رواية اشتد قيد الهوي الفصل الخامس والعشرون
تنظر إلى سقف الغرفة بعينين تقدحان غلًّا وقهرًا فكيف آل بها الحال وحيدةً منبوذةً عن الجميع وعاطلةً عن العمل...
عادت تنظر إلى الهاتف وإلى الفيديو الذي أرسلته للتو...
التوت ابتسامتها بقسوة بشعة كاشفةً عن وجهها الحقيقي الكاره الحاقد لكل ما يخص نغم الموجي...
تلك التي تفوقت عليها في كل شيء وحظيت بأشياء تمنتها هي طوال عمرها ولم تصل إليها أبدًا... حتى عندما اقتنصت أحد أحلامها منها خذلها الحلم وأذلها بوجوده حتى أصبح كابوسًا لا تطيق وجوده !...
لذلك تخلصت منه بطريقة تليق بنهاية حبها الذليل له... نهايةٍ ذات حدّين تنهي الحلم من جذوره وتعرقل حياة من كانت السبب في دمار كل شيءٍ تسعى إليه...
انهمرت دموع جيداء وهي تتذكر تلك الأيام بدايةً من علاقتها معه إلى نهاية قصتهما... نهاية يستحقها رجل مثله !...
عودة إلى الماضي...
دلفت جيداء إلى المقهى متأنقة بعناية شديدة متسلّحة بأنوثتها وأناقتها وهي تقترب بخطى متهادية نحو آسر العزبي....
ذاك الذي عندما رآها نهض مبتسمًا مرحبًا بها يدعوها للجلوس...
جلست جيداء وقلبها يرفرف بالسعادة شاعرةً بأنها فراشة تحلّق فوق البساتين منذ أن حدثها عبر الهاتف وأخبرها أنه يريد مقابلتها وهي ترتب في خيالها أي قاعة سيكون فيها زفافهما وأي مصمم سينفذ ثوب عرسها...
أحلامها تتكاثر بجنون كلما تلاقت بعيني
آسر ذلك الشاب الوسيم الغني الذي يمتلك
كل مقومات الرفاهية... رفاهيةٍ تتوق لتكون جزءًا منها !...
(خير يا آسر... طلبت تشوفني...)
ابتسم آسر قائلًا بالباقة..
(قبل أي حاجة.... تشربي إيه الأول...)
رفرفت بأهدابها وهي تقول بخجل....
(وكمان بتسأل... أنت عارف مشروبي المفضل...)
اهتز حاجباه بدهشة وتنحنح بحرج...
(حقيقي مش واخد بالي... نسيت...)
جزّت على أسنانها وهي تتسلح بالهدوء قدر المستطاع....
(ندخل في الموضوع على طول... أصلي
عندي ميتنج كمان ساعة في الشركة...)
سألها بنظرة ملهوفة...
(شركة الموجي للأزياء مش كده؟...)
اكتفت بإيماءة بسيطة بملامح جامدة فقال آسر بلهفة أكبر....
(ونغم... نغم عاملة إيه؟...)
ردت بصوتٍ أجوف...
(زي ما هي... كويسة... أنت كنت عايزني
في إيه بالضبط ؟!...)
مال آسر على الطاولة بينهما وهو يخبرها بصوتٍ خافت...
(بصراحة يا جيداء إنتي أقرب حد لنغم... وأنا عايز أستغل النقطة دي لصالحي وأحاول أقرب لها يمكن... يـ...)
تأجج الغضب والحقد في صدرها فعبرت عن ذلك بصوتٍ منفعل مستاء.....
(يمكن إيه... نغم مش شايفاك أصلًا... هو إنت بجد يا آسر ما زهقتش منها ومن رفضها
ليك؟!....
حقيقي مش عارفة إنت شايف فيها إيه أنا مش شايفاه... واحدة زي أي واحدة تفرق إيه عن البنات اللي عرفتهم... أو عن البنات اللي حواليك...)
رد آسر بنشوةٍ تلمع في عينيه...
(تفرق كتير... نغم مختلفة عنهم... شخصيتها طريقتها كلامها...تفكيرها.... حتى معاملتها... كل حاجة فيها مختلفة وجذابة... جذابة
لدرجة صعب راجل زيي يقاومها...)
تبرمت جيداء وهي تقول بضغينة...
(جذابة بس عشان بترفضك مش أكتر... بس هي عادية... عادية أوي كمان...)
اندهش آسر من تعبيرها فعقب متعجبًا...
(معقول إنتي أقرب صاحبة ليها.... وكلامك عنها بالطريقة دي يقول إنك عدوتها...)
مطّت جيداء شفتيها بضيق وهي تنهض من مكانها قائلة...
(بصراحة... إنت خدت وقت كتير مني.. ومضطرة أمشي...)
ابتسم آسر وقد تحركت غرائزه الذكورية نحوها فقال بمزاح...
(ممكن نتقابل تاني... يا ست المهمة...)
نظرت إليه جيداء قليلًا قبل أن تقول...
(لو عشان نغم... فانسى إني أقابلك تاني...)
ازدادت ابتسامته تسلية وهو يقول....
(طب لو عشان حاجة تانية... توافقـي نتقابل؟)
أكدت جيداء دون لحظة تردد...
(أي حاجة برا موضوع نغم... موافقة عليها...)
لمعة عينيه منتشيًا....
(أوكيه... يبقى هنتقابل تاني...)
تمر الأيام بسرعة وتجمع بينهما صداقة.. ورغم أنها كانت تتجنب الحديث عن نغم بينهما إلا أنها كانت تشعر بأنه يتعمد السؤال عنها بطريقة غير مباشرة...
وكانت تتفاجأ أحيانًا أنه يختلط بأصدقاء نغم المقرّبين حتى يراها في أماكن عامة ويحدث بينهما حديث ومزاح وضحك... أمام عينيها المحترقتين بالغيرة كحال قلبها....
(في إيه يا جيداء... ما تعقلي...)
صاحت جيداء بغضب وهي تجلس في عقر داره كما اعتادت زيارته مع بعض الأصدقاء لكن اليوم أتت وحدها والغيرة تدفعها للعراك معه....
(في إنك مش مبطل حركاتك المكشوفة دي قدامها...)
سألها آسر...
(حركات إيه... مش فاهم...)
صاحت بعصبية....
(مش فاهم... ولا عامل عبيط...)
حذرها بنظرة نافذة...
(جيداء...)
تأجج الغضب في صدرها أكثر وهي تصرخ فيه...
(مش هتبطل تريل على واحده مش معبراك...)
(اخرسي...)
لم تتوقع أن يكون ردّه عليها صفعةً قاسيةً أدمَت شفتيها كما أدمت قلبها... رفعت عينيها إليه بصدمة وشعرها يثور حول وجهها بجنون كالشياطين أمامها...صاحت بحرقة وهي تشير إلى نفسها معترفة...
(كنت عارفة إنك واخدني سكة عشان تقرب منها أكتر... كنت فاكرة إنك هتفهم وتحس إني أنا اللي بحبك... أنا اللي عايزة أكون معاك مش هي... لكن إنت غبي... غبي ومش بتفهم...)
تحركت كي تغادر لكنه منعها في اللحظة التالية فقد وجد في حديثها غايته للنسيان والتسلية بعض الوقت بامرأة هائمة به...
(مش هسيبك تمشي يا جيداء...)
حاولت نزع ذراعها من بين يديه وهي تصيح بتشنج....
(سبني يا آسر... سبني...)
هتف آسر بحرارة زائفة....
(أنا ما صدقت إنك نطقتي يا مجنونة...)
توقفت جيداء عن التحرك وهي تنظر إليه بعينين غاضبتين.... مندهشتين قليلًا....
(تقصد إيه...)
رد وهو يضع في نظرته الماكرة كل مقومات الجاذبية لإيقاعها كذئب يخدع ضحيته الجديدة....
(أقصد إني أنا كمان بحبك... وكل اللي عملته ده عشان أشوف غيرتك عليا وأتأكد من مشاعرك ناحيتي...)
ارتفع حاجباها بدهشة واتسعت عيناها وهي تسأله ما بين صدمةٍ وسعادة...
(بجد يا آسر...)
أكد بنفس البسمة المتقنة ونظرة ولهان يجيد لعب الدور ببراعة...
(طبعًا... وچوچو...)
قالت جيداء فجأة....
(يعني هنتجوز...)
علت أمارات الدهشة وجهه وانعكست في عينيه وهو يقول بعد لحظة صمت....
(هنتجوز؟!... آه طبعًا... بس مش رسمي...)
غابت الفرحة عن ملامحها وهي تعقب مذهولة.....
(وليه مش رسمي...)
تنهد آسر مدّعيًا الأسى وهو يقول...
(يعني إنتي عارفة بابا... والمشاكل اللي ممكن تحصل لو عرف إني عايز أتجوز واحدة أقل من مستوانا... أقرب حاجة هيفتكر إنك
طمعانة فينا...)
سألته جيداء...
(والحل...)
قال آسر بهدوء...
(الحل إننا نقعد فترة كده... لحد ما أمهد ليه جوازنا ونحطه قدام الأمر الواقع...)
نظرت إليه جيداء قليلًا فقال آسر بمكر الذئاب....
(قولتي إيه... لو مش موافقة براحتك... بس اعرفي إنك بتضيعي الحب اللي بينا...)
خشيت أن تضيع الفرصة من بين يديها ويغادر الحلم إلى موطن آخر فقالت بعد تفكير لم يدم إلا دقائق....
(موافقة طبعًا... طالما فترة مؤقتة...)
حينها تم الزواج بينهما بشكلٍ سري بشهادة أحد الأصدقاء وكان من بينهم صديقه
المقرّب (عدي).
ومرّت الأيام والشهور سريعًا كزوجين في سرية تامة... تنتهي معها البدايات السعيدة الشغف والحميمية بينهما ثم تبدأ فجوة المشاكل والبرود والجفاء...
حتى جاء خبر حملها فكان الشيء الفاصل
بين كل شيء....
عندها أدركت جيداء أن حلمها المستحيل
الذي غامرت بكل شيء للوصول إليه قد بات كابوسًا يطبق على أنفاسها مع كل دقيقة تمر...
(آسر... أنا حامل... سامعني ولا أقول تاني؟)
قالتها جيداء وهي تقف أمامه بقميص نومها القصير بين يديها اختبار الحمل الذي أعادت فعله أكثر من مرة والنتيجة تؤكد وجود الحمل وكل المؤشرات التي تعاني منها في تلك الفترة العصيبة تؤكد ذلك...
كان آسر يستلقي على الأريكة ينفث دخان سيجارته وهو ينظر إليها ببرود قائلًا...
(من مين؟...)
توسعت عيناها بصدمة مصعوقة من رده وقد فغرت فمها متشدقة...
(هو إيه اللي من مين؟!.... إنت اتجننت؟!..
أنا مراتك حد هنا غيرك؟!)
رد آسر هازئًا بنظرة جافية....
(مش شرط يكون اللي عاملها متجوزك... أكيد مش هيطلع مغفّل زيي ويلبس في عيل مش ابنه...)
اقتربت جيداء منه باهتياج صارخة...
(إنت أكيد جرى لمخك حاجة ده ابنك... محدش لمسني غيرك...)
تثاءب آسر متصنّعًا البرود وهو يقول بملل...
(مين عالم... ما هو زي ما اتسهلتي معايا... أكيد اتسهلتي مع غيري...)
جنّ جنونها من حديثه فأخذت أقرب شيء وصلت إليه يدها وكان كوبًا من الخمر يتجرّع منه بجواره فسكبته عليه هادرة بكره...
(إنت حيوان... وابن **...)
أثارت حفيظته بفعلتها فاستشاط غضبًا وهو ينهض من مكانه ثم هجم عليها يلوي ذراعها خلف ظهرها بعنفٍ وقسوة مزمجرًا بلهجة مهينة....
(لسانك يا بنت الـ**... فوقي أنا واخدك تسالي... وبصراحة بقى... أنا زهقت منك... وطولتي أوي معايا... وياريت كان في
من وراكي منفعة....صاحبتها على الفاضي...)
لم يؤلمها ذراعها بقدر ما آلمها ذكره لامرأةٍ أخرى ما زال يكنّ لها المشاعر فأوغر
صدرها بالغيرة والحقد...
(إنت لسه بتفكر فيها... لسه بتريل عليها...)
أكد آسر دون لحظة تردد...
(آه لسه... لسه عايزها وبحبها... إنتي مفكرة إنك هتعرفي تخليني أنساها أو تملي عيني وقلبي بحركاتك الفارغة دي...)
تشدقت بصدمة....
(أنا... حركاتي فارغة؟!... حبي ليك فارغ؟!)
ضحك آسر ضحكة بشعة تثير اشمئزازها وهو يزيد الضغط على ذراعها بقسوة قائلًا بسخط..
(حب؟!... حب فلوسي بقى... زيك زي أي واحدة عرفتها... بترسم الحب وهي طمعانة في حاجة تانية...)
لمعت عيناها بالدموع وهي تقول بتألم...
(وهو حرام إني أعيش في مستوى أحسن؟...)
استهجن آسر حديثها وهو يقول بجمود...
(بقولك إيه... شغل الصعبنيات ده مش هياكل معايا... اللي في بطنك ينزل... عشان منزلوش أنا بالعافية... ولما أتأكد إنك نزلتيه... هطلّقك...)
ألقاها بإهمال على الأرض كمن يلقي عقب سيجارة زهيد الثمن قد انتهى منه للتو...
فمن ينظر إلى القمامة مرتين تكفي مرة واحدة قبل البصق عليها بقرف...
وقتها انتحبت جيداء على الأرض القاسية الباردة وهي تعتصر بطنها بكف يدها بوجع وغضب...فإن كان لا يريد الطفل فهي أيضًا تكره وجود شيءٍ يجمعها به مرة أخرى...
لكن ثمن صغيرها وقلبها سيكون غاليًا...
سيدفع حياته كي يوفي الثمن !...
لم يتوقع أسر وقتها رضوخها بهذه البساطة إليه فهي بالفعل تخلصت من الجنين بمساعدة صديقتها الدكتورة (مروة العياط)....
وبعدها تم الطلاق بينهما في سرية تامة كما حدث عند زواجهما...
كان اسر يشعر بعدم الارتياح لكونها توافق على كل شيء بهدوء أقرب إلى الجمود وهذه لم تكن طبيعتها خصوصًا معه
لطالما كانت عنيدة متسلطة في حبها وغيرتها عليه حتى أصبحت علاقتهما مع مرور الوقت لا تُطاق.... لذلك قرر الانفصال عنها فهي لم تُشكّل فارقًا معه كغيرها من النساء اللاتي يُبدلهن كأحذيته.
في أحد الأيام وبعد الانفصال بفترة قصيرة سمع اسر ليلًا باب شقته يُفتح بالمفتاح إذ كانت جيداء ما زالت تمتلك نسخة منه.
(إيه اللي جابك؟...)
قالها اسر وهو يمسك بيده كوبًا من الخمر
يقف أمامها عاريًا لا يرتدي سوى سروال قصير....
اقتربت منه جيداء تترنح قليلًا في مشيتها وقالت بابتسامة هازئة ولسان ثقيل...
(إيه.... جيت في وقت مش مناسب
معاك واحده...؟)
رد عليها بوقاحة...
(لسه جايين في السكة... مش واحدة تلاتة تحبي تكوني الرابعة؟)
شاركته الابتسامة مؤكدة أنها لا تُمانع.....
أدهشته إجابتها فعقب ساخرًا...
(أخلاقك باظت خالص بعد الطلاق!)
قالت جيداء بسخرية لاذعة...
(ما هو كده كده بايظة... إنت ناسي إن اللي نزلته ده ماكنش ابنك... كان ابن واحد تاني؟)
احتدت نظرات آسر نحوها بعنف...
(يعني بتعترفي إنك كنتي مقضّياها مع غيري وإنتي على ذمتي؟!)
ادّعت الدهشة وهي تفتح فمها قليلًا ثم ضحكت واقتربت منه أكثر حتى وقفت
أمامه وجهًا لوجه...
(ذمتك؟!... وهو العُرفي ده يتسمى جواز دي لعبة لعبتها عليا... والغريبة إني كنت عارفة ومشيت معاك للآخر...
حمارة بقى قولت يمكن تتغير... وتنسى. يمكن أقدر أنسيك نغم واللي جابوها... وتحبني. بس إنت عمرك ما شوفت غيرها...هي بس!)
زجرها آسر وهو يدفعها في كتفها بعيدًا عنه بقرف...
(بقولك إيه أنا مش عايز وجع دماغ... بلاش تطيري الكاسين من مخي.... خدي بعضك وامشي... مش ناقص قرف...)
رفضت جيداء الخروج والتصقت به بإغواء هامسة...
(بس أنا حابة أقضي الليلة معاك...)
امتقع وجهه بقرف وهو ينظر إليها شزرًا...
(وأنا مش عايز... زهقان وقرفان منك... غوري بقى....)
داعبت جيداء شعيرات صدره بأصابعها كمن يلعب على الكمان وقالت بنظرة مغوية وصوت ينساب كخرير القطط....
(معلش... اعتبرها الليلة الأخيرة... ليلة الوداع. إيه رأيك؟....ماعملنهاش قبل ما نطلّق... تيجي نعملها دلوقتي أكيد هيكون ليها طعم تاني...)
ضاقت عينا آسر وهو ينظر نحوها بشك متهكمًا...
(أكيد الليلة دي هيكون ليها تمن... ما أنا عارفك.... الجشع بيجري في دمك!)
قالت جيداء بعد نظرة ذات مغزى...
(هو أكيد في تمن... بس مش هيكلفك كتير.)
سألها بجفاء...
(وإيه هو التمن؟)
قالت بابتسامة ناعمة نعومة الأفاعي....
(إنت... إنت وبس...)
أطلق آسر تنهيدة قانطة وهو ينظر إلى جسدها نظرة شاملة دنيئة ثم مط شفتيه بعدها مفكرًا وشيطانه يحثه على الموافقة.... فلا مانع من قليلٍ من اللهو في جسد امرأة لا تُمانع...
ابتسمت جيداء في نفسها وهي تُترجم نظراته الدنيئة نحوها تلك النظرات التي تكشف كم كانت بالنسبة له سلعة رخيصة الثمن....
قال آسر ببسمة صغيرة ورغبة تلمع في
عينيه....
(واضح إنك عاملة دماغ وجاية تطلّعيها عليّا... بس على العموم... أنا ماعنديش مانع. مفيش حد يرفض حاجة جاية له ببلاش...)
دخلت جيداء غرفة النوم معه ثم توقفت بعد أن ألقى نفسه على الفراش يدعوها للنوم بجواره......
(استنى... هجيب تلج وكاس كمان).
ذهبت جيداء إلى ركن المشروبات وأحضرت ما تحتاجه من مكعبات ثلج وكأس آخر....
ثم عادت إلى الغرفة أخذت كأس آسر
سَكبت فيه من النبيذ الأحمر وفي خفة ودهاء وضعت العقار ثم الثلج وقلبتهما معًا. ناولته الكأس وهي تقترب منه وتنزع سترتها لتجلس بجواره وكأسها بيدها تتجرع منه.....
تحسس آسر ذراعها العاري وقال بمزاح مهين....
(شكلك أحلى في الحرام... ما كنا قضيناها كده بدل الجواز والطلاق... تصدقي كده أحلى؟)
(إنت شايف كده؟)
قالتها بابتسامة باردة وهي تتجرع من كأسها.
أكد آسر ضاحكًا باستخفاف....
(طبعًا... وآخر اليوم هديكي عرقك).
احتقن وجهها بالغضب وظلت ابتسامتها المفحورة على محياها تقطر وجعًا وندمًا..
(لدرجة دي شايفني رخيصة؟!)
عاد يضحك والخمر يسكر حواسه...
(الحق يتقال... إنتي أرخص حاجة قابلتها).
نظر إليها متفحصًا ليرى أثر كلماته الجارحة
عليها ثم زاد الضغط على قلبها أكثر قائلًا...
(قولتي إيه موافقة؟ لما يهفّني الغرام أبعتلك تيجي؟)
أومأت بنفس البسمة الباهتة...
(موافقة... طالما هنكون مع بعض. اشرب اشرب... محدش واخد منها حاجة).
تجرع آسر من الكأس ثم قال وهو يقطب حاجبيه....
(طعمه غريب...).
ضحكت جيداء بلؤم...
(إنت سكرت ولا إيه؟... دي الأزازة من عندك... هو أنا جايباها من بيتنا اشرب... يمكن من التلج...).
ثم دفعت الكأس لفمه هامسة بنعومة...
(اشرب... عشان ليلتنا طويلة يا حياتي).
أخذ رشفة أخرى ثم سأل بفضول...
(كنت عايز أسألك سؤال... هو إنتي فعلًا خونتيني؟...)
التوت ابتسامتها الباهتة إلى جانب شفتيها وقالت بنزق....
(وهي هتفرق معاك في إيه؟.... ما خلاص... اللي في بطني نزل... زي ما كنت عايز).
قال آسر وهو يتجرع من الشراب والمذاق يزداد مرارة....
(كنت فاكرِك هتعاندي وتتمسكي بيه... بس واضح إنك مش عايزاه أكتر مني. كويس إنه نزل وخلصنا...).
أومأت جيداء ببرود...
(أيوه... خلصنا... وخلصت منك إنت كمان).
ترك آسر الكأس جانبًا وقد فرغ محتواه في جوفه وبدأ يشعر بتشنجات في معدته...
(بطني بتوجعني...).
أجابته جيداء بصوت خالٍ من التعبير...
(طبيعي... السم بدأ ينتشر وقريب اوي هتموت...).
جحظت عيناه بصدمة شابها الهلع....
(إنتي عملتي إيه..... شربتيني إيه؟!)
وقفت أمامه متجبرة تقول بصوت متشفي قاسٍ....
(مش قولتلك إنها الليلة الأخيرة؟.. قولتلك
إن التمن إنت... إنت وبس).
تألم آسر وهو يحاول النهوض يده على بطنه المتشنج والعجز يسري في جسده...
(جيداء... الحقيني... اتصلي بأي حد يلحقني... بطني بتتقطع...).
لوّحت له بهاتفه وهي تقول بجمود...
(ممكن تنجد نفسك... قدامك ساعة أو أقل).
مد يده نحوها متوسلًا...
(هاتي التليفون...).
تنهدت جيداء برضا ورؤية آسر وهو يحتضر
أمامها أسكرت حواسها ورفعتها عاليًا منتشية كأنها تجرعت بحرًا كاملًا من الخمر !.....
(مش قبل ما تخدمني... وتنفّذ طلبي الأخير).
صرخ متألمًا وهو ينهار أرضًا...
(طلب إيه؟!.... بقولك بموت... هاتي التليفون!).
جثت بجواره وأخرجت ورقة وقلم من جيبها وقد واتتها فكرة مجنونة انتقام ذو حدّين منه ومن صديقتها المقربة...
(اهدأ... خلينا نكسب وقت. إيه رأيك نكتب كلمتين على الورقة دي... وبعدها هديك تليفونك تتصل باللي ينجدك).
صرخ آسر بعجز....
(هكتب إيه؟!.... مفيش حاجة بأسمي غير العربية والشقة).
ضحكت جيداء بسخط...
(لا.... اطمن... أنا هسيب ده للورثة...دا لو في
حد هيورثك أصلا غير أبوك.... أنا مش عايزة
لا شقة ولا عربية... أنا عايزة حقي... منك ومنها...).
ترجاها بوجه محتقن بالالم...
(ارحميني يا جيداء... أبوس إيدك... بطني بتتقطع...).
هتفت بقسوة وعيناها تلمعان بالتشفي...
(وانت مرحمتنيش وأنا تحت رجلك بشحت الحب منك.... مرحمتش ابني ليه؟!... وانت بتشكك في نسبه وبتحكم عليه بالموت من
قبل ما يجي للدنيا؟!)
انبطح آسر على بطنه يضع يده على حذائها متوسلًا باكيًا...
(حقك عليا... هعملك كل اللي عايزاه... بس الحقيني... بموت... بموت...).
أعطته الورقة والقلم بحزم...
(اكتب الكلمتين دول... وهنجدك).
جز على أسنانه ممتنعًا...
(أكتب إيه؟!.... مش قادِر...).
قالت بصلابة...
(أكتب إنك انتحرت بسبب نغم... عشان رفضتك...).
رفض غاضبًا وهو يحاول الانقضاض عليها..
(إنتي اتجننتي؟!.... أنا مش هموت... وهقتلك أول ما أقف على رجلي يا بنت الكلب...).
(تمام... زي ما تحب).
قالتها جيداء وهي تدير ظهرها وتهم بالخروج.
(استني.... متسيبنيش... لو كتبت الكلمتين دول... هتديني التليفون؟)
توقفت مكانها ثم التفتت إليها وعلى محياها ابتسامة ماكرة...
(طبعًا يا آسر... هو أنا قلبي حجر؟)
لم يكن أمام آسر سوى التشبث بآخر أمل يلوح أمامه حتى وإن كان مشكوكًا في أمره !...
لذلك كتب آسر جملة مختصرة تُدين نغم بأنها السبب في انتحاره....
(التليفون... يا حبيبـي).
ناولته جيداء الهاتف وأخذت الورقة بحرص وضعتها في مكان ظاهر....
فتح آسر الهاتف وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة فسمعها تقول قبل أن تخرج...
(الخط مش موجود فيه للأسف...).
أغلقت الباب خلفها بعدما أخفت كل أثر قد يدل عليها لتبدو في نظر الجميع قضية
انتحار ترك خلفه رسالة تدين امرأة
رفضت حبه !....
وعلى شكري العزبي أن يرسّخ هذه الفكرة في عقله لتشتعل نيران الانتقام يومًا بعد يوم فتسهل عليها الأمر وترى حياة صديقتها تتحول الى كابوسًا دائمًا...
تعيشه فيه كل ليلة وكل لحظة...
.................................................................
أدركتُ على يديك أن الحب والخداع وجهان لعملةٍ واحدة وأنني وبمنتهى الغباء وقعتُ في فخّ خداعك !...
ما زالت لقطات الفيديو تُعاد أمام عينيها والاتفاق على الإيقاع بها وإذلالها باسم الحب يجلجل في مسامعها كما لو أنه سياط تنهال عليها...
مضت أيّام عدة بعد اكتشافها حقيقة الفخ الذي نُصب لها فوقعت فيه دون حذر...
كانت تظن أن النيران المشتعلة في صدرها ستهدأ مع مرور الأيام لكنها تتأجج أكثر كلما كبحت انفجارها عنه...
فتح باب مكتبها ودلف بخطى واسعة واثقة اقترب منها سحب مقعدًا وجلس بقربها ممسكًا يدها يعانقها بين يديه...يا له من ممثل بارع !
ابتسمت في داخلها بسخرية وهي تراه يُتقن الدور ببراعة لا يترك مجالًا للشك...
ـ"مالك يا حبيبتي؟.. بقالك كام يوم متغيّرة... حتى بصتك ليا بقت غريبة..."
سحبت يدها من بين يديه كمن لسعها تيار كهربائي وأشاحت بوجهها عنه ناظرةً إلى الملف أمامها مجيبةً بهدوء فاتر...
"مفيش حاجة في نظراتي... عادي الشغل واخد كل وقتي..."
أومأ أيوب برأسه متفهّمًا وهو يخبرها...
"بمناسبة الشغل... أنا قررت أفتح براند خاص بيا... وهبدأ أنفّذ ده الفترة الجاية..."
وكأنها لم تسمعه بقيت هادئة جامدة التعبير وهي تتفحّص الملفات....
شاكسها أيوب بمراوغة قائلاً....
"مفيش مبروك يا حلاوة؟... ولا خايفة أنافس شركتكم؟..."
مطّت شفتيها بعجرفة وقالت....
"عادي... الكل بينافسها... مجتش عليك..."
نظر إليها أيوب بعتاب قائلاً....
"وأنا زي أي حد برضه أعضّ الإيد اللي
اتمدّت ليا؟..."
التوت شفتاها بابتسامة ممتعضة وهو لم يلاحظ أيوب فتابع حديثه...
"بصراحة كمال الموجي شجّعني آخد الخطوة دي... وقال لي إنها هتبقى فرصة كويسة ليا..."
تنهدت وهي تقول بخفوت...
"تمام..."
أمسك يدها يوقفها عن العمل وباليد الأخرى أدار وجهها إليه سائلاً بعينين تمعنان النظر في وجهها الشاحب وعينيها الحزينتين الكسيرتين
"مالك يا نغم؟.... دا أنا قولت إنك أول واحدة هتفرحي... وهتصدعيني بأسئلتك عن المكان اللي هبدأ فيه والعمال....والمكن اللي هشتريه..."
ضغطت على نفسها وهي تهرب من عينيه المخادعتين ببراعة قائلة...
"معلش يا أيوب... بس عندي شغل وعايزة أخلصه..."
قال أيوب وحاجبيه معقودين....
"شغل؟!.... أنا كنت عايز آخدك تشوفي المشغل اللي هبدأ منه..."
ردّت بوجه محتقن بالغيظ وبنزق....
"مش فاضية... تقدر تاخد أي حد تاني مش هتغلب..."
ارتفع حاجباه ذاهلاً وقال بعتاب ونظرة
لائمة...
"أي حد زي مين؟.... مين يقدر يحلّ مكانك عندي؟..."
احترق صدرها بالغيظ وهي تتذكر كم كانت غبية حين صدقت ترهاته...
"أي حد... دا لو ليا مكان أصلاً..."
تجهم أيوب متشنّجًا...
"إيه النغمة الغريبة دي؟..."
تبرمت نغم بجمود...
"مش غريبة ولا حاجة... عادي مبقتش مهتمة..."
صاح أيوب بتملّك عاطفي
"مش مهتمة بيا؟!.... انتي ناسية اللي بينا؟..."
أجابته بابتسامة باردة...
"تقريبًا نسيت..."
صاح أيوب بوحشية...
"نسيتي إيه؟!..... انتي اتجننتي؟..."
قالت نغم بعنفوان وهي تبعد يده عنها...
"الزم حدودك.... وبلاش تنسى انت بتكلم مين..."
صُعق من تلك النبرة المتعجرفة فأدار وجهها إليه بعنف ناظرًا إليها بغضب يتطاير من عينيه....
"نـغــم ..."
نظرت إليه بعينين مجروحتين مقهورتين تذرفان الدموع عنوة عنها...
مدّ أيوب كلتا يديه ليعانق وجهها الشاحب يقربها منه وهو يمسح دموعها ثم سألها بلهفة يشوبها القلق...
ـ"بتعيطي ليه؟.... مين زعلك إيه اللي حصل؟..."
هربت من نظراته تمسح عبراتها قائلة...
"مفيش حاجة... عيني تعباني شوية..."
تافف أيوب حانقًا وهو يفقد زمام صبره وهدوءه قائلاً...
"انتي مخبية عني إيه بالظبط؟!.... متغيّرة بقالك يومين.... أكتر من الأول..."
قالت نغم بسخرية قاتمة...
"مفيش حد مخبي هنا غيرك يا أيوب..."
زفر أيوب بثبات قائلاً...
"لو مخبي حاجة عنك... فأكيد مش عشان أضرّك..."
لم ترد نغم مشيحة بوجهها وعينيها بعيدًا عنه. وبعد لحظة صمت قال...
"على العموم... خليكي على راحتك. منين ما تهدي نتكلم تاني... وعلى ما ده يحصل أنا بعت على تليفونك ريكورد.... اسمعيه..."
سألته بجفاف...
"بخصوص إيه؟..."
أجابها وهو يستقيم واقفًا ينوي الرحيل...
"تسجيل صوتي لعدي... اللي حماة السياسي المعروف... دي أول حاجة هتبرّئني قدامك وهتوضحلك صورة صاحبتك اللي مش بتثقي في حد غير فيها..."
غادر أمام عينيها الدامعتين مغلقًا الباب خلفه بينما فتحت هي الرسالة الصوتية عبر هاتفها لتسمع اعترافًا ناريًا سقط كالسياط على روحها...
فلم تُصدم فقط في حبيبها بل أيضًا في صديقة عمرها تلك التي كانت زوجة
(لأسر العزبي)، وأمًّا لابنٍ حكم عليه والده بالموت...
حقائق صادمة مفجعة جعلتها تعيد سماع الرسالة مرة واثنتين ومائة ومع ذلك في كل مرة كانت تكتشف حقيقة جديدة... حقيقة كانت أمامها طوال الوقت وهي غافلة
تبحث في مكان آخر كالخرقاء...
تذكّرت كلمات العم حميد تذكّرتها جيدًا...
(شايفِك واقفة في نص البحر... طوق نجاتك في إيدِك.... بس سايبة نفسك للموج ياخدك ويرميكي... ومستنية حد ينجدك...)
(بتعرفي تعومي ولا لأ؟..)
(أكيد بعرف أعوم...)
(يبقى ما تستنيش حد... وانجدي نفسك بنفسك... وبلاش تثقي في حد ولا حتى في ابن عبد العظيم... لأنه بشر مش ملاك...)
انحنت على المكتب تستند إلى يديها وهي تذرف دموعها صدرها يضيق وتختنق شهقاتها بين حلقها...
الجميع خدعها باسم الحب...
عاشت أشهرًا تعاني من الترويع بعد مقتل شاب ادّعى أنه ولهان بها ومات صريع حبها لتكتشف أنه مات على يد زوجته بعد زواج سري دام لأشهر...
زوجته هي صديقتها المقربة التي لفّقت لها القضية برسالة كتبها المجني عليه بخط يده...
كيف؟ ومتى؟....
لا أحد يعرف الإجابة سوى من كانت معه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة... أو حتى قبل أن يتضح أنها الأخيرة... كانت تشاركه اللحظة إلى النهاية !....
................................................................
دلف صالح من باب البيت بعد يومٍ مرهقٍ من العمل في المصنع...
وجد أبرار تجلس أمام التلفاز تتابع أحد الأفلام القديمة برفقة جدتها التي كانت مشغولة بتخييط إحدى قطع الملابس...
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..."
قالها صالح وهو يريح جسده على أقرب مقعدٍ مجاورٍ لهما. ردّوا التحية عليه وقالت الجدة
"حمدلله على سلامتك يا حبيبي... دقايق والأكل يتحط..ياسين جه معاك مش كده؟"
أجابها صالح....
"آه... دخل شقته على طول..."
نقلت الجدة عينيها بينهما قائلة...
"طيب حد فيكم يتصل بيه عشان يطلع يتغدى معانا..."
سألها صالح مبتسمًا بملاطفة...
"وعلى كده عملتِي لنا أكل إيه؟... أنا
شامم الريحة..."
تهللت أساريرها قائلة بحنان...
"فضلِت خيرك يا حبيبي... فراخ ورُز معمر وملوخية..."
اختلطت الكلمة بذكرى لا تغيب عن باله نحو امرأة استحوذت عليه قلبًا وقالبًا...
"ملوخية..."
ابتسمت أمه بحنين وكأن الذكرى عدوى أصابتها هي أيضًا فقالت بشجن....
"آه... وأنا بعملها النهاردة افتكرت شروق...
ربنا يمسيها بالخير وحشتني قوي هي وملك.
تعرف يا صالح... بحس إن ملك دي حفيدتي أصغر أحفادي..."
نفخت أبرار وهي تعبر عن اعتراضها بغيرة...
"نحن هنا يا تيتة.... لو مش واخدة بالك يعني..."
ضحكت الجدة باستياء:
"مش هتبطلي غيرتك دي..."
ثم تنهدت مستأنفة بنبرة حزينة.....
"بس زعلانة منها قوي... من ساعة ما مشيت ما رفعتش سماعة التليفون وكلمتني..."
دافع صالح عنها بهدوء....
"معاها عذرها يا حاجة... أكيد مشغولة..."
عقدت أبرار حاجبيها وهي تتأمل أباها قبل
أن تسأله....
"هو إنت بتكلمها يا بابا؟!"
ارتبك صالح قليلًا وهو يتبادل مع ابنته النظرات ثم تنحنح قائلًا وهو ينهض عن مقعده.....
"أجلي الغدا دلوقتي يا أمي..."
ثم وجه الحديث إلى ابنته بصوتٍ حنون كعينيه نحوها....
"أبرار... عايز كباية شاي من إيدك الحلوة... اعمليها وجيبيها على أوضتي... بس معلقتين سكر... أوعي تكتري..."
أومأت له أبرار بأدب ثم تحرك والدها صوب غرفته بينما مالت على جدتها تسألها همسًا...
"تيتة... هو عايزني في إيه؟... ومردش على سؤالي ليه..."
حرّكت الجدة بؤبؤ عينيها يمينًا ويسارًا بحيرة أكبر وقالت بحسرة على ابنها...
"علمي علمك... بقاله فترة متغير من ساعة ما مشيت من البيت..."
علّقت أبرار بهجوم....
"ماهي ما جايبك..."
لكزتها جدتها بعنف في ذراعها وهي تلقي عليها نظرة غاضبة هاتفه بغيظ....
"لمي لسانك يا قليلة الحيا... وروحي اعملي لأبوك الشاي..."
عقدت أبرار ذراعيها أمام صدرها باحتجاج قائلة بجزع....
"شاي إيه اللي عايزني أحط له فيه معلقتين سكر ده... دا هيبقى مُر أوي..."
...
بعد لحظات دخلت أبرار غرفة والدها دون طرقٍ على الباب وبين يديها كوب الشاي...
رأت والدها بانتظارها في ركن الجلوس وكان يحوي مقعدين وطاولة صغيرة في الوسط... جلسته هو وجميلة لسنوات عديدة.
هذا الركن الهادئ من غرفة نومهما شهد الكثير من الحب والنقاشات بينهما وأيضًا خلافاتهما التي كانت تنتهي قبل أن تبدأ.
فكانت جميلة تشبه النسمة الهادئة في صيفٍ حار امرأة متفهمة حانية ذكية وفي وقت غضبه كانت تعرف ما عليها فعله كزوجةٍ صبورة عاقلة...
جميلة النقيض لشروق في كل شيء لذلك ما زال يسأل نفسه كيف وجد ضالته في شروق؟ كيف انجذب إليها رغم اختلافها الهائل عنه وعن طباع زوجته؟....
وكيف شعر معها بتلك المشاعر العنيفة التي تعصف بصدره وقلبه كلما التقت عيناهما؟
لم تكن مشاعره مع زوجته الراحلة عنيفة... بل على العكس كانت هادئة يملؤها الودّ والرحمة والكلمة الطيبة. لم يجرح يومًا مشاعرها وهي لم تقلل يومًا من شأنه....
مع شروق... كل شيء مختلف. وهو متأكد أنه بعد إتمام الزواج سيختبر معها حياة لم يعشها من قبل...
وكأنه يبدأ من جديد بعنفوان الأربعيني... ذاك السن الخطير على كل رجلٍ عزف عن الزواج والحب لفترة طويلة حتى تأتي المرأة التي تجعل من الصبر عجلة ومن الثبات طيشًا
ومن الأربعيني مراهقًا أهوج يلهث خلفها !...
وضعت أبرار الكوب أمام والدها على الطاولة الصغيرة...
"عايز حاجة تاني يا بابا؟.... "
"اقعدي يا برتي الحبيبة..."
أشار لها صالح بالجلوس على مقعد أمها. جلست أبرار بسعادة لا توصف وهي تحتل مكان أمها وبعد أن دللها والدها كما كانت
تفعل أمها...
ترقرقت دموع الحنين والحزن في عينيها بينما شعر صالح بثقل الكلمات في حلقه.
لم يتوقع أن هذا الركن الذي شهد على كل شيءٍ جميل بينه وبين زوجته الراحلة سيشهد اليوم على رغبته الملحة في الزواج من أخرى...
بل ويُقدِم على إخبار ابنته برغبته في ذلك... كيف ترك نفسه للهوى حتى بات قلبه يقوده إلى...
"مالك يا بابا ساكت ليه..."
توقفت سيل الأفكار في رأسه على صوت أبرار التي تنظر إليه بقوة منتظرة الحديث الذي دعاها إلى غرفته وإلى الجلوس بجواره...
ابتسم صالح وهو يبدأ بمقدمة اعتيادية بالسؤال عن أحوالها....
"عاملة إيه في الجامعة يا أبرار..."
ردت أبرار بهدوء....
"الحمد لله يا بابا... ماشي الحال..."
مسك صالح كوب الشاي وأخذ منه رشفة ثم انزله عن فمه وهو ينظر إلى ابنته بملامح عابسة...
"إنتي حطيتي كام معلقة سكر؟... "
أجابته أبرار بنظرة بريئة...
"اتنين زي ما قولت..."
ضاقت عيناه عليها بشك فتوسعت ابتسامتها قائلة بوداعة....
"اتنين ونص..."
هز رأسه وهو ينظر إليها بعينين ثاقبتين منتظرًا الإجابة النهائية...
فمطت شفتيها للأمام بقنوط معترفة بنزق..
"حطيت تلات معالق..."
ابتسم صالح باستياء وهو يترك الكوب
مكانه....
"إيه حكايتك مع السكر... مش خايفة على صحتك؟... "
دافعت أبرار عن نفسها قائلة بجدية...
"على فكرة أنا دكتورة وفاهمة إنه مش سبب علمي خالص إن اللي بياكل السكر يبقى عُرضة للسكري. بالعكس الموضوع ليه عوامل تانية..."
رد والدها مجادلًا بحزم....
"من ضمنها الإفراط في السكر... خدي بالك كفاية الأنيميا اللي عندك..."
قالت أبرار باحتجاج:
"يا بابا... الإفراط في أكل السكر بيعمل سِمنة واللي عندهم سمنة أكثر عُرضة للمرض السكري..... حضرتك أنا لحد دلوقتي وزني
مش بيوصل على الميزان 48 كيلو..."
أصر صالح بعناد أكبر منها....
"خففي منه واسمعي الكلام... لأنه كتره غلط..."
وافقت على مضض...
"اللي تشوفه يا أبو الكباتن..."
تردد صالح قليلًا قبل أن يفتح الحديث لكنه
لم يجد فائدة من الصمت أو المقدمات...
"عايز أشور عليكي في حاجة... تخصني..."
نظرت أبرار إليه قليلًا مشفقة على تردده الملحوظ، وقالت بهدوء...
"ناوي تتجوز يا أبو الكباتن؟... "
ظنت أنها بجملتها سهّلت عليه المهمة لكنها باتت أصعب جدًا من ذي قبل...
"كنت وعدتك إنه مش هيحصل بس..."
قاطعته أبرار بثبات وأكملت عنه...
"بس النصيب غلاب... وحبيتها..."
رفع صالح عينيه إلى ابنته يتمعن في النظر إليها قد كبرت كثيرًا لم تعد طفلة كما كان يراها من قبل نظراتها نحوه هادئة متفهمة للوضع الجديد الذي سيخطو إليه قريبًا...
في السابق كانت تبكي إن سمعت تلميحًا
عن الأمر تصرخ وتنهار رافضة مجرد كلمة
من جدتها....
لكن اليوم تجلس مكان أمها على المقعد تستمع إليه بملامح رصينة ونظرة شاخصة كوالدتها تمامًا حينما كانت تريد أن تهون عليه أمرًا يصعب البوح به...
استرسلت أبرار بجدية....
"مش هنكر إنها تتحب... وإنها ست جدعة وحنينة... بس عمري ما توقعت إنك تتشد ليها... خصوصًا إنها مختلفة عنك وعننا..."
ثم سألته بفضول....
"إنت لقيتها مش كده... بتكلمها في التليفون؟!... "
نفى صالح قائلًا بخشونة....
"وإنتي شايفاني مراهق عشان أعمل كده
يمكن حاولت أوصل لها عن طريق التليفون
لما مشيت... بس للأسف معرفتش والطريق وقعها في سكتي من تاني..."
رفعت أبرار حاجبيها معًا...
"وإزاي بقى؟... "
تنحنح صالح قائلًا بصوت حانٍ...
"مش لازم تعرفي كل التفاصيل... كل اللي
لازم تعرفيه إني عمري ما هقصر معاكي في اهتمامي وحبي ليكي... هتفضلي بنتي
الكبيرة أول فرحتي... وأول كل حاجة حلوة....."
سألته أبرار...
"يعني شروق موافقة؟!... "
نفى صالح مجددًا موضحًا الأمر....
"هي موافقتها متوقفة عليكي إنتي وملك... هي قالتلي كده إن البنات موافقتهم الأهم.
وأنا شايف إن ده الصح... إحنا هنبقى عيلة ولازم كل الأطراف تكون راضية..."
أطرقت أبرار برأسها قائلة بخفوت...
"اللي تشوفه يا بابا... دي حياتك..."
هتف صالح بصلابة رغم هدوئه....
"وإنتي جزء من حياتي... إنتي بنتي يا أبرار بنتي الوحيدة... ولازم تشاركيني رأيك حتى
لو قولتي لا..."
زمت أبرار شفتيها متسلحة بالشجاعة والثبات وهي تحاول ألّا تبكي...
"وليه هقول لا...مانا كمان مصيري أتخرج
من الكلية وأتجوز... وهتبقى لوحدك..
تيتة كان عندها حق... أنا كنت بتصرف معاك بأنانية... من حقك تتجوز وتعمل عيلة ويكون عندك ولاد كمان..."
أمرها والدها بنفاد صبر....
"ارفعي عينك فيا يا أبرار..."
رفعت عينيها السوداوين اللامعتين بالدموع إلى والدها وشفتيها ترتجفان رغمًا عنها...
"بتعيطي ليه؟!.... "
سألها والدها بحاجب معقود بعتاب. ومعه سالت دموعها على وجنتيها مؤكدة الأمر
دون إنكار منها...
همست أبرار بغصّة مريرة...
"خايفة تنساني يا بابا... زي ما نسيت ماما وحبك ليها..."
مد صالح يده يمسح دموع ابنته ثم ربت على خدها وهو يقول بصوتٍ عذب...
"أنا عمري ما نسيت جميلة لحد اللحظة دي... جميلة لسه في قلبي... ولو كانت موجودة مكنش كل ده حصل..."
"بلاش تعتبريها خيانة أو عدم وفاء مني لأمك..أنا عشت مع أمك شبابي كله كانت
أول ست تدخل قلبي وتدخل حياتي..وبسببها جيتي إنتي ونورتي حياتي..."
ثم أسبل جفنيه شاعرًا بالحرج وهو يقدم على تلك الخطوة مبررًا موقفه ومخالفًا وعدًا لم يكن قادرًا على الوفاء به مدى الحياة...
"لكن مش كلنا زي بعض... الوحدة صعبة يا أبرار. ولو ما اتجوزتش من عشر سنين فاتوا فده عشان كنت خايف أظلمك وأجيبلك مرات أب... خوفت أفرّط في الأمانة اللي وصّتني بيها جميلة قبل ما تموت..."
سألته أبرار بنظرة تائهة....
"يعني مش هتنساني يا بابا؟!... ولما تجيب ولاد هتفضل غلاوتي زي ما هي عندك؟..."
سحبها صالح بين ذراعيه يضمها إلى صدره وهو يربّت على كتفها قائلًا بنبرة فائضة
بالحب والحنان الابوي....
"وهتزيد يا أبرار... عمر المحبة ما بتقل في قلب الأب لعياله. وبعدين لو في يوم بقى عندي ولاد غيرك... هما الولاد دول مش هيكونوا إخواتك يعني....شايلين نفس الاسم اللي إنتي شايلاه...
"هتكوني أختهم الكبيرة وقدوتهم. ما خدتش بالك ملك شايفاكي إزاي وبتحبك إزاي وإنتوا مش إخوات؟!... ما بالك بقى بإخواتك هيكونوا معاكي إزاي..."
ابتسمت أبرار وهي رغمًا عنها تسرح بخيالها لهذا اليوم الذي سيكون لديها فيه أخ صغير...
بينما تابع صالح وهو يقبّل رأسها...
"بلاش تفكري بسلبية... يمكن تحسي بالعيلة واللَمّة والمحبة أكتر لما نبقى كلنا مع بعض..."
ابتعدت أبرار عن أحضانه تنظر إليه فأضاف صالح بصوتٍ رخيم....
"والوعد اللي أقدر أوعدك بيه... إني عمري ما هقصّر معاكي... هتفضلي بنتي وحبيبتي لآخر يوم في عمري..."
امتعض وجه أبرار معترضة وقالت بنظرة
لائمة...
"بلاش الكلام ده ربنا يديك الصحة وطولة العمر..... إنت عريس وداخل على مشروع جواز..."
ثم لمعت عينيها بشقاوة وهي تقول...
"وبعدين إنت لسه شباب أصلاً... إنت ناسي إن ندى صاحبتي كانت بتعكسك وطلبت إيدك مني وأنا اللي رفضت؟!... "
ضحك صالح وهو يسايرها....
"أخت أيوب الدكتورة اللي معاكي في الكلية؟!.... "
هزّت رأسها لتذكره....
"لأ مش نهاد... توأمها ندى الفنانة اللي في
كلية فنون جميلة..."
ضيّق صالح عينيه بمزاح...
"وليه ما قولتيش؟!... أنا ما كانش عندي مانع أناسب أيوب..."
قالت أبرار بلؤم...
"يا سلام... الكلام ده هيوصل لشروق..."
نفخ صالح صدره بشجاعة الفرسان قائلًا...
"وتفتكري أنا خايف؟!... "
ابتسمت أبرار بشيطنة قائلة بنظرة متشفية...
"يعني أقولها؟!... "
عبس صالح وهو ينظر إليها بقوة...
"إنتي عايزة تبوّظي الجوازة من قبل ما تبدأ؟!... "
ضحكت أبرار ساخرة....
"واضح إنها مسيطرة..."
اعترض صالح قائلًا...
"أبوكي شخصية قيادية مفيش حد يقدر يسيطر عليه..."
رمقته بطرف عينيها بتشكيك...
"والله مش بالكلام يا أبو الكباتن... أحب أشوف بعيني وأحكم..."
"يعني موافقة؟!"
سألها والدها بهدوء لكن عينيه كانت تعكس لهفته القوية نحو الأمر...
فلتت من أبرار تنهيدة طويلة تحمل بين طياتها
الكثير ثم قالت بعد لحظة صمت....
"قبل ما أقولك موافقة... أنا عندي شرط ممكن يزعلك مني..."
قطّب صالح جبينه عابسًا بتساؤل...
"إيه هو الشرط يا أبرار؟..."
رفعت عينيها إليه وقالت بتأني...
"ممكن ترفضه..."
مال صالح إلى الأمام يعطيها كامل تركيزه وهو يقول بملامح رصينة....
"طالما متوقف على موافقتك... هحاول أنفّذه عشان أرضيكي..."
.................................................................
حملت شروق الأطباق ودخلت بها إلى المطبخ
ساعدتها ابنتها في حمل الباقي وهي تقول ببراءة.....
"ماما...... أنا عايزة أكلم أبرار..."
توقفت شروق عند حوض المطبخ ثم نظرت إليها تسألها بعينيها قبل أن تقول...
"إيه اللي فكرك بيها؟.... بقالنا هنا فوق الثلاث أسابيع... دي أول مرة تجيبي سيرتها..."
زمت ملك شفتيها قائلة....
"عشان وحشتني..ومش برضه أجيب سيرتها عشان متزعليش... عشان عارفة إنك مش بتحبيها..."
عقدت شروق حاجبيها بدهشة...
"مين قالك إني مش بحبها؟!... "
قالت ملك بملامح عابسة...
"يعني طريقتها معاكي مش لطيفة... فطبيعي متحبيهاش..."
هزت شروق رأسها قائلة بنفس سمحة...
"لأ بالعكس... أبرار طيبة ومؤدبة هي بس
اللي شعنونة حبتين زيك كده..."
برقت عينا ملك بتساؤل....
"يعني بتحبيها يا ماما؟..."
ابتسمت شروق بجزع قائلة...
"إيه السؤال ده يا ملك؟... أكيد بحبها... دول ناس كلنا معاهم عيش وملح... ليه هكرهم.."
قفزت ملك بسعادة وهي تقول بشقاوة...
"على كده بقى يعني ينفع أكلمها من تليفونك؟...."
رفضت طلبها..... "لأ..... بلاش..."
صاحت ملك....
"ولييييه يا ماما؟"
شردت شروق قليلًا وهي تقول بتردد...
"يمكن تفتكر إننا محتاجين حاجة... أو عايزين نعرف حاجة..."
قطبت ملك جبينها بتساؤل بريء...
"بس إحنا مش محتاجين حاجة... وبعدين هنعرف إيه؟.... "
نظرت شروق إلى ابنتها وقالت بثبات...
"إنتي كبيرة يا ملك... ولازم آخد رأيك في حاجة تخصنا إحنا الاتنين..."
لمحت ملك إمارات التردد في عيني أمها فقالت بتمرد حانق....
"إيه يا ماما...ناوية تخلينا ننقل في مكان تاني بجد أنا زهقت...أنا ما بصدق أحفظ المنطقة والشارع اللي إحنا فيه...مش كل شوية ننقل
أنا زهقت يا ماما... إمتى يكون لينا بيت ملكنا زي صحابي؟... "
أثقل الهم والحزن صدر شروق بعد حديث ابنتها وأحرقتها مقلتاها وهي على وشك
البكاء مرة أخرى...
"مش هو ده اللي عايزة أتكلم فيه يا ملك... وبعدين إنتي شايفة الظروف مساعدة معانا أوي عشان نفكر نبقى أصحاب أملاك..."
سألتها ملك بحيرة..... "أمال إيه؟"
"تعالي نتكلم في الصالة بدل وقفتنا دي..."
تحركت شروق أمامها تبعتها ملك وهي تشير على الأواني المتسخة....
"طب والمواعين؟!...."
زفرت شروق بسأم قائلة....
"على أساس إنها بتخلص هرجعلها... هو
أنا ورايا غيرها..."
جلست ملك على الأريكة القديمة وبجوارها جلست شروق أمسكت يد ابنتها وهي تنظر إليها بتردد وحرج شديد....
سألتها ملك بقلق....
"مالك يا ماما... إنتي تعبانة؟"
أخذت شروق نفسًا طويلًا ثم أخرجته بهدوء وكأنها تنوي السقوط في هوة عميقة لا نهاية لها فالوضع كله يعد مجازفة كبرى بابنتها وبحياتها الباقية...
فرغم حبها للشيخ وثقتها الكبيرة به إلا أنها خائفة... خائفة من طوق الزواج مرة أخرى ومن الحياة تحت كنف رجل حتى وإن كان صالحًا كالشيخ...
"هتزعلِي لو اتجوزت مرة تانية يا ملك؟"
سحبت الصغيرة يدها من يد أمها وهي تنظر إليها بصدمة سائلة بخوف....
"هتتجوزي؟!...... هتتجوزي وتسيبيني؟!"
نظرت إليها شروق بحنان تجيبها بلهفة...
"أسيبك؟!....أسيبك إزاي إنتي هتكوني
معايا... مقدرش أستغنى عنك..."
شحب وجه ملك وهي تقول بذعر....
"بس جوزك ممكن يرفض أبقى معاكي... زي صاحبتي آيات... مامتها اتجوزت وسابتها مع جدتها... بس أنا تيتة ماتت هروح فين؟ عند تيتة عنايات؟.... "
تبرمت شروق قائلة...
"تيتة عنايات في السجن..."
اتسعت عينا ملك بصدمة وهي تعقب...
"إيه...... في السجن؟!... "
أومأت لها شروق بصلابة....
"ربنا خلص حقنا وحق ناس كتير منها... ودلوقتي بتاخد جزاءها... فمتخافيش مش هتروحي عندها..."
قالت ملك بهلع وهي تتوقع الأسوأ....
"أمال هروح فين؟... الملجأ؟!..."
هذه المرة صُدمت شروق من تفكير ابنتها المأساوي فقالت بدهشة...
"إيه الكلام ده يا ملك....قولتلك هتبقي معايا مش هسيبك...."
مطت ملك فمها عابسة...
"وافرضي جوزك رفض..."
ابتسمت شروق وهي تمد يدها تمسد على شعرها الأسود الناعم لتطمئنها....
"هو مش رافض بالعكس... هو راجل صالح وبيحبك زي بنته..."
رفعت ملك عينيها إليها بفضول...
"هو أنا أعرفه؟... "
اتسعت ابتسامة شروق وهي تسألها...
"قبل ما أقولك هو مين... إنتي موافقة إني أتجوز؟.... "
هزت ملك كتفيها وهي تنظر إلى أمها بعطف..
"ليه أمنعك يا ماما؟... أنا بحبك وعايزاكي تبقي مبسوطة وتبطلي عياط...وكمان تبطلي تشتغلي... قوليلي هو مش هيخليكي تشتغلي صح؟... "
مسحت شروق دموعها قبل أن تسيل على وجنتيها وهي تقول مبتسمة.....
"لأ.... مش هيخليني أشتغل... اطمني..."
قالت ملك باستهجان....
"بس هيخليكي تطبخي وتغسلي المواعين.. "
أكدت شروق الأمر....
"شغل البيت على الست معروف..."
رفضت ملك وهي ترفع وجهها بغرور...
"أنا طبعًا مش هعمل كده... إن شاء الله هيكون عندي خدامة وطباخ.."
ضحكت شروق وهي تقرص خدها بلطف قائلة بتمني....
"يارب أنا أكره... تكوني أحسن مني... وتحققي كل أحلامك..."
"مش عايزة تعرفي هو مين؟..."
قالت ملك بفتور....
"قولي هو مين..."
قالت شروق باستحياء....
"الشيخ صالح الشافعي... أبو أبرار..."
برقت عينا ملك كاللعاب النارية بالفرح فقفزت من مكانها تسأل أمها بعدم تصديق....
"بجد؟!..... بجد يا ماما هو قالك إنه عايز يتجوزك؟!... "
أومأت شروق مؤكدة فعبرت ملك عن فرحتها العارمة بالخبر وهي تصفق وتقفز في حماس قائلة بجذل....
"يعني هنرجع شقتنا تاني هنشوف تيتة وياسين... وأبرار وهنقعد معاهم على طول... على طول.... "
سألتها شروق بابتسامة مندهشة....
"إن شاء الله... إيه رأيك؟"
قالت ملك بابتهاج....
"موافقة طبعًا... طالما هنرجع تاني.."
حاولت شروق التأكد وهي تدقق في كل لمحة تصدر من ابنتها المبتهجة على غير العادة....
"يعني مش زعلانة؟... "
قالت ملك بابتهاج أكبر....
"مفيش حد زعلان هنا غيرك يا ماما... وكإنك إنتي اللي مش موافقة..."
أطرقت شروق برأسها إلى الأرض وقلبها
يخفق مضطربًا كأفكارها الشائكة.
ففي الحقيقة كانت موافقة ابنتها السريعة أصعب مما توقعت فقد ظنت أن رفض ملك سيكون الستار الذي تختبئ خلفه منه...
لكن لم يعد هناك ساتر يحجبها عنه فالقدر والنصيب يلقيان بها نحوه كلما حاولت الفرار. لم يعد أمامها سوى أن تواجه قدرها بشجاعة وتسير مع التيار !...
كانت نائمة على الفراش وبجوارها تنام ابنتها غارقة في سباتٍ عميق
بينما هي وأفكارها في صراعٍ عنيف... عيناها تحدقان في شقوق السقف المخيفة التي تهدّد بالسقوط منذ سنوات لكنها تأبى الاستسلام متمسكة حتى النهاية تمامًا كوضعها الذي شارف على الانهيار بعد ثبات طويل....
عزفت عن الرجال والزواج مكتفية بابنتها وبحياتها المستقلة حتى وإن كان استقلالها
مُرًّا ومليئًا بالمخاطر فهو يعد استقرارٌ بعيد عن تجبّر الرجال وسطوتهم...
لكن الآن انتهى كل هذا الأمر... فقد انهارت مقاومتها كما انهارت أنوثتها وقلبها على أعتاب الحب وسلمت قلبها دون طلب بين يديه....
لكن متى يسلمها قلبه هو أيضًا ؟!..
مدت يدها تتناول هاتفها تنوي إنهاء الأمر قبل أن تتراجع مرة أخرى...
(أنا موافقة...)
كلمة بسيطة لكنها كانت كفيلة بأن ينير الهاتف باسمِه...
اتسعت عيناها بصدمة وهي تنظر إلى اسمه فلم تمر دقيقتان على وصول الرسالة... هل كان بانتظار ردها على صفيحٍ ساخن؟...
تحرّكت مبتعدة عن الفراش وخرجت إلى الصالة لتجلس على الأريكة نفسها التي جلست عليها منذ ساعات تُبلّغ ابنتها بالأمر...
والآن ستسمع رد ابنته فموافقتها هي الأهم...
ومع ذلك كانت تشعر بالخزي إن تلاقت بعينيها فهي تبدو أمامها امرأة مخادعة استغلت صداقتها وتقربت منها للوصول إلى والدها...
"ألو..."
رد صالح من الجهة الأخرى مع تنهيدة
قصيرة....
(وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته...)
تخضبت وجنتاها بحرج وهي تقول بخفوت
"عامل إيه..."
أجابها مبتسمًا برضا....
(الحمد لله..... في زحام من النِّعم...)
قالت همسًا....
"ربنا يزيدك من فضله..."
قال صالح بهدوء.....
(وانتي إيه أخبارك....وملك عاملة إيه....)
اجابته بخفوت...
"الحمدلله احنا بخير...."
هتف صالح بتساؤل....
(إنتي عندك برد ؟!..)
تنحنحت بحرج شديد قائلة....
"أنا... لا كويسة. ليه بتقول كده..."
رد مبتسمًا...
(صوتك واطي أوي... في حاجة عندك ولا أنا صحيتك من النوم؟...)
قالت بسرعة دون تفكير....
"لا مفيش حاجة من دي... إنت شوفت الرسالة..."
عضت على لسانها وهي تضرب وجنتها موبِّخة نفسها...
رد عليها صالح بوقار...
(أيوه... عشان كده رنيت. مش مبعوتة غلط مش كده؟...)
أجابته بصعوبة وهي تحافظ على ماء وجهها أمامه....
"لا.... مش غلط... ملك موافقة وطالما هي موافقة أنا معنديش مانع... طالما هتفضل معايا..."
رد عليها عابسًا من جملتها الأخيرة...
(أكيد هتفضل معاكي....أمال هتروح فين... على بركة الله كده نـ...)
بترت حديثه بقلة تهذيب قائلة...
"استنى.... كلمت أبرار؟..هي موافقة ولا لأ؟..."
رد بصبر....
(أبرار موافقة..... اطمني...)
فغرت فمها بصدمة واتسعت عيناها وهي تقول....
"أحلف..."
تجهم صالح على الناحية الأخرى معقبًا....
(عفوًا ؟!..)
بلعت ريقها متلعثمة بالقول...
"يعني...مش معقول وافقت..."
نظر صالح للأعلى زافرًا مستغفرًا ثم قال بعدها بصبر....
(يا لله يا وليّ الصابرين... هي موافقة ومش محتاج أحلف عشان أثبتلك صدق كلامي... إحنا أكبر من كده... خلي فيه ثقة في الكلام بينا...)
احمر وجهها بحرج أكبر وهي تتمتم...
"غريبة إنها وافقت..."
عقّب صالح بوجوم....
(قولي إنك إنتي اللي مش موافقة... وكنتي حاطة البنات حجة بينا...)
ساد الصمت بينهما ولم ترد عليه. فقال بصوتٍ رخيم...
(مالك... يـا شـــروق...)
ارتجف قلبها بعنف مع صدى ندائه فلَعقت شفتيها بتوتر مجيبة بكلمة مختصرة الكثير..
"مــرعــوبــة..."
سألها بدهشة...
(مني أنا؟...)
همست بعد تنهيدة...
"مش بالظبط..."
تنحنح صالح وهو يبتلع ريقه متأثرًا بهمستها وتنهيدتها الناعمة ثم قال بثبات....
(لو موافقة... نتكلم في اللي رَعَبِك بس بعد ما نكتب الكتاب... عشان يبقى الكلام بينا على نور.... وأنا باصص في عينيكي...)
عقّبت بجرأتها المعتادة....
"إنت كده كده بتبص في عنيا وإنت بتكلمني..."
ضحك صالح قائلاً بتوضيح...
(بصّة عن بصّة تفرق... ومفيش أحسن من الحلال..... آخر الأسبوع هنكتب الكتاب...)
اتسعت عيناها مبهوتة بعدم تصديق...
"آخر الأسبوع؟!.."
أكّد مبتسمًا وهو يتخيل وقع الخبر على ملامحها....
(آخر الأسبوع...)
تشدقت ذاهلة....
"مش قريب كده..."
رد بنبرة رصينة يخفي خلفها فوران من المشاعر المتأججة....
(ده بعيد أوي...)
تسارعت أنفاسها المتوترة وهي تقول برفض
"مش هينفع... أنا..."
قاطعها صالح بقلة صبر....
(روحي نامي يا شروق...)
قالت باحتجاج مُصرّة.....
"صالح.... مش هينفع ده بسرعة أوي..."
رد بصوت هادئ....
(تصبحي على خير يا شروق...)
عَلَتْ صوتها بغيظ....
"يا شـيـخ صــالـح..."
أعطاها الإجابة الأخيرة قبل أن يُغلق الخط....
(آخر الأسبوع... حضّري نفسك...)
ثم أنهى الاتصال مكتفيًا بهذا القدر معها بينما بقيت هي تردد الكلمتين كالمصعوقة حتى غلبها النعاس فوق الأريكة.....
...............................................................
أجرى أيوب اتصالًا آخر بها وهو يقف أمام النافذة بأعصابٍ تحترق كلما استمر رنين الاتصال دون جدوى فهي تتجاهل الرد عليه منذ أن خرجت من الشركة قبل نصف ساعة...
"ها يا أيوب هنبدأ الاجتماع إمتى؟...العملاء مستنيين..."
قالتها ليان وهي تقف خلفه وبين يديها ملف التصاميم.....
التفت إليها أيوب بملامح قانطة...
"نغم مش بترد... متعرفيش راحت فين؟"
قالت ليان مع حركة بسيطة من كتفها...
"لا.... هي نزلت على طول... وطبيعي ما سألتهاش...."
زفر أيوب بقلق وصدره يشتعل كأتون
حارق....
"أنا قلقان عليها..."
ضغطت ليان على باطن شفتيها بغيظ محافظة على رباطة جأشها وهي تقول بثبات....
"هتكون راحت فين.... يمكن خدت بريك وهتقعد في مكان قريب من هنا... أو يمكن راحت تشوف حد من صحابها... ممكن تكون عند جيداء..."
انتفض أيوب انتفاضة قوية كمن يصارع أبشع كوابيسه ويبدو أن توقعها أثار في نفسه شيئًا يخشاه بشدة...
"جيداء؟!..."
أومأت برأسها ولم تلاحظ تغيره الجذري وهي تسأله بفضول...
"صحيح يا أيوب.... هي جيداء سابت الشغل ليه وإزاي نغم وافقت على استقالتها... دول ماكنوش يقدروا يستغنوا عن بعض..."
رد أيوب متجهمًا...
"معنديش إجابات على أسئلتك... اسألي صحاب الشأن..."
ضاقت عينا ليان بشكٍّ أكبر والغيرة تنشب
في قلبها..
"غريبة مع إني حاسة إنك ورا كل التغيرات اللي بتحصل حوالينا... بالذات مع نغم..."
تأفف أيوب بضيق شديد وهو ينوي الخروج من المكان بأكمله...
"الغي الاجتماع يا ليان... واضح إن نغم مش هترجع دلوقتي..."
وأمام عينيها المصعوقتين خرج دون أن
ينتظر ردها.....
استقل أيوب سيارته النصف نقل وهو يجري اتصالًا بصديقه وحين فُتح الخط سريعًا قال بعصبية ونفاد صبر....
"سلامة اسمعني وخف رغي... الحاجات اللي معاك تطلع بيها على النيابة وتحصّلني على عنوان شقة جيداء...أكيد عارفه طبعا... "
سمع سؤال صديقه فأجابه وهو يرجع خصلات شعره للخلف بعصبية كاد يقتلعه من جذوره وهو يرد بنبرة حانقة تقطر ندمًا....
"اللي حصل إني اتغبيت وبعتلها التسجيل اللي معايا...واحتمال كبير تكون راحت للزفتة دي برجليها... وأنا مضمنش اللي ممكن تعمله فيها لو اتاخرت أكتر من كده عليها..."
ثم أدار محرك السيارة وهو يستجدي صديقه قائلًا بصوتٍ يختنق من هول الخوف عليها وتصوره للأبشع....
"بسرعة يا سلامة... اتصرف..."
.................................................................
كانت منسدحة على الأريكة تقشّر تفاحة بسكين حاد بينما عيناها معلقتان على الشاشة والتي تعرض عليها فيلم دموي عن امرأة تتخلّص من جثة صديقتها بعد أن طعنتها
عدة مرات متتالية !....
كانت عيناها تلمعان بنشوة الانتقام وهي تفكر لو كان باستطاعتها فعلها يومًا...
ضحكت جيداء بسعادة وهي تسمع صرخات الضحية لطالما تخيلت نغم مكانها وهي تنهال عليها بالطعنات دون رحمة...
صدح جرس باب الشقة فنهضت بتكاسل وهي تضع قطعة من التفاح في فمها تمضغها مستلذّة بطعمها...
فتحت الباب وارتفع حاجبها بدهشة وهي ترى ضحيتها أمامها تأتي إلى عقر دارها مسالمة بقدرها...
ابتسمت جيداء ولمعت عيناها بجنون وهي تقول برقة....
"إيه ده... معقول نغم هنا؟!... تعالي ادخلي..."
دلفت نغم بخطوات هادئة ورغم ثباتها وجمود ملامحها ونظراتها إلا أن شعورًا بالارتياع انتابها لثوانٍ ثم نفضته متسلحة بشجاعتها وثباتها...
قالت بصرامة....
"أنا مش جاية أقعد ولا أضيف... أنا جاية أعرف الحقيقة منك."
قالت جيداء بنظرة خبيثة...
"حقيقة إيه... خيانة أيوب ليكي؟"
تمالكت نغم أعصابها بقدر المستطاع قائلة بصلابة...
"طلعي أيوب من الموضوع... وركزي معايا يا جيداء... يا صاحبة عمري اللي اكتشفت إني كنت مخدوعة فيها طول السنين دي كلها."
بنظرة سوداوية ردت جيداء بمكر....
"معقول ناوية تخسريني عشان واحد جربوع زي ده؟!.... إنتي مش عارفة أنا بحبك قد إيه
يا نغم..."
فقدت نغم أعصابها وصاحت بغضب هائل...
"قولتلك ما تدخليش أيوب في الكلام أنا
جاية بخصوص آسر... آسر العزبي... اللي طلعتي كنتي متجوزاه في السر وحامل
منه كمان..."
سألتها ببرود وكأن كشف الحقيقة لم يعد صادمًا بالنسبة لها...
"ومين اللي قالك؟"
ارتفع حاجب نغم متشدقة بسخط...
"هو ده كل اللي همك... طب أنا هريحك... عدي اللي قالي... ها إيه ردك؟!"
ثم استأنفت حديثها والحيرة تعلو وجهها مع صدمة تلازم نظراتها المليئة بالخذلان والقهر..
"كنتي مستغفلاني إنتي وهو طول السنين دي طب إزاي كان في بينكم جواز وطفل وأنا عمري ما شوفتكم بتتكلموا كلمتين مع بعض حتى أيام الجامعة... هو أنا كنت مغفلة للدرجة دي؟!.... "
ظلت جيداء مكانها تتابع حديثها بنظرة باردة وملامح أقرب لمسخ مشوّه الروح قبل الملامح...
سألتها نغم بصوتٍ خافت متهدج يملؤه
الرهبة من سماع حقيقة صارت ظاهرة للأعمى...
"إنتي اللي قتلتيه يا جيداء مش كده والرسالة... إنتي اللي كتبتيها ردي عليا... ما تفضليش واقفة كده ساكتة... أنا بكلمك.. "
همست جيداء بلا تعبير...
"هو اللي كتبها بإيده وهو بيطلع في الروح..."
ازدردت نغم لعابها بوجل ثم سألتها
بحذر....
"إنتي كنتي معاه وقتها... مش كده؟"
أجابتها جيداء...
"عايزة تعرفي الحقيقة؟"
أكدت نغم بأعصاب منهارة...
"أكيد... مش محتاجة سؤال..."
ارتسمت على شفتي جيداء ابتسامة ماكرة تفضح نيران انتقامها...
"بس الحقيقة هتكلفك كتير..."
عيل صبر نغم فصاحت بعنف...
"بلاش تكلميني بالألغاز ردي عليا... أنا عايزة أعرف الحقيقة وبأي تمن... "
طل الشر من عيني جيداء وهي تقول بلؤم...
"زي ما تحبي... إنتي اللي قولتي بأي تمن..."
بلعت نغم ريقها بتوتر والخوف يكتسح أوصالها ومع ذلك تسلّحت بالشجاعة
والثبات تسألها
"إنتي اللي قتلتيه؟!..."
جلست جيداء على الأريكة تناولت بيدها السكين وقطعة من التفاح ثم بدأت تقشرها بهدوء وهي تقص الأمر وكأنها تحكي جريمة من كتاب....
"أيوه أنا... أنا اللي قتلت آسر العزبي... وأنا كمان اللي أجبرته يكتب الكلمتين دول على الورقة.... إنك إنتي سبب انتحاره..."
ثم وضعت قطعة التفاح في فمها ومضغتها ببطء يثير الأعصاب وهي تضيف باستمتاع مريض...
"على أمل إني أديله تليفونه يستنجد بأي حد يلحقه... لكن هو غبي... مش قادر يفهم إنه
كده كده ميت... كتب الرسالة أو لأ..."
تراجعت نغم خطوة للخلف وهي تنظر إليها مليًا برهبة حقيقية وكأنها أمام شيطان في هيئة صديقتها...
قالت نغم بصوتٍ يتقطع على صخرة الحقيقة الصادمة....
"إزاي... إزاي إنتي تعملي كده... تقتلي؟! معقول؟!... "
حدجتها جيداء بنظرة ثاقبة وهي تؤكد دون ذرة ندم...
"وليه مش معقول؟!...كان يستحق الموت بدل المرة ألف مرة... ولو رجع بيا الزمن هكرر اللي عملته مليون مرة..."
صاحت نغم مستنكرة...
"وليه من الأول قبلتي... قبلتي تتجوزي في السر؟!... "
لمعت عينا جيداء بالحسرة وهي تقول
ببشاعة....
"عشان هبلة... كنت بحبه... وكنت فاكرة إني معاه هلاقي سعادتي... كنت فاكرة إني هقدر أخليه ينساكي ويبقى ليا أنا لوحدي... بس فشلت... فشلت إني أكون في قلبه وعقله..."
حدقت فيها نغم طويلًا قبل أن تنطق بصوتٍ مثقل بالخذلان والوجع...
"وأنا ذنبي إيه؟!...أعيش شهور طويلة في رعب وقلق بتلفت حوالين نفسي وكأني عاملة عمله..... نيابة واستجواب ومحامين وقضية مفتوحة وأنا المتهمة الوحيدة في نظر
القانون والناس...
"حتى شكري العزبي ما كانش سايبني في حالي كان زي المجنون بيدور عليا في كل حتة... حتى الشخص اللي حبيته واطمنت معاه طلع شغال لحسابه... ذنبي إيه أعيش
كل ده بسببك؟!... "
تجمعت الدموع في عيني نغم بينما أضافت بصوتٍ مبحوح مثخن بالجراح....
"ده أنا كنت برمي نفسي في حضنك إنتي يا جيداء وبعيط وأشكيلك همي ورعبي من اللي جاي... كنتي إنتي الوحيدة اللي بتطمنيني وتقوليلّي هتعدي... والقضية هتتقفل...
" وتقعدي تشتمي فيه وفي أبوه وتقوليلي
عليهم دول عالم مجانين وإن شاء الله هتخلصي منهم قريب...
" وفي الآخر أكتشف إنك إنتي اللي قتلاه... والرسالة فكرتك إنتي... عشان أعيش عمري كله في عذاب ضمير... ولو ماخدتش حكم جنائي....آخد حكم بالإعدام على إيد أبوه... "
صرخت نغم باهتياج...
"إنتي إزاي جالك قلب تعملي فيا كده؟!... أنا كنت باعتبرك أختي... أختي.. إزاي جالك قلب تأذيني وأنا ما كنتش بطيق عليكي حاجة.. "
نظرت حولها كالتائهة وتابعت بوهن...
"أيوب كان بيحذرني منك... وبابا قبله... وأنا كنت بقف أدافع عنك قصاد الكل وكأنهم أعدائي... بس عشان كنت شايفاكي حاجة كبيرة عندي... ليه عملتي فيا كده أنا أذيتك في إيه؟!... "
هزت جيداء رأسها باستخفاف معقبة...
"وكمان بتسألي أذيتيني في إيه؟!"
وصلت نغم إلى ذروة غضبها فصرخت
عليها...
"أيوه بسأل.... أذيتك في إيه أنا؟!.... انطقي"
هبت جيداء واقفة وانطلقت صرختها مشتعلة بالحقد الأسود...
"خدتي كل حاجة مني يا نغم النجاح... حب الناس... الغِنى... حتى الإنسان الوحيد اللي حبيته حبك إنتي... مش أنا... "
عقبت نغم باستهزاء منفعلة...
"وده سبب يبرر عملتك السودة؟!... يبرر إنك تقتلي روح..... وتحطيني أنا في الصورة؟!"
بابتسامة مريضة ردّت جيداء...
"والله دي أقل حاجة أقدمها ليكي... إحنا
مش صحاب ولا إيه؟!"
استشاطت نغم غضبًا مذهولة من قدرة تلك المخلوقة على تزيف كل شيء فنظرت إليها بازدراء وقالت بقرف ممتعضة...
"اللي زيك ما يعرفش حاجة اسمها صحاب... إنتي غدارة... والغدر بيجري في دمك... غلك وحقدك وصلك للي إنتي فيه... "
أومأت جيداء برأسها مؤكدة بعينين تلمعان بالضغائن...
"بالظبط... الغل والحقد دول اتربّوا على إيدك إنتي.... إنتي اللي خليتيني أبقى كده... كنتي بتعامليني زي أي حد شغال عندك... مرمطون إحنا عمرنا ما كنا صحاب يا نغم... إنتي كنتي بتعطفي عليا... مش أكتر..."
هتفت نغم بصوت محتد...
"كدابة أنا طول عمري باعتبرك أختي... بس حتى لو كان عطف زي ما إنتي شايفاه... فلو كنت بعطف على كلب كان هيبقى أوفى منك.... "
جزت جيداء على أسنانها وبعينين تلمعان
بالثأر قالت...
"تعرفي أنا ندمانة على إيه بجد....إني ما خلصتش عليكي إنتي كمان وقتها كان المفروض أخلص منكم إنتوا الاتنين مرة واحدة... بس ملحوقة...
أنا كده كده حاجزة تذكرة طيران... ومسافرة قريب..."
قبضت جيداء على السكين وهي تقول بابتسامة تتوهج بنشوة الثأر....
"وطبعًا الواحد لازم قبل ما يسافر يصفّي حساباته القديمة... وإنتي حساب قديم
يا نغم... وجه وقته..."
في اللحظة التالية انقضت عليها محاولة غرس السكين في صدرها فتشبثت نغم بذراعها بكل قوتها وهي تصرخ مذعورة محاولة دفعها بعيدًا عنها....
"ابعدي عني... إنتي مجنونة... "
تراجعت نغم بخطوات متعثّرة إلى الخلف حتى ارتطم ظهرها بالجدار وبكلتا يديها تمسك السكين محاولةً إبعادها عن صدرها بينما كانت جيداء تصوبها مباشرة نحو قلبها لتكون الطعنة القاضية...
قالت جيداء من بين أسنانها بغضب أسود...
"كان لازم قبل ما تفكري تيجي هنا تحسبيها صح... ما هو اللي يقتل مرة... قادر يقتل التانية..."
"ابعدي عني بقولك...."
دفعتها نغم بقوة فتراجعت جيداء مترنّحة للخلف وكادت أن تسقط على ظهرها أرضًا لولا أنها تداركت نفسها في اللحظة الأخيرة...
بمجرد أن لمحت نغم تحاول الخروج من الشقة انقضّت عليها مجددًا وأسقطتها أرضًا لتقع فوقها وتكبل حركتها بقوة فيما كان نصل السكين يلمع قريبًا من وجه نغم المذعورة التي كانت تدافع عن نفسها بكل ما تملك
من قوة...
همست لها جيداء بجنون....
"سهل أخفي جثتك في أي حتة في الشقة... يومين ومسافرة... مش هتلحق جثتك تطلع ريحة..... مش كده؟!"
ارتعشت نغم بهلع وهي تغمض عينيها بقوة بعدما اقترب نصل السكين من عينيها على
بُعد شعرة منها....
همست بصوتٍ اختنق ببكائها....
"ابعدي عني... يا مجنونة... ابعدي..."
وفجأة دوى صوت طرقات عنيفة على الباب يتبعها صوت أيوب وهو يهتف بقوة ملهوفة
"نغــــم... نغــــم افتحي..... افتحي الباب.. "
انتفضت جيداء بصدمة رافعة نصل السكين بعيدًا عن عيني نغم في اللحظة الأخيرة لتلتفت نحو الباب المغلق حيث استمر
أيوب يدفع جسده بعنف محاولًا كسره...
جزّت جيداء على أسنانها بقوة والغل يشتعل في عينيها القاتمتين وهي تهمس باسمه بكراهية....
"أيوب عبدالعظيم..."
ثم التفتت نحو نغم تحدّق بها بعدائية
مرعبة....
"جبتي منين ده؟!... من يوم ما دخل حياتك وهو بوظ كل حاجة خططت لها... "
استغلت نغم لحظة التشتت تلك فدفعتها من فوقها بقوة هائلة ونهضت راكضة نحو الباب صارخة باستغاثة....
"أيــــوب... أيــــوب الحقنييييي"
سمع أيوب صوتها من الداخل فزاد ضغطه بجسده حتى انفتح الباب عنوة بعد محاولات عنيفة...
لكن اللحظة كانت دامية إذ تلقّت نغم طعنة في بطنها أمام عينيه مباشرة وكادت جيداء
ان تواصل طعناتها المتتالية لولا دخول
أيوب عرقلها....
سقطت نغم أرضًا فاقدة الوعي بعد طعنة واحده بينما صرخ أيوب باسمها وقد هربت الدم من وجهه حتى صار صفحة بيضاء من هول المشهد واقفًا مكانه مبهوتًا عاجزًا عن استيعاب ما حدث أمامه
"نــغــم.... "
اقترب أيوب من جيداء كالمغيَّب وانفجر غضبه دفعة واحده فاقد رشده وهو يصفع جيداء بعنف متكرر حتى سالت الدماء من
بين شفتيها وأنفها....
"عملتي كده ليه فيها؟!.... ليه يا بنت الـ**"
ثم انقض على عنقها بكلتي يديه يطبق عليها بقوة لا يرى أمامه سوى صورة نغم الملقاة أرضًا غارقة في دمائها...
شحب وجه جيداء وانسحب الهواء من رئتيها وبدأت تتخبط في محاولة يائسة لتفلت من قبضته... لكن يداه كانتا تطبقان على عنقها كأغلال حديدية لا فكاك منها....
في تلك اللحظة دلف سلامة إلى الشقة المفتوحة ومعه رجال الشرطة.....
اتسعت عينا سلامة بذهول وهو يرى نغم مطروحة أرضًا مطعونة وغارقة في دمائها...
لكن سرعان ما تخلص من صدمته وهو يرى صديقه يوشك على ضياع مستقبله في لحظة غضب يدنس يده بقتل حية لا تستحق.
"أيــوب اهدى.....أهدى ما تضيعش نفسك"
دفعه سلامة بقوة مُبعدًا إياه عن جيداء فيما انقض رجال الشرطة عليها وقيدوا ذراعيها بالأصفاد...
فهي أمام القانون ارتكبت جريمتين قتل وليست واحدة !.....
ارتد أيوب إلى الوراء وهو يلهث بعنف أنفاسه المتلاحقة تتفجر من صدرٍ يغلي كبركان ثائر... ثم ركض نحو نغم محاولًا إيقاظها...
"نــــغــــم...... نــــغــــم ردي عليا..... "
صاح سلامة بنفاد صبر محاولًا إعادته إلى رشده...
"خلينا نطلع بيها على أقرب مستشفى... لو استنينا الإسعاف دمها هيتصفّى.... "
حملها أيوب بين ذراعيه بسرعة مندفعًا خارج الشقة يتبعه سلامة كي يتولى القيادة بدلًا منه فلو قاد أيوب في حالته تلك لهلك ثلاثتهم على الطريق !...
"هتبقي كويسة يا حبيبتي...هتبقي كويسة..."
كان يتمتم بتلك الكلمات وهو يضمها إلى صدره المنتفض بوجل وعيناه المرتعبتان لا تفارقان وجهها الشاحب الذي انسحبت منه معالم الحياة كقطعة ثلج بيضاء
لا يطمئنه سوى ارتعاشة أنفاسها البطيئة وخفقات قلبها الضعيفة كأنها آخر خيط
يربطها بالحياة... وبه هو !...