رواية اشتد قيد الهوي الفصل الرابع والعشرون
تظن أنك قادر على المواجهة طالما أنك تخطيت الصعوبات واحدة تلو الأخرى حتى يخيب ظنك أمام مواجهة ساحقة لكرامتك وآدميتك لا تندرج تحت مسمى الصعوبة
بل تحت مسمى المذلة..
للحظة تفقد فيها قدرتك على الدفاع عن نفسك فتجد الصمت جدارًا هشًا تتوارى خلفه دون جدوى....
فالمذلة هي ذلك الشعور الذي لا يرغب الإنسان أن يلقاه أبدًا في حياته لكنه يأتيك كطعنة
غدر متشبعة بصدمتك وسذاجتك !...
تستند إلى الحائط منكمشة على نفسها تنظر إلى البعيد عيناها لا تُبصران شيئًا سوى صورة ابنتها...خائفة أن تتركها في هذه الحياة وحدها وسط حروب لا تنتهي وضغائن لا تنضب...
ستكون نهاية والديها السرقة والسجن..
لا تستحق ابنتها نهاية قاتمة بل يليق بها الوردي فهي كزهرة جميلة نبتت في أرض مقفرة !....
هل جزاؤها الموت لأنها أتت من الأرض الخاطئة؟!....
رمشت بعينيها عدة مرات محاولة السيطرة على دموعها لكنها انكسرت أمام الجميع فهي الآن تقف بين المجرمين والقتلة بتهمة سرقة لم ترتكبها ولا حتى في أحلامها...
تقف تنتظر أمام باب ضابط الشرطة بعد أن دلف سعيد ونشوى بينما رفضت سميرة الدخول خارجة من المكان بأكمله متحججة بأطفالها وزوجها الذين ينتظرونها في المنزل...
أما هي فبقيت واقفة تنتظر مصيرها والحكم النهائي عليها...
تليق بها نهاية بشعة كتلك جزاءً على عنادها يومًا واختيارها العطب لرجلٍ جعل من الشقاء والمذلة دعوة سخية على وجهها حتى تظل تقع في مصيبة تلو الأخرى...
ومهما تجنبت المشاكل تأتيها خلسة ولو
من عقب باب مغلق !....
داهم أنفها عطر العود... فأغمضت عينيها بقوة والغضب يجتاحها...
من الطبيعي أن تفرح لأنه أتى لينقذها لكن في الحقيقة كانت في ذروة استيائها وغضبها من نفسها فهي لا تريد أن ينقذها أحد ولا أن تثير شفقة أحد...
لماذا تدفعها الأمواج نحوه كلما حاولت أن تجدف بعيدًا عنه وعن عالمه....تجد نفسها أمام حضرته تحظى بوجوده واهتمامه وحمايته...
تكره كونها امرأة ضعيفة ذليلة بحاجة إليه وحتى إن لم تطلب تأتي الحاجة وتطلبه هو دون غيره...
أهذا قدرها؟!.. أم نوع جديد من المذلة تعيشه معه؟....
دخل صالح إلى قسم الشرطة وخلفه سميرة التي جاءت إليه وأخبرته بما حدث مع شروق والمكيدة التي دبرتها نشوى حتى توقع بها وتبعدها عنه...
لا يعرف كيف ومتى استقل سيارته وأتى إلى هنا كل ما كان يسيطر عليه الخوف والقلق عليها...
والغضب... الغضب الذي يجيش في صدره كبركان ثائر حين علم من سميرة أن المدعو سعيد تعامل معها بشكل غير آدمي وجرّها
جرًا إلى القسم من ملابسها...
وحين رآها تقف هناك منكبة على أحزانها ضائعة في نهايتها المحتومة زاد غضبه نحوها أكثر من غضبه من الجميع...
فلو لم تأتِ سميرة لم يكن سيعرف عنها شيئًا في الوقت الراهن وربما علم بعد أيام أو أكثر...
لم تحاول أن تتصل به أو تخبره بشيء وكأنها اقتلعته من حياتها فجأة...
وكم جعل هذا الدماء تغلي في عروقه أكثر...
اقترب صالح منها بخطوات غاضبة ونظرة مظلمة كملامحه منذ أن سمع بالخبر المشؤوم...
شعرت شروق بالدفء يجتاح كتفيها فنظرت بصدمة لتجد سترته توضع على كتفيها بمساعدة سميرة... بعد أن أمرها صالح
بذلك...
رفعت عينيها عليه بصدمة وحزن فبادلها النظرة بغضب مستعر وملامح منزعجة لأبعد حد...
بلعت ريقها وهي تُسبل جفنيها بعيدًا عنه...
فتح الباب في اللحظة التالية وخرج سعيد ونشوى...
تفاجأ سعيد بوجود صالح الشافعي أمامه فقال بدهشة....
"إيه اللي جابك هنا يا باشا؟... الموضوع مش مستاهل أنا خلصت كل حاجة و..."
توسعت عينا شروق وفلتت منها شهقة عالية مصدومة بعد أن رأت صالح يصفع سعيد بظهر يده بقوة جعلت الرجل يرتد للخلف مصدومًا متألمًا...
كذلك تراجعت نشوى للخلف بينما ابتسمت سميرة بتشفٍّ فيهما وهي تُخلّص ضميرها من ذنب تلك المسكينة...
فمهما كانت أسباب نشوى وحقدها لا يصل الأمر إلى الاتهام بالسرقة والسجن ظلمًا...
لم تشعر سميرة بنفسها إلا وهي تَشي عليهما إلى صاحب المكان حتى تتخلص من عذاب الضمير وتنجّي نفسها وعائلتها من هذا
الذنب...
فكل ساقٍ يُسقى بما سقى...
نظرت إليها نشوى بغضب متوعدة لها لكن سميرة لم تهتم فهي تعلم أن نشوى انتهى عملها من المكان هي ومن يديره...
وضع سعيد يده على صدغه متألمًا وهو يقول بحنق....
"بتضربني يا باشا؟!... ده جزاتي إني خايف على شغلك ومصالحك؟!... دي واحدة حرامية مـ..."
قبض صالح على عنق قميص سعيد يخرسه بعينين تقدحان شررًا وهو يقول بصوتٍ منفعل وأنفاس عالية بالغضب....
"ولا كلمة... أخرس اللي عملته ده تدخُل تصلحه ودلوقتي... أم ملك مش هتقعد ساعة واحدة في القسم سامع؟!.... ادخل اتنازل عن المحضر... بدل ما أنا أدخل أتصرف وساعتها هلبسك قضية سرقة بجد.... "
ذُعر سعيد وهو يبتلع ريقه
بارتباك قائلا.....
"سرقة؟!........وأنا سرقت إيه؟!"
بملامح مشتعلة نافرة أخبره صالح بتهكم...
"تكونش فاكر إني مخدتش بالي من الحسابات المضروبة اللي بعتها ليا... ولا تكون فاكر إنك هتفضل تسرقني... وتخنصر من ورايا كتير..."
بهت وجه سعيد وهو يهز رأسه بهلع...
"عيب يا باشا... ده أنا أمين على مصالحك وبخاف على المحل..."
لم يتراجع صالح وهو يشد على قبضة قميصه قائلاً بتشنج....
"هي كلمة واحدة... ادخل صلح اللي عملته...
يا ما أقسم بالله العلي العظيم هكون سجنك ومشرّدك يا سعيد... جزاءً على اللي عملته معاها..."
نظر سعيد نحو شروق وقال معتذرًا...
"حقك عليا... أنا والله ما كنتش أعرف إنها تخصك....... أنا..."
أسبلت شروق جفنيها بحرج شديد من هذا الموقف الحساس...
بينما هدر صالح بلهجة صارمة يقاطعه....
"إنت سترك عند ربنا نفد... عشان كده كشفك ليا... بطريقتين الأولى الحسابات وكنت ناوي أسمح فيها عشان خاطر عيالك وبيتك ما يتخربش..."
ثم نظر نحو شروق التي تلاقت بعينيه في لحظة خاطفة ارتجف معها قلبها وكيانها
وهي تسمع قوله...
"بس التانية أنا مش هسامح فيها يا سعيد... إنت مالكش أكل عيش عندي..."
ثم نظر صالح نحو نشوى ملقيًا الحكم الصارم نحوها كذلك...
"وإنتي كمان زيه... ولولا إنك قد بنتي كنت تصرفت معاكي تصرف تاني..."
أحنت نشوى رأسها بمذلة تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها من أمامه...
"ادخلوا صلحوا اللي عملتوه انتوا الاتنين..."
دفعه صالح بعيدًا عنه بأنفاس متشنجة عالية فنفّذ الاثنان الأمر دون كلمة...
حينها اقترب صالح منها بانفاس للاهثة... ووقف بجوارها محاولًا السيطرة على أعصابه التي انفلتت فجأة في غضون ثوانٍ بعد أن رآها بهذا الشكل المهين...وبلوزتها ممزقة بفعل يدي شبيه الرجال...
"صـالـح..."
همست شروق باسمه وهي تنظر إليه فاستدار إليها بعينين خضراوين مشتعلتين كغابة اندلعت فيها النيران فجأة...
في الحقيقة هناك سبب وجيه أنها قادرة على إخراجه عن طوره في لحظة غضب لذلك كان رده قاطعًا صارمًا وهو يخبرها بلهجة واعدة
"ولا كلمة... إنتي كمان حسابك معايا تقل... واللي عملتيه النهاردة مش هسامح عليه..."
أشاحت شروق برأسها عنه بملامح حانقة نادمة...
"هتحتاج مني حاجة تانية يا بيه؟..."
قالتها سميرة وهي تنوي الرحيل من هذا المكان...
فقال صالح وهو يخرج من جيبه مبلغًا ماليًا...
"كتر خيرك يا أم فارس... خدي دول عشانك..."
أخذتهما سميرة بملامح منبسطة فقال صالح برفق....
"وطبعًا مكانك في المحل زي ما هو..."
قالت سميرة بفرحة عارمة وهي تنقل عينيها بينهما....
"ربنا يزيدك من فضله... ويخليكم لبعض..."
غادرت سميرة وهي تقبض على المال بسعادة بين يديها....
بينما نظر صالح إلى عيون الغزلان واجمًا مغتاظًا منها وهو يقول....
"لو هي مكنتش جت قالتلي... كان وضعك بقى إيه دلوقتي؟!.... "
رفضت الرد على سؤاله وهي تهرب من عينيه القادرتين على سلب أنفاسها وخفقات قلبها...
لكن الغريب أن عينيه كانتا مسكنًا لروحها المتعبة !....
...............................................................
"لو هي مكنتش جت قالتلي...كان وضعك بقى إيه دلوقتي؟!...."
أعاد قول الحديث مجددًا مصممًا على سماع ردٍ منها... كانا قد خرجا من القسم واستقلا السيارة وقادها صالح حيث منزلها....
مجددًا تهربت من الرد ناظرة إلى النافذة بجوارها بينما يداها في حجرها تفرك فيهما بتوترٍ ملحوظ....
"بكلمك يا شروق... ردي عليا....."
مصممًا أنتَ على سماع الرد؟... إذًا فلك ذلك...
"كنت هواجه مصيري... واللي ربنا كتبه هو اللي هيكون....."
انعقد حاجباه بدهشة مستهجنًا ردها....
"إنتي بتقولي إيه؟!.... ربنا سبحانه وتعالى قال
(وَلَا تُلْقُوا أَنفُسَكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)....."
أضاف مستنكرًا رد فعلها...
"تواجهي مصير في حاجة ماعملتيهاش؟!.... إزاي مجتش في بالك وقتها... حتى لو مش عشان الجيرة اللي بينا... على الأقل عشان أنا صاحب المكان.... ليه عايزة تشيليني ذنب ظلمك؟..."
نكست شروق رأسها وهي تعترف بصوتٍ مبحوح بالعجز وقلة الحيلة....
"إنت عمرك ما ظلمتني... بالعكس... إنت وأهلك ادتوني كتير....."
أعطاها صالح نظرة عابرة ثم عاد إلى الطريق قائلاً بعتاب....
"وكان إيه المقابل منك؟... شيفاني غريب عنك...كنتي هتضيّعيني وتضيّعي بنتك معاكي...."
قالت شروق بحرقة...
"مكنتش عايزة أدخلك في مشاكلي... كفاية اللي حصل قبل كده في بيتكم... من عنايات..."
هتف صالح بلا اكتراث...
"موضوعها انتهى وخدت جزاها....."
زمت فمها بوجوم قائلة بكآبة....
"أيوه عرفت إنها اتحبست... وإنت... إنت اللي ورا حبسها....."
قطب جبينه متعجبًا سائلاً بدهشة....
"مين قالك كده؟!.... أنا مش فاكر إني جبت سيرتها معاكي من ساعة آخر مرة...."
أجابته شروق دون مواربة....
"ممدوح قالي......"
جاشت مراجله وهو يستفسر منها بلهجة خطرة....
"إنتي شوفتيه؟!...."
شعرت بالخطر ونيران تستشعرها في قلبها قبل عينيها.... الغيرة والسيطرة ورغم أن قلبها هائم من سطوة الشيخ عليه إلا أن عقلها نافِر كاره لتلك التحكمات الذكورية التي دومًا وعنوة عنها تربطها بزوجها السابق وتُجبرها عليها....
قالت شروق بشجاعة وثبات....
"هشوفه فين وهو لسه في السجن؟... هو كلمني في التليفون وقال لي... وهددني إنه هينتقم منك بسبب اللي عملته في أمه... عشان...."
تابع عنها بغضبٍ مكتوم....
"عشان كده مشيتي...."
سحبت شروق نفسًا طويلاً ثم أخرجته بتعب وهي تعترف بصوتٍ حزين....
"أنا سبب المشاكل دي كلها... ولو حصلك حاجة بسببي أنا عمري ما هسامح نفسي... مش هو ده رد الجميل اللي عملته عشاني...."
أجابها صالح وهو يحاول السيطرة على أعصابه...
بينما تسير سيارته وسط الزحام بثبات تعرف طريقها جيدًا...
عكس قلبه الذي يسير مع الغزالة شاردًا معها في غابة لا تخضع للقوانين...الأمان فيها هو قوتك وسرعة بديهتك وإن تخاذلت فيهما فالنتيجة محسومة ولن ترضيك أبدًا !...
"إحنا ماعملناش فيكي جمايل.... مجرد جارة قعدت فترة في شقة كانت مقفولة بقالها سنين... لحد...."
بلع ريقه معترفًا بصوتٍ هادئ....
"لحد ما عملت لنفسها مكان وسطنا وبقت مهمة عند كل واحد فينا... وهي وبنتها بقوا جزء من العيلة دي....."
"يعني الحكاية مافيهاش جمايل... بالعكس... إنتي عملتي مواقف كتير جدعة ليا ولعيلتي...."
لم يظهر عليها التأثر أو الاقتناع بالحديث وهي تقول بمرارة....
"أنا ماعملتش حاجة... إنت بتقول كده عشان تهون عليا... بس أنا أساس البلاوي والمشاكل اللي بتحصل واللي هتحصل...فعشان كده الله يخليك يا شيخ... خليك بعيد عني... عشان تفضل بخير إنت وعيلتك....."
سألها صالح بجمود....
"على كده ناوية ترجعيله؟... ضغط عليكي ببنتك...."
هزت رأسها وصدرها يضيق بعد سؤاله أكثر حتى اختنق صوتها وهي ترد عليه بصبر...
"ممدوح طول الوقت بيستخدم ملك وسيلة يكسرني بيها.... بس لا... مش هرجعله لو على موتي... لا أنا ولا بنتي هيشوف ضُفرنا..."
ثم رن الصمت بينهما قليلاً حتى وصل صالح أمام باب منزلها... لم تنتبه شروق إلى توقف السيارة وهي تقول بعد تفكير....
"أنا بفكر أمشي من إسكندرية كلها... أروح عند قرايب أبويا في القاهرة... يمكن يساعدوني ويشوفولي مكان وشغل أصرّف بيه عليا
وعلى بنتي...."
علت أمارات الرفض وجه صالح الذي زاد تجهمه بعد سماع قرارها الأخير... فأعطاها كامل تركيزه بعد أن أوقف السيارة قائلاً بصلابة....
"اللي بتقوليه ده مش حل... أنا لسه عايزك يا شروق... ليني دماغك وبلاش تصرفات غلط... الهروب مش حل....."
هتفت شروق دون تفكير وهي تنظر إليه بعصبية....
"والحل إني أحطك في وش المدفع... أأذيك وأنا روحي فيك....."
اتسعت حدقتا صالح قليلاً مندهشًا من جملتها وهو ينظر إليها بعينين متوهجتين بالحب....
كان عليه أن يعترف أنه لا يحبذ جرأة النساء...
لكن جرأة الغزالة معه تختلف فكأنها حلوة تكافئه بها بعد مجهودٍ جبار يبذله معها !....
تخضبت وجنتا شروق بحرج وهي تعض على لسانها غاضبة لاعنة غباءها ووقاحتها المتزايدة معه....
عديمة الأخلاق... بالطبع ينعتك بتلك الصفة... فأنتِ وقحة من الدرجة الأولى.....
"لو روحك فيا... مش هتسيبيني وتمشي...."
اتسعت بُنيتاها وهي ترفع عينيها إليه فصدمها وهج عينيه الخضراوين والتعبير القوي فيهما وكأن كلمتها الجريئة من منظورها نالت رضاه !.....
ازدردت شروق ريقها وهي تقول بلوعة....
"بس أنا ليا أسبابي...."
رد صالح عليها بصوتٍ متلهف....
"وأنا كمان عندي أسبابي اللي تخليني أعرض عليكي مرة واتنين وتلاتة... الجواز منك..."
ضاعت شروق في النظر إلى عينيه بينما قلبها كان قد ضاع منذ فترة طويلة في درب هواه !....
همس صالح بصوتٍ هادئ بين طياته رجاء لا تكذبه أذناها...
"وافقي يا شروق....."
على صوت أنفاسها وخفقات قلبها وهي تقول بتردد...
"طب وملك....."
ابتسم صالح بمحبة قائلاً....
"ملك... وأم ملك... في عنيا... ماتخافيش على بنتك... هي زي أبرار وياسين عندي...."
تلبسها الرفض مجددًا وهي تضع صورة
طليقها أمامها.....
"لو وفقت... حنش هياخدها مني...."
حدثها صالح بصبرٍ وعقلانية....
"ملهاش إنها تروح لحضانته لأنه سوابق ومش آمين عليها... وأمه نفس الكلام... ده غير إنها في السجن. يعني إنتي الأولى بيها... فما تخافيش عليها....."
ثم استرسل بأسلوبٍ واقعي مطمئنها..
"ده غير إن البنت كبيرة وعاقلة... والموقف اللي حصل قدامها خلاها تفهم أبوها وجدتها إيه بالظبط......"
نظرت شروق أمامها تفكر في حديثه بينما أضاف صالح.....
"كل حاجة محلولة... إنتي اللي مصعّباها...."
نظرت إليه شروق وقالت بدفاع:
"مش مصعّباها والله... كل اللي حصل ومشياني من البيت خوفًا عليك... مش أكتر....."
أطلق صالح تنهيدة طويلة مستاءة وهو يقول بصبرٍ ونظرة تبث الثقة والطمأنينة لقلبها المرتاع....
"مش مستاهله الخوف ده كله... أنا أقدر أقف قصاد أي حد... وأحميكي إنتي وبنتك... وده طبعًا اللي ربنا هيقدرني عليه... واللي الأيام هتكشفه ليكي مع الوقت...."
رفضت شروق وهي تقول بصوتٍ أنثوي حنون بالفطرة....
"أنا مش عايزاك تثبتلي حاجة... أنا كل اللي بتمناه... تفضل بخير... وتبقى مبسوط في حياتك...."
أجابها صالح بنظرة ذات مغزى...
"هبقى مبسوط فعلاً... لو سمعت الكلمة اللي مستنيها منك....."
غزا الاحمرار خديها وهي تهرب من عينيه قائلة بتلعثم....
"كمان يومين هرد عليك...."
أطلق صالح تنهيدة متعبة وهو ينظر للأعلى قائلاً بقلة صبر....
"يا الله يا ولي الصابرين... وبعدين معاكي...."
عضت شروق على باطن وجنتيها وهي تقول بوجوم....
"إحنا كدا كده... كنا متفقين أرد آخر الأسبوع... ولسه الأسبوع مخلصش....."
تمسك صالح بزمام الصبر وهو يقول بتفاؤل
"طيب... المهم في الآخر نسمع خبر حلو....."
وضعت شروق يدها على مقبض الباب وهي تقول بجدية دون النظر إليه....
"مهد الموضوع لأبرار الأول... وعرفني ردها... وأنا هجس نبض ملك... وبعدين على حسب ردهم... هيكون ردي عليك...."
غادرت شروق أمام عينيه ودلفت إلى المبنى الذي تقطن به بينما بقى صالح مكانه ينظر إلى الباب الذي اختفت منه متمتمًا بعد تفكير...
"عندك حق... في وضعنا أكيد رد البنات هو الأهم......"
.................................................................
الحب يشبه الفصول الأربعة لكنه لا يأتي بالترتيب…
ربيع الحب هو حين تتفتح الأزهار بألوان زاهية بديعية وينتشر معها عبيرها الطيب ليملأ قلوبنا دفئًا ويصبح الحب في أبهى صورة....
معه تتناثر كلمات العشق كالقصائد وتفيض العيون بالغزل بينما قلوبنا تتوهج بحرارة الشوق…فأبقى أنا وأنتِ في أوج ربيع
الحب....
خرجت من بوابة الجامعة برفقة زميلاتها فأشارت لها إحداهن وهي تضحك بخجل واضعة يدها على فمها....
نظرت لها أبرار بقرف ثم وجهت نظرها للأمام لترى سبب صراخ صديقاتها وبعضهن يُخفين ضحكات خجولة وهن ينظرن نحوه.
فغرت أبرار فمها وقد انقلبت ملامحها من الاستنكار إلى الصدمة الممزوجة بالفرح والخجل....
كان ياسين يقف عند سيارته السوداء متأنقًا ببدلة عصرية زادت وسامته شعره مصفف للخلف ذقنه حليقة ناعمة ووجهه ناضر جذاب تتألق عيناه بوميض الحب وهو ينظر نحوها وبين يديه باقة من الورود الحمراء....
تلك الهيئة جعلت صديقاتها يصرخن بحماس وسعادة وبدأ البعض يحسدها فمن تمتلك ابن عم مثله ولا تفكر في الارتباط به؟
في الحقيقة هي منذ فترة قصيرة كانت تراه أخًا حبيبًا وابن عمها الحنون....
تشكر الأيام والظروف التي جعلت منها عاشقة لابن عمها..... وهائمًا هو بكل ما فيها...
ودعت صديقاتها وهي تغيّر طريقها تسير بخطى واسعة نحوه والابتسامة تزين ثغرها وتكشف عن غمازتيها الجميلتين كنجمتين منقوشتين على وجنتيها. كذلك انعكست ابتسامتها جمالًا على سعة عينيها اللامعتين كأنها مجرة لا يراها سواه.
جميلة بشكل لا يوصف رقيقة كالفراشة حانية كالأم على صغيرها.....
"ياسين..."
هتفت باسمه بصوت ناعم رقيق فقال هو بعينين تفيضان عشقًا....
"قلب وعيون ياسين... وحشتيني يا أبراري."
ردت أبرار برقة...
"إنت كمان وحشتني... ما قولتش يعني إنك جاي..."
"حبيت أعملها لك مفاجأة... اتفضلي."
أعطاها باقة الزهور الحمراء الجميلة فأخذتها أبرار تعانقها بكلتا ذراعيها تنحني بأنفها لتشم عبيرها المسكر قائلة بخجل....
"ده عشاني؟"
رد ياسين بأسلوب غليظ مشيرًا بعينيه الماكرة إلى واحدة من صديقاتها....
"لأ عشان واحدة من صحابك اللي هناك... اللي لابسة أصفر دي.... اسمها إيه؟"
امتقع وجه أبرار فجأة وألقت الباقة في
وجهه بعنف....
تلقف ياسين الباقة قبل أن تسقط أرضًا وبذراعه الحرة أمسك ذراعها قبل أن تبتعد ضاحكًا بملء شدقيه.....
بينما هي ترمقه شزرًا حتى توقف وقال
بمزاح....
"استني بس يا مجنونة... والله بهزر."
بملامح محتقنة بالغيظ قالت بانفعال
مكبوت....
"ما تهزرش في الحاجات دي... ما بقيناش زي الأول... إحنا بقينا في وضع جديد."
أعطاها ياسين الباقة مجددًا وهو يميل عليها هامسًا بحرارة....
"أحلى وضع... وضع استنيته كتير وأخيرًا ربنا قرّب البعيد."
"على فكرة مفيش واحدة فيهم لابسة أصفر."
قالتها أبرار وهي تنظر بتركيز شديد على ما ترتديه صديقاتها من بعيد....
ضحك ياسين قائلاً بمناوشة....
"يا هبلة بهزر... هو أنا عيني وقلبي شايفين غيرك أصلًا؟"
نظرت إليه بتغنج تضم الباقة إلى صدرها بسعادة قائلة....
"شاطر في التثبيت..... والكلام الحلو."
رد عليها ياسين بمداعبة....
"مش كلام والله... ده جاي من جوا
جوا نغشيش قلبي.... "
سألته أبرار بحيرة....
"نغشيش؟!.....يعني إيه نغشيش؟"
فتح ياسين لها باب السيارة وهو يدعوها للدخول بالباقة قائلاً بجاذبية....
"لا ده موضوع يطول شرحه... اركبي بس ونتكلم على انفراد... صحابك عينيهم منزلتش من علينا...."
نظرت أبرار إلى صديقاتها اللواتي يتابعن الموقف بابتسامة واسعة ونظرات هائمة
وكأنهن يشاهدن ثنائيًا خرج للتو من مسلسل تركي وبدأ المواعدة على أرض الواقع....
"شاورلهم... حرام عليكي."
لم تفعل كما أمرها ياسين ففعل هو من باب الذوق.....
ضحكت الفتيات بينما ضربته أبرار في صدره صائحة بغيرة....
"ما تحترم نفسك... "
رد عليها ببراءة....
"إيه... بجبر بخاطرهم."
"اجبر بخاطري أنا الأول يا حنين."
قالتها أبرار بشفاه ممطوطة للأمام بضجر ثم استقلت السيارة بجوار مقعد القيادة...
أغلق الباب خلفها وهو يدور حول السيارة صاعدًا بحوارها وهو يقول بغمزة شقية...
"ما إنتي مش مدياني فرصة أجبر بخاطرك."
قالت أبرار بحياء....
"هو انت دماغك راحت فين؟"
رد بأسلوب لئيم عابث...
"على حسب إنتي آخرك فين."
قالت بجدية وهي تنظر أمامها بينما يداها تعانقان الباقة بحب...
"على بيت عم عبد العظيم... عايزة أزور صاحبتي..."
تشدّق ذاهلاً وهو يدير محرك السيارة...
"صاحبتك؟!.... هو ده وقته إحنا عندنا
مشوار مهم..."
سألته بدهشة...
"مشوار إيه؟"
أخبرها بتنهيدة حارة...
"لا..... دي خليها مفاجأة."
قالت أبرار بملامح جادة مصرة....
"خلاص... نطلع على نهاد الأول وبعدين نبقى نشوف مشوارك ده...."
رفض ياسين واجمًا...
"ما تأجلي زيارة صاحبتك النهاردة..."
اجتاح القلق أبرار وهي تقول بصوت مهموم خائف....
"مش هينفع... بقالها فترة غايبة عن الكلية وأنا بدأت أقلق عليها خصوصًا إنها مش بترد على مكالمتي... وندى مش بتقول حاجة تطمّن."
أومأ ياسين برأسه متفهمًا ودون جدال أخبرها بمشاكسة....
"خلاص... اطمني عليها وأنا هستناكي تحت... وبعد كده أخطفك."
ضحكت أبرار وهي تنظر إليه بحب قائلة...
"اللي يسمعك يقول إنك عمرك ما خطفتني... إنت خطفتني من زمان أصلًا.... "
صاح ياسين مهللًا بسعادة وهو يقول....
"الله أكبر... عايزة أبخرك إحنا بقينا بنقول
كلام حلو أهوه.... "
تورّدت وجنتاها وهي تضحك....
"إنت لا كده عاجبك... ولا كده عاجبك."
مسك يدها وقبّلها قائلًا برجاء....
"لا أبوس إيدك اثبتي على كده... ده أنا ريقي نشف على ما وصلت للمرحلة دي."
ضحكت أبرار وهي تترك يدها بين قبضة يده الحانية فظل طوال الطريق يعانق يدها بيده والثانية تمسك عجلة القيادة...
................................................................
كانت جالسة أمام نافذة غرفتها تنظر إلى الشارع بملامح ميتة ونظرة فقدت الحياة.
ما زال الهاتف بين يديها تنتظر اتصالًا منه
على أمل أن يشتاق إليها ويبادر بالفعل...
كم مرة أرادت أن تتصل به ثم تتراجع
متشبثة بآخر ذرة صبر وكرامة تملكها
فهو من تخلّى عنها وتركها مع أول موقف بينهما وكأنه كان ينتظر الفراق على أحرّ من الجمر...
تسأل نفسها ذاك السؤال القاهر لروحها تردده دائمًا بيأس....
لماذا أتى إليها إن كان ينوي الرحيل منذ البداية؟.....
عادت تنظر إلى السقف وهي تغمغم بعينين ممتلئتين بدموع القهر وقلبها يئن معها بوجع
"يارب لو فعلًا مش من نصيبي... ليه قبلته من البداية؟..... ليه قلبي حبّه؟... "
مسحت دموعها مستغفرة فلا أحد يتعلم دون صفعات الحياة... لا ننضج فقط من الكتب بل يأتي النضج الحقيقي من الدروس القاسية التي نختبرها في أعز ما نملك...
تركت الهاتف جانبًا ويبدو أنها يئست من الانتظار وكرهت الحالة التي تعيشها بائسة حزينة معها تفتح كل الأبواب للاكتئاب
والفشل حتى يسيطرا عليها...
فتخسر قلبها ومستقبلها معه.....
"عاملة زي الست اللي جوزها اتجوز عليها..."
نظرت نهاد إلى الباب مصدومة بعد سماع تلك النبرة الساخرة من أبرار.....
"أبرار... إنتي هنا؟... "
"إنتي شايفة إيه..."
قالتها أبرار وهي تقترب منها مغلقة الباب خلفها....
نهضت نهاد تستقبلها بالأحضان قائلة
بشوق...
"وحشتيني يا بيري..."
بادلتها أبرار العناق بقوة وهي تضربها في ظهرها بعتاب حانٍ....
"وإنتي أكتر يا ندلة كل ده غياب عن الكلية والمحاضرات؟!..جرالك إيه يا دكتورة ده إنتي كنتي أكتر واحدة فينا مواظبة على الحضور."
فصلت نهاد العناق بينهما وهي تنظر إليها بعينين انطفأ بريقهما الجميل....
استرسلت أبرار في الحديث باهتمام....
"ده الدكاترة كلهم بيسألوا عليكي... وموصيني أطمنهم عليكي أول ما أشوفك... مالك يا نونا؟ مين زعلك وغيرك بالشكل ده؟"
أشارت لها نهاد بابتسامة حزينة كي تجلس قائلة....
"اقعدي... تشربي إيه؟"
جلست أبرار على حافة الفراش وسحبتها من ذراعيها كي تجاورها قائلة وهي تنزع حقيبتها
"اقعدي إنتي جمبي....أنا مش غريبة... هي
ندى فين؟... "
قالت نهاد بمحبة...
"لسه مجتش من بره... أعملك عصير مانجا حلو... عارفاكي بتحبي السكر.... "
ضيّقت أبرار عينيها بشقاوة وهي تقول...
"هو عرض مغري ولو في ظروف تانية هوافق مع حتة كيكة من اللي طنط صفصف بتعملها... بس الزيارة دي مش هينفع..... "
سألتها نهاد...
"ليه كده...... مستعجلة؟"
أكدت أبرار بوجنتين متوردتين...
"آه... ياسين مستنيني تحت. شكله محضرلي مفاجأة..."
فرحت نهاد لأجلها وهي تقول بابتسامة واسعة تقطر دهشة وفضول....
"سيدي يا سيدي... ده واضح إن في تطورات جديدة حصلت... "
ضحكت أبرار وهي تقول بنظرة لائمة....
"تطورات خطيرة وشيقة... بس إنتي اللي غايبة ومش بتسألي..."
سقطت البسمة عن محياها وهي تخبرها بشجن.....
"غصب عني... مش عارفة أخرج من اللي
أنا فيه..."
سألتها أبرار بقلق...
"ليه كده إيه السبب؟ مين اللي وصلك للحالة دي؟.... "
هربت نهاد من نظرات صديقتها الثاقبة فمسكت أبرار يدها وهي تسألها بإلحاح....
"بلاش تسكتي يا نهاد... أنا سايبة الواد والدنيا كلها عشان أطمن عليكي وأعرف مالك..."
أجابت نهاد بنبرة تقطر ألمًا....
"سلامة سبني... قال إنه مش عايز يكمل."
فلتت شهقة مصدومة من أبرار وهي تحدجها بعينين واسعتين....
"نعم يا اختي يعني بعد كل اللي عملتيه عشانه يقولك مش عايز أكمل؟!... "
زمت نهاد فمها بقنوط...
"هتقولي نفس كلام ندى لما حكتلها..."
قالت أبرار باستنكار...
"والله ده كلام أي حد عاقل لو حكتيله قصتك المكعبلِة دي..... نهاد إنتي بتكلمي بجد هو اللي قالك مش عايز يكمل؟"
أجابتها نهاد متنهدة....
"أمال انا... أنا كان أهون عليا أموت ولا
إني أبعد عنه..."
امتقع وجه أبرار بالغيظ وهي تقول بهجوم
شرس....
"واضح إنه كان بيتسلى ولما لقى العملية دخلت في الجد قال يخلع بدري بدري.."
ألقت نهاد اللوم على نفسها وهي تقول بنظرة حزينة....
"يمكن أنا اللي وصلته لكده... أنا ضغطت عليه إنه يتعلم... وكمان الخطوبة اللي حضرناها سوا... مكنش لازم يكون معايا فيها.... هو حساس وفهم غلط..."
فغرت أبرار فمها باستنكار وهي تشن الهجوم على صديقتها الساذجة....
"نهاد إنتي واعية للي بتقوليه؟! إنتي عمالة تبرري لغلطه... ده اتخلى عنك... "
جادلتها نهاد مدافعة...
"غصب عنه... الظروف أقوى منه."
أثارت حفيظتها أكثر... فقالت أبرار بضجر...
"مفيش الكلام ده... ده راجل لازم يحارب
لآخر نفس عشان يفضل معاكي وينول رضاكي كمان... "
ثم استرسلت بهجوم عنيف ساخط...
"إنتي مش واخدة بالك إنه سابك من قبل حتى ما تحصل مواجهة حاسمة بينه وبين أهلك أو على الأقل أخوكي اللي هو صاحبه مش واخدة بالك إنه معملش أي حاجة عشان يكسب ودّهم... ويبقى في أمل إنهم يوافقوا ولو بنسبة تلاتين في المية؟!"
وضعت يدها على يد صديقتها تحدثها بصوت المنطق والعقل....
"نهاد... ده معملش عشانك أي حاجة. حرفيًا مكنش فيه سعي من ناحيته في أي حاجة. كان معتمد على حبك وشايف إنه كفاية
عشان يوصلك...
"ومكنش عنده مشكلة خالص تحاربي إنتي لوحدك وهو يقعد يتفرج عليكي بذمتك ده يستاهل دمعة واحدة من عينيكي؟"
سالَت الدموع من عيني نهاد فمسحتها بظهر يدها بسرعة.....
شعرت أبرار بتأنيب الضمير نحوها فقالت معتذرة بصوتٍ متأثر بالحزن على صديقتها...
"نهاد أنا والله مش بقسى عليكي... بس أنا بوعيكي لأني بحبك وباعتبرك أختي. مش معقول أسيبك ضايعة كده وأسكت..."
قالت نهاد بصوت مبحوح....
"الكلام سهل يا أبرار... بس صدقيني الفعل أصعب... أصله مش زرار هدوس عليه وأنهي كل حاجة بدأتْها... ياريت ينفع... مش هبقى كده..."
حفّزتها أبرار بنظرة ونبرة حاسمة....
"الزرار الحقيقي اللي ينفع تدوسي عليه وهتنسَي معاه كل حاجة... هو دراستك ومستقبلك... ارجعي ركزي عليهم
وهتطلعي من اللي إنتي فيه."
اغتصبت نهاد الابتسامة وهي تقوّي نفسها بالقول....
"من غير ما تقولي... أنا ناوية أرجع من أول بكرة... مش عايزة السنة تروح عليا أيًا كان اللي بمرّ بيه... حابة أجيب امتياز زي كل سنة.... "
غمَرت السعادة قلب أبرار وهي تقول
بمناوشة....
"إن شاء الله هيحصل... بس خليكي قد
كلامك عشان نرجع نفطر مع بعض زي الأول. الفطار مبقاش ليه طعم من غيرك... وشرح الدكاترة بقى دمه تقيل. حرفيًا إنتي بتشرحلنا أحسن منهم...."
قالت نهاد بنفس البسمة الجميلة التي تخفي خلفها انكسارًا وحزنًا هائلًا....
"من أول بكرة هتلاقيني فوق دماغك إنتي والأساتذة التانيين.... "
ضحكت أبرار متذكرة...
"آه صحيح تعالي أحكيلك على اللي عملوا قدام ياسين لما جه خدني النهارده من قدام الجامعة..."
وبعد ما يقارب من نصف ساعة أنهت أبرار الحديث وهي تأخذ رشفة من كوب المانجا وقطعة من الكيكة السادة التي أحضرتها نهاد منذ دقائق حتى تكتمل الجلسة....
"بتهزري؟!"
عادت أبرار تضحك بملء شدقيها مجيبة
عليها...
"آه والله... عيال الجفاف العاطفي قتلهم فضحوني قدامه... "
صدح هاتف أبرار فنظرت إلى الشاشة وهي تخبر صديقتها....
"ده ياسين..."
فتحت الخط ووضعت الهاتف على أذنها وهي تتلذذ بطعم الكيك والعصير....
(إيه يا سُكر.... مش كفاية كده... ولا إيه؟)
قالت أبرار وفمها ممتلئ بالطعام....
"هشرب عصير المانجا وجيالك..."
تشدّق ياسين هازئًا....
(مانجا؟!..... مانا بقول القعدى طولت ليه
اتاري السكر في العالي...)
ضحكت أبرار مؤكدة وهي تنظر إلى صديقتها غامزة لها.....
"حصل... نهاد مش عايزة تسبني قايمة معايا بالواجب... كمان فيه كيكة..."
أمرها ياسين بهدوء...
(متقليش... عشان هنتعشى برّه...)
سألته بعينين تبرقان...
"بجد؟..... هتوديني فين؟.."
رد بمداعبة...
(انزلي وأنا أقولك...)
قالت بدلال...
"أفكر..."
تأفف ياسين وهو يقول بقلة صبر...
(خلصي بقى يا أبراري أنا زهقت من القعدة في العربية...)
"خلاص دقيقتين وهتلاقيني عندك..."
قالتها أبرار وهي تغلق الهاتف ثم نظرت إلى صديقتها سائلة بشك....
"اتأخرت عليه أوي... صح؟"
أكدت نهاد بإيماءة وهي تقول بخبث...
"بصراحة آه... بس إحنا كنا قاصدين نختبر صبره..."
نهضت أبرار ثم ارتدت حقيبتها وهي تقول بظفر.....
"لا... هو صبور بصراحة... معروفة طالما
حبني يبقى صبور اوي كمان...."
................................................................
حانت منه نظرة نحوها فرآها كما هي جالسة بجواره تُسند ذراعيها على حافة النافذة المفتوحة على آخرها كما تُفضلها....
الهواء يرفرف أطراف حجابها بينما عيناها مغمضتان شاردتان في البعيد...
ملامحها تنقبض بين الحين والآخر بوجع
وكأن فكرةً ما تداهم عقلها تستنزف معها روحها....
منذ أن نزلت من عند صديقتها وهي على تلك الحال هادئة وبعيدة جدًا عنه وعن كل ما حولها...
"مالك يا أبرار... صاحبتك بخير؟!..."
نظرت أبرار إليه قليلًا ثم قالت على نحوٍ مفاجئ....
"ياسين... هو إنت ممكن تسيبني في يوم من الأيام؟... "
جفل ياسين من حديثها فعقب مندهشًا...
"أسيبك؟!.... أسيبك إزاي يعني إحنا طول الوقت مع بعض..."
هزت رأسها بملامح عابسة....
"مش قصدي كده... قصدي يعني ممكن تحصل حاجة تبعدنا... حاجة أقوى مننا... ظروف وكده..."
اجابها يا سين بمشاعر متأججة بالغضب والرفض.....
"لا ظروف ولا جوابات... مفيش حاجة في الدنيا تقدر تبعدني عنك وبعدين طالما أنا عايزك وإنتي عايزاني...إيه لازمته الخوف؟"
زمت أبرار شفتيها وهي تقول بقنوط...
"عادي... يعني كل الناس اللي سابوا بعض كانوا متأكدين إنهم هيكملوا تحت أي
ظروف... وفي الآخر سابوا بعض لما
مقدروش يتحملوا..."
عقد ياسين حاجبيه وهو يوقف السيارة جانبًا ثم صوب كامل تركيزه عليها سائلاً بقلق....
"إيه الكلام ده يا أبرار؟!.... إنتي كنتي بتكلمي مع صاحبتك في إيه بالظبط... وبعدين مالك رابطا ارتباطنا اللي لسه ما بدأش بالفشل... ليه؟... "
فلتت من أبرار زفرة طويلة تحمل بين طياتها الكثير وهي تخبره على مضض....
"نهاد سابت الشخص اللي كانت بتحبه... أو الحقيقة إن هو اللي سبها... بعد ما وعدها إنه هيعمل المستحيل عشان يبقى معاها... بعد ما وعدها إنه مستحيل يأذيها... أذاها بعد ما علّق قلبها بيه... وسابها.... "
نظرت إلى ياسين والدموع تترقرق في عينيها عنوة عنها....
"إيه الأسباب اللي تخلي الواحد يتخلى عن حد بيحبه؟!.... معقول الظروف أقوى من إننا نوقف قصادها وطالما مش قادرين ليه بدأنا من الأول؟!..... ليه بجد؟!"
"أبرار... إنتي بتعيطي..."
لم يكن سؤالًا يطرحه بل حقيقة صدمته فأخبرته أبرار بارتياب من القادم....
"أنا خايفة يا ياسين... حاسة إني ممكن أكون زي نهاد في يوم من الأيام... خايفة تجرحني... خايفة أكتشف إننا مستحيل نبقى مع بعض..."
أجابها ياسين بصوتٍ مشحون بالعاطفة والتملك....
"ده يبقى الموت أهون عليا إنتي مجنونة؟! إنتي عارفة أنا بحبك قد إيه؟!...استنيتك قد إيه؟!.... ومستعد أحارب عشانك الباقي من عمري... بس عشان أبقى معاكي... "
سألته وهي تذرف الدموع لا تعرف سببًا
وجيهًا خلف تلك الحالة التي تلبستها فجأة أمامه....
"تفتكر بابا هيوافق؟... تفتكر موضوع مامتك ممكن يأثر علينا؟... "
سألها ياسين بحيرة...
"يأثر علينا إزاي؟..... مش فاهم..."
قالت بتهدج...
"يعني ممكن متحبنيش..."
قاطعها بحمائية.....
"مش مهم... كفاية أنا بحبك..."
قالت أبرار برهبة تتوقع الأسوأ....
"طب ما هي ممكن تبعدك عني... عشان هي مش بتحب بابا وتيتة..."
مد ياسين يده يمسح دموعها بحنان ولو بيده لترك نفسه يسحبها إلى صدره ليضمها حتى تهدأ ويطمئن قلبها وقلبه
لكنه تمسّك بآخر ذرة عقل وصبر أمامها وهو يخبرها بصوتٍ حنون....
"لا يا حبيبتي مفيش الكلام ده..إنتي شايفاني عيل صغير يعني...حاطط إيدي في بُقي..
إيه الكلام الغريب ده يا أبرار؟"
قالت أبرار بانفعال.....
"معرفش... أنا خايفة... أصل مفيش غير هي وبابا اللي ممكن يبوّظوا كل حاجة بينا..."
حدثها ياسين بصلابة حازمة....
"مفيش الكلام ده... لا هي تقدر تبعدني عنك ولا حتى أبوكي....
وبعدين اللي يسمعك يقول إنها عايشة معايا... وأم بمعنى الكلمة ده إنتي عارفة اللي فيها يا أبرار... مش محتاج أحكيلك علاقتنا عاملة إزاي..."
قالت أبرار باختناق....
"عارفة... بس هي برضو أمك... وليها حق عليك..ومصير علاقتكم ترجع مع الوقت..."
ابتسم ياسين بمرارة....
"الوقت اللي المفروض كانت علاقتنا ترجع فيه انتهى... مفيش حاجة هترجع زي الأول..."
ثم أطلق تنهيدة ثقيلة من صدره المتألم وهو يتابع....
"ولا هيكون ليها تأثير عليا ولا على اللي
بينا...اطمني... وشِيلي الكلام ده من دماغك... وبطّلي نكد وركّزي معايا..."
أومأت برأسها مذعنة....
"حاضر..."
قلّدها بصوتٍ بشع....
"هاضيير..."
"بس يا رخـم..." ضربته في ذراعه ضاحكة بخجل.....
ناولها ياسين منديلاً وهو يقول بمناغشة...
"امسحي دموعك يا نكد..."
أخذته منه تمسح أسفل عينيها وهي تقول بتبرّم....
"مش نكد أنا..."
قلّدها مجددًا ببشاعة أكبر....
"مـيييييش نـكـاد أناااا..."
"يـــاســييـــن... "
صاحت باسمه بضيق وهي تعيد الكرة ضاربة كتفه بينما هو ضحك عاليًا وخلف الضحكة يخفي هواجس أثارتها بحديثها !...
بعد فترة من الوقت وصلت السيارة أمام
بوابة الملاهي ترجلت أبرار من السيارة وهي
تنظر أمامها بدهشة وسعادة ثم نظرت إليه.
أومأ ياسين برأسه دون سؤال مؤكدًا أنهما سيقضيان وقتهما هنا في هذا المكان
الصاخب يستعيدان القليل من طفولتهما المنسية وذكرياتهما الجميلة معًا...
فهذا المكان يحمل عبق الحب بينهما وبداية
كل شعور نما داخلهما....
كان المكان ممتلئًا بضحكات الأطفال وصخب المراهقين وهناك كبار أيضًا يمرحون كأنهم لم يفارقوا طفولتهم يومًا....
كذلك رائحة غزل البنات والفشار كانت تغمر المكان من حولهما....
تشابكت أصابعهما وسارا وسط الزحام... كانت عينا أبرار تلمعان بانبهار طفولي وهي تشير
إلى أول أرجوحة تقابلهما...
"أنا هركب دي يا ياسين... عايزة أجربها... "
ابتسم ياسين لعينيها قائلًا بحب....
"طلباتك أوامر يا أبراري... شاوري على اللي يعجبك... المهم تبطلي نكد."
جلسا في الأرجوحة الدوارة التي ارتفعت بهما عاليًا وحين وصلت إلى أقصى ارتفاع هبطت بسرعة فأطلقت أبرار صرخة عالية مرحة ضاحكة وهي تتشبث بذراع ياسين...
بينما هو يتأملها مسحورًا بغمازاتها الرائعتين وضحكتها الجميلة....
طوال الساعات الماضية لم يستريحا فكانت أبرار بشقاوة وعفرتة تتنقل بين أرجوحة وأخرى حتى رفع ياسين الراية البيضاء مستسلمًا....
فخرجا من الملاهي وهي تحمل بين يديها
واحدة كبيرة من غزل البنات وأخرى من الفيشار....
"مبسوطة؟... "
سألها ياسين وهو يستقل سيارته. أومأت أبرار برأسها بابتهاج وهي تأخذ قضمة كبيرة من غزل البنات لتذوب القطعة الوردية سريعًا
في فمها....
"أوي... أوي... أنا مضحكتش كده من زمان والمكان حلو أوي. تعرف افتكرت إنك عاملي مفاجأة رايقة...بحر وشموع وجو رومانتيكي."
ابتسم ياسين وهو يراقبها في صمت مستمع إليها بعينين مأخوذتين بتفاصيلها الشهية مثل قطعة السكر التي تلتهمها....
قالت ضاحكة...
"بس طلعت فاهم دماغي... وعارف المكان اللي هبقى مبسوطة فيه أكتر."
أخبرها ياسين ببال رائق...
"إحنا كده كده هنروح نتعشّى برا مش
هنروح دلوقتي...."
أخذت أبرار حبتين من الفيشار معترضة
بحذر....
"لا خلينا نروح... كفاية كده يا ياسينو. إحنا ما قولناش لبابا ولا لتيته... وبصراحة مش عايزة أعمل حاجة من وراهم.... "
رد عليها ياسين بلهجة حازمة...
"بكرة يعرفوا كل حاجة. أبوكي بس يخلص حواره.... ساعتها هفتحه أنا في حوارنا."
مطّت شفتيها بدلال...
"بتتكلم بثقة أوي..."
أكد عليها بهيمنة ارتجف معها قلبها....
"طبعًا بثقة... إنتي مكتوبة على اسمي أصلًا من وانتي لسه في اللفة...."
تخضبت وجنتاها وهي تعض على باطن شفتيها بينما قال هو بعبث....
"هاتي حتة..."
مالت عليه وهي تقرّب غزل البنات منه أخذ قضمة صغيرة ثم في لحظة خاطفة خطف قبلة من وجنتها....
"يا قليل الأدب !"
قالتها أبرار وهي تبتعد عنه شاهقة بدهشة فضحك ياسين ضحكة منتصر وهو يتلذذ بمذاق السكر الذائب في فمه...
"حلو أوي غزل البنات... ما تجيبي حتة كمان."
هزّت أبرار رأسها رافضة بغيظ ثم أخفت ابتسامتها الخجولة خلف السحابة الوردية بينما هو نظراته تهيم بها عشقًا كقلبه الخافق باسمها....
.................................................................
"الحمد لله على سلامتك يا كمال بيه..."
قالها أيوب وهو يساعده على ركوب السيارة في المقعد الخلفي بينما تقوم نغم بالمساعدة من الجهة الأخرى حين رد عليه كمال بصوتٍ مجهد....
"الله يسلمك يا أيوب... إيه الأخبار..."
ابتسم له أيوب ابتسامة ودودة قائلاً....
"الحمد لله كله تمام... كأنك موجود وسطنا..."
تنهد كمال بتعب بعد أن استراح في المقعد الخلفي وهو يشعر أن جسده أصبح أثقل من ذي قبل والوهن يمتد فيه بصورة عنيفة....
رغم أنه استعاد صحته كما يقول الأطباء وتشهد بذلك المؤشرات الطبية إلا أنه يشعر أنه يزفر أنفاسه الأخيرة....
وكلما انتابته تلك الفكرة استوطن الخوف قلبه نحو ابنته الوحيدة التي سيتركها وحدها في حربٍ شعواء لا يعرف لها نهاية كما كانت بدايتها غافلة....
جلست نغم بجوار أيوب ملتزمة الصمت بينما هو تولى القيادة صامتًا تمامًا مثلها....
لكن أحيانًا عيناه من شوقه تذهب إليها وأحيانًا هي في غمرة حنينها تسرق النظرات
نحوه....
منذ آخر مرة لم يتحدثا قد أخذ قرار بهدنة من كل شيء... لكن هدنة تحمل وجيعة وبُعدًا.
فهي ما زالت تشكك في أمره مع صديقتها
لأنه لم يثبت شيء حتى الآن....
أما صمته فيضعه في الخانة السوداء...
"حاسس إني غايب عن إسكندرية بقالي كتير... وكأني سايح أول مرة أشوفها..."
قالها كمال وهو مركز عينيه على النافذة المجاورة له حيث زرقة البحر البعيد أمامه.
اقترح أيوب عليه....
"تحب نلف شوية ؟..."
رفضت نغم بوجه عابس...
"مينفعش طبعًا... بابا تعبان ومحتاج يستريح."
رفض والدها كطفلٍ متذمر وهو يقول...
"مش عايز أروح البيت دلوقتي... خلينا شوية برا وحشني ريحة البحر... بيفكرني بمامتك يا نغم..."
حانت من نغم نظرة حزينة على والدها في المرآة الأمامية بينما استأنف كمال حديثه بصوت يشوبه الحنين...
"هي والبحر عندي كانوا واحد... شوقي ليه
زي شوقي ليها..."
ابتسم أيوب وهو ينظر نحو نغم بطرف عينيه ثم أطلق لسانه يسأله بفضول....
"على كده أول مرة اتقابلتم كان على البحر؟"
انفرجت أسارير كمال وعلى سيرة زوجته وحبه الجم لها عاد شابًا وكأنه لم ينل منه المرض يومًا وعيناه تبرقان مؤكدًا...
"لماح من يومك يا أيوب... كانت طالعة من البحر كمان زي الجنية... أول ما شوفتها خطفتني ولما بصّت ناحيتي قولت هي
دي اللي هتجوزها..."
تنهد أيوب متمتمًا بصوتٍ خافت لم يصل سوى لآذان نغم الجالسة بهدوء تستمع لوالدها بتأثر
"آه... أنا كمان أول ما شوفتها قولت هي دي الحب... كل الحب...اللي ناوي أتجوزها..."
وقد نال منها تأثير مختلف كليًا بعد كلماته المداعبة لقلبها وللأنثى القابعة بداخلها بشوق العالم تنتظر من حبيبها لفتة أو نظرة وهي في أوج خصامها منه....
مالت بوجهها بعيدًا عنه بينما تابع كمال وكأنه لم يسمع سواه يتحدث...
"وقتها عرفت إنها بتصيف هنا هي وأهلها كام يوم في إسكندرية وإنها عايشة في بلد تانية... وبدأت أعافر عشان أخليها تشوفني... ووصلها شوقي وكانت الجوابات أقرب طريق لقلبها..."
تشدق أيوب متطفلًا بالسؤال...
"جوابات..... وكتبت فيها إيه؟..."
اندمج معه كمال أكثر وهو يقول....
"قصايد وأشعار... كلمات أغاني لعبد الحليم وأم كلثوم... وعبد الوهاب كمان... كل حاجة بتعبر عن اللي جوايا..."
نظر أيوب نحو نغم قائلًا بعبث....
"على كده نغم هانم بتحب الجوابات..."
ردت نغم باقتضاب....
"أنا بكسل أقرأ المسچات اللي بتيجيلي...
هقرأ الجوابات؟..."
زم والدها فمه موبخًا...
"جيل منيل... ضيّع حلاوة الحب..."
أكد أيوب وكأنه ليس من نفس الجيل...
"صدقت والله... المشاعر بقت تلاجة...
مفيش خالص..."
ألقى نظرة حانقة على نغم التي بادلته النظرة بشراسة قائلة من بين أسنانها...
"بُص قدامك عشان ما نعملش حادثة..."
رد عليها ببرودٍ أشعلها...
"والله كله مقدر ومكتوب..."
جزّت على أسنانها بغيظ وهي تشيح بوجهها المحتقن عنه.....
بعد مدة توقف أيوب أمام مطعم شعبي عريق بالقرب من البحر يقدم الأكلات البحرية...
ترجل من السيارة أمام نظرات نغم المندهشة لتراه يساعد والدها على الخروج من خلال المقعد المتحرك....
خرجت نغم من السيارة سائلة بحنق
مكتوم....
"انت بتعمل إيه يا أيوب؟..."
رد عليها بإيجاز...
"هنتغدى..."
تبرمت من عفوية الرد قائلة...
"هنتغدى هنا؟... إنت ناسي إن بابا تعبان وليه أكل معين؟..."
رد عليها بفتور...
"اطمني... فيه مشاوي..."
عبارة مطمئنة من وجهة نظره لجعلها تدلف إلى هذا المطعم الشعبي....
نظرت إلى والدها منتظرة اعتراض منه لكنها رأته سعيدًا بتلك الخطوة التي فعلها أيوب بل إنه مندمج معه بالحديث ويضحك معه وكأنه ابنه بينما هي تقف يتيمة غريبة تنتظر أن يدعوها أحد للدخول....
وقد تكرم عليها والدها بعد أن لاحظ أنه يمتلك ابنة فأشار لها مبتسمًا أن تلحق بهم.
لم تُرد أن تضايق والدها بإصرارها على الرفض فتقبلت الدعوة على مضض....
جلست نغم على المقعد بجوار والدها بينما كان أيوب يتحدث عبر الهاتف عند هذا الجسر الخشبي الصغير المطل على البحر....
كانت ملامحه تشي بالانفعال المكبوت وهو يتحدث عبر الهاتف وكم مرة أتاه اتصال غيّر حاله إلى درجة يبعده عنها وعن كل شيء مرتبط بها...
كم مرة رن في آذانها تحذير العم حميد
لها....بالا تثق في أيوب عبدالعظيم....
لكنها لم تثق فقط في أيوب عبد العظيم بل أحبته وأهدته قلبها عن طيب خاطر...
والآن تعاني من تلك المشاعر... تعاني حد الضياع بدونه قابله بالضياع بين يديه !...
"مالك يا نغم... في حاجة مضايقاكي؟..."
انتشلها صوت والدها المتسائل فحوّلت عينيها الرماديتين عنه وصوبتهما نحوه....
"لا يا بابا... أنا الحمد لله كويسة..."
سألها باهتمام...
"المكان مش عجبك؟..."
لوت فمها بغيرة حانقة...
"المهم إنه عجبك... زي ما عاجب أيوب..."
ابتسم والدها سائلاً بلؤم...
"بتغيري ولا إيه؟..."
أكدت بدلال الابنة...
"طبعًا بغير... معروفة إنك حبيبي أنا لوحدي..."
سألها بهدوء...
"وهو؟..."
توسعت مقلتاها قليلًا بدهشة وهي تبتلع ريقها بارتباك....
"هو مين؟!..."
رد عليها والدها بنبرة حازمة دون مواربة...
"أيوب طلب إيدك مني..."
فتحت نغم فمها ببلاهة وقد اجتاحت الصدمة ملامحها وعينيها فأصبحت تمثالًا معبّرًا عن مدى ذهولها من جرأته وجديته نحو تلك الخطوة الحاسمة...
"إمتى حصل ده؟!..."
لم تجد على لسانها غير هذا السؤال كي تخفف من وقع الخبر عليها...
فأجابها والدها مدققًا في النظر إليها....
"من فترة... وأنا ما رديتش عليه غير لما أعرف ردك..."
سألته بحاجب معقود...
"حضرتك ما عندكش مانع؟!.."
رد عليها والدها مبتسمًا ببشاشة من تغيّر الحال إلى درجة يقبل بشاب بسيط لن ينكر أنه مكافح وأن وضع هدف أمامه سيكون
شيئًا عظيمًا في المستقبل...
"كان ممكن يكون عندي مانع لو الظروف غير الظروف... لو ما كنتش أعرفه كويس... كنت هخاف ويمكن كمان هفتكر إنه طمعان فيكي ومش بيحبك.."
"بس في الوقت الحالي لا أيوب أثبت نفسه من أول يوم اتعيّن فيه... لدرجة إني بقيت شايفه ابني اللي أعتمد وأتسند عليه مش
حد شغال عندنا..."
سألته باستحياء....
"معنى كلامك إنك موافق؟.."
رد عليها والدها بنظرة حاسمة جادّة...
"الأهم موافقتك إنتي.... وشعورك إنتي ناحيته...."
نظرت نغم قليلًا نحو أيوب المنشغل في مكالمته ثم عادت إلى والدها وبعد تنهيدة طويلة قالت بمشاعر مضطربة....
"بصراحة مش عارفة... فيه حاجة غامضة مش قادرة أفهمها... أحيانًا بحس إنه قريب أوي وإني قادرة أفهمه وأعرفه... وانه كتاب مفتوح قدامي... زي ما أنا قدامه...
"بس بعد كده أكتشف إني مش فاهماه... وانه غريب... غريب لدرجة إني معرفوش..."
استفسر والدها....
"وليه ما حاولتيش تسأليه؟..."
مطّت فمها باستياء قائلة..
"ما عندوش إجابات صريحة... إجاباته على طول متأجلة... متأجلة لوقت مش محدد..."
قال والدها بعد لحظة صمت....
"مش يمكن في وقتها المناسب يقولك..."
قالت نغم بوجوم...
"طب وليه مش دلوقتي... هتفرق يعني..."
"يمكن هو شـ..."
أتاهما أيوب قائلًا...
"لمؤاخذة.... واحد معرفة بس رغّاي..."
ثم نقل عينيه بينهما منتبهًا أن الحديث توقّف فور دخوله فقال....
"سكتوا ليه... كنتوا بتكلموا عني..."
رد كمال مبتسمًا...
"أكيد في الخير..."
ألقى أيوب نظرة اتهام صريح نحو نغم وقال واجمًا...
"مع نغم هانم... أشك..."
تململت نغم وهي تهرب من نظراته بينما ضحك كمال قائلًا بقنوط...
"مش هتبطلوا لعبة القط والفار دي..."
رد عليه أيوب وهو يرسل لها نظرات ذات مغزى....
"أنا نفسي نبطلها... بس واضح إن نغم بتحبها أوي..."
أتى النادل بالطعام فتوقف أيوب عن الحديث وهو يتابع بعينيه رصّ الطعام الشهي أمامهم قائلًا بشهية مفتوحة...
"الأكل وصل... هتاكل بقى شوية مشاوي
بحري ما تقولش لعدوك عليه..."
ثم مال على نغم قائلًا بمناكفة....
"سمي الله يا هانم... المطعم نضيف على فكرة وما بيدخلوش غير كبّارات البلد... مش أي حاجة يعني..."
قالت بامتعاض...
"آه واضح..."
بعد مدة كان الجميع يتناول الطعام متلذذًا بمذاق الأسماك البحرية المتنوعة باستثنائها هي فقد لاحظ أيوب أنها تأكل الأرز أغلب الوقت بينما السمكة أمامها كلما حاولت استخراج الشوك منها تتركها بعد ثواني
بقلة صبر...
مدّ أيوب يده يأخذ طبقها عنده ثم يقوم بنزع الشوك منه بمنتهى الدقة والسرعة...
"بتعمل إيه؟..."
سألته بدهشة والاحمرار يغزو وجنتيها بحرج شديد في وجود والدها....
"شايفك غرقانة مع السمكة... استني أفصصهالك..."
قالت وهي تطبق على أسنانها...
"بابا قاعد..."
رد عليها أيوب بحيرة...
"وأنا بعمل إيه غلط... بفصص السمكة عشان تعرفي تاكلي..."
ثم في اللحظة التالية كان يعيد الطبق إليها كي تتناول السمكة الخالية من الشوك...
فقالت وهي تخفض رأسها نحو طبقها
بخجل...
"شكرًا..."
"وحشتيني..."
اختلج النبض بين أضلعها فجأة وسرى جسدها بأكمله قشعريرة لذيذة وهي تنظر إليه ورغم فيضان الشوق في عينيها نحوه إلا أنها ادعت غير ذلك هامسة بتحذير....
"أيوب.... اسكت لو سمحت..."
التزم بالفعل الصمت وهو يعود إلى الطعام بشهية فقدها بعد أن رأى في عينيها الحزينتين التردد... والندم...
...............................................................
تقف في شرفة غرفتها قد جفاها النوم
وظلّت لساعات تتقلّب على الفراش حتى تركته ووقفت هكذا مكانها. الهاتف بين يديها كلما نوت الاتصال به تتراجع في اللحظة الأخيرة...
حتى صدح هاتفها باتصال منه وكأنّ قلوبهما على موعد لم تُخالفه...
خفق قلبها بسرعة بين أضلعها وهي تنظر إلى الشاشة المضيئة باسمه... انتظرت قليلًا ثم فتحت الخط وبصوت موسيقي كالناي
همست....
"ألو..."
(صحيتك يا حبيبتي...)
بلعت ريقها بارتباك وقلبها يرتجف بعاطفة جياشة مع أحرف كلماته...
عاد صوته بعذوبة يناديها...
(نــغـم... روحتي فين...)
عادت تزدرد ريقها بتوتر قائلة....
"عامل إيه..."
أطلق تنهيدة حارة وهو يخبرها بلوعة....
(مش كويس من غيرك... هتفضلي مخصماني كتير...)
قالت وهي تحكّ جانب عنقها...
"أنا مش مخصماك... أنا مستنيا جواب على أسئلتي..."
أتى صوته معاتبًا ليقول...
(يعني هنفضل كده لحد ما تسمعي الجواب؟! مفيش ثقة خالص بينا...)
نظرت نغم إلى الأفق بعينين حزينتين حائرتين وقالت بشيء أقرب للهمس مع تنهيدة تشي بالكثير....
"عشان مفيش صراحة من ناحيتك... فبلاش تلوم ثقتي اللي اتهزّت فيك..."
تشدّق أيوب مذهولًا....
(ثقتك اتهزّت فيّا؟!......لدرجادي؟!)
فقالت نغم بوجوم...
"وأكتر... إنت فاكرها سهلة؟..."
هتف أيوب بأعصاب مشدودة....
(مش سهلة... بس إنتي بجد مصدقة إني ممكن أخونك؟!)
رنّ الصمت بينهما بمشاعر مضطرمة ما بين حب ولوم...
عاد أيوب يقول بتشنج...
(نغم... أنا بحبك... عارفة يعني إيه بحبك...)
ثم استرسل قائلًا باهتياج...
(مش عارف هتصدقيني ولا لأ... بس أنا أول مرة أحب... وانتي أول حب في حياتي... والأخير...)
ردّت باستنكار وكأن اعترافه لم يشكّل فارقًا داخلها... ولم يمنعها من البحث عن الحقيقة
"على أساس إن إنت مش أول حب؟!..."
زفر أيوب عدة مرات بنفاد صبر شاعرًا أنه يفقد زمام الأمور بينهما فقال بعد لحظات بهدوء....
(طب خلينا نتفق اتفاق... اصبري عليّا لحد آخر الأسبوع وهحكيلِك على كل حاجة مخبّيها عنك...)
قالت بفتور...
"أوكيه... معاك لحد آخر الأسبوع..."
أغاظه فتورها معه فقال بحرارة...
(بس ما تبعديش عني... كفاية بعد وخصام...)
قالت بجدية مصرّة....
"مش هينفع... لازم أعرف الأول إنت مخبّي عني إيه..."
قال أيوب بصوت فائض بالأشواق...
(ما تبقيش عنيدة يا حَب... أنا مش قادر على بُعدك ولا على خصامك... إديني فرصة ومش هتندمي...)
همست نغم باسمه...... "أيوب..."
فأجابها بحرارة الحب.....(قلبه...)
رغم احمرار وجنتيها وتفاعل قلبها معه جاء سؤالها القاطع بتردد....
"الحاجة اللي مخبيها عني... ممكن تبعدنا عن بعض؟..."
ردّ بغموض...
(على حسب دماغك إنتي...)
قطبت جبينها متوجسة...
"مش فاهمة... تقصد إيه؟..."
قال بنفس اللهجة الصعب ترجمتها وفهم خباياها....
(على حسب... لو حكيتلك هتحسبيها إزاي... وهتشوفيها إزاي...)
قالت بحاجب مرفوع.... "لدرجادي؟!..."
قال أيوب بصوتٍ متقد بالحمية...
(وأكتر... كل اللي عايزك تعرفيه وتتأكدي منه إني... أقسم بالله العظيم بحبك... وكل حاجة بينا كانت بجد... ومن جوايا عايزك... ولسه عايزك...)
شعرت أن الأرض تميد بها والخوف يكتسح قلبها بضراوة... تخاف على ذاك الحب فهو وطنها... تخشى أن تستيقظ فجأة فلا تجده وطنًا لها...
أيبيعها الوطن؟!
أيبدلها الوطن؟!
أم أنها تتوهم بموطن لم يكن لها ؟!..
(نـــغــم...)
أتى صوته يلعب على أوتار قلبٍ غاص في الخوف حتى أصبحت الخفقات نقرًا من
الألم...
"ينفع نتكلم بعدين... لو سمحت..."
قالتها برجاء تنوي الهروب منه مجددًا فاعترض هو بضيق شديد...
(وبعدين معاكي... إنتي صعبة كده ليه... افهميني...)
قالت بصوتٍ منزوي من شدّة الألم..
"مشكلتي... إني مش فاهمة حاجة... ودلوقتي بقيت خايفة أفهم..."
سمع أيوب صوت إغلاق الهاتف فضاق صدره أكثر وهو ينفخ عدة مرات بحنق شديد ثم
عاد أدراجه من فوق السطح إلى غرفة صديقه البائس الذي وصل بؤسه إليه...
"عملت إيه..."
سأله سلامة وهو جالس أرضًا يأخذ نفسًا من مبسم الأرجيلة....
رد أيوب وهو يركل الهواء بعصبية...
"زفت... زفت... زفت..."
اقترح عليه سلامة وهو ينفث الدخان من فمه وأنفه متصنّعًا البال الرائق وعقله يكاد يُجنّ أكثر من صديقه....
"ما تعترف لها... وريح نفسك..."
نظر إليه أيوب قليلًا ثم قال.....
"وافرض افتكرت إني خاين وكداب..."
رد سلامة بصدق أقرب للوقاحة....
"ما هو أي حد هتحكيله عملتك السودة هيقول إنك ابن ستين كلب..."
ألقى عليه أيوب نظرة خطرة محذِّرة...
"والاااااا..."
تراجع سلامة موضحًا...
"مش قصدي... قصدي أي حد غيري أنا وإنت يعني..."
تنهّد أيوب وهو يجلس بجوار صديقه يسحب منه مبسم الأرجيلة يأخذ نفسًا منها ثم ينفث دخانها إلى الأعلى قائلًا بوجوم...
"وإنت كنت عايزني أتصرف إزاي؟.. ماكنش قدامي حل غير كده..."
رد سلامة بارتياب...
"والله أنا مش مطمّن للحكاية دي كلها... وخايف عليك أوي من الراجل ده..."
قال أيوب باستهجان...
"أنا مش خايف على نفسي... أنا خايف على إخواتي البنات وأمي... خايف يأذيهم ابن المجنونة ده..."
انتفخ صدر سلامة بالغضب وهو يقول...
"يبقى يفكّر بس يقربلهم وأنا هصفّي دم أمه..."
قال أيوب بخشونة...
"على العموم كلها تِكّة وهقطع الحوار ده من جذوره ويدار ما دخلك شر..."
لم يُعقّب سلامة أخذ منه الأرجيلة وبدأ ينفث منها بشراهة...
نظر إليه أيوب بتمعن ليرى حال صديقه الغريب فكانت ذقنه غير حليقة من مدة وشعره ازداد طولًا عيناه حمراوان وكأنه لا ينام لساعات طويلة هزيل ومُهمل في نفسه وكأن الحياة توقفت فجأة لديه...
قال أيوب....
"المهم... إنت مالك؟ شكلك مهموم..."
رد عليه سلامة مبتسمًا خلف ابتسامة مصطنعة تخفي وجيعة تنخر في قلبه كنخر العظام...
"ولا مهموم ولا حاجة... أهو عايش وزي الفل..."
شاكسه أيوب محاولًا أن يفهم ما يدور معه
"بقالي فترة شايفك مستقيم... إنت بطّلت شقاوة ولا إيه؟..."
رد سلامة كارهًا...
"بطّلت كل حاجة... نفسي اتقفلت من الدنيا كلها مش بس من الحريم..."
غمز له أيوب قائلًا بشك...
"حد عاقل برضه نفسه تتقفل من الحريم؟"
صاح سلامة بنفاد صبر...
"أنااااا..."
اقترح أيوب مازحًا...
"تعالى أجوزك..."
نظر إليه سلامة بطرف عينه..
"عندك عروسة ليّا؟!"
قال أيوب مفكرًا...
"إيه رأيك في البِت روقة... بنت أم روقة اللي بتبيع خضار في السوق جنب الجزار..."
تجهم وجه سلامة وهو يقول....
"عارفها...بس مش جاية معايا... دماغها لاسعة وأي حد بيكلمها بتبطحه..."
ضحك أيوب قائلًا...
"طب والله عشرة على عشرة هي دي اللي هتنفع معاك..."
رمقه سلامة بغيظ...
"أيوب نقطني بسكاتك..."
لمعت عينا أيوب قائلًا بتذكر...
"خلاص خلينا في البنت عزة... حلوة وعاقلة وعنيها منك من زمان..."
فتح سلامة عيناه بدهشة سائلا...
"مين قالك إن عنيها مني؟!"
ابتسم أيوب بزهو مجيبًا...
"أنا بقولك... ليا نظرة أنا..."
لم يهتم سلامة كثيرًا بالأمر بل اهتم بنقطة هامة لاحظها للتو فلم يمنع نفسه من سؤال أيوب عنها...
"هو إنت ليه يا أيوب بتختارلي العرايس اللي زي حالاتي... الفقر والجهل دايسهم؟"
رد أيوب بمحبة...
"والله شاور على اللي تعجبك وأنا معاك..."
قال سلامة مترددًا...
"حتى لو اللي هتعجبني دي بنت ناس ومتعلمة؟... "
ظهر الاستنكار في عيني أيوب وهو يقول دون حرص....
"ما تضحكش على نفسك يا سلامة... بص على قدّك..."
كان حديثه القشة التي قصمت ظهر البعير فجاشت مراجله وهو يصيح بضيق...
"وإنت ليه ما بصّتش على قدّك؟! ما إنت حبيت نغم الموجي بنت الأكابر... جت عليا أنا؟!.... "
رد أيوب...
"بس أنا وضعي مختلف... وغيرك..."
تبرم سلامة بغضب مكتوم...
"صح... إنت عندك أهل ومتعلم... وتعتبر بقيت دراعهم اليمين في الشركة ومعتمدين عليك... وعارفين إنك مصيرك تطلع زيهم... ونجمك يبقى عالي..."
"مشكلتك شوية فلوس وتبقى زيهم... ودي سهلة السكة قدامك مفتوحة وموهبتك هتوصلك... أمّا أنا..."
ظهر الحقد بين كلمات سلامة ذاك الحقد الذي يكنّه لأي شخص يمتلك نسبًا وعائلة يمتلك هدفًا يسعى إليه... عكسه هو بلا شيء يُذكر يسير في الحياة خالي الوفاض.
أضاف بكراهية يمقتها على نفسه وحياة وُجد فيها...
"أنا عيل ابن حرام... عيل تربية ملجأ وإصلاحية... عيل عايش في أوضة فوق السطوح... عيل اللي في جيبه شوية فكة ما يفتحوش بيت..."
صرخت عيناه بالوجع وهو يتابع بمرارة
قاسية...
"ليه يبص لفوق... لوحده بنت ناس ومتعلمة... مين ترضى بيه؟... وحتى لو رضيت مش هتقدر تستحمل... ولا أهلها هيقبلوا الظلم والبهدلة لبنتهم... إنت صح..."
ظهرت أمارات التعجب على وجه أيوب وهو ينظر إليه باستغراب قائلًا...
"إيه الدراما دي يا بني؟... أنا قلت إيه غلط؟! أنا كان قصدي تتجوز واحدة على قد حالها، ما تتأمّرش على عيشتك ولا تحس معاها إنك أقل منها..."
"تبقى عارفاك وأهلها عارفينك كويس ومش جديد عليهم ظروفك ولا وضعك..."
اكتفى سلامة بإيماءة ورد مختصر يداري خيبة الأمل ومرارتها في حلقه...
"آه... عندك حق..."
شعر أيوب بالضيق من نفسه فقال بلين...
"إنت متغيّر معايا ليه يا سلامة؟... أنا عملتلك إيه... أنا بعزك وباعتبرك أخويا الصغير... ولو نصحتك تتجوز واحدة من السوق غلبانة ونعرفها فأقسم بالله عشان راحتك...
مش عايزك تتعب وإنت بتبص لفوق... مش هتستحمل يا سلامة إنت نفسك قصير... وده أنا عارفه وإنت كمان عارفه..."
"بس يا عم... طالما في واحده عاجباك... بنت ناس ومتعلمة وماليّة عينك أوي قولي هي مين وأنا أروح معاك أنا وأمي ونطلب إيدها من أهلها..."
ثم ابتسم له وعن طيب خاطر قال...
"ولا تشيل هم حاجة... الفلوس اللي معايا في البنك اعتبرهم بتوعك... اشتري بيهم الشقة والعفش..."
لو كان الوضع مختلفًا لنهض سلامة من مكانه وقبّل صديقه شاكرًا امتنانًا لكرمه الذي طالما أغرقه فيه... أمّا الآن فلم يعد يرى في كرمه سوى سخرية وشفقة مهينة لا يطيقها...
قال سلامة بنظرة كسيرة....
"صعبت عليك يعني؟... فناوي تديني الفلوس اللي معاك... أشتري بيهم شقة وعفش كمان؟..."
هب أيوب واقفًا يصيح بنفاد صبر مغتاظًا منه..
"في إيه يا بني؟... هي هبّت منك ولا إيه؟!
إيه البصة دي واللهجة دي.... إيه الغلط اللي قولته وزعلك أوي كده؟!... مش إنت عايزها
أنا هساعدك عشان توصلها..."
سأله سلامة بملامح واجمة....
"وأهلها هيرضوا؟... هيرضوا بيا؟... هيرضوا بواحد ملوش أهل... وسوابق؟"
رد أيوب بصدق...
"دي مقدرش أضمنها ليك..."
قال سلامة...
"يعني قولي... لو إنت مكانهم هترضى؟"
دون تردد أجابه...
"لأ..."
كلمة بمثابة طعنة نحرت قلبه فقال بوهن مرير...
"غريبة يا صاحبي... مع إنك عارفني كويس..."
شعر أيوب بالضيق من خوضهم حديثًا كذلك فـرغم محبته وصداقته القوية لسلامة إلا أنه يستبعد فكرة أن يصبح أكثر من صديق لعدة أسباب مهمة...
أسباب تجرح ويكره كونه يذكرها أو يلمّح له بها بتلك الطريقة...
"ما عشان عارفك كويس بقولك لأ..."
ثم أضاف وهو ينظر إلى صديقه بقوة....
"قلبها إنت في دماغك... لو إنت مكاني وجه واحد بظروفك دي... هتقبل تدي له أختك؟"
لم يجد سلامة ردًا على السؤال فهو بالطبع لن يغيّر الحقيقة أو يزيفها...
وبعد أن طال صمته قال أيوب بعقلانية...
"شوفت سكت... أصل حتى لو عارفه كويس ما تضمنش مليون في المية إنها تبقى سعيدة معاه... أكيد هيجي يوم وتندم على اختيارها...
فمن الآخر... الأحسن تفكر بعقلك قبل ما تمشي ورا عواطفك وتندم..."
سخر أيوب من نفسه بعد آخر جملة قالها
فمن المفترض أن يضعها نصب عينيه قبل
أن يخطو خطوات متهورة نحو ابنة
الذوات... لكنه فعل وانتهى الأمر...
كما نُحر قلب سلامة بحديثه وبحقيقة وضعه أيضًا... وانتهى الأمر...
لكن بين نهاية هذا وذاك... اختلاف السماء والأرض !....
.............................................................
لم تستطع النوم بعد أن أغلقت الاتصال معه
إذ أصبح حديثه المتردد كصاعقة رعدية
تدوي في أذنيها بلا هوادة والخوف يتمكّن منها كفريسة سهلة المنال.
دق هاتفها برسالة فتحتها بملامح عابسة فإذا بها من رقم غير مسجّل أرسل فيديو ومعه رسالة قصيرة ساخرة....
(شوفي حبيب القلب طلع شغّال لحساب مين في الآخر....)
ضغطت على تشغيل الفيديو بأصابع ترتجف وهي تتوقع رؤية ما يكسر قلبها وثقتها فيه وفي الجميع....
رأته من زاوية قريبة وكأن أحدهم يصوّر الفيديو في الخفاء كان يقف أمام مكتب خشبي عريق يتحدث إلى رجل لم يظهر على الشاشة بعد...
(كل اللي اطلب مني نفذته وعلى أكمل وجه... إيه المطلوب مني تاني؟...)
اتسعت عينا نغم وهي تضع يدها على فمها تكتم شهقة نحرت قلبها نحرًا قبل روحها
بعدما ظهر شكري العزبي في الشاشة يقف أمام أيوب يتحدث بضغينة وكراهية تفوح
من بين كلماته المسمومة...
(تجوزها وتذلها... تخليها ذليلة تحت رجلك... مش عايزها تشوف يوم عدل... عايزها تتمنى الموت ومطلوش.... ده اللي أنا عايزه منك...
ده المطلوب منك...)
أومأ أيوب برأسه بملامح هادئة جامدة...
(اعتبره حصل... بس على ما أنفذ... إحنا بينا اتفاق محدش فينا يخلفه...)
انتهى الفيديو أمام عينيها الغائرتين لكن صدمتها لم تنتهِ ولا الحسرة التي نبتت في روحها فيما دموعها سالت على وجهٍ بهت وفقد ملامح الحياة...كم شعرت بتوقف قلبها عن النبض وكأنه انزوى بخزي بعيدًا... بعيدًا جدًا عنها.....