاولت عشانها... بس إنت خدتها من قصرها ووقفت مكانك."

قال سلامة بقلة حيلة....

"إنتي لسه صغيرة ومش فاهمة حاجة..."

جادلته ندى بلهجة متزنة....

"اللي فاهماه كويس... أن الراجل اللي بيحب بجد بيحارب لآخر نفس فيه عشان يبقى مع حبيبته... مش العكس."

أشار إلى نفسه واجمًا....

"وأنا ما حاربتش عشانها؟!"

التوى ثغر ندى بسخرية قاتمة وهي تقول..

"ما كانش في حرب أصلًا... إنت كنت واقف مكانك خايف تاخد خطوة ناحية أي حاجة وهي اللي بتحاول....وإنت لا سامع ولا شايف..."

شعر سلامة أن حديث شبيهة حبيبته كان بمثابة قذائف نارية تخترق صدره لذلك كان 
صمته جوابًا على نهاية حديثهما....

فوضعت ندى النهاية قبل أن ترحل من
أمامه....

"نهاد تستحق حد يحارب عشانها... مش هي اللي تحارب عشان يبقى معاها.... "

ثم غادرت من أمامه كما غادرت حبيبته يومًا وتركته لكن شتان بين غياب لا يترك أثرًا وغياب كان بوصلته نحو النجاة !…
.............................................................. 
الحب يشبه الفصول الأربعة لكنه لا يأتي بالترتيب…

أخشى شتاءه كأن الدفء الذي بيننا يتسرب شيئًا فشيئًا وكأن النافذة انفتحت فجأة دون سابق إنذار فتسلل منها كل ما يستطيع تجميد مشاعرنا وإغراقنا في الجفاء والبعد....

صوت الرعد يشبه صرخاتنا العنيدة حين نثور بجنون نلقي الكلمات الفارغة التي تجرح بلا معنى بينما قلوبنا في العمق تعترض على ما آل إليه حالنا !....

اندهش سعيد مجددًا لرؤية صالح الشافعي أمامه بعد ثلاثة أيام فقط من زيارته الأخيرة المفاجئة واليوم يباغته بزيارة أخرى لا يعرف سببها وما خلفها...

كل ما يسيطر على سعيد هو التوتر والخوف من خسارة وظيفة مرموقة كتلك يظن أن هناك شكوى منه أو أن أحدًا يشكك في ذمته تجاه العمل...

لكن الشكوى قد تكون من أحد الزبائن المعروفين لديه أو من عاملات المكان... 
أَتكون العاملة الجديدة جاسوسة تعمل لدى صالح وهي من جعلت الأجواء تتوتر بهذا الشكل؟....

في الحقيقة العاملة الجديدة هي سبب هذا التغير الكبير... تغير صالح الشافعي وحاله 
فقد جعلته يلهث خلفها دون أن تدرك أن رفضها وبعدها يزيدان من عزيمته للوصول إليها...

قال سعيد وهو يرحب بصالح عند باب
المحل الكبير....

"أهلًا... أهلًا يا فندم..... نورت مكانك..."

وقف صالح أمامه بينما عيناه الخضراوان تبحثان عنها لكنه لم يجدها بالجوار...

هل لم تأتِ بعد؟..... 

هل تعجل في الوصول منذ الصباح الباكر؟ 

من المفترض أنها هنا منذ ساعة بالضبط...

لماذا تأخرت؟....... هل حدث لها شيء؟...

تجهمت ملامحه وهو ينظر إلى ساعة يده بينما تحدث الى سعيد من باب الذوق

الواقف منتظر منه أي إشارة بابتسامة
واسعة متملقة....

"إزيك يا سعيد... إيه الأخبار؟... "

رد سعيد بترحيب مبالغ....

"بخير الحمد لله... اتفضل حضرتك استريح فوق...هروح أجيبلك حاجة تشربها ولا أجيب فطار؟... "

رفض صالح بملامح عابسة وهو يشير له بالانصراف...

"بلاش تتعب نفسك... لو عوزت حاجة هبقى أبعت... روح شوف شغلك...."

أتت شروق من خلفهما بخطوات سريعة وأنفاس عالية وكأنها جاءت من سباق 
جري للتو...

لم تلاحظ وجود صالح رغم أن حضوره وعطره القوي لا يخطئهما قلبها لكنها تغافلت عنه وهي تقول لمدير المكان معتذرة....

"آسفة إني اتأخرت... بس كان لازم أوصل
بنتي المدرسة.... والطريق كان زحمة و..."

احتقن وجه سعيد بالغضب ورأى في الموقف فرصة لإظهار صرامته وحرصه الشديد على مصالح العمل أمام رب عمله فصاح في وجهها بحدة....

"زحمة إيه وزفت إيه؟!.... معادك هنا الساعة تمانية جايه تسعة... إيه فاكرها وكالة من 
غير بواب.... مخصوم لك نص يوم..."

"ســعــيـد..."

انتفضت شروق في مكانها ورفعت عينيها إلى صالح الذي وجه نظرة مشتعلة بالغضب نحو سعيد...

ارتعد سعيد في وقفته متأهبًا وهو يرد باحترام...

"أيوا يا باشا... أوامرك..."

أمره صالح بصوتٍ خشن....

"روح جيب لي عصير للمون..."

ارتفع حاجب سعيد مشدوهًا فللوهلة الأولى وبعد هذا الصوت القاصف باسمه ظن أنه مطرود....

"عصير للمون؟!... أوامرك حاضر."

ابتعد سعيد بسرعة خارجًا أمام نظرات صالح الحانقة...

وحين اختفى من أمامه خفف من حدته ولانت نظرات عينيه وهو ينظر إليها سائلًا بخفوت...

"وشك لونه أصفر كده ليه؟... "

زمت شروق فمها باستياء وقد نسيت للحظة أي خلاف أو بعد بينهما وهي تخبره باستفاضة 

لطالما كان يستمتع بسماعها دون أن تدرك أنها أحد أسباب وقوعه في حبها....

"صحيت متأخر... وملك ضاعت عليها الحصة الأولى وقعدت نص ساعة أتحايل على المدير الغتِّت بتاع المدرسة لحد ما دخلها... وعلى ما جيت هنا كانت روحي راحت من الجو الصعب ده..."

ثم انتبهت أنها تثرثر بلا فائدة فتوقفت وهي ترفع عينيها الجميلتين إليه...

عيون غزلان وإن غابت عنها لمسة الكحل
تبقى كحيلة بحدودها المشدودة ورموشها الكثيفة...

"إنت... إنت هنا بتعمل إيه؟"

أفاق من شروده فيها على سؤالها المرتبك

فأخذ صالح نفسًا خشنًا وهو يقول 
بهدوء...

"بطمن على أملاكي وبشوف الشغل ماشي إزاي... أكيد مش عشانك... لسه الأسبوع مخلصش..."

اختلجت خفقات قلبها وهي تتذكر ذاك الأسبوع الذي من بعده سيغيب عنها للأبد
فهي ستضع النهاية بنفسها وتنهي تلك 
الأيام الجميلة بينهما بحلوها ومرها
محتفظة بذكراها مع الشيخ...

"اتفضل يا باشا... اللمون فرش وساقع..."

أتى سعيد من الخارج وهو يحمل صينية عليها كوب العصير مقدمه إلى صالح الشافعي بأسلوب متملق...

نظر صالح إلى الكوب ثم إلى شروق وقبل أن يمد يده وجه الحديث إلى سعيد بصلابة...

"أم ملك معادها بعد كده عشرة..."

انعقد حاجبا سعيد بدهشة وهو
يقول...

"بس معاد الشغل تمانية..."

قال صالح بأمر ذي سطوة...

"تمانية لأي حد... هي تيجي وقت ما تحب."

ارتجف قلبها وجسدها كله ضعفًا أمام سطوة أوامره وحضوره المهيب...

ان خسارة الشيخ...خسارة لن تعوضها ولو عاشت فوق عمرها عمرًا...

فغر سعيد شفتيه وهو ينقل نظراته بينهما بشك فتنحنح صالح موضحًا....

"كل واحد عنده ظروف... ولازم نقدر بعض."

أومأ سعيد برأسه موافقًا...

أخذ صالح كوب العصير ثم ناولها إياه قائلًا باختصار....

"اللمون..."

سألته بعينين مصدومتين وهي تأخذ منه الكوب....

"ده عشاني؟... "

أومأ برأسه بعينين متوهجتين نحوها وهو يأمرها بحنو....

"اقعدي استريحي... اشربيه وخدي نفسك..."

جحظت عينا سعيد بصدمة وهو يتابع هذا الموقف الغريب...المريب....

بينما تحرك صالح للأعلى حيث المكتب وهو يأمر سعيد بصوتٍ خشن....

"هات ملفات الحسابات وحصّلني يا سعيد... في حاجات عايزين نراجع عليها..."

"أوامرك يا باشا..."

ثم عاد إلى شروق فرآها بالفعل تجلس على أقرب مقعد وبين راحتيها كوب العصير تنظر إليه بوله وابتسامة ناعمة حالمة تداعب ثغرها دون أن تلاحظ...

"هي إيه الحكاية بالضبط؟.... "

ضرب سعيد كفًّا بأخرى بملامح مكفهرة ونظرة محتارة وهو يلحق برب عمله...

وفي إحدى الزوايا كانت نشوى وزميلتها تتابعان الموقف عن كثب وبفضول حتى انتهى نهاية ساحقة لقلب نشوى التي قالت ببغض....

"شايفة بيعاملها إزاي؟... أنا هموت يا 
سميرة... هموت..."

تبرمت سميرة قائلة بضيق....

"ما تخفي بقى يا نشوى... ربنا يهني سعيد بسعيدة..."

ألقت نشوى نظرة حاقدة نحو شروق وهي تقول من بين أسنانها...

"بيحب فيها إيه دي؟... أفهم فيها إيه زيادة عني؟... ده أنا أحلى وأصغر..."

لوت سميرة شفتيها قائلة بشماتة...

"القلب وما يريد يا حبيبتي... أهدي كده وبطلي غِل وكيد....لحسن يجرالك حاجة..."

اشتاطت نشوى وهي تقول بازدراء....

"بذمتك إنتي صاحبة إنتي...دا بدل ما تساعديني نخلص منها..."

نظرت لها سميرة بسخط قائلة....

"وأساعدك ليه أنا مالي... هو إنتي لما تتجوزيه أنا هكسب حاجة ولا هخسر حاجة ولو هي اتجوزته نفس الكلام... أنا مش مستفادة..."

ارتفع حاجب نشوى للأعلى متعجبة بملامح ضاجرة....

"وهو لازم تستفيدي؟!"

أكدت سميرة ببرود....

"والله الدنيا علمتنا كده..."

نظرت إليها نشوى بكراهية وهي تتوعد لها بعد أن تحصل على صالح الشافعي ستطردها طرد الكلاب الضالة...

بعد لحظة صمت لمعت عينا نشوى بظفر وهي تقول.....

"أقولك... أنا هوقعها في شر أعمالها وهخليه هو بنفسه اللي يطردها من المكان..."

سألتها الأخرى هازئة...

"ودي هتعمليها إزاي بقى يا ناصحة؟"

ردت عليها نشوى بلؤم....

"آخر النهار هتعرفي..."

تنهدت سميرة وهي تنشغل بترتيب البضاعة وتفقدها مغمغمة بوجوم....

"ربنا يسترها منك... بجد إنتي بقيتي حاجة صعبة..."

دلف من باب المحل رجلٌ فارع الطول وسيم الملامح أتى بصحبة ابنته الصغيرة التي لم تتجاوز الخامسة....

توقف عند قسم الأطفال يبحث لها عن شيء بينما الصغيرة تزمّ فمها متذمّرة...

"هنجيب الفستان وبعدين نجيب الآيس كريم..."

رفضت الصغيرة...

"الآيس كريم الأول يا بابا..."

اقتربت منهما شروق بابتسامة جميلة حانية وهي تنقل عينيها بينهما قائلة بعملية...

"نورت المكان يا فندم... تحب أساعدك؟"

أكّد الرجل قائلاً...

"ياريت..... عايز فستان ليها..."

قالت الصغيرة...

"بس يكون لون الفراشة..."

عقدت شروق حاجبيها تسأل الوالد فقال مبتسمًا....

"عايزاه عليه فراشات..."

انحنت شروق إليه ثم قرصت وجنة الصغيرة بمداعبة لطيفة قائلة....

"أحلى فراشات لأحلى فراشة... ممكن أعرف اسمك؟"

قالت الصغيرة...

"اسمي رهف..."

"عاشت الأسامي..." 

ثم بدأت شروق تسحب عدة فساتين صغيرة جميلة الشكل تعرضها عليها قائلة....

"إيه رأيك في ده... أو ده..."

رفضت الصغيرة مصمّمة على طباعة
معينة....

"لا مش حلو... عايزة فراشات كتير..."

احمر وجه الوالد بحرج وهو يعتذر
لشروق.....

"معلش....هنتعبك معانا..."

قالت شروق بابتسامة رقيقة مطمئنة....

"تعبك راحة... المهم رهف تاخد اللي هي عايزاه وتخرج من هنا مبسوطة..."

ظلت شروق أكثر من نصف ساعة تتنقل بيديها بين فستان وآخر حتى استقرت على فستان أرجواني مطبوع عليه فراشات صغيرة رقيقة.

قالت الصغيرة وهي تتشبث بأطراف الفستان بسعادة وانبهار...

"الله... ده حلو أوي يا بابا.... أنا هاخد ده..."

سألها والدها بدهشة بعد أن كاد ييأس من الحصول على شيء....

"يعني خلاص... ده عجبك؟"

أومأت وهي تحتضن الفستان مبتهجة فقال والدها متنهدًا...

"طب الحمد لله..."

بينما قالت شروق بزفرة
تعب..

"وأخيرًا..."

"وأخيرًا..."

قالها أيضًا والد الصغيرة في نفس اللحظة مما جعله يتبادل هو وشروق النظرات ثم ضحكا فجأة بتلقائية....

توقفت شروق عن الضحك وهي تدرك غباء فعلتها وقد احمرّ وجهها أثر هذا الحرج....

وضعت شروق الفستان في الكيس الذي يحمل شعار المحل ثم ناولته له...

"متشرفتش باسم حضرِتك..."

أعطاها والد الصغيرة ثمن الفستان وهو ينتظر جوابها فقالت بعفوية....

"شروق..."

ابتسم لها مرة أخيرة بامتنان قائلاً...

"متشكر أوي يا آنسة شروق... حقيقي تعبناكي جدًا.... وانتي كنتي صبورة لآخر لحظة..."

ردّت شروق بود...

"على إيه... ده شغلي. مبروك عليها..."

"يلا بقى يا بابا عشان نجيب الآيس كريم..."

سحبته الصغيرة كي يخرجا فأسرع الخطى معها ضاحكًا على تعجّلها.

راقبت شروق خروجهما بنظرة وبسمة حزينة فكم كانت تتمنى أن تحظى ابنتها بهذا الاهتمام والحب من والدها...

أتت ابنتها يتيمة إلى الدنيا رغم وجود والدها في حياتها لكنه لم يقدّم لها شيئًا ولم يسعَ لتحقيق أي شيء من أجلها...

تلك المرارة تتحملها وحدها فهي تدفع ثمن اختيارها اللعين له.

"آنسه شروق عايزك على مكتبي....."

دوى صوته من خلفها فقطع سيل أفكارها ومشاعرها....وتوقفت فجأة…

كمن يسير على طريق سريع ويصطدم فجأة بإشارة مرور لم تكن موجودة من قبل.....

وجوده خلفها أربكها وكلماته صدمتها…

فهو على ما يبدو كان يتابع الموقف منذ بدايته ومع ذلك انتظر حتى نهايته بصبر يفوق الحد....

استدارت شروق نحوه لتصطدم بنظرات تقدح شررًا أسود وبملامح مظلمة جافة وبوقفة 
رجلا مهيبة ككل ما فيه.....

بلعت ريقها وهي تهرب من قسوة عينيه لترى قدميه تتحركان تسبقها نحو مكتبه بخطوات 
رغم هدوئها تشي بغضب مكتوم.....

أغمضت عينيها وعدّت ببطء حتى عشرة لعل الاضطراب يهدأ قبل أن تتحرك لتنفيذ أوامره بشجاعة ليست واثقة تمامًا انها تمتلكها....

وقفت أمامه تنظر إلى الأرض تشبك يديها ببعضهما كالتلميذة الصغيرة المذنبة.

بينما هو كان جالسًا خلف مكتبه على غير هوادة.... صدره يشتعل كأتون حارق وعيناه تكادان تنفثان نارًا من شدّة ما يعتريه.

قال بحدة....

"ممكن أفهم إيه المهزلة اللي شوفتها
تحت دي؟... "

ادعت الغباء قائلة دون أن تنظر إليه...

"إيه اللي حصل؟.... أنا بعمل شغلي..."

هتف بنبرة مضطرمة....

"شغلك إنك تضحكي وتهزري مع الزباين
انتي بتسمي ده شغل؟"

نظرت إليه بحنق...

"تقصد إيه؟... أنا كنت بتعامل عادي..."

زاد تجهمه وقال بازدراء...

"والضحك عادي برضه.... مخدتيش بالك
من نظراته يا آنسة شروق؟"

ثم قطب جبينه وسأل بعنف....

"وبعدين ليه تعرفيه باسمك؟... ده كمان من ضمن الشغل؟... "

قالت بوجوم....

"هو سألني..... فأنا رديت..."

أثار ذلك حفيظته أكثر فقال بتهكم....

"كان ممكن تقوليله أم ملك... ولا أم ملك دي ليا أنا وبس...... أما برّا فعادي؟"

احتقن وجهها بالغيظ وهي تقول باهتياج...

"تقصد إيه بعادي... صالح لو سمحت بلاش الطريقة دي... وفي الأول وفي الآخر انت ملكش حكم عليا.."

أظهر امتلاكًا ذكوريًا لأول مرة نحوها وهو يقول دون تراجع...

"هيبقى ليا... المسألة مسألة وقت. وكل اللي بتعمليه ده هيتغير... انتي نفسك هتتغيري مسافة ما تشيلي اسمي..."

تسارعت خفقات قلبها وارتسم الارتباك على ملامحها وصوتها وهي تقول....

"بس أنا ما وفقتش ومش ناوية أوافق... ولو وجودي هنا مضايقك أوي كده....أنا هسيب المحل وأدور على مكان تاني..."

أبعد صالح وجهه عنها مطلقًا زفرة استياء
فيما كانت ثورة غضبه تزداد حدّة....

كان على وشك أن يقلب المكتب وما عليه
فقد استطاعت بكلماتها العنيدة أن تدفعه
إلى ذروة انفعاله....

"يا الله يا ولي الصابرين...انتي عايزة إيه بالظبط؟... "

عاد إليها بعينين حمراوين حانقتين فقالت هي بأعصاب باردة....

"أنا مش عايزة حاجة... انت اللي عايز وجايبني لحد هنا..."

خبط على سطح المكتب فانتفضت شروق متراجعة للخلف بصدمة بينما حاول هو السيطرة على غضبه قائلاً بقلة صبر...

"جايبك هنا من غير سبب.... بتبلَى عليكي لا سمح الله.... مش شايفة اللي عملتيه غلط 
وما يطلعش من واحدة عاقلة ومحترمة؟"

وكأنه صفعها على حين غرة ففغرت فمها متشدقة...

"تقصد إني مش محترمة؟"

تحدث صالح بجذع...

"أستغفر الله العظيم... أنا ما قولتش كده. أنا بقول مينفعش يطلع منك انتي... انتي غلطانة وكمان مش عاجبك الكلام؟"

تضخم صدرها بمشاعر سوداء وهي تنفعل عليه قائلة بلا تفكير....

"عشان انت عايز تتحكم فيا وخلاص زيك زي اللي قبلك... عايز تعلق ليا المشانق.... "

توقفت عن الحديث كما توقف هو عن أي رد فعل طبيعي نحوها....

تجمّد المكان فجأة حولهما والصمت رنّ بثقل مشحون بالصدمة والغضب....

حتى تحدث صالح بعد فترة لكن تلك المرة كان صوته بعيدًا.... خافتًا.... باهتًا.... مات فيه التعبير...

"الراجل اللي ما يغيرش على الست اللي تخصه..... يبقى عنده مشكلة..."

أفصح لها عن مشاعره وسبب غضبه لكنها لم تشعر بسعادة فما كانت تقرأه في خضرة عينيه كان يضع حجرًا فوق قلبها....

"وأنا لما أعاتب في الغلط وأفهمك براحة... 
ده لأنك مهمة عندي وغير أي حد..."

اعتراف آخر أجمل من السابق ورغم روعته إلا أنه كان أشد برودة وقسوة على قلبها المنتظر بخوف....

"بس لما أسمع كلمتين زي دول منك يبقى
لازم أقف مكاني..."

نمت الغصة في حلقها بقسوة وهي واقفة كالصنم وقلبها يرتجف بين اضلعها....

"أنا اتعدّيت حدودي كتير معاكي والمرة دي مش بس عديت حدودي أنا كمان هِنت نفسي..."

هتفت شروق باختناق....

"أنا ما قصدتش أشبّهك بيه أنا..."

أجابها صالح بصوت بلا تعبير....

"المعنى وصل... وردّك كمان وصل قبل حتى الأسبوع ما يخلص..."

"صالح أنا...... أنا..."

حاولت الكلام والتبرير لكن لسانها لم يسعفها فتوقفت واجمة بوجه فقد ألوان الحياة فجأة

نهض صالح وهو يرتدي سترة الحلة وقال 
وهو يتناول سبحته السوداء من على المكتب مع مفاتيح سيارته....

"انتي قولتي اللي عندك... في الأول وفي الآخر الجواز طلب وقبول.... وطالما مفيش قبول منك.... يبقى اعتبريه ما حصلش..."

سألته شروق بذهول....

"انت... انت رايح فين؟... "

رد عليها وهو يتحرك باتجاه الباب وقبل أن يخرج قال بهدوء...

"هكمّل شغلي في المصنع... اطمني مش هضايقك تاني بوجودي... وخليكي شغّالة
هنا..... ده أحسن ليكي..."

ثم غادر دون أن يسمع ردها.....فتكفي جملتها التي هدمت كل شيء في لحظة وأهانت رجولته ليخرج الشيخ من حياتها دون عودة.

كانت تستحق هذه النهاية فمن هي كي تحظى بالعوض على أي حال...
.................................................................
اقترب موعد مغادرتها من المحل وقد مرّت آخر ثلاث ساعات ببطء شديد وكأنها ثلاث سنوات من الحزن والضيق. كانت تشعر أن قطعة من قلبها غادرت خلفه...

فمنذ خروجه من المكان وهي في عالمٍ غير العالم شاردة حزينة غائرة النظرات وقلبها يئن مع الخفقات وكأن الوجع بات ملازمًا لها إلى
ما لا نهاية...

تحرّكت شروق من مكانها تسحب حقيبة يدها وترفعها على ذراعها خارجة من المحل...

"على فين يا شروق؟... "

استدارت تنظر إلى مدير المحل (سعيد) الذي أتى من خلفها ووقف أمامها بملامح لا تُنذر بالخير...

أجابته شروق بهدوء...

"معاد خروجي... الساعة أربعة..."

قال سعيد بغضب وهو يسحب حقيبتها بعنف عن ذراعها ثم فتح سحّابها بأسلوب همجي يتفحّص ما بداخلها....

"قبل ما تخرجي يا حلوة... هاتي الشنطة المنفوخة دي أشوف فيها إيه..."

اتسعت عينا شروق بصدمة وغضب وأخذت خطوة نحوه تحاول سحب حقيبتها...

"إيه اللي إنت بتعمله ده... هات الشنطة...
بتاع إيه تاخد شنطتي؟!... "

أتت نشوى ووقفت خلف سعيد قائلة
بلؤم...

"مش قولتلك يا ريس... دي بت حويطة 
ومش سهلة..."

هتف سعيد بتجهّم....

"استني يا نشوى... دلوقتي كله هيبان..."

اقتربت سميرة من نشوى تسألها بقلق....

"في إيه يا نشوى؟... إنتي عملتي إيه بالظبط؟... "

ابتسمت الأخرى بتشفٍّ قائلة...

"عملت اللي كان المفروض يتعمل..."

"إيه ده يا حرامية؟!"

نطق بها سعيد وهو يلوّح بيده بعباءة سوداء أخرجها للتو من حقيبتها....

اقتربت منه شروق تقبض على أطراف العباءة تتفحصها بصدمة وهي تتمتم....

"معرفش... معرفش إيه اللي جابها في شنطتي..."

استخف سعيد بردها وهو ينظر إليها شزرًا بملامح محتقنة بالوعيد....

"متعرفيش؟!..... نطّت في شنطتك إزاي؟!"

هزّت شروق رأسها وأمارات الصدمة والخوف تعلو وجهها الذي شحب شحوب الأموات وكل ما تفكر فيه الآن هو ابنتها...

قبض سعيد على بلوزتها من ناحية الكتف بقوة وهو يصب جمّ غضبه عليها...

"أقسم بالله ما هسيبك... هتباتي في الحجز النهاردة. لازم تبقي عبرة لكل واحد يفكر يخون الأمانة ويمد إيده على حاجة مش بتاعته..."

حاولت شروق الإفلات من قبضته لدرجة أن بلوزتها تمزقت تحت يده وهي منحنية تحاول إبعاده عنها وقد انهمرت دموعها بقهر وشعور المهانة يذبحها بسكين بارد...

"سبني... إنت بتعمل إيه؟!"

صاح سعيد وهو يجرّها خلفه بطريقة مهينة غير آدمية...

"هاخدك معايا على أقرب قسم يا روح 
أمك... تعالي معايا يا نشوى إنتي وسميرة عشان تشهدوا عليها..."

تبادلت العاملتان النظرات بتردد...

بينما انتاب نشوى الخوف من أن ينكشف أمرها فأقصى ما توقعت حدوثه طرد شروق من المكان ولم يَخطر ببالها أن يصل الأمر إلى الشرطة... وربما يصل الخبر إلى صالح الشافعي.....


تعليقات