رواية اشتد قيد الهوي الفصل السادس والعشرون 26 بقلم دهب عطية


 رواية اشتد قيد الهوي الفصل السادس والعشرون 

وكلُّ حروبِ العالمِ تهون أمام سلامِ عينيكِ لكن ماذا لو أصبحت عيناكِ حربًا تُهدِّد سلام قلبي!

يشعر بأن قلبه يُنتزع من مكانه بقسوة بينما صدره يختلج بالخوف عليها وهو يقف أمام غرفة العمليات ينتظر بغير هوادة خروجها بأعصابٍ تحترق مع كل دقيقة تمر عليه هنا دون خبر يطمئنه....

يخشى خسارتها…خسارة حبيبته لن يُعوِّضها عمر ولن يحتملها صبر ولا قلبه قادر على تصورها.

"يا رب…"

نظر أيوب إلى السماء وقلبه يدعو بما يعجز لسانه عن قوله...

ما زالت صورتها وهي تُطعَن أمام عينيه تنحر قلبه ورجولته بقسوة فكيف عجز عن حمايتها وهي أمانته !

كيف دفعها بغباءٍ لتذهب إلى تلك الحيّة؟

وكيف هانت عليها نفسها لتُعرّضها للخطر 
بهذا الشكل المخزي؟

"أيوب…"

التفت برأسه يرفع عينيه الحمراء إلى أخته التي جاءت للتو بعد اتصاله بها منذ نصف ساعة كي تأتي إلى عنوان المشفى دون أن يُعطيها تفاصيل عمّا حدث.

هرولت نهاد نحوه بخطوات سريعة الدموع تتجمع في مقلتيها والخوف يستوطن قلبها المرتجف بعدما رأت أخاها يقف أمام غرفة العمليات وقميصه متشرب بالدماء الجافة

وأول ما خطر في عقلها (سلامة) فمن غيره يُوقع نفسه في المصائب ويجر الجميع خلفه؟!

من قادر على إذلالها وإرهاق قلبها غيره؟!

إنه معذبها قبل أن يكون حبيبها..يعرف جيدًا كيف يُضني قلبها ويسقيها الويلات...

أمسك أيوب بذراعيها يهدّئ من روعها وقبل أن تتفوه بما قد تندم عليه كان أسرع منها قائلاً....

"متخافيش يا نهاد.. أنا كويس نغم هي اللي في أوضة العملياتادعيلها."

ارتاح قلبها قليلًا لكن سرعان ما أخذت الصدمة مسارًا آخر إذ اجتاحها شعور مرير بالأسى والحزن على نغم وما تعرضت له…نغم 
حبيبة أخيها....

أخيها الذي بالكاد يقف بصعوبة أمامها بينما حالته تُشي بانهيار كبير.. وجهه أسود ملامحه متقطبة بخطوط غليظة تنطق بالحزن والهلع
عيناه محمرتان كجمرٍ متقد تحيط بهما هالات قاتمة....

سالت دموع نهاد وهي تتحسس قميص أخيها الملطخ بالدماء سائلةً....

"ومين عمل فيها كده؟…"

"صاحبتها…"

في تلك اللحظة جحظت عيناها بصدمة كبرى وشعرت أن الإجابة ليست في مكانها الصحيح

هل يسخر منها في موقف حساس كهذا؟!

"أنا بتكلم بجد يا أيوب…"

نظرت إلى أخيها بحنق بالغ مُصرة على سماع الحقيقة لكن ملامحه المتصلبة ونظرته الثاقبة أكدت أنه لا يسخر ولا يحتمل قول مزحة سخيفة كتلك...

أجابها أيوب بوجوم...

"المفروض إنها صاحبتها…"

وضعت يدها على فمها تكتم شهقة مصدومة بعد تلك الحقيقة المخزية فمن فعلت ذلك صديقة… ماذا تركت إذًا للعدو ؟!....

وكل من خدعونا وسلبوا حقوقنا منا كانوا الأقرب إلى قلوبنا...لم نحترز منهم كما 
احترزنا من أعدائنا !....

ربّتت نهاد على كتف أخيها وهي تقول برقة

"إن شاء الله هتكون بخير... هي اتصابت فين؟.... "

أجابها أيوب شاعراً بشفرة مسنّنة تقف في حلقه كلما مرّ طيف الحادث في عقله....

"في بطنها... ضربتها بسكينة في بطنها..."

انكمشت ملامح نهاد بارتياع مشفقة عليها فقالت بهدوء محاولة بثّ الطمأنينة إليه...

"إن شاء الله خير... يمكن الجرح محتاج خياطة مش أكتر..."

هتف أيوب بلوعة وعيناه معلقتان على باب غرفة العمليات....

"محدش راضي يطمني يا نهاد... بقالهم ساعتين جوا محدش بيقول حاجة..."

هدأت نهاد من روعه وهي تستفسر منه...

"دلوقتي هنعرف...اصبر يا أيوب... إنت بلغت باباها؟... "

هز أيوب رأسه وهو يستند على الحائط بعجز قائلاً بخزي مرير....

"أبلغه بإيه؟.... إني مقدرتش أحمي بنته لا من الناس اللي حواليها ولا من نفسها... أبلّغه إنها بين الحياة والموت بسبب غبائي؟"

قطبت نهاد جبينها ولم تعجبها لهجته فقالت بحرقة مدافعة.....

"وإنت كان إيه ذنبك يا أيوب؟... دا قدرها... وبعدين حياتها متلغمة بالخطر من أول يوم شوفتها فيه.... وإنت بنفسك عارف ده أكتر مننا..."

ضرب بقبضته على الحائط قائلاً بأعصاب تحترق بالذنب....

"بس كانت أمانتي يا نهاد... أمانة معرفتش أحافظ عليها... مكنتش قد الوعد اللي اديته لأبوها ولا ليها..."

غامت عينا نهاد بالحزن والغصّة نمت في حلقها بقسوة على سيرة الوعود الكاذبة
فقالت بتجهّم....

"مش كلنا قادرين نوفي بالوعود يا أيوب... على الأقل إنت حاولت أكتر من مرة... واللي حصل خارج عن إرادتك..."

ثم زمت فمها بخفوت قائلة....

"غيرك مخدش خطوة واحدة... واستسلم..."

نظر لها أيوب بتساؤل...

"تقصدِي مين؟!... "

أجابته نهاد بسخط مرير....

"ناس... ناس أعرفهم شاطرين في الكلام 
مش أكتر..."

ثم مدّت له الكيس الذي كانت تحمله مع حقيبة يدها....

"خد الغيار اللي طلبته مني.. روح غير هدومك في أي حمام.... وأنا هقعد هنا أستنى..."

رفض أيوب وعيناه تأبيان الابتعاد عن 
حبيبته....

"لما تخرج الأول نغم..."

زفرت نهاد بضيق فأصبحت رؤية الأحبة ترهق قلبها... باتت كارهة لكل شعور يضعف فؤادها فيجعلها تشتاق إلى معذّبها أكثر....

قالت له بصبر....

"يا أيوب ما إنت بقالك ساعتين واقف... شوفتها خرجت؟.... أصبر شوية... روح غير هدومك وأنا مكانك أطمن لو في أي حاجة هعرفك..."

لاح التردد في عينيه قليلاً لكنها دفعته للذهاب بعينيها وبعض الكلمات المقنعة حتى استجاب لها قائلاً....

"دقيقتين وهرجع..."

غادر أمام عينيها بينما هي جلست على أقرب مقعد أمام غرفة العمليات هامسة بقلق....

"يا رب عديها على خير... نجيها يا رب..."

ثم أخرجت هاتفها وراحت تلهي عقلها به 
حتى ينتهي الوقت سريعًا...

لكن لم تمر الدقائق حتى شعرت أنها عرضة للمراقبة فرفعت عينيها نحوه...

لتراه يقترب منها بخطوات مترددة ويبدو أنه تفاجأ من وجودها كذلك...

خفق قلبها عنوةً عنها يناديه بلهفة المحب

بينما عقلها يتمرد على الموقف برمّته يذكرها بأيام طويلة وحيدة قاتمة قضتها على فراشها تتشرب وسادتها كل ليلة من شلال دموع متحسّرة لا تنضب من مقلتَيها... 

كانت تكتم شهقات الأسى والوجع عن آذان الجميع بينما تصم أذنيها وعوده الكاذبة وكلماته الجارحة....

هانت عليه لأكثر من شهر لا يعرف عنها شيئًا وغير مهتم بالمعرفة وكأنها صفحة في كتاب مزّقت وانتهى أمرها...

تلاقت عيناها بعينيه في حوارٍ طويل قاسٍ وكاد سلامة أن يسقط على وجهه لكنه تماسك في آخر لحظة وهو يتشبث بصلابة يفتقدها أمامها....

يبدو كطفل مذنب...كمراهق أهوج... كرجل متلاعب حقير... يبدو صورة لكل ما هو سيئ في عينيها....

لماذا ظهرت أمامه الآن وهو الذي كان يتهرب من لقائها ويضع الحجر على قلبه حتى يموت ألمًا ولا يستسلم للشوق ويتصل بها...

كان الاتصال أهون من مقابلة عينيكِ ففيهما رأيت خيباتي وخذلانك في...

نظراتك كانت بمثابة طعنات تعرف كيف تزيد أوجاعي وشقاء قلبي...

حين أصبح بينه وبينها خطوتين أبعدت نهاد عينيها عنه ناظرة إلى هاتفها بينما هو جلس على نفس صف المقاعد لكن بينهما مقعد فارغ وكأنه المسافة الآمنة التي اتخذها !...

بحث سلامة بعينيه عن أيوب فلم يجده بالجوار فرفع عينيه إليها طال النظر إلى
جانب وجهها قبل أن يسألها بخفوت...

"أيوب فين؟... "

أخذت وقتها في الرد لدرجة أنه ظن أنها لن تجيبه أو أنها لم تسمعه من الأساس لكنها أجابت على مضض...

"بيغير هدومه... بهدوم نضيفة جبتها معايا..."

"هو اللي كلمك؟... "

سألها فاكتفت بإيماءة بسيطة...

أخرج سلامة علبة عصير من الكيس الذي جلبه معه وناولها لها قائلاً بتهذيب....

"اتفضلي يا دكتورة..."

"شكرًا..." لم تكلّف نفسها النظر إليه وهي تجيب بأدب....

مط سلامة فمه وهو يعيد العلبة مكانها قائلاً..

"سحبوا من أيوب دم كتير عشان نغم... فقولت أروح أجبله عصير لحسن يقع من طوله..."

ردّت بفتور..... "فيك الخير..."

اغتاظ سلامة من ردها فقال باحتجاج....

"مش بقولك كده عشان أسمع الكلمة دي..."

رفعت عينيها إليه بعصبية مستهجنة...

"أمال إنت عايز تسمع إيه؟!..."

نظر سلامة إلى عينيها طويلاً بشوق متأجّج بين أضلعه يشعر من شدة خفقات قلبه أنه سيسقط الآن بين يديها منصهرًا بعذاب...

تحركت شفتا سلامة هامسًا بضياع...

"مش عارف... مش عارف يا نـهـاد..."

شعرت بقشعريرة تسري في سائر جسدها بلعت ريقها بضعف وهي تشيح بوجهها عنه...

"نــهــاد..."

همس باسمها وهو لا يعرف ماذا يريد بالضبط منها... فأمام عينيها فقد كل الذرائع للفراق وبقت عيناها ذريعة اللقاء !...

عادت إلى عينيه تغرقه في أمواج عتابها
قائلة....

"لسه فاكر إن في واحدة في حياتك كان اسمها نـهـاد؟... "

رد بصوتٍ معذب...

"على أساس إنك خرجتي من حياتي؟"

تبرمت مجيبة....

"تقريبًا خرجت بأمر منك..."

هتف دون تفكير بحديث يرجع المياه إلى منابعها....

"بس مخرجتيش من قلبي...حتى لو أنا عايز ده..."

ظهر الاستهجان في عينيها وهي تقول 
بسخط....

"والمفروض الكلام ده يزعلني ولا يفرحني؟"

أخبرها سلامة بصوت خافت معذّب بينما عيناه تجريان على ملامحها وعينيها بشوق يصعب إخماده....

"مش هنعيدوا تاني يا نهاد... اللي حصل إنتي اللي مستفاده منه مش أنا... الأحسن إنك تبعدي عني... أنا هعطلك عن مستقبلك وحياتك..."

تشدقت نهاد معقّبة بسخرية قاتمة....

"مستفاده؟!....مستفادة  إنك تجرحني توعدني وتخلف كل وعد قولته ليا؟!... مستفاده إني في لحظة أبقى بالنسبالك ولا حاجة؟!...

"إنت عامل مستقبلي الحجة اللي بتعلق عليها فشلك...وبتحمّلني أنا الذنب ده..."

كلمة فشل أثارت حفيظته وعرّته أمام مرآة الحقيقة فتفوّه بترهات جارحة...

"أنا محملتش حد ذنبي... هي واضحة من الأول إني مش هعرف أحقق حاجة من اللي
وعدتك بيها... وإنتي اللي كملتي... يبقى بلاش تلوميني ولومي نفسك الأول..."

اتسعت عيناها وكانت كلماته القاسية بمثابة
لدغة مسممة أصابتها في مقتلها فانتفضت نهاد من مكانها قائلة بصوت مثقل بالجراح تردّد صداه في صدره....

"صح... أنا إنسانة متربتش... عشان وثقت فيك كلمتك في التليفون...وحبيت فيك...وخرجت معاك... وخنت ثقة أهلي وثقة أخويا اللي هو صاحبك...الذنب ذنبي...إنت بريء..."

رآها تبتعد عنه تنوي المغادرة فلحق بها ومسك ذراعها يديرها إليه...

"نـهـاد..."

نزعت ذراعها عنه بغضب وهي تنظر إليه 
شزرًا فما قيل منه وما حدث في السابق
بات فوق تحملها...

ما عادت قادرة على الاستهانة بمشاعرها وكرامتها أكثر معه..يكفي كل تضحية قدمتها في سبيل أن تكون معه كما تتمنى...

لكن بعد الأماني يجب ألا تتحقق اتقاءً لشرها... فما يحجبه الله عنك خيرٌ لك....

"سيب إيدي... وإياك تقربلي أو تنطق اسمي تاني...إحنا انتهينا...

وانت نهيت اللي بينا في الأول وبعد كلامك دلوقتي وقسوة قلبك وأفعالك معايا قبلها...

أنا اللي بقولك مش عايزاك... مش عايزاك يا سلامة... الله يسهلك مع اللي تقدر تسعدك وتعمل اللي أنا مقدرتش أعمله..."

في تلك اللحظة فُتح باب غرفة العمليات وخرجت نغم على سرير النقال بمساعدة الممرضين بينما تركته نهاد وهي تمسح 
دموعها مقتربة من نغم الفاقدة وعيها من
آثار المخدر...

بقي سلامة طويلاً مكانه ينظر إلى أثرها وهي تبتعد عنه برفقة الطبيب التي تسأله عن حالة نغم معرّفة عن نفسها بفخر أنها طالبة في كلية الطب !...
................................................................
رمشت بجفنيها عدة مرات محاولةً النظر لكن الإضاءة انعكست على عينيها فأغمضتهما مجددًا منزعحة مستشعرة الألم يسري في أنحاء جسدها...

"نغم... حبيبتي سامعاني؟"

همسه العذب بالقرب من أذنها ولمسة يديه التي تعانق كفها بدفءٍ حانٍ...

كيف يمكن أن تصبح اللمسة كذبة بكل ما تحمله من مشاعر عاطفية جياشة؟....

تنهدت وهي تفتح عينيها مجددًا متحاملةً على نفسها كي تراه وترى المكان من حولها...

فتحت نغم عينيها وحركت حدقتيها في الغرفة الشاسعة البيضاء فتأكد ظنها أنها 
في المشفى...

ثم وقعت عيناها عليه يجلس على المقعد بجوار حافة الفراش منحني قليلًا نحوها
عيناه متلهفتان إليها ترصدان كل لمحة فيها بشوق ناهم بينما يداه تضمّان يدها المرتاحة بين كفّيه.... 

ابتسم لعينيها ناطقًا بالحمد ثم قال...

"أخيرًا فوقتي..نشّفتي ريقي الكام ساعة اللي فاتوا دول..."

أبعدت عينيها عنه عاقدة حاجبيها بألم..
فهتف أيوب بلهفة...

"حاسّة بحاجة؟..... أنادي الدكتور؟"

قالت نغم بنبرة خافتة متعبة....

"الجرح وجعني شوية... إيه اللي حصل؟"

سألها أيوب بنظرة لائمة...

"فيكي... ولا في اللي وصلتك لهنا؟"

سألته دون تعبير...

"وجيداء؟...... اتقبض عليها؟"

زفر بجزع وهو يقول بوجوم....

"وزمانهم بيحققوا معاها... اطمني القضية
بقت قضيتين بعد ما حاولت تقتلك..."

ثم استأنف الحديث قائلًا بحنق شديد...

"إيه اللي خلاكي تروحي عندها يا نغم؟ 
في حد عاقل يعمل كده؟... "

قالت بحزن دفين دون النظر إلى عينيه...

"كان عندي أمل تكون متورطة بس مش 
هي اللي قتلت..."

سخر أيوب معقبًا...

"هتفرق يعني؟..."

أكّدت نغم بصوتٍ متخاذل...

"هتفرق عندي.... لأني كنت واثقة فيها ومعتبرّاها أختي مش مجرد صاحبتي..."

مال أيوب على كفها يطبع قبلة طويلة عليها هامسًا بصوتٍ أجش...

"ده درس يعلمك... إنك متأمنيش لحد... وتاخدي حذرك من اللي حواليكي..."

شعرت بالجليد يسري في عروق يدها يجمدها بين دفء كلماته ولمساته المتشبّعة بالكذب والخداع...

فقالت بعد لحظة صمت بلهجة مبهمة....

"بالظبط...وكان المفروض أطبّق ده معاك قبل أي حد..."

رفع أيوب عينيه عليها بهدوء سائلاً بشك...

"تقصدِي إيه؟... "

واجهته نغم بنظرة عنيفة تشع كرهًا وعداءً نحوه..

"أكيد عارف قصدي..."

ترك أيوب يدها برفق ثم اعتدل في جلسته بتأهّب سائلاً...

"خليكي صريحة معايا يا نغم أنا مبحبش كده..."

قالت بنظرة متهكمة.....

"لما انت تكون صريح معايا... أنا هكون صريحة معاك..."

شعر أيوب بالاختناق من حديثها المبطن ونظراتها الحارقة لروحه فقال وهو ينهض 
من مكانه تاركًا مسافة آمنة بينهما...

"إنتي تعبانة ولسه خارجة من العمليات... بلاش تجهدي نفسك على الفاضي..."

"هسيبك ترتاحي وبعدين نتكلم...."

ثم استدار مغادرًا الغرفة فنادته نغم بصوتٍ متهدّج من شدة الانفعال المتأجج بداخلها..

"أيوب..."

التفت إليها أيوب ينظر من فوق كتفه فقالت نغم بضجر وبنفس النظرة الكارهة التي تنفذ إلى أعماقه كالسهام المدببة....

"يؤسفني أقولك...إنك مش هتقدر تكمل باقي الخطة... لأني مش موافقة على الجواز منك..."

خرج أيوب من الغرفة وأغلق الباب خلفه ثم جلس على أقرب مقعد ينظر إلى الباب المغلق في وجهه يشبه ذاك الباب الذي أغلقته منذ ثوانٍ أمام قلبه...

أطلق زفرة ضاجرة شاعرًا بالاختناق غير مصدّق أنها عرفت كل شيء وأنهت الأمر مطلقة الأحكام دون أن تسمع منه...

شرد بذهنه إلى ذلك اليوم الذي تقابل فيه لأول مرة وجهًا لوجه مع (شكري العزبي)...

وقتها كان في البيت وقد أتاه اتصال من رقم غير مسجّل وحين ردّ عليه فأخبره المتصل بأنه ينتظره بالأسفل في سيارة فارهة لأمر ضروري لا يحتمل التأجيل...

نظر أيوب من الشرفة وتأكد أن هناك سيارة بالفعل تقف أسفل البيت...

وبعد أن بدّل ثيابه بأخرى وحمل هاتفه ومحفظته....

استقل السيارة في المقعد الخلفي بأمر من السائق ليرى بجانبه رجلًا في عمر يناهز الخمسين ثريّ الهيئة منفّر الشكل تتجلّى القسوة والانتقام في عينيه وملامحه...

(خير يا عمنا... عايز إيه؟...)

سأله أيوب بملامح جامدة ونظرة شاخصة فابتسم شكري بإعجاب إذ لم يجد في الشاب البسيط ذرة من التردد أو الارتياب...

(خير... أيوب عبد العظيم.... مش كده؟...)

أومأ أيوب بنظرة ثاقبة...

(إن شاء الله... إنت بقى مين؟...)

رفع شكري رأسه بعجرفة معرّفًا عن
نفسه...

(شكري العزبي...)

اتسعت نظرة أيوب قليلًا لكنه حافظ على ملامحه الرصينة.... وقتها استرسل شكري بلؤم...

(طالما سكت... وبصيت كده تبقى عرفتني... وعرفت أنا عايز إيه...)

حك أيوب أنفه وهو يحافظ على رباطة جأشه قائلًا...

(مش واخد بالي بالظبط... عايز مني إيه؟...)

هتف شكري بنظرة ملتظة بالجنون...

(نغم... نغم الموجي... عايزها...)

أرجع أيوب رأسه للخلف بنظرة باردة بينما خلفها نيران تتوهج في صدره...

(آه اللي هو إزاي يعني... أخطفها وأجيبها لحد عندك؟...)

بعدم اكتراث بارد أجاب شكري...

(وليه لا... أو تخلص عليها وتاخد مني المبلغ اللي تطلبه...)

ارتفع حاجب أيوب بصدمة لم يقدر على إخفائها أمام هذا الرجل المختال وهو 
يتشدق بـ...

(أقتلها؟!... سهلة كده؟!... وهي عملت إيه  لمؤاخذة عشان أقتلها؟...)

هتف شكري بعصبية...

(قتلت ابني...)

ببرود مستفز عقب أيوب...

(بس أنا اللي أعرفه إن ابنك أعوذ بالله 
مات كافر... منتحر يعني... مش مقتول...)

جز شكري على أسنانه قائلًا بأعصاب 
تحترق...

(ومين سبب انتحاره غيرها...)

لاحَت السخرية في عيني أيوب قائلًا...

(وهي اللي قالتله روح خلص على نفسك؟... مش كلام يدخل العقل ده يا حلاوة...)

عقّب شكري مستهجنًا...

(حلاوة؟!... بقولك إيه يا أيوب تاخد كام وتشتغل لحسابي؟...)

عدل أيوب ياقة قميصه بزهو
قائلًا...

(قدّرني... وأنا أقدّرك...)

سأله شكري...

(يعني مبدئيًا متفقين؟...)

هز أيوب رأسه موضحًا الأمر بخشونة...

(مش متفقين على القتل... متفقين إني أشتغل لحسابك وأبلغك بكل جديد... وبالنسبة لموت ابنك....كده كده أنا بدوّر ورا اللي عملها وشاكك في حد...)

سأله شكري... (غير نغم؟...)

أكد أيوب بدفاع...

(نغم بعيدة عن الموضوع...)

زمجر شكري بعينين تقدحان شررًا...

(نغم أصل البلاوي دي كلها... نصيحة مني تحرس منها... دي بت مش سهلة...)

تنهد أيوب بنفاد صبر ثم أخبره...

(مقبولة النصيحة منك... بس الشروط محطوطة... عايزني أشتغل لحسابك موافق بس مش عايز فلوس منك... أنا عايز الأمان... تبعد عن نغم... لحد ما أجيبلك اللي عملها...)

سأله شكري بشك... (تقصد إيه؟...)

أجاب أيوب بنبرة صارمة...

(أقصد إن احتمال كبير ابنك يكون مات مقتول...ولا انتحر ولا حاجة... فيه خيط كده همشي وراه وأكيد هو اللي هيوصلني للي عملها...)

سأله شكري بتهكم... (ولو ماوصلتش؟...)

(يبقى أ...)

قاطعه شكري مشددًا على الكلمات بملامح محتقنة بالغضب الأسود...

(يبقى هتنفذ اللي هطلبه منك... ولو لعبت معايا هتبقى روحك قبل روحها..قولت إيه؟...)

نظر له أيوب قليلًا قبل أن يسأل...

(وإيه هو اللي إنت عايزه مني؟...)

أجابه شكري دون اتزان حقيقي وكأنه فقد عقله مع فقدان ابنه...

(حاجة بسيطة أوي...تمثيلية سخيفة عن الحب والهوى... تجيب مناخيرها الأرض... وتعيش طول عمرها ندمانة إنها في يوم رفضت ابني...وقدّرتك إنت عنه...)

أشاح أيوب نظره عنه مغمغمًا باستخفاف...

(المجانين في نعيم فعلًا...)

(بتقول إيه؟...)

صاح شكري فيه فعاد أيوب إليه مبتسمًا بمداهنة وهو يسايره بالقول...

(بقول وماله... مصيرها تندم وتحلف بتربة ابنك كمان... المهم على ما ده يحصل تديني الأمان ومتقربش منها... عشان وقتها تعرف
إن وجودي مهم في حياتها... فتتعلّق بيا
أكتر... وتثق فيا هي وأبوها...)

صمت شكري لبرهة مفكرًا في الحديث ثم تجلى الاستحسان على ملامحه وعينيه
قائلًا...

(برافو عليك... إنت بتتكلم صح...)

أكد أيوب مجاريًا له على قدر عقله...

(شوفت قلبي عليك إزاي...)

هتف شكري بنظرة محتدة...

(تمام... هديك مهلة ولو وصلت لحاجة بخصوص قضية ابني تبلغني... ماوصلتش هتعمل اللي هطلبه منك...قولت إيه؟...)

زادت ابتسامة أيوب بتملق...

(فيه قوالة بعد قولك؟... معاك طبعًا...)

فاق من شروده على صوت سلامة الذي آتى
عليه يسأله باهتمام...

"إيه يا أيوب... فاقت؟..."

أومأ أيوب برأسه بملامح متجهمة...

"فاقت الحمد لله..."

عقد سلامة حاجبيه بقلق وهو يجلس بجوار صديقه...

"طب مالك في إيه؟...الدكتور قالك حاجة؟..."

رفع أيوب عيناه على صديقه ثم أفصح
عما يعتمل في صدره....

"نغم عرفت كل حاجة يا سلامة... عرفت اتفاقي مع شكري..."

فتح سلامة فمه وقد صعقته المفاجأة متشدقًا...

"ومين قالها؟!..."

هز أيوب رأسه بقلّة حيلة عاجزًا عن إدراك من وشى به وأفشى لها السر قبله !....
............................................................ 
بعد مرور عدة أيام استعادت نغم شيئًا من صحتها وباتت أفضل من ذي قبل...

لم يتركها أيوب لحظة واحدة خلال تلك الأيام العصيبة لكنه حرص على ألّا يتواجد معها بمفردهما....

كان يظهر دومًا برفقة والدها أو الممرضين حتى لا يحدث تصادم جديد بينهما أو يسمع
ما يزيد الجفاء بينهما...

فهو مقتنع أن النيران مهما اشتدت فالوقت كفيل بإخمادها لذلك ترك بينهما مساحة آمنة ووقتًا كافيًا يجعلها تهدأ وتزن ما حدث بعين المنطق...

دلف أيوب إلى الغرفة بعد الاستئذان فوجدها تجلس على الفراش ووالدها بجوار سريرها جالسًا على المقعد المتحرك.

تمعن أيوب في النظر إليها قليلًا فقد زال الإرهاق والتعب عن ملامحها الجميلة وعادت إلى إشراقها من جديد حتى عيناها الرماديتان تبرقان كالرعد في ليلة عاصفة...

لكن هناك خط من الكراهية يشعّ من عينيها نحوه تلك النظرة تنحر قلبه نحرًا وكلما رآها في عينيها يُشيح بنظراته عنها مختنقًا...

قاسية في الخصام... قاسية لدرجة تُشعرك بأنك لم تكن تعني لها شيئًا في السابق !...

تلك الصفة يكرهها فيها كما يكره عجرفتها وعنادها...

"تعالى يا أيوب... واقف عندك ليه؟!"

دعاه كمال للاقتراب ففعل وهو يقف بالقرب من والدها في مقابل نظراتها الحانقة....

خصّ أيوب والدها بالحديث...

"الدكتور طمنكم؟..."

أجابه كمال بابتسامة ودودة...

"الحمد لله... نغم بخير وبتتحسن مع الوقت... لولاك يا أيوب كانت بنتي راحت مني."

نمت غصّة الندم في حلق أيوب وهو يقول بتحشرج.....

"بالعكس يا كمال بيه... أنا السبب في كل اللي حصلها... لو مكنتش سمعتها التسجيل مكنتش راحت برجليها ووصلت لهنا..."

خفّف كمال من ثقل الندم عنه حين قال بصوتٍ حانٍ متفائل....

"يمكن عندك حق... بس انت مكنتش تعرف إنها هتعمل كده... ولو بصيت لها من ناحية تانية هتعرف إن رغم الخطر اللي نغم
اتعرّضت ليه كان في صالحنا كلنا... وخلصنا مش من جيداء بس ومن جنان شكري العزبي كمان.... "

زاد بريق عيني نغم بغضًا وهي تنظر نحو أيوب والذي التقط نظراتها وعلى إثرها شعر بوخزة قوية في قلبه كطعنةٍ مباغتة...

يا من تمثلين الحب في عيني رفقًا بالفؤاد... أريحيه من العتاب فما خدعتكِ يومًا وإنما حميتُكِ... وكل شيءٍ مباح في الحب والحرب فلا تكوني قاسيةً على قلبٍ يهواكِ...

تابع كمال بصوتٍ هادئ بينما حرب النظرات بينهما شعواء.....

"في حد حبيبي في النيابة متابع التحقيقات... بلغني إن جيداء كانت ناوية تسافر خلال يومين بالظبط قبل زيارة نغم ليها... وده بعد
ما حست إنها خلاص انكشفت وكل حاجة هتتعرف قريب..."

ثم بنظرة ممتنّة أضاف....

"وكل ده بسببك يا أيوب... لولا التسجيلات والأوراق اللي بعتها للنيابة مكنتش جيداء اعترفت بعد ضغط التحقيقات عليها..."

أسبلت نغم جفنيها... فتلك الحقيقة عاجزة عن تفسيرها...فهو يعمل لصالح شكري العزبي لماذا لجأ للشرطة بدلًا منه؟!

من الطبيعي أن يهرول إلى ولي نعمته ليخبره بآخر التطوّرات ويكسب ثقته وبعض الأموال... 

ألم يخدعها لأجل المال؟! وبالطبع العملة الخضراء هي نقطة ضعفه التي يلهث خلفها قاطع الأميال !...

استأنف كمال الحديث....

"أنا مش عارف أقولك إيه... انت عملت عشاني أنا وبنتي كتير أوي... وفلوسي كلها لو حطيتها تحت رجلك مش هتساوي يوم واحد في عمر بنتي... ما بالك بعمر جديد اتكتب لها وربنا جعلك سبب في نجاتها أكتر من مرة..."

ابتسم أيوب ابتسامة لم تصل إلى عينيه وهو يجيب والدها بصوتٍ خشن....

"أنا معملتش حاجة... نغم غالية عندي وحياتها أغلى من كنوز الدنيا كلها...حمد لله على سلامتها...."

بادله كمال الابتسامة مستحسنًا الرد بينما نظر إلى ابنته فرآها صامتة واجمة تنظر بعيدًا عنهم فسألها متعجبًا....

"ساكتة ليه يا نغم؟"

نظرت إلى والدها وقالت بجفاء....

"هقول إيه يا بابا...حضرتك قولت كل حاجة..."

رد والدها بامتنان حقيقي....

"مهما قولت مش هوفي أيوب حقه."

أكّدت نغم بنظرة ساخرة....

"عندك حق... الكلام فعلًا مش هيوفي حقه..."

تبادل أيوب معها النظرات حينها قالت وعيناها لا تحيدان عنه...

"بابا بعد إذنك... أنا عايزة أتكلم مع أيوب لوحدنا... في موضوع مهم وبقاله فترة متأجل وجه أوان الكلام فيه..."

رفض أيوب وهو يرى في تصرّفها وقاحة 
وقلة احترام لأبيها....

"مش وقته يا نغم... لما تقومي بالسلامة..."

بنظرة نافذة كالسِّهام قالت ببطء....

"أنا بقيت أحسن... متقلقش..."

أصبح معها بمفرده ومن يراه يظن أنه خائفٌ منها أو من المواجهة بينما في الحقيقة أنه 
يخشى من الغضب....

ذلك الغضب الذي يختبئ بين ثناياه شيطانٌ ساكن فإذا انفجر جاء ذاك الشيطان يضع لمساته المسمومة 

فتتحول النظرات والكلمات إلى سهامٍ مسننة تنطلق بعشوائية تُصيب ما تطاله وتقتل ما تصل إليه !....

ومن منّا في لحظة الغضب لم يُؤذِ ويُؤذَ في المقابل؟......

لم يُكلّف نفسه عناء الجلوس ظل واقفًا مكانه يتبادل معها النظرات بصمتٍ مهيب حتى قطع ذلك الصمت سؤالها الحاد كالشَّفرة المسنونة

"خدت كام من شكري العزبي عشان تشتغل لصالحه؟... "

أجابها أيوب بثبات ودون مواربة...

"هي حاجة واحدة وكانت أغلى عندي من الفلوس... حياتك.... "

التوى فكُّها بسخرية وهي ترمقه باستنكار، معقبةً....

"دي تمثيلية جديدة عشان الجوازة تكمل وابقى تحت رجليك... زي ما اتفقتو... "

تنهد أيوب وهو يسحب مقعدًا ويجلس بالقرب منها أمامها مباشرة تفصل بينهما خطوتان. مال للأمام عينيه نافذتان في عينيها ثم أخبرها بهدوء وصبر....

"اسمعيني كويس يا نغم... أنا معرفش إيه اللي وصلك وعرفتي إزاي... بس كل اللي أقدر أقوله إني عملت كده وقتها عشانك....عشان أبعده عنك... وأتقي شره لحد ما أوصل للحقيقة...

"وزي ما إنتي شايفة... ربنا قدرني ووصلت واللي عملِت كده بيتحاسب دلوقتي وبالقانون...وزمانه دلوقتي بقا عنده خبر.."

ثم عقد حاجبيه قليلًا وهو يعاتبها على جفائها معه....

"إيه الغلط اللي عملته عشان أستاهل نظرتك وكلامك ده؟.... "

استشاطت نغم غضبًا من هدوئه وبساطة الأمر لديه فصاحت بانفعال....

"إنك كداب.... إن كل حاجة بينا كانت تمثيلية عشان ترضيه... كنت بتنفذ كلامه بالحرف وبتلعب بيا وتخدعني..."

قال  أيوب بصوتٍ أعلى منها رغم السكون في عينيه وملامحه موضحًا بعقلانية.....

"اللي بينا مكنش كدبة يا نغم ولا حبي ليكي كان كدبة... أنا بحبك بجد. وعملت كده عشانك عشان أحميكي من جنانه...... بلاش الغضب يعميكي وينسيكي أنا إيه بالنسبة ليكي."

رمقته شزرًا وهي تعقب باهتياج مستهجنة...

"إنت بالنسبة ليا واحد نصاب... كنت بتلعب بمشاعري... ويمكن كل اللي عملته ده كدبة جديدة عشان نتجوز وتستغلني أنا وبابا 
عشان توصل للي في دماغك... "

ضاقت عينا أيوب مستغربًا تلك اللهجة الجديدة بينهما....

"وإيه هو اللي في دماغي بقى... يا مفتحة؟"

قالت بتهدج....

"الفلوس... هيكون إيه غيرها؟"

تسمرت ملامحه بجمود وقد شعر بطعنة 
غادرة في قلبه مشيرًا إلى نفسه بدهشة 
من تفكيرها....

"إنتي شايفاني كده؟... شايفاني طمعان فيكي؟..."

عقدت نغم ذراعيها أمام صدرها مُبعدة عينيها عنه بأنفاسٍ لاهثة من شدة الغضب...

فقال أيوب بصدرٍ يئن وجرحٍ يزداد عمقًا على يدها جرحٍ مؤكد سيترك ندبة أقسى من تلك التي في عنقه....

"نغم اعقلي الكلام... فلوس إيه اللي هدور عليها؟.... أنا عايزك إنتي... بحبك إنتي إنتي وبس.... ولا حاجة تغنيني عنك."

قالت بقسوة والغضب يحركها كعروسة ماريونيت....

"مبقتش أصدق الكلام ده... إنت ظهرت على حقيقتك... وأنا مبقتش أثق فيك... ودي غلطتي من الأول... "

سألها أيوب بشك...

"يعني إيه غلطتك من الأول؟"

علت وتيرة أنفاسها وهي تقول بنزق...

"يعني إنت مكنتش تحلم تكون معايا... وأنا اللي اديتك حق مش حقك... واضح إني 
نسيت نفسي... ونسيت إنت مين...."

صرخ أيوب آمرًا....

"ارفعي عينك وانتي بتقوليها.. "

جمدها صوته العاصف كالرعد فانتفض جسدها انتفاضة خفية ورفعت عينيها إليه بتحدٍ لا يخلو من العناد.

"دلوقتي بقيتي بتتكلمي في أنا مين... وإنتي مين؟... "

أومأت برأسها دون تراجع تريد أن ترد له الصاع صاعين لتنتقم لقلبها منه....

"دي الحقيقة... مكنش ينفع من الأول يكون في بينا حاجة.... إحنا مش مناسبين لبعض."

تسمر أيوب قليلًا في جلسته كان الحديث الصادم منها قد جمّده كليًا قست نظراته نحوها 

مستشعرًا بنبض قلبه يئن بين أضلعه بقوة ينبض بجرح اتسع بقدر الحب الذي يحمله
لها....

وكأنها في لحظةٍ مباغتة وضعت نصلًا حادًا في جرحٍ قديمٍ متقرح ومنسي منذ سنوات.

ذكّرته بالجرح... ذكّرته بقدره وبالفرق الكبير بينهما وهي التي كانت تخبره أنها لا تهتم بالأمر وستظل معه إلى النهاية.....

وفي الخلاف نعرف مقدار الحب بيننا !..

أومأ أيوب برأسه يبحث عن صوته أسفل الركام....

"صح مش مناسبين... عشان إنتي بنت ذوات وأنا واحد على الله...ببيع هدوم على الرصيف...مش هو ده اللي إنتي عايزة تقوليه؟... "

قلبها يصرخ رافضًا وعقلها متمرد وشيطانها مؤيد فقالت بتأكيد يزيد الطين بلة بينهما..

"هي دي الحقيقة..لولاي مكنتش هتبقى هنا."

اتسعت عينا أيوب بصدمة وهو يعقب بصدرٍ تضخم بالغضب الأسود....

"لولاكي؟!.... لو هنتكلم في مين عمل لمين... فأنا عملت عشانك كتير... "

ثم نهض من مكانه مضيفًا باهتياج...

"الشركة اللي أنا اشتغلت فيها يا بنت الذوات كانت بتقع...ولولاي ماكنتش وقفت على رجليها من تاني.... وإنتي لما قررتي تشغليني معاكي كنتي عارفة إنك مستفادة....

والمسابقة كمان اللي كسبتيها ونسبتيها ليكي ولشركتك... أنا ماخدتش من وراها حاجة عشان وثقت فيكي وحبك كان كافي عندي. مكنش فارق معايا مين فينا اللي ظهر في الصورة...."

شعرت نغم بالاختناق وقد ترقرقت الدموع في عينيها بينما هو تابع كاسد يزأر بغضب 
مكتوم...

"حياتك..ربنا قدرني إني أحافظ عليها أكتر من مرة..وكان بيبعتني ليكي في الوقت المناسب.
والقضية اتقفلت وبقيتي حرة نفسك...

"ودلوقتي..اتفاقي مع كمال الموجي انتهى. 
أنا هرجع لحياتي لسوق اللي جيت منه... وإنتي كملي في حياتك...."

رفعت نغم عينيها إليه بصدمة وبدأت تنقل نظراتها بين عينيه المشتعلتين بشكلٍ مخيف وبين عنقه وعروقه البارزة بقوة مع الندبة القاسية....

بدأ أيوب في أوج غضبه يقول من بين لهاثه الغاضب....

"وبالنسبة للي عشناه... فقدري ما حصلش ده غلطي أنا...كان لازم أبص تحت رجلي الأول."

سال الدمع من عينيها وهي تحدق فيه بصدمة بينما هو نظر إلى دموعها بجمود لم تلِن ملامحه ولا نظراته نحوها.....

وفجأة سمع كلاهما طرقًا على الباب ثم دخلت الممرضة تحمل بين يديها باقة أنيقة من الورد وقالت لنغم بابتسامة رقيقة...

"بوكيه الورد ده جابه جاسر العبيدي... وهو مستني بره..... أقوله يدخل؟"

اهتزت حدقتا نغم بتوتر وهي تمسح دموعها بسرعة ناظرة إلى أيوب الذي التوى فكه بقسوة وهو يعقب بازدراء....

"ده اللي هيناسبك فعلًا... مبروك.... "

ثم غادر أمام عينيها المصعوقتين بينما وزعت الممرضة نظراتها المتوجسة بين الباب الذي خرج منه أيوب وبين نغم التي بدأت تنهمر عباراتها بغزارة.....

قالت نغم بانفعال وهي تحدق في باقة 
الورد....

"مش عايزة أشوف حد... لو سمحتي خدي البوكيه ده معاكي...."

خرجت الممرضة مغلقةً الباب خلفها بينما ألقت نغم نفسها على الفراش بقسوة تدفن وجهها في الوسادة وهي تنتحب بمرارة...
............................................................. 

كيف ركضت الأيام من حولها بتلك السرعة القصوى حتى وجدت نفسها اليوم جالسة على المقعد تحدّق في ثوب أبيض رقيق موضوع على الفراش يخص مناسبة عقد القران الذي سيتم اليوم بينها وبين الشيخ...

أحضرته معها والدته التي جاءت للتو بصحبة حفيدتها.... جاؤوا مبكرًا حتى يجهّزوا العروس كما يجب...

منذ أن دخلت أبرار مع جدتها وهي تتحاشى النظر إليها خائفة من نظرة جارحة ترمقها بها أو رد فعل يحزنها في هذا اليوم....

تنهدت شروق وهي تحك بين عينيها بأرق محاولة التركيز وضبط أعصابها إذ يجب أن تخرج إليهما فما يحدث الآن قلّة أدب وذوق منها...

وفجأة ودون استئذان وجدت من يقتحم غرفتها وكأنه يملك البيت ومن فيه وبالطبع كانت تعرف هوية الشخص دون أن ترفع عينيها عليه...

"هو انتي سايبانا قاعدين برّه... وجاية تقعدي في الأوضة لوحدك؟!...."

رفعت شروق عينيها إلى أبرار التي تبرّمت متابعة...

"دا انتي حتى يا شيخة مجبتيش بقّ ميّة بسكر نبل بيه ريقنا..."

ابتسمت شروق باستياء وهي تشيح بوجهها عنها...

فقالت أبرار بسخرية لاذعة....

"بتضحكي مش ملاحظة إن مقابلتك ليا أنا وتيتة مش قد كده؟.... هو إنتي يا حبيبتي مغصوبة على الجواز ولا إيه؟!... "

سايرتها شروق بالقول....

"شكلي كده..."

أطلقت أبرار شهقة شعبية أصيلة واضعة يدها في خصرها قائلة بتقريع شرس....

"شكلك إيه؟!.... لا اقعدي عوج واتكلمي عدل... إنتي كنتي تطولي أصلًا تتجوّزي أبويا دا... صالح الشافعي بنفسه...... نسيتي؟"

ارتفع حاجب شروق وهي تحدّق فيها بوجوم منتظرة انتهاء العرض...

غمزت لها أبرار متابعة بلؤم....

"لو كنتي ناسية أفكرك... إنتي اللي كنتي بترمي شباكك على الراجل وقاعدة له في الرايح والجاي فوق السطح... ولا هتنكري؟"

سألتها شروق بملامح هادئة....

"بقيتي بتكرهيني يا أبرار... صح؟"

ارتج قلب أبرار فجأة بالحزن لكنها أجابت بمزاح....

"هكرهك ليه؟! عادي... من حق كل مواطن يرمي الشباك..... وهو وحظه بقى..."

نهضت شروق من مكانها ووقفت أمامها 
سائلة....

"أنا بتكلم بجد..."

ابتسمت أبرار بمحبة وأشارت إلى الثوب الموضوع على الفراش بانسيابية....

"وأنا بتكلم بجد... إيه رأيك في الدريس أنا اللي اخترته ليكي... بابا طلب مني أختار 
حاجة على ذوقي..."

عادت عينا شروق إلى الثوب الأبيض الرقيق ثم قالت....

"حلو..."

ارتفع حاجب أبرار بتجهّم قائلة بضيق....

"حلو بس؟!... دا يجنن دا أنا قعدت طول
اليوم أدورلك عليه..."

نظرت إليها شروق بعينين ممتنّتَين تحملان في طياتهما الأسف...

"تسلم إيدك يا أبرار..."

غمزت لها أبرار قائلة بمناغشة...

"طب إيه مش ناوية تلبسيه؟.... مش ناوية تجهزي كلها كام ساعة وبابا يجيب المأذون... صحيح مين هيكون وكيلك؟ ولا عادي تكوني وكيلة نفسك؟.... "

أجابتها شروق وهي تستشعر مرارة كالعلقم في حلقها....

"هو عادي... بس في واحد جارنا كان صاحب أبويا الروح بالروح راجل طيب... وأنا بعتبره زي أبويا....وهيبقى وكيلي إن شاء الله..."

ابتسمت أبرار باستحسان....

"كويس... مبروك..."

كانت ستبتعد عنها لكن شروق أمسكت يدها سائلة بخفوت....

"مش زعلانة مني...صح؟"

رفعت أبرار عينيها إليها وقالت بصدق...

"بصراحة زعلانة... عشان كان المفروض إنتي اللي تبلغيني.....مش بابا..."

أسبلت شروق عينيها للأسفل بأسى مجيبة بصعوبة...

"مليش عين... صدقيني أنا مشيت عشان الموضوع ينتهي... بس اللي حصل بعدها 
مش بإيدي..."

سألتها أبرار....

"إنتي بتحبي بابا يا شروق؟!"

تركت شروق يد أبرار ثم جلست على حافة الفراش تنظر إليها معقّبة بعد تنهيدة طويلة..

"عايزاني أجاوبك... على إنك أبرار بنته 
ولا أبرار صاحِبتي؟"

قالت أبرار بجدية....

"أكيد صاحبتك... قوليلي الحقيقة بتحبيه؟"

أكدت باستسلام لمشاعرها وهي تبوح بما يثقل صدرها بصوت واهن....

"إحساسي ناحيته قبل ما يكون حب كان شعور بالأمان... بيفكرني بأبويا... حنيّته
طيبته قربه من ربنا... بيفكرني بالزوج اللي رسمته في خيالي وملقتهوش...

كان نفسي يكون في حياتي راجل زيه..
أخ أو أب... المهم يحميني من نفسي ومن
اللي حواليّا... أنا مكدبتش لما قولتلك يا أبرار إنك محظوظة إن عندك أب زيه..."

شعور الغيرة اجتاح صدر أبرار وتضاربت داخله مشاعر أخرى عاطفتها نحو شروق كصديقة وكامرأة تكابد وحدها بلا سند...

عادت أبرار تسألها بفضول....

"يعني حبتيه؟.... طب وهو؟..."

زمت شروق شفتيها بحيرة قائلة...

"بصراحة... معنديش إجابة... إنتي شايفة إيه؟.... "

أجابتها أبرار بحذق....

"أمال هيتجوزك ليه؟!.... أكيد عشان حاسس بحاجة ناحيتك..."

اختنق صوت شروق وهي ترجّح الصورة كما بدت لها....

"أو يمكن صعبانة عليه..."

تشدّقت أبرار ساخرة....

"وهو عشان صعبانة عليه هيتجوزك؟!... 
إنتي هبلة يا شروق..."

قالت شروق بخفوت....

"ما دا اللي باين..."

أطلقت بعدها تنهيدة ثقيلة من صدرها فنظرت إليها أبرار بطرف عينها بخبث ثم مطّت كلماتها بميوعة...

"اه....واضح إنه مقالكيش حاجة تطمّن قلبك..."

قالت شروق باقتضاب....

"يمكن مفيش عنده حاجة يقولها..."

ضحكت أبرار وهي تقول بوقاحة...

"طوّلي بالك... يمكن مستني تبقي حلاله..."

ارتفع حاجب شروق وقد صدمها الرد فتلك القطة الصغيرة أصبحت تفهم أكثر منها في تلك الأمور...

"يا سلام... أنا ملاحظة إن الكلام في المواضيع دي بقى عادي عندك... إيه اللي بيدور بينك وبين ياسين؟... "

ضحكت أبرار ضحكة مفعمة بالسعادة وهي تقول بتغنّج...

"حب وغرام... حاجات لسه موصلتيش ليها يا قطة..."

رمقتها شروق بنظرة حازمة...

"طب خفي يا أبرار... عشان إنتوا لسه مفيش حاجة بينكم رسمي..."

ذهلت أبرار من أمرها فقالت بسخط....

"إنتي هتعملي فيها ماما من دلوقتي؟!"

لكمتها الجملة فخفّفت شروق من حدّتها وهي تقول باتزان....

"مفيش حد يقدر ياخد مكان الأم... أنا بالنسبة ليكي شروق... شروق صاحبتك ودي كفاية
أوي عندي...

ولو بقولك كده فعشان تعملي حدود بينك وبينه ومايسوقش فيها... وفي نفس الوقت يتلحلح ويكلم أبوكي..."

اوضحت أبرار بظفر أنثوي....

"لا اطمني... هو مستني موضوعكم يخلص
ويكلم بابا...ياسين مستعجل أكتر مني...."

دلفت في تلك اللحظة ملك والتي اقتربت من أبرار ووقفت بجوارها قائلة....

"إيه يا أبرار... انتي قولتي إنك رايحة تنادي ماما روحتي قعدتي معاها؟... "

نظرت أبرار إلى شروق بقرف قائلة....

"هعمل إيه يا لوكا... أمك رغاية أوي بكرة تاكل ودن أبويا... وميسمعش غير ليها..."

امتقع وجه شروق.....

"بدأنا يا أبرار..."

أكدت أبرار بنظرة ماكرة....

"ما أنا مش هسيبه ليكي برضه... ولا إيه..."

قالت ملك بعينين تلمعان بالسعادة....

"أنا مبسوطة أوي يا أبرار إن إحنا هنرجع نقعد معاكم تاني..."

قالت أبرار...

"أنا بقى مش مبسوطة..."

"إيييييه..."

قطبت ملك جبينها عابسة وهي تنظر لها بحزن فضحكت أبرار وهي تقرص وجنة ملك بمحبة

"أنا طايرة من الفرحة يا حبيبتي... مش باين عليا ولا إيه..."

ضحكت شروق هازئة....

"هو اللي باين إنك هطقي..."

غمزت لها أبرار معقبة بزهو....

"مفيش حد هنا هيطق غيرك... الشيخ معيشك في جفاف عاطفي... أما أنا فغرقانة فيه..."

اتسعت عينا شروق وهي توبخها بالقول...

"امسكي الخشب يا هبلة... لحسن تحسدي نفسك..."

دخلت إليهم الجدة من باب الغرفة المفتوح وقالت وهي تقترب منهم بحنانها المعهود...

"في إيه يا ولاد هنقضيها رغي؟!...كل ده مجهزتيش نفسك يا شروق... دا صالح كلها ساعة ويبقى هنا..."

تخضبت وجنتاها وهي ترد عليها بحياء...

"حاضر يا خالتي... نص ساعة وهتلاقيني قدامك..."

تحركت شروق تنوي الخروج من الغرفة صوب الحمام فأوقفتها الجدة وهي تربت على كتفها مباركة لها بعينين حنونتين تتمنيان الخير والسعادة لابنها...

"ألف مبروك يا بنتي... ربنا يسعدكم ويكملكم على خير..."

قبلت شروق يدها ثم رأسها بينما ترقرقت الدموع في عيني الجدة وهي تنظر إلى حفيدتها قائلة بتمني....

"عقبالك يا أبرار..."

تألق ثغر أبرار ببسمة واسعة مرحبة بالفكرة وهي تقول....

"قريب يا تيتة... قريب أوي..."

بعد قليل تنحّت أبرار جانبًا بعيدًا عن الجميع وهي تتحدث في الهاتف....

"سينو... فينك اتأخرت ليه..."

أجابها ياسين بملل واضح....

(عند الحلاق مع أبوكي... إيه الأخبار عندك؟ أوعي تكوني عملتي حاجة كده ولا كده...خلي الليلة تعدي على خير يا برتي...)

امتقع وجه أبرار بغيظ وهي ترد عليه...

"هتعدي إن شاء الله... دي عاشر مرة تقولها لي.... مش ملاحظ إنك بتتصل بس عشان تسألني خربتها ولا لسه؟!... ليه محسسني 
إني الساحرة الشريرة؟"

ضحك ياسين قائلاً بمداعبة...

(أحلى ساحرة شريرة قابلتها... وحبيتها...)

زجرته بضيق...

"والله؟.....طب أقفل بقى يا ظريف..."

رفض ياسين وهو يقول بشوق...

(استني... أما أحب فيكي شوية...)

رفضت أبرار بتغنج....

"مش عايزة أحب فيك... أقفل..."

قال لها....

(لو قفلتي هزعل والله...)

تدللت عليه....

"يا سييييين..."

همس بصوتٍ مدله بحبها...

(عيون ياسين وقلبه... بحبك أوي...)

قالت أبرار بلؤم...

"مش هينفع أقولك وأنا كمان..."

سألها مستغربًا...

(ليه كده؟!..... في حد جمبك؟)

ادعت البراءة بنظرة خبيثة...

"لا... بس شروق لسه قايلالي أعملي حدود بينكم..."

تجهم وجه ياسين وهو يعقب بغيظ...

(نعم؟!... هي ناوية تحطني في دماغها ولا إيه..شغل الحماوات ده مش عليا دا كفاية أبوكي لما يعرف...)

ثم أمرها بتشنج...

(بقولك إيه.... ملكيش دعوة بيها...)

ابتسمت أبرار بمكر قائلة بمسكنة...

"عيب تقول كده يا سينو... دي حماتك المستقبلية..."

رد عليها ياسين بتهكم...

(حماتي مين!.... دي أكبر مني بسبع سنين بس...)

أكدت بنبرة خافتة مستفزة...

"ولو...حماتك برضه... ومرات عمك..."

جزّ على أسنانه بغيظ شديد منها....

(بلاش تستفزيني يا أبرار... ومش أي حد يقولك حاجة تسمعي كلامه...)

سألته ببراءة...

"أمال أسمع كلام مين يعني؟"

احتد صوته قائلاً...

(المفروض كلامي... كلامي أنا بس...)

سألته أبرار...

"طب وبابا وتيتة؟"

هتف بصوتٍ محتد متملك...

(والله لو هيعصّوكي عليا ما تسمعيش كلامهم ولما أبقى أشوف ست شروق دي كمان اللي عمالة تعصيكي عليا وكأني واحد من الشارع...)

شهقت أبرار مدعية الصدمة وهي تقول...

"يا ولد عيب تقول شروق... اسمها حماتك..."

أطبق على أسنانه بقوة وهو يتمنى أن يدق عنقها في أقرب حائط...

(تعرفي يا أبرار يا حبيبتي نفسي ألطشك قلمين على وشك...)

قالت بصوتٍ ناعم...

"يا حبيبي وماله... وأنا هردهم لك عشرة..."

جفل ياسين من ردها فقال متوعدًا...

(والله؟!... طب وريني كده هتعمليها إزاي...)

تنهدت برقة وهي تقول....

"لو إنت عملتها... يبقى أنا هعملها..."
................................................................
وقفت شروق أمام المرآة برهبة تتأمل نفسها بهيئة العروس...

لقد لاقى الثوب بها جدًا كان رقيقًا من الحرير الأبيض ينساب بملمس ناعم ولمعة راقية تلفت الأنظار.....

وكان محتشمًا بتنورة واسعة قليلًا تنسدل بخفة مع حركتها يزينه تطريز لامع عند الأكتاف يمنحه بريقًا أنيقًا دون مبالغة...

كان مزيجًا بين البساطة والرقي مثاليًا لسهرة راقية أو مناسبة خاصة كتلك التي تستعد لها بكل جوارحها رغم مخاوف تختبئ بين حنايا صدرها...

لفت الوشاح حول وجهها بلفة عصرية تلائم الثوب وساعدتها أبرار على ذلك....

أبرار التي لم تتركها لحظة واحدة ساعدتها أيضًا على التزين دون مبالغة فأصبحت في هيئة العروس الجميلة الرقيقة....

قالت أبرار وهي تعدل طرحتها....

"كده خلصنا...يلا بابا مستني بره هو والمأذون وكمان جارك جه عشان يشهد على الجواز."

شعرت شروق بالارتباك أكثر وكأنها مراهقة صغيرة لم يسبق لها الزواج يومًا....

احتقن وجهها بحمرة الخجل وهي تتحرك خلف أبرار ناكسة رأسها أرضًا بتوتر وقلبها يرتجف بين أضلعها...

كانت تستمد قوتها من ابنتها التي أمسكت يدها بقوة وخرجت معها من الغرفة...

تعالت الزغاريد فور ظهورها في صالة البيت التي يجلس بها الجميع

زغاريد والدته وبعض الجارات من مسكنها الجديد اللواتي يعرفنها معرفة سطحية وقد أتين دون دعوة ليشبعن فضولهن... والآن يطلقن الزغاريد حتى يحافظن على ماء الوجه أمام الجميع....

اقتربت منها والدته وضمتها إلى صدرها وهي تقول بصوت باكٍ من الفرحة....

"بسم الله ما شاء الله... بدر منور... ربنا يحفظك من العين."

ثم سحبتها بخفة وأجلستها على المقعد فسلمت شروق على الرجل العجوز جارها
الذي سيكون وكيلها أمام المأذون.

كانت تنظر أرضًا باستحياء رافضة النظر إلى صالح الجالس على الأريكة بجوار المأذون ينطق ما يُملى عليه... كانت تفرك يديها بتوتر وهي تسمع كل كلمة تُقال بين صالح ووكيلها.

"عقبالنا يا أبراري..."

قالها ياسين وهو يقف بجوار أبرار متألق بحلة أنيقة زادت من وسامته....كان مصفف شعره للخلف بعناية وبدت ملامحه مشرقة بعدما تخلّص من اللحية الخفيفة التي لا يفضل
تركها كثيرًا....

نظرت أبرار إليه بطرف عينيها قائلة 
بلؤم...

"كمان خمس سنين إن شاء الله."

رفض ياسين وهو يعطيها نظرة شاملة من أطراف ثوبها الرائع حتى عينيها السوداوين البرّاقتَين كالمجرة...حتى حجابها بدا كأنه هالة أخرى من الجمال والرقة..

كانت جميلة على نحوٍ سلب قلبه وأنفاسه.

قال مازحًا بنبرة متسلطة....

"بعينك أبوكي بس يخلص ليلته...وأنا هكتب عليكي.. مفيش خطوبة ولا فترة تعارف ولا الهبل بتاعك ده."

قالت بعجرفة مستفزة....

"والله دي متوقفة على موافقتي... مش بمزاجك هو.... "

أكد بصوت خشن مسيطر....

"بمزاجي... كمّلي الجامعة في بيتي عادي... مش أول واحدة تتجوز وهي بتدرس."

قالت بوجوم وهي تهز كتفها....

"يبقى هنأجل الخلفة... معلش مش هينفع أروح الجامعة وبطني مترين قدام."

ابتسم بنشوة وهو يداهم عينيها بعبث...

"آه... إمتى.... أنا ناوي أجيب منك دستة عيال...كل سنة عيل..."

عضّت على شفتيها معقبة باندهاش...

"يا مفتري... كل سنة؟!.... شايفني أرنبة؟!"

ضحك ياسين بانتصار وهو يقول بسعادة...

"بعون الله هنغلب الأرانب. أنا عايز أعمل عيلة... عيلة كبيرة أوي. مش هعمل زي أبوكي وأبويا... كل واحد جاب عيل واستكفى."

قالت أبرار...

"هو المفروض عيل أو اتنين..."

عزم ياسين النية قائلا....

"أربعة وعشرين عيل وبعدين نستكفى."

فغرت شفتيها بصدمة ناظرة إليه بغضب ساخر.....

"أربعة وعشرين؟!.... ده انت قنوع أوي!"

أكد ياسين وعيناه تنهالان من حسنها ولسانه يداعب قلبها بالكلمات....

"بس عايزهم شبهك... شرط أساسي يبقوا طعميين زي أمهم..... "

توردت وجنتاها وهي تهرب من عينيه 
سائلة بخجل....

"وانت شايفني كده؟"

تغزّل بها مؤكدًا...

"طبعًا شايفك طعمة...وتتكلي أكل."

كتمت ضحكتها وهي تقول بحزم...

"طب احترم نفسك...وخلي في بينا حدود."

اغتاظ ياسين منها فقال متجهمًا...

"هترجعي للهبل ده تاني... مفيش حدود
بينا... انتي مراتي أصلًا...."

رفعت شفتيها للأعلى بتحدٍ سافر وهي
تقول....

"مراتك منين؟!... انت بتحلم إحنا لسه في مرحلة التعارف...."

ثم ابتعدت عنه فتمتم ياسين مذهولًا قبل
أن يلحق بها...

"تعارف إيه؟!...... استني هنا..."

"بارك الله لكم وبارك عليكم وجمع بينكم 
في خير.... "

العبارة الفاصلة بين حياتها السابقة والجديدة نطقها المأذون مؤكدًا زواجها الذي تم الآن بينها وبين الشيخ....

انهالت عليها التهاني والمباركات من الجميع فوقفت تستقبلها بابتسامة صغيرة شاعرة أنها في دوامة تلفها بعنف تعلو فوق الأمواج الثائرة دون أن تجد ركيزة تتشبث بها حتى لا تسقط.

"مبروك يـا شــروق..."

كان صوته الترياق الذي بدّد طنين أفكارها الصاخبة....

رفعت عينيها أخيرًا إليه وكأن متأنق بشكلا يخطف عينيها وانفاسها وحضوره طاغي 
بشكيمة الرجال التي يتميز بها.....

استقبل صالح عينيها بلهفة ارتجف معها جسدها وانصهر قلبها بين أضلعها بعد أن 
رأت عينيه الخضراوين تتوهجان بقوة نحوها.

همست بصوت خافت لم تسمعه
أذناها..

"الله يبارك فيك..."

ومع ذلك ابتسم صالح لها يومأ براسه وهو يتأملها بثوبها الأبيض الرقيق وجمالها الآسر الذي يفيض أنوثةً عجز طويلًا عن مقاومتها فقرر أن يستسلم لها وللمشاعر التي يصعب كبحها بقربها.....

أخذ خطوة نحوها... كادت معها أن تتراجع لولا ثباتها في اللحظة الأخيرة مؤكدة لنفسها أنها الآن زوجته وأمام الجميع ولم يعد هناك شيء يمنعها أو يمنعه عنها....

أغمضت عينيها بضعف وهي تشعر بأنفاسه تلفح صفحة وجهها وعطر العود يتوغل إلى رئتيها بقوة أكبر من ذي قبل....

شعرت بكف يده أعلى ظهرها فارتجفت رجفة قوية وازداد توهج وجنتيها مع انتفاض قلبها.

مال صالح أكثر عليها طابعًا قبلة على جبينها. تأوهت شروق دون صوت وكادت أن تسقط أرضًا فما يحدث لها على يديه كثير ولم تعتد اقترابه إلى تلك الدرجة....

ابتعد صالح قليلًا وهو ينظر إلى وجهها المحمر وجفونها المطبقة عليها بقوة وكأنها تقاوم حتى لا تنهار.... 

لم يكن لديه مانع من ضمها الآن فقد أراد أن يستشعر قربها أكثر....

ففعل وضمها إلى صدره منعزلًا معها عن العالم ومن فيه وكأنهما داخل فقاعة لا يُرى ولا يُسمع فيها سوى أنفاسهما المتلاحقة وخفقات قلبيهما المتلهفة....

لم تقوَ شروق على فتح عينيها من شدة الخجل لكنها ارتاحت برأسها على صدره مستسلمة لتلك المشاعر الدافئة التي
يمنحها لها....

ورغم شعورها بالإحراج من فعلته المباغته أمام الجميع إلا أنها بين ذراعيه وجدت 
ركيزتها أخيرًا واستكان قلبها مطمئنًا....

غمز ياسين لأبرار متمتمًا عند أذنها...

"نفسي أجرب حضن كتب الكتاب..."

لكن أبرار لم تبتسم إذ لم تسمعه أصلًا فقد كانت في عالم آخر تحدق في والدها وتصرفه الغريب أمام الجميع....

وكأنه انفصل عن العالم وترك قلبه يستلذ دفء قربها !.....
...............................................................
سحبت أكبر قدر من الهواء البارد وبُنيتاها تطلّان من نافذة السيارة نحو الطريق الراكض أمامها...

بجوارها كان صالح يتولى القيادة بينما خلفهما في سيارة أخرى يقود ياسين ومعه أبرار والجدة وابنتها ملك...

فضّل الجميع أن يكونوا معًا في السيارة التي ستنقلهما إلى البيت حيث بيتها الجديد برفقة الشيخ..... زوجها...

زوجها...

الكلمة تتردد في عقلها تاركة خلفها ألف شعور دافئ وآخر يحمل رهبة من وضع لم تعتده بعد....

وجدت يده تطبق على كفّها المستريح في حجرها فاتسعت عيناها مصعوقة من تصرفه المفاجئ كما فاجأها بعناقه أمام الجميع دون حياء...

يبدو أنها خُدعت فيه...

نظرت إليه بضيق فبادلها النظرات بعينين خضراوين يشعّ منهما دفء يصعب مقاومته فذاب الجليد عن قلبها وارتخت ملامحها مع سؤاله الخافت....

"مالك يا شـروق؟.... "

لم تكن بخير أبدًا... مرتبكة خائفة والوضع كله أصبح خطيرًا.....

"أنا كويسة..."

رد صالح عابسًا...

"مش باين... شكلك مش مبسوطة."

سألته بسرعة.... "إنت مبسوط؟"

أومأ مبتسمًا لعينيها...

"الحمد لله..."

"ليه حضنتني؟.... "

قالتها شروق بانفعال مفاجئ جعل صالح يصدم من تعبيرات وجهها المشدود المتورد منذ أن ضمها إلى صدره...

ابتسم حتى ظهر صف أسنانه وسألها بهدوء..

"حضني ضايقك للدرجة دي؟"

بالعكس... إنه رائع مثل شخصيتك وحضورك أقسم قلبها أنه ذاب بين يديه قبل جسدها وكأنها تحلّق فوق سحب وردية...

بلعت ريقها متوجسة كاتمة حقيقة الأمر وروعة إحساسها...

فهم صالح صمتها فمال عليها هامسًا...

"أحرجتك..."

أومأت مؤكدة بملامح ممتقعة دون أن
تنبس بكلمة.....

"حقك عليا..."

هل يعتذر لأنه ضمها إلى صدره ألن يكررها مجددًا؟!..... بدا الإحباط على وجهها بصورة مضحكة وهي تتصور أنها لن تجرب حضنه مرة أخرى...

ابتسم صالح وأضاف بثقة...

"وطبعًا مش حقك عليّا إني حضنتك... عشان لازم تتعودي على كده... أنا جوزك وإنتي مراتي... حلالي... "

توهجت وجنتاها بشدة وهي تعض على باطن شفتيها ملتزمة الصمت بينما قلبها يتفاعل بجنون مع كلماته وكأنه ترياق الحياة بالنسبة لها...

ثم أضاف صالح بصوتٍ عذب...

"بس إنتي عندك حق... مكنش ينفع قدام الناس...بس أعمل إيه صبري نفد قدام عنيكي..."

قلبها لم يعد يتفاعل فقط بل أصبح يتخبط كالمجنون بين أضلعها.... وضعت يدها على صدرها مصدومة وعيناها الكحيلتان تتسعان بجمال فاق أبيات الشعر...

"مالك؟!..... في حاجة بتوجعك؟"

سؤال بريء من رجل متلاعب يعرف كيف يصوغ الكلمات ويجعلها كسهام حب تخترق صدرها بلا رحمة...

"شـروق..."

تآوهت شروق بتعب حقيقي كامرأة حُرمت من الزواج ومن كل شعور دافئ يأتي معه والآن انفجر كل شيء بين يديه هو...

"صالح... اتقِ الله... لا قلبي ولا عقلي هيستوعب كل ده..."

ابتسم برضا تام بعد كلامها... يبدو أنها مثله على حافة الانهيار لكنها تقاوم حتى النهاية...

لم يعد هناك مقاومة يا غزالة... اتركي نفسك للهوى وعذابه... كما فعلت أنا... سلّمت واستسلمت...

وصلا إلى البيت ترجل صالح من السيارة وكذلك فعلت شروق... 

أخذت خطواتها نحو المدخل وكادت أن تصعد السلالم لكن صالح منعها وهو يسحبها من ذراعها برفق نحو الشقة التي كانت تقيم فيها سابقًا في الطابق الأول...

نظرت إليه بحيرة وتساؤل. 

فتنحنح صالح وهو يفتح الباب الجديد بالمفتاح فقد غيّر وجدد في الشقة لتليق بالعروس وبحياة جديدة معها....

رأت والدته وأبرار وياسين يصعدون للأعلى وملك معهما مندمجة في الحديث مع ياسين.

بينما صالح فتح الباب وأشار لها بالدخول. رفعت عينيها مجددًا فرأتهم قد اختفوا عن مرمى بصرها...

فدخلت بساقها اليمنى تسمّي الله في نفسها وقد تبعها صالح مغلقًا الباب خلفهما...

بدت لها الشقة وكأنها مكان لم تعرفه من قبل رغم أنها عاشت فيه لأشهر طويلة... كل شيء صار مرتبًا بعناية الحوائط مطلية بألوان مريحة للعين والأثاث أنيق يشي بالفخامة...

حتى خُيّل إليها أنها في إحدى الشقق التي اعتادت العمل بها سابقًا والتي طالما حلمت
أن تمتلك مثلها يومًا...

"دا ذوق أبرار وياسين في العفش والتوضيب...هما بيفهموا أكتر مني في الحاجات دي..

"والأسبوع اللي فات كله ماكنوش بيقعدوا... كل واحد كان بيعمل حاجة... حتى أمي كانت بتجيب وترتب في المطبخ والدولاب..."

كان شرط أبرار أن تظل شقة والدتها كما هي وأنها ستفعل كل ما بوسعها لتُرتّب له الشقة التي في الطابق الأول كي تليق به وبالعروس...

وبالطبع كانت بقيادة ياسين الذي تولى الكثير حتى تصبح الشقة كما هي عليه الآن.....

شرط أبرار لم يزعجه كثيرًا بل كان القشة
التي تعلّق بها فهو كان مترددًا من وجود شروق في الطابق الثاني وحياتهما معًا

فالشقة تحمل ذكريات كثيرة بينه وبين زوجته السابقة ووجود شروق معه ربما يخمد مشاعره المتأججة العنيفة نحوها...

قالت شروق بابتسامة رقيقة بعد أن نالت الشقة إعجابها....

"تسلم إيديهم... تعبناهم معانا..."

اقترح صالح بهدوء....

"إيه رأيك تروحي تغيري هدومك وتتوضي عشان نصلي ركعتين سوا؟... "

أومأت برأسها موافقة باستحياء ثم وتحركت بخفة الفراشة صوب غرفة النوم المرتبة الجميلة....

والتي اعجبتها أكثر من الشقة كلها فكانت ركن دافئ وخاص سيحمل الكثير بينهما....

اتجهت نحو الخزانة لتكتشف ملابسها الجديدة التي أخبرتها الجدة أنها ابتاعتها لها...

أخرجت قميصًا رقيقًا يليق بتلك الأمسية الخاصة ثم أسدال الصلاة فوقه وذهبت 
إلى الحمام...

في تلك الأثناء بدّل صالح ملابسه بطاقم رياضي وبعد الوضوء انتظرها...

أتت شروق بعد لحظات مرتدية أسدال الصلاة مخفية شعرها بالوشاح...

فرش صالح سجادة الصلاة ودعاها لتقف خلفه بخطوتين.... فعلت وهي تقف بعينين تلمعان بالدموع لم تصدق أن الأيام دارت بها وتحقق المستحيل وأصبحت زوجة الشيخ تصلي خلفه وتسمع صوته الرخيم وهو يرتل الآيات بعذوبة تمس القلب وتقشعر معها الروح قبل الجسد...

انتهت فريضة الصلاة ومعها انتهى صبره وتضخم بمشاعر عاطفية عنيفة ورغبة
ملحّة في التروي بقدر ظمأ السنوات...

أغمضت شروق عينيها بضعف وهي تشعر بأصابعه الخبيرة تخلصها من الوشاح برفق لينسدل شعرها الغجري بجمالا خلف ظهرها وتكتمل صورة الفتنة في عينيها الكحيلتين البديعتين وشفتيها الممتلئتين الناضجتين كثمرتين تنتظران قاطفها...

"شــيــخ صــالــح..."

فتحت شروق عينيها وشفتيها تهمسان باسمه بضعف أنثوي...

فمال عليها أكثر مسكرًا حواسه برائحتها الأنثوية الطيبة هامسًا قبل أن يجرفها في عاطفته الجياشة....

"الـصـبـر نـفـد... يـا غــزالــة الـشـيـخ..."

استكان جسدها بين ذراعيه مجددًا لكن تلك المرة لم يكتفِ بضمة حانية بل ابتلعها في طوفان عاطفي يطوقها بدفء خالص...

عجزت عن المقاومة أو الاعتراض بل تدفقت منها الأحاسيس المكبوتة بعد سنوات عجاف...

وتفتحت براعمها على يدي الشيخ !...

................................................................
يقف من بعيد عيناه تراقبان الموقف بنيران غيرة تندلع في صدره...جسده بأكمله يشتعل كبركان على وشك الانفجار...

كانت نهاد تسير بخطوات هادئة رقيقة خارج بوابة الجامعة فأوقفها أحد زملائها من نفس القسم شاب يافع الطول عريض المنكبين وسيم الملامح....

"دكتورة نهاد..."

توقفت نهاد ثم استدارت إليه وحين رأت وجهه ارتسمت على شفتيها ابتسامة حبور.

"أهلًا يا دكتور مراد... خير؟.. "

تردد مراد قليلًا قبل أن يقول...

"بصراحة... كنت محتاج أراجع معاكي نقطة معينة بخصوص..."

ثم أشار لها على سطر في كتاب يحمله بين يديه.... زادت ابتسامة نهاد رقة وهي تشرح المعلومة ببساطة فقد كانت تمتاز بين زملائها بذكائها الفذ وسهولة توصيل المعلومة إليهم على عكس كثير من الأساتذة في الجامعة.

حتى إن بعض الأساتذة أشادوا بها وتوقعوا لها مستقبلًا علميًّا ومعرفيًّا كبيرًا في هذا المجال لأنها متميزة وشغوفة فيما تقدّم....

أما هو فكان يتابع الموقف ويصوّره في عقله بطريقة أخرى تقاربها من هذا الوسيم الثري ابتسامتها حديثهما... بدا له أنه يليق بها...

على عكسه هو معها يبدو كمتسوّل يشحذ الحب والاهتمام....

ظن أنها تناست هذا الحب بل وبدأت تبحث عن الشخص المناسب لها...

أدار سلامة رأسه عنها وهو يرحل دون أن يلتفت إليها وكأنه أتى إلى هنا كي يوثّق هذا المشهد في عقله علّه يجبر قلبه على نسيانها ويسير قُدمًا...

ولو كان انتظر سلامة قليلًا لرأى أن الشاب الوسيم الذي يليق بها قد أنهى الحديث معها وذهب نحو خطيبته والتي هي صديقة مقرّبة لـ نهاد...

وقد لوحت لها وهي تخرج برفقة خطيبها

بينما لوّحت لهما نهاد بابتسامة حزينة فهي كانت أول الشاهدين على قصة حبهما منذ أن كانا في الصف الثانوي الدراسي وخطوبتهما حديثة العهد وكان انتصارًا عظيمًا لحبهما
ولكل من راهن على فشل علاقتهما لصِغر سنهما...

حتى هي ظنّت أن نموذجًا مثلهما يمنحها أملًا في الحب لكنها اكتشفت أن الانتصار لا يأتي إلا بعد معافرة وصبر عظيم لا بالوعود الكاذبة والتكاسل والتخلّي مع أول موقف يواجهنا...

زفرت بإرهاق شاعرة باختلاج صدرها بالألم مجددًا فأكملت طريقها وهي تتشبث بعزيمتها علّها تقدر على النسيان والتعافي من تلك التجربة القاسية...
.............................................................
وصل سلامة إلى السوق الذي كان يفرش على رصيفه البضائع بصحبة أيوب... عاد يجلس في المقهى الشعبي العتيق نهارًا فلم يجد أحدًا من أصدقائه...

"شاي يا ابني..."

قالها بصوتٍ غليظ وعيناه تنفثان نارًا لا ترى شيئًا سوى ابتسامتها وحديثها وتقاربها من شاب يليق بها...

الأمر يدفعه للجنون... لماذا ذهب وتركها معه؟! كان يجب أن يسحبها من ذراعها ويصيح أمام كل من في الجامعة أنها حبيبته... حبيبته هو ولن تكون لشخصٍ سواه...

لكن كالعادة هرب بجبن تاركًا الكلمة الأولى والأخيرة للنصيب فهو الحاكم الناهي بينهما...

"انت اتجننت ولا إيه؟!... سيب إيدي بقولك..."

انتبه سلامة إلى تلك العبارة من صوتٍ مألوف إليه فالتفت باتجاه الضجيج ليرى عزة تقف في منتصف الشارع بملامح غاضبة ونظرة مستهجنة تحدّق بها نحو ذلك الشاب وهو من أبناء كبار التجار في السوق كان يمسك ذراعها غصبًا أمام الجميع ويبدو أنه تطاول عليها...

نهض سلامة فورًا واقترب من تلك الدائرة المكتظة بالناس

وبدون تردد أصبح في منتصف الزحام يخلّص ذراع عزة من قبضة الشاب ثم يجعلها تقف خلف ظهره مواجهًا مرسي بملامح متجهّمة ونظرة خطيرة...

"خير يا مرسي... مالك ومالها؟!"

ضرب مرسي على صدر سلامة عدة مرات بتحذير خطر....

"ملكش دعوة انت يا سلامة... واطلع منها..."

أبعد سلامة يده وهو يصيح في وجهه...

"اطلع منها إزاي يعني؟!.... هتستقوى على واحدة ست؟!..."

هتف مرسي أمام الجميع بغضب...

"يا عم أنا مش بستقوى على حد...هي اللي بنت قليلة الأدب ومربتش..."

صاحت عزة بوجه محتقن بالغضب وعينين مشتعلتين بالازدراء....

"مربتش عشان مش عايزة أعمل اللي على هواك يا ابن الجوهري؟!.... أقولهم طلبت مني إيه وأنا بديك السم الهاري تشربه... "

فتح مرسي ذراعيه مستعرضًا نفسه ملابسه الباهظة والحُلي الذي يرتديه وهو يقول بتفاخر أمام الجميع...

"طلبت إيه يعني؟!.... إنتي حيلتك إيه يا بت غير كوباية الشاي والقهوة.... "

أطبقت عزة على أسنانها بغيظ وهي تقول باستهجان....

"وطالما أنا محلتيش غيرهم بتمد إيدك عليا ليه يا ابن الجوهري؟!.. يا اللي المفروض إنك ابن أصول..."

انفعل مرسي عليها ولولا وقوف سلامة حائلًا بينهما لسحبها من شعرها أمام الجميع دون أن يرف له جفن...

"ابن أصول غصب عنك يا بت... مبقاش فاضل غير الشحاتين اللي زيك اللي هيرسموا الشرف علينا..."

أمسك سلامة ذراعه قبل أن يصل إلى عزة التي تقف بقامتها القصيرة خلف سلامة تختبئ وراءه بعد أن تفوّهت بشجاعة وأمام الجميع حكت عن تطاوله معها في المحل...

هتف سلامة بصوتٍ جهوري....

"عزة مش شحاتة.... عزة بتشتغل وبتجيب لقمتها بعرق جبينها... مفيش حاجة تعيبها... "

انفجرت نظرات مرسي بالغضب الأسود وهو يزمجر فيه بإهانة لاذعة....

"لكن انت في حاجات كتير تعيبك يا سلامة... فبلاش الداخلة بتاعة الراجل الشهم ابن الحلال دي...
قدّامنا لحسان هيتقل منك وهتتعمل حفلة كبيرة عليك إنت مش قدها..."

نقلت عزة عينيها بأسى إلى ظهر سلامة شاعرة بتشنجات جسده بعد أن اتكأ هذا الحقير على جرحه وأهانه أمام الجميع بحياةٍ لم يخترها بنفسه بل قدرت إليه....

ظنّت أن هذه الكلمات قادرة على إخراس سلامة وجعله ينسحب من أمامها ويرحل... لكن على عكس المتوقع ردّ الصاع صاعين لابن الجوهري بصوتٍ جهوري غاضب قال أمام الجميع....

"معروفة أنا مين يا مرسي يا جوهري... زي ما كمان السوق كله عارف إنك عايش على قفا أبوك.... وإنك صايع ونسوانجي وصاحب كاس... وبتضرب حقن.. "

"دا إنت دخلت المصحة تلات مرات يا جدع ومفيش فايدة... وكان كل اللي يسأل عليك وقتها أبوك يقولهم أصله في العمرة... "

ثم وضع يده على كتف مرسي هازئًا....

"حمد الله على السلامة يا حاج... العمرة الجاية إمتى إن شاء الله... عشان أوصلك 
لحد المطار بنفسي..."

صرخ مرسي فيه بملامح تنذر بالشر....

"إنت بتتريق يا ابن الـ... صحيح... واحد
ابن حرام..."

ابتسم سلامة بنزق وهو يتأهب للعراك معه قائلًا....

"ما هو ابن الحرام... مش بيقع غير مع ولاد الأبالسة اللي زيك..."

ثم في اللحظة التالية تحوّلت المشادّة الكلامية الحادّة بينهما إلى ساحة معركة
وبدأ سلامة يوجّه اللكمات إليه بينما الآخر يدافع عن نفسه محاولًا أن يردّها وقد نجح في إصابته عدة مرات....

لكن سلامة كان أخف وزنًا وأكثر حركة فكان يتفادى الضربات بسهولة ويعاود تسديد اللكمات بقوة....

بعد فترة كان سلامة يجلس أمام نصبة الشاي على مقعد بينما عزة تقف بالقرب منه تمسح بالقطنة الكدمة أسفل فكه المتورم...

لوت خالتها شفتيها وهي تراقب الوضع بعدم رضا ثم وجهت الحديث إليه بتهكم....

"مكنش ليه لازمة اللي إنت عملته ده يا سلامة... إحنا مش قد عيلة الجوهري..."

هتفت عزة بحرارة لاهثة بالقلق وهي تضغط بالقطنة على كدمته....

"ده بدل ما تشكري ياخالتي هو اللي وقف لهم دوننا عن رجالة السوق دي كلهم..."

"آه... خفّي إيدك يا عزة..."

تأوه سلامة وهو يمسك يدها يمنعها من المتابعة...

ومع تلك المسه خفق قلبها بلوعة وهي تقول بحنو....

"سلامتك.... إن شاء الله. أنا وإنت لا..."

نظر لها سلامة يبث إليها الأمان والطمأنينة قائلًا بحمية...

"بعد الشر عليكي... متخافيش إنتي وراكي رجالة..."

توسعت ابتسامة عزة بجذل بينما قلبها في ذروة سعادته يقرع كطبول الأعراس وهي تقول بحرارة....

"ربنا يكرمك يا رب... ويسترها معاك دنيا وآخرة... أنا مش عارفة من غيرك يا سي سلامة كنت عملت إيه..."

لوت الخالة شفتيها يمينًا ويسارًا مستهجنة حالة الحب تلك ثم عقّبت....

"ولا حاجة يا مايلة.... كنا هنتقي شر عيلة الجوهري وابنهم مرسي..."

صاح سلامة بمروءة.....

"ولا يقدر يعمل معاكم حاجة... يوريني نفسه..."

احتقن وجه الخالة وهي تقول من بين أسنانها بمقت...

"هو إنت قاعد لنا ياخويا.. ما إنت شوية وهتغطس مش هتقب هو حد بقى بيشوفك
لا إنت ولا أيوب في السوق..."

ثم حدجت في ابنة أختها بغيظ وهي تقول بغضب مكتوم....

"كان لازم تسيحي لنفسك يا عزة قدام الكل... وتقولي مد إيده وتنيل هنروح من كلام الناس فين؟!... "

احمرّ وجه عزة بالحرج وهي تبتعد عن سلامة لتواجه خالتها برأس مرفوع...

"وإيه اللي حصل ياخالتي؟!...مانا لسه زي مانا ودفعت عن نفسي..."

استنكرت خالتها حديثها وهي تقول بارتياع

"فتحتي العين عليكي وهتبقي مطمع لكل من هب ودب... في السوق الصيع وولاد الحرام ودول كتير...... استرها علينا يارب..."

تدخل سلامة بينهن قائلًا....

"مفيش حاجة من دي هتحصل... اطمني."

عادت السخرية إلى خالتها وهي ترمقه شزرًا

"إيه ناوي تقف معانا على نصبة الشاي وتوزع مكانها الطلبات؟!.... "

مسكت عزة في كم عباءة خالتها كي
تصمت....

"ياخالتي..."

نزعت الخالة ذراعها عنها وقد وصلت إلى ذروة غضبها منهما....

"اخرسي يا مايلة... ما هو إنتي سبب المصايب دي كلها..."

أوشكت عزة على البكاء وهي تتوسل إلى خالتها بالسكوت فهي لا تريد أن تكون السبب في إيلام سلامة يكفي ما تلقاه من صفيق الوجه مرسي...

"سلامة معملش حاجة ياخالتي... ده كان بيدافع عني..."

هدرت خالتها باهتياج....

"وبيدافع عنك بقى بصفته إيه؟!..... والناس هتقول إيه بعد ما ضرب مرسي الجوهري؟!"

صاح سلامة متدخلًا دون تفكير....

"هتقول إني خطيبها وبادافع عنها..."

توسعت عينا عزة بصدمة فاغرة الفم وهي تنظر إلى سلامة ثم إلى خالتها ظنًا منها أنها توهمت بسماع ذلك... لكن صدمة خالتها وتعقيبها على الأمر أكدت صحة ما سمعته للتو...

"خـ... خـ إيه؟!.... خطيبها ده من إمتى إن
شاء الله؟!...."

بملامح مقتضبة أخبرها سلامة...

"من دلوقتي... أنا عايز أتجوزك يا عزة..."

خص عزة بالحديث متجاهلًا خالتها تمامًا.

بلعت عزة ريقها مرتبكة بوجه تخضب بحمرة الخجل الساذجة وهي تفرك في يديها بتوتر متلعثمة بعدم تصديق....

"تجوزني... تجوزني أنا يا سي سلامة؟!"

أومأ مؤكدًا وهو يرى بوادر فرحتها وعدم تصديقها يتجلى في عينيها ووجهها وكأنه حلمها المستحيل وقد تحقق بطريقة الأكثر استحالة...

أيوب كان محقًا... عزة تكن له المشاعر وهو بحاجة إلى امرأة مثلها حتى يتخطى هذا الحب وينسى ما مر به...

وكذلك عزة بحاجة إلى رجل يحافظ عليها ويحترمها ويرحمها من عملها لدى ناس يروْنها سلعة تستحق النهب...

الجميع مستفيد من تلك الزيجة... فلمَ لا؟

"أيوه... فكّري وردي عليا... بس بسرعة عشان أنا مش عايزك تفضلي واقفة على نصبة الشاي دي كتير... خلينا نقطع عِرق ونسيّح دمه ونخرس الكل..... قولتي إيه؟"

شعرت عزة أنها على وشك الإغماء من شدة الفرحة وأن الخبر جعل الأرض تدور بها مما جعلها تتشبث بعباءة خالتها في الخفاء
هامسة بإعياء عاطفي.....

"خالتي... خالتي.... اسنديني ياخالتي..."

زجرتها خالتها بعدم رضا قائلة بوجوم...

"على إيه يا مايلة؟!.... اتقدملك دكتور... ده سلامة..... سلامة يا خيبة الرجا..."....


تعليقات