رواية اشتد قيد الهوي الفصل السابع والعشرون
أشعر أنني أُحلِّق على بساطٍ سحريٍّ معك تتلاحق أنفاسي لاهثة من روعة الشعور ويرجف قلبي بضعفٍ من ذروة العشق.
تأسر جسدي فينصهر في محراب الهوى...
وكأنني أختبر هذا العالم لأول مرة وكأنّي قبلك ما وُلِدتُ وما خفق قلبي لسواك.
لستُ منافقة فمشاعري نحوك وصلت إلى أوجِ مشاعرٍ عرفتها فلا تلُم لهفتي إليك ولا تلُم تَوْقي لك...
عادت تضرب وجنتها مجددًا بغضب فكيف كانت أمس معه في أوج لحظاتهما الحميمية مسالمة مستسلمة لم تخجل أو تتوقف وكأنها كانت تنتظر قربه منذ دهور...
مؤكد قال عنها قليلة الحياء...
نظرت إلى الأعلى تُطلق تنهيدة عالية معذبة فكيف تُقاوم رجلًا في روعته كيف تتعقل أمام رجلٍ يجرفها حبًا ويطوقها دفئًا كيف تصبح كالجليد أمام نيران عاطفته...
يذوب الجليد أمام صالح الشافعي ولمسته ويذوب.....ولن تُقاوم رجلًا أصبح زوجها أمام الله والجميع...
لكن كان عليها أن تتعقّل معه إنها أول مرة يكونان فيها معًا...
اعتصرت جفونها بقوة لا تريد أن تفكّر في تفاصيل ليلة أمس يكفي وقاحتها المتزايدة معه والتي لا تريد أن تتذكرها أبدًا...
خرجت من الحمام مرتديةً قميص نومٍ حريريٍّ طويل يُفصّل قدَّها الممشوق مكشوف من عند الذراع وجزءٍ من عظمة الترقوة البارزة بجمالٍ لديها...
دلفت إلى الغرفة فرأته نائمًا على الفراش كان قد تركها قبل الفجر وذهب ليقضي فريضة الصلاة ثم صعد إلى الحمام ليُطعمه عند الشروق وتركها نائمة كقطةٍ أتعبها الدلال...
لم تشعر به إلا وهو يندس بجوارها على الفراش يضمها إلى صدره النابض جاعلًا إياها ترتاح عليه بينما أصابعه تُداعب شعرها الأسود ولسانه يتمتم بالأذكار...
سمعتها كلها بين الحُلم واليقظة وربما رددتها في أحلامها المبهمة حتى ذهبت مجددًا في ثبات عميق....
ثم استيقظت منذ نصف ساعة تقريبًا
أخذت حمامًا باردًا مُعطّرًا وهي تتذكّر
تفاصيل ليلة أمس وكلما أتت لمحةٌ في عقلها عن تجاوبها الوقح معه صفعت نفسها شاعرة بالحرج الشديد من مواجهة عينَيه بعد قليل...
بدأت تُجفّف شعرها بالمنشفة أمام المرآة وضعته على كتفها وبدأت تُجفّفه بخفة وهي تنظر إلى المرآة وعيناها تشرُدان مع عقلها مجددًا...
معذّبة نفسها ومتحاملة عليها وكأنها مراهقة أخطأت مع أستاذها... لا يصح... لا يصح...
مع أنه هو من استدرجها وفجّر عواطفها... لكن لا يصح... لا يصح...
"والله عيب..."
همست بها وهي في ذروة شرودها وغضبها فسمعت صوته المتسائل مشاكسًا إياها....
"إيه هو اللي عيب؟..."
شهقت شروق بصوتٍ مسموع وهي تلتفت إليه بشعرها المبلل وقد وصل رذاذه إلى وجهه بخفةٍ يُداعبه...
"خضتني..."
وضعت يدها على صدرها وقالتها بأنفاسٍ لاهثة فعقد صالح حاجبيه عابسًا معقبًا...
"ليه كل ده؟... مش واخدة بالك إني نايم
في نفس الأوضة؟..."
تخضّبت وجنتاها قائلةً ببلاهة...
"كنت سرحانة..."
سألها ببسمةٍ عابثة لم ترها على محياه
يومًا... "في إيه؟..."
حمحمت ووجنتاها تزدادان احمرارًا وهي تقول بتهرّب....
"ولا حاجة... صباح الخير..."
توسّعت الابتسامة على محياه أكثر حتى شملت وجهه ولحيته الثقيلة المشذّبة....
"صباح النور..."
قالت بارتباك وهي تُكمل تجفيف شعرها الطويل....
"هخلص وهحضرلك الفطار دقايق بس..."
أشار لها صالح بالاقتراب قائلًا بلين....
"تعالي أنشفلك شعرك..."
فتحت فمها مع اتساع عينيها وهي تُعيد الكلمتين بتلعثم...
"تـ... تنشف شـ... شعري؟..."
أكّد مبتسمًا....
"أيوه... إيه المشكلة؟..."
رفضت شروق باستحياء...
"بلاش أتعبك... روح خد دُش كده وفُوق والفطار هتلاقيه عندك..."
عاد يشير إليها بقلة صبر....
"مش عايز أفطر دلوقتي... تعالي يا شروق..."
عضّت على شفتها..... "بس..."
بنظرةٍ جادّة وصوتٍ رصين أخبرها...
"مش بحب أكرر كلامي كتير... يعني كفاية من مرة واحدة أقولك تسمعي..."
أول أمرٍ لها كزوجة ألا تُجادل. وهي والجدال وجهان لعملةٍ واحدة لا تعرف المهاودة أبدًا وليست من طباعها... فكيف تفعلها؟...
لكنها اكتفت بإيماءةٍ مهذبة واعدةً إياه بألا تُكررها...
اقتربت منه بخطواتٍ هادئة فتأمّلها صالح تاركًا لعينيه حرية النظر إليها بهذا القميص الحريري الذي يرسم قدّها المرسوم كالمسطرة بجمالٍ إلى بشرتها البيضاء الناعمة ووجهها المليح والذي سيرافقه ليلًا ونهارًا...
سيرى الشروق في كل ساعةٍ ودقيقة ولن يمل أبدًا...
فمن يملّ من شمسٍ تُشرق حياته ناشرةً دفئًا وحبًا وهو بحاجةٍ إليها...كما أصبحت هي بحاجةٍ إليه وكلاهما يكمل الآخر دون أن يُدرك...
جلست شروق أمامه تُعطيه ظهرها والمنشفة فقطّب صالح جبينه وأدار وجهها إليه فجأة..
فاتسعت عيناها بصدمةٍ ناظرةً إليه وقبل أن تسأل ماذا يريد وجدته يميل ويقطف القُبل من وجنتيها الحمراوين أشبه ببتلات الورد الناعمة العطرة...
"صـبـاح الــورد... يـا غـزالــة الـشـيـخ..."
ابتسمت شروق وغزا الاحمرار وجهها كله
مع خفقات قلبها العالية وهي تُعقب بحياء..
"إيه حكاية غــزالـة دي؟..."
تمعّن في النظر إليها وكأن الإجابة مكتوبة على وجهها وهو يقول بدفء...
"عـيـونـك شبه الـغـزلان... وروحك زيهم..."
عقدت حاجبيها قليلًا مندهشةً معقّبة...
"يمكن العيون فهمتها شوية... بس إيه روحي دي كمان؟..."
رد صالح عليها وأصابعه تذهب دون إرادة منه إلى خصلةٍ من شعرها المتراقص يلمسها وهو يُجيبها....
"بتعرفي بخفّة تخطفي العين... وبنفس الخفّة تهربي... زي ما وعدتيني قبل ما نتجوز إنك هتفضلي وفجأة مشيتي..."
ذاب قلبها بين أضلعها أمام روعة قربه وكلماته فقالت معتذرة...
"كان ليا أسبابي... وغصب عني... إنت عارف..."
أومأ صالح بصدرٍ رحب....
"عارف ومسامح... بس مبقاش فيه هروب يا غـزالـة... مهما حاولتي..."
تألقت ابتسامتها الجميلة على شفتيها الفاتنة وهي تقول برقة....
"لأ اطمن... الغزالة مستحيل تسيب الشيخ..."
ثم أوْلَته ظهرها حين أمرها وبدأ صالح يُجفّف شعرها بالمنشفة بخفةٍ وحنان وعيناه تتأملان تموّج الخصلات كأمواجٍ هائجة في ليلةٍ عاصفة...
كعاصفة أمس وجمال اللحظات بينهما وقتها أدرك أنه انتظر انتظارًا عظيمًا حتى عوّضه الله بامرأةٍ مثلها ناضجة الأنوثة والجمال تمتلك عاطفةً فيّاضة أسقته حتى الارتواء...
لكنه الآن يشعر بالظمأ إليها وكأنه لم يرتوِ أمس بالقدر الكافي !...
نظرت إليه شروق حين توقّف عن تجفيف شعرها فتبادل صالح معها النظرات بعينين تتوهجان إليها ومعها...
فابتسمت بخجلٍ وهي تأخذ المنشفة منه ليبادر هو بالاقتراب منها فتفيض هي بعاطفتها المتأججة نحوه ويغرقان بها معًا...
بعد فترة كانت شروق ترص الأطباق على السفرة بعد أن حضرت فطورًا ملوكيًا للشيخ والجميع....
"شيخ صالح... الفطار جهز..."
خرج صالح من الغرفة وهو يُنزل الهاتف عن أذنه فسألته شروق...
"نازلين؟!"
هز صالح رأسه نفيًا وهو يسحب المقعد ويجلس أمام السفرة....
"أمي بتقول إنهم فطروا من بدري... وبتقولك بلاش تطبخي هي بتحضر الغدا وهتنزلنا."
تجهم وجه شروق وهي تقول...
"وليه تنزلنا؟!....إحنا نفطر وأنا هطلع أساعدها ونتغدى كلنا فوق... ليه كل واحد ياكل لوحده؟!...."
رفع صالح عينيه إليها
سائلًا...
"إنتي شايفة كده؟"
أكدت شروق بملامح رصينة...
"أنا مش شايفة غير كده... عشان خاطر البنات ما يحسوش إنهم لوحدهم وكل واحدة تفتكر حاجة شكل..."
وافقها صالح معقبًا...
"بالذات أبرار..."
هزت رأسها وهي تقول برفق...
"والله حتى ملك... هي بتحاول تداري بس أنا عارفاها... اكيد خايفة جوازنا يخليني أهمل فيها..."
رد صالح بصوتٍ حانٍ...
"مفيش إهمال ولا حاجة... بعد ما نفطر
هنطلع لهم...."
ثم نظر إلى سفرة الإفطار وعاد إليها
قائلًا...
"تسلم إيدك."
ابتسمت بحرج وهي تقول...
"على إيه؟... دا بيض وجبنة... استنى لما أطبخ."
ضاق عينيه مشاكسًا...
"على أساس إني ما كلتش من إيدك قبل كده؟... "
ضحكت شروق قائلة بنغَج...
"بعد الجواز حاجة تانية..."
غاص في جمال تفاصيلها المليحة وهو يقول بصوتٍ أجش...
"كل حاجة معاكي حاجة تانية..."
ثم مال عليها أكثر يشم عبيرها الطيب ويده تداعب خصلة من شعرها المنساب بجمال على ظهرها...
"صالـح... الفطار..."
همست بها شروق بضعف أنثوي زاد الشوق إليها وعاد شعور الظمأ إلى قلبه...
قالت بنعومة وهي تنظر إلى عينيه الخضراوين.....
"هنتأخر على البنات فوق..."
أخذ أكبر قدر من الهواء المعطر بقربها والذي أسكر حواسه كليًا وهو يجيبها بانتشاء...
"إيه يعني لو اتأخرنا شوية... شوية كمان..."
ضحكت بدلال محاولة الإفلات من حصاره الجارف...
"وبعدين معاك يا شييييخ..."
فعاتبها صالح بعاطفة مضطرمة...
"وبعدين معاكي يا غزالة الشيخ... الرحمة..."
نظرت إليه وقالت دون تفكير...
"إنت اللي..."
ثم توقفت وعضت على لسانها موبخة نفسها من جرأتها المتزايدة معه منذ أول ساعة زواج بينما فتح صالح فمه منتشيًا منتظرًا المزيد من الكلام غير المباح والذي للعجب أصبح معها مباحًا وبشدة !...
"أنا اللي إيه؟!"
سألها بفم مفتوح قليلًا منتظرًا ليجد لقمة صغيرة غمستها في الفول ثم وضعتها في
فمه دون مقدمات قائلة....
"إيه رأيك في الفول... ناقص ملح..."
ارتفع حاجباه بصدمة واحتقن وجهه ولم يعرف كيف ابتلع اللقمة قبل مضغها فوقفت في حلقه مسببة الاختناق....
"اسم الله... اتشهد يا شيخ..."
ناولته كوب ماء بوجهٍ باهت مصدوم...
وبعد التشهد وبعد أن خف السعال أخذ رشفة من الماء ثم وضع الكوب جانبًا وهو يلومها قائلًا....
"هتموتيني..."
هزت رأسها نفيًا وهي تقول بحرارة...
"بعد الشر... إن شاء الله أنا... وإنت لأ..."
رد صالح مبتسمًا...
"بعد الشر عليكي يا شروق..."
رأته ينهض دون أن يكمل طعامه فسألته متعجبة...
"رايح فين؟"
"كملي أكلك... هجيب حاجة من جوا وجاي..."
ثم تركها وذهب إلى غرفتهما وعاد بعد ثوانٍ وبين يديه صندوق بني من الخشب اللامع يبدو جديدًا....
وضعه أمامها على السفرة فسألته شروق متوجسة...
"إيه الصندوق ده؟"
رد بإيجاز...
"شبكتك."
توسعت عيناها وهي تنظر إلى الصندوق فلم يكن صغيرًا كان حجمه وسطًا ويتسع لكنز قراصنة وليس (لشبكتها)... لذلك وقعت في حيرة متعجبة وهي تردد الكلمة...
"شبكتي؟!"
رد عليها صالح وهو يفتح الصندوق بمفتاح ذهبي صغير وكأنه يفتح كنزًا كما وصفته منذ قليل...
"متأخرة شوية... كان المفروض تاخديها قبل كتب الكتاب بس كل تأخيرة وفيها خيرة. وبدل ما يبقى طقم واحد... بقى صندوق..."
توسعت عينا شروق بصدمة كبيرة وهي تنظر إلى محتوى الصندوق الذي فتح أمامها وظهرت مجموعة من الحُلي الذهبية البراقة بشدة وكأنها مستخرجة من جوف البحر...
"صالح... إنت بتهزر؟!... كل الدهب ده عشاني؟!... "
أكد صالح مبتسمًا وهو يرى ذهولها وسعادتها كأي أنثى بالحُلي...
"أيوه عشانك... البسي الغوايش دي عايز أشوفهم في دراعك... والسلسلة والخواتم
دي كمان..."
فعلت ما أمرها به ولم تقدر على إخفاء سعادتها بالذهب...
بالطبع لم تنتظر منه شيئًا كهذا ولم تطلب أو تطمع فيه لكنه فاجأها بمفاجأة سارة تستحق أن تُعبِّر عنها...
ضحكت شروق وهي تنظر إلى نفسها بعد أن ارتدت الأساور الذهبية في الذراعين والسلسال في رقبتها، رغم رقتهما إلا أن وجودهما معًا في رقبتها أمر كارثي يتدرج تحت مسمى (بلدي)، مع الخواتم التي تملأ أصابعها من الجهتين.....
"حاسّة إني بقيت شبه نعمة الله في الحاج متولي... كتير أوي يا صالح..."
ضحك صالح وهو يرى أن الوضع كارثي بالفعل إن أرادت أن ترتديهم معًا فاقترح...
"مش لازم تلبسيهم كلهم... البسي اللي يعجبك وابدلي فيهم..."
استحسنت الفكرة وهي تنزع الخواتم ثم السلاسل وبعض الأساور مكتفية بثمانية كل ذراع يحمل أربعة أساور وهكذا أصبح أفضل.
ورنة أساورها باتت ترنيمة فاتنة وهي تتحدث محركة ذراعيها بجذل وهي تنظر إليهم...
"هسيب الغوايش دي في دراعي... شكلهم
حلو وصوتهم كمان..."
وافقها صالح فقالت بحرج وهي تنظر إليه بامتنان...
"كلّفت نفسك جامد..."
رد صالح وهو يشملها بنظرة دافئة خاصة...
"مفيش تكلفة ولا حاجة... إنتي تتقلّي بالدهب يا شروق... ومش هيكون كفاية..."
قالت بخجل ترمقه بمحبة...
"ربنا يخليك ليا... ويوسّع رزقك كمان وكمان..."
ناغشها قائلًا...
"وأجيبلك دهب تاني؟!"
هزت رأسها ضاحكة وهي تقول...
"لأ لأ... أنا قنوعة... كفاية صندوق مليان دهب."
علّق ممازحًا...
"نخليهم اتنين أو تلاتة..."
ضحكت رافضة بينما أخرج هو من جيبه علبة صغيرة أعطاها لها قائلًا....
"خدي العلبة دي..."
سألته بدهشة...
"إيه دي كمان؟!"
رد عليها بهدوء...
"دي مش عشانك... دي سلسلة دهب عليها اسم (ملك)... وحلق ليها كمان. ابقي اديهم
ليها لما تطلعي."
ترقرقت الدموع في عينيها متأثرة وقد غمرتها الفرحة أكثر من ذي قبل وهي تفتح العلبة وتنظر إلى ما أتى لابنتها...
ابنتها التي عجزت سابقًا عن شراء أقراط ذهبية لها عند مولدها !....
"طب وأبرار؟!"
سألته شروق بتردد بعد أن فاقت من فرحتها المختلطة بذكرياتها الحزينة...
طمأنها صالح بنظرة حنونة موضحًا
باستفاضة...
"أبرار عندها صندوق زي ده... ده غير دهب أمها... محتفظة بيهم... بس طبعًا ذوقي مش بيعجبها... فَلمّا بتحب تجيب حاجة بتروح للصايغ اللي بنتعامل معاه تختار اللي هي عايزاه وأنا بحسبه في الآخر..."
تنهدت شروق بارتياح وزال خوفها وهي تقول بامتنان...
"ربنا يخليك لينا... مش عارفة أقولك إيه... بس حتى ملك ما نسيتهاش..."
قطب صالح جبينه ورمقها بنظرة لائمة...
"وأنساها ليه دي زي أبرار... وحتى من قبل
ما نتجوز وأنا بعتبرها زيها..."
مسح دموعها بإبهامه وهو يقول برفق...
"امسحي دموعك دي... ويلا خلينا نكمل
الفطار ونطلع لهم..."
عادا يجلسان أمام الطعام مجددًا لكن تلك المرة رنة أساورها تعزف على أوتار قلبه وكأنه كان بحاجة لتفصيلة أخرى تأسره نحوها...
الم تكفي عيناها الكحيلة !....
"انا جهزت ياصالح......"
قالتها شروق وهي تخرج من الغرفة بعد
أن بدلت ملابسها بعباءة بيتية أنيقة ولفّت الحجاب حول وجهها عازمة على نزعه حين تصل إلى الطابق الثالث حيث شقة صالح سابقًا...
تجهّم صالح بعدم رضا وهو يوقفها قبل أن تفتح باب الشقة....
"استني عندك... إيه العباية دي؟"
توقفت في مكانها مستديرة إليه تنظر إلى العباءة المحتشمة الأنيقة التي تُبرز تفاصيلها بحياء...
"مالها؟...... وحشة؟"
أردف مستهجنًا...
"المشكلة إنها مش وحشة... دي ضيّقة."
اتسعت عيناها بعدم تصديق...
"ضيّقة فين؟!...... بتهزر؟"
تأفّف من تلك الكلمة التي تكررها كلما قال شيئًا خارج نطاق عقلها الذي ما زال يستوعب الوضع الجديد والشخص الذي يشاركه إياه...
أمرها بنبرة صارمة لا تقبل النقاش....
"بلاش تكرري الكلمة دي... عشان أنا مبهزرش. روحي غيري العباية وجيبي حاجة أوسع من كده...."
عادت تنظر إلى العباءة غير مقتنعة ثم جادلته....
"طب إيه المشكلة يا صالح؟...مفيش حد
فوق غير البنات وخالتي..."
أوغر صدره بالغيرة وهو يقول بنفاد صبر...
"وياسين هيرجع من الشغل يتغدّى معانا ويقعد معانا... يشوفك كده؟!"
مطّت شفتيها ملتزمة الصمت بتذمّر فلا تجد في العباءة شيئًا يستدعي بغضه بهذا الشكل.
"وامسحي الكحل من عينك.... "
اتسعت عيناها بصدمة ورفضت بنبرة مستاءة توشك على البكاء...
"لا يا صالح حرام... أنا عروسة."
بأوامر حازمة أخبرها بخشونة....
"عروسة في شقتك... لجوزك مش للناس
اللي برّه...."
جادلته بنظرة بريئة تستجدي عطفه...
"بس أنا بحس عيني باهتانه من غير الكحل."
زمّ فمه واجمًا وهو يقول بصعوبة...
"عينك أحلى من غير الكحل... ودي مش هلاقي ليها حل.... "
تبرّمت من تعليقه وقالت بغضب مكتوم...
"لا ليها حل...إني أفقعلك عيني... إيه رأيك؟"
ابتسم صالح وهو يرخي الحبل قليلًا فلا
يجوز للغزالة الشدّة طوال الوقت...
"متهونيش يا غزالة... افردي وشّك وروحي اعملي اللي قولتلك عليه."
زفرت عدة مرات معبّرة عن غضبها وهي
تقول....
"إنت صعب... صعب أوي... "
أشار لها على الغرفة قائلًا بصبر...
"مفيش جنة من غير نار... روحي الله يهديكي..."
استسلمت شروق لرغبته الملحّة وصلابة رأسه وهي تتحرك نحو الغرفة كي تبدّل ملابسها بأخرى أوسع...
ستختار عباءة تبتلعها حتى تنال رضاه.
..............................................................
فتحت ملك الباب وما إن رأت أمها حتى تهللت أساريرها وألقت بنفسها في أحضانها فضمتها شروق إليها تقبلها وتشم عبير شعرها الأسود....
"ملوكة وحشتيني... منزلتيش ليه تفطري معايا؟.... "
قالت ملك وهي تفصل العناق بينهما....
"تيتة عملت لنا الفطار وكلنا من بدري..."
قالت والدته وكانت تتابع التلفاز ريثما تنتهي من قطف أوراق الملوخية...
"صباحية مباركة يا ولاد... إيه اللي طلعكم
أنا ما قولتلكم كمان ساعتين هنزّلكم الغدا..."
اقتربت منها شروق وقبّلتها قائلة....
"وليه كل ده يا خالتي...أنا أعمله ونِتغدى
كلنا سوا..."
قالت والدته بنظرة لائمة....
"مستعجلة ليه يا شروق... خدي يومين مع جوزك...دا إنتي عروسة..."
خرجت أبرار من غرفتها وستلمت دفة الحديث بصوت ساخر....
"آه عروسة ومش عايزين نتعبك... كده كده هتطبخي وتغسلي المواعين كمان..."
عقبت الجدة بنظرة حادة...
"بس المواعين عليكي يا أبرار..."
ابتسمت أبرار بخبث وقالت...
"لا دا كان زمان... دلوقتي بقت شروق أولى بيها هي والطبيخ..."
اتسعت بسمة شروق بمحبة...
"وماله... يوم عليا ويوم عليكي..."
زجرتها أبرار بغيظ...
"دا بعينك... "
"تعالي يا ابرار....."
أشار لها صالح أن تقترب ففعلت والدموع تترقرق في عينيها رغمًا عنها...وحين وصلت إليه ضمها إلى صدره دون كلمة فاختبأت
بين ذراعيه...
جفّت دموعها بقوة جبارة منها وقالت
بمزاح...
"وكأنك كنت مسافر...مالك يا أبو الكباتن؟"
رد صالح بحنو مبتسمًا...
"مش عارف... شكلك وحشاني يا بَرتي..."
نزعت نفسها من بين ذراعيه توزع نظراتها بينهما بحمائية...
"هي العروسة زعلتك قولي... وأنا أجيبلك حقك منها..."
جلست شروق بجوار والدته تساعدها في قطف أوراق الملوخية وهي تقول بلؤم...
"مش يمكن يكون هو الغلطان؟..."
قالت أبرار بنظرة محتدة...
"بس صالح الشافعي ما بيغلطش... أكيد إنتي اللي قرشتي ملحتُه من أول يوم..."
ضحكت الجدة وكذلك فعلت شروق بينما سألته أبرار بجدية....
"قرشه ملحتك صح؟... "
تلاقت عيناه بعيون الغزلان فأكّدها بنظرة ولهجة ذات مغزى...
"من أول يوم شوفتها فيه... محتاجين نعمل قعدة عرب وتحكمي بينا..."
توردت وجنتا شروق بخجل ضاحكة وهي تعقب....
"مش لازم تحكم يا شيخ... معروفة هتاخد صفك..."
تبرمت أبرار قائلة باحتجاج...
"شيخ؟!....اسمه أبو الكباتن... وبعدين هاخد صفك إنتي أكيد هاخد صفّه. أسمع مني يا بابا وتعالى أجوزك ندى صاحبتي...وعلى اتفاقنا."
رفعت شروق حاجبها بانتباه
شديد...
"اتفاق إيه..... وصاحبتها مين؟"
نظر صالح إلى ابنته بتحذير قبل أن
يجيب.... "أبرار بتهزر..."
زمت أبرار شفتيها بمكر...
"والله ممكن الهزار يقلب جد لو قولت آمين. أنا صحابي كتير وكلهم قطاقيط..."
شق ثغر شروق ابتسامة لئيمة وقالت بمراوغة....
"طب نشوف واحدة منهم لياسين... هو أولى ولا إيه يا شيخ صالح؟... "
أحتقن وجه أبرار بالغيظ وهي ترمقها شزرًا بينما بدا الاستحسان على وجه صالح وقال بعد لحظة تفكير...
"والله لو الكلام بجد... فأنا هعتمد على أبرار في الحتة دي ترشح لنا واحده من صحابتها... أخلاقها كويسة وبنت ناس."
اتسعت عينا أبرار بصدمة بينما ضحكت
شروق بتشفي قائلة...
"أبرار جدعة وخدومة أوي من ناحية ابن عمها... وأكيد مش هتتأخر..."
هتفت أبرار بشراسة....
"وأنا مالي بــ ياسين.... أنا بتكلم على بابا.. "
حدجت شروق الى صالح سائلة...
"طب رد يا بابا... ناوي تتجوز تاني؟"
احتواها صالح بنظرة خاصة وقال بنبرة كالبلسم....
"كفاية إنتي والبنات... هعوز إيه تاني؟"
اعترضت والدته بمزاح...
"على كده أنا اتنسيت... "
ضحك صالح معترضًا واقترب منها يقبّل
رأسها ثم يدها...
"إنتي بيهم كلهم يا حاجة... دا إنتي الخير والبركة.... "
نظرت إليه والدته بمزاح قائلة...
"بكّاش..ومن أول يوم علمتك شروف البكش."
عقبت شروق بقنوط...
"ظلماني والله يا خالتي... هو أنا لحقت؟"
اتسعت ابتسامة والدته أكثر وهي تقول
بمحبة...
"ربنا يسعدكم يا ولاد..وأشيل عيالكم قريب."
حملت شروق الطبق الذي يحوي أوراق الملوخية وقالت...
"قعدي إنتي استريحي يا خالتي... وأنا
هروح أحضر الغدا.... "
رفضت والدته...
"يا بنتي ما تتعبيش نفسك..."
"فين التعب ده... قعدي استريحي وأنا وأبرار هنطبخ...."
قالتها شروق وهي تسحب أبرار من ذراعها فقالت أبرار وهي ترفض الذهاب معها...
"بس أنا مش عايزة أطبخ..."
سحبتها بقوة جبارة....
"تعالي بقولك..."
أشار صالح إلى ملك الواقفة على الجانب تتابع ما يحدث دون تدخل....
"تعالي يا ملك اقعدي... واقفة ليه؟"
جلست ملك بجواره على الأريكة، فسألها صالح بنبرة حنونة....
"عاملة إيه في دروسك؟..."
أجابته بحرج....
"الحمد لله..."
قال صالح بنظرة طريفة...
"شدي حيلك بقى... الامتحانات على الأبواب عايز درجات عالية... تستاهلي الهدية اللي هجبها لك."
برقت عينا ملك مبتهجة...
"بجد هتجبلي هدية؟!..... إيه؟"
سألها صالح مبتسمًا...
"إنتي نفسك في إيه... واللي هتطلبيه هتلاقيه.... "
قالت ملك...
"نفسي في تليفون تاتش..."
أومأ صالح لها قائلًا بوعد...
"اعتبريه حصل... انجحي إنتي بس وهجبلك أحدث تليفون زي اللي مع أبرار... إيه رأيك؟"
انبسطت أساريرها مع اتساع عينيها بدهشة..
"بجد يا عمو؟!.... دا حلو أوي... وغالي أوي..."
قال صالح بعينين يملؤهما الحنان...
"مفيش حاجة تغلى عليكي... انجحي إنتي بس وهتلاقيه عندك."
نهضت ملك بسرعة واقتربت منه ثم طبعت قبلة على خده ببراءة تعبّر عن فرحتها وامتنانها قائلة...
"إن شاء الله... شكراً يا عمو..."
بينما همست والدته سرًا....
"ربنا يبارك فيك يا بني ويوسع رزقك كمان وكمان..."
"عايزة إيه مني... شداني كده ليه؟"
قالتها أبرار بحنق شديد وهي تنزع ذراعها من يد شروق التي وقفت أمامها متخصرة ترمقها بعينين مشتعلتين بالغيرة....
"إيه الكلام الخايب اللي قولتيه برا ده صاحبتك مين دي اللي عايزة تجوّزيها لأبوكي؟..."
سألتها أبرار بدهاء...
"وإنتي إيه اللي مزعلك؟"
جزت شروق على أسنانها...
"بطلي تستفزيني يا أبرار... هتشتغليلي في الأزرق من دلوقتي؟..."
قالت أبرار بعينين تقدحان شررًا...
"وإنتي يعني سكتي برا....ما إنتي دخلتي ياسين في الحوار... مالك ومال ياسين؟"
احتدت شروق بضيق...
"طب وانتي مالك ومال جوزي؟... "
شهقت أبرار وهي تقول بتسلط.....
"جوزك ده أبويا يا حبيبتي.... ما تنسيش نفسك.... "
عيل صبر شروق فقالت بعد زفرة
طويلة...
"اللهم طولك يا روح..."
قالت أبرار بهجوم غير مبرر....
"اتظبطي يا شروق...أنا ممكن أخربها فوق دماغك...."
أشارت إليها شروق بلا اكتراث...
"روحي اخربيها يا أبرار... أنا مش همنعك."
ثم تركتها وبدأت تغسل أوراق الملوخية فسألتها أبرار بوجوم...
"هتزفتي تطبخي إيه؟..... خلصيني..."
دون النظر إليها قالت شروق بتحذير
ناري...
"اتكلمي عدل... عشان ماحطش وشك
في الحلة... "
تبرمت أبرار قائلة بقرف...
"سودة من جوا...والغل وكلك وتعمليها"
ردت عليها شروق بجفاء...
"والله ما في حد هنا بغل غيرك..."
تنهدت أبرار بنعومة مغيظة وقالت...
"طيب يا أم أربعة وأربعين... هتطبخي إيه؟"
بصوتٍ مائع أجابتها...
"هنشوف... محتاجة أعمل للراجل لقمة ترم عضمه.... "
امتعضت أبرار ثم وبختها....
"بطلي كهن يا ولية... واتكلمي عدل... "
كبحت شروق ضحكتها وهي تدّعي
الضجر...
"اللهم طولك يا روح... روحي قشري بصل."
امتقع وجه أبرار وقالت بصلف...
"البصل ده شغلتك إنتي... أنا هخرط الملوخية...."
لم تعترض شروق وبدأت بالطهو وكذلك بدأت أبرار بخرط الملوخية وبعد برهة من الصمت سألتها شروق باهتمام....
"عاملة إيه مع ياسين؟..."
ردت بنزق...
"ملكيش دعوة.. "
تنهدت شروق باستياء قائلة...
"هو إنتي ما بتعرفيش تردي زي الناس؟"
امتعضت شفتيها ضاجرة...
"شبهك... متعلمة منك.. "
سألتها بصبر...
"هيكلم أبوكي إمتى؟"
"معرفش..."
توقفت شروق ناظرة إليها...
"مش قولتي بعد جوازنا؟... "
قالت الأخرى ساخرة..
"وهو فات على جوازكم قرن؟ ده النهاردة
تاني يوم... "
قالت شروق بنفس سمحة...
"برضه خليه يشهّل ويكلمه... بدل ما الموضوع يتعرف وأبوكي يلاحظ... "
نظرت إليها أبرار بطرف عينيها تشيع اتهامًا صريحًا...
"مين هيخلي يلاحظ؟.... إلا لو إنتي فتنتي عليا..."
ضغطت شروق على شفتيها بقوة ثم قالت بسأم...
"الله يسامحك... أنا بتكلم عشان إنتوا الاتنين مفضوحين وممكن يبان عليكم... زي ما بان عليكي كده وإحنا برا لما جت سيرة ياسين وجوازه...."
وبختها أبرار بشراسة...
"ماكله منك... مش سهلة إنتي..."
أكدت شروق وهي تتابع ما تفعل...
"والله ولا إنتي..."
بعد مدة انتهت الاثنتان من طهو الطعام معًا ثم بدأتا في تحضير السفرة. وكانت ملك قد بدأت تساعد في رصّ الأطباق...لم يكن ياسين قد وصل بعد بينما كان صالح يؤدي فريضة صلاة العصر في الجامع ووالدته تصلّي في غرفتها ريثما ينتهي ويأتي ياسين كذلك...
صدح جرس الباب فهرولت أبرار نحوه بخطوات تكاد تحلّق فوق الأرض كقلبها
الخافق بين أضلعها....
"سينو..."
همست بها برقة وهي تقف عند الباب ترتدي إسدال الصلاة وتغطي شعرها بوشاح كما اعتاد أن يراها دائمًا لكنه لم يعتد استقبالها الحافل ولا تلك النظرة الهائمة في مجرّة عينيها موطنه وملاذه....
"قلب سينو..."
قالها وهو يميل عليها بجرأة ينوي تقبيلها فابتعدت عنه معترضة بعنفوان...
"احترم نفسك... بتعمل إيه؟!"
قال بنظرة شديدة الجدية....
"في دقيق على وشّك..."
مسحت على خدها وهي تقول بحاجب
معقود....
"دقيق؟!..... إحنا مطبخناش بدقيق...فين..."
أشار لها بنفس الجدية أن تقترب....
"قربي... خليني أمسحهولِك..."
مالت أبرار عليه لكن بحرص شديد فمدّ هو يده يقرص خدها بمزاح قائلاً بهيام....
"يا خرابي على خدوده..."
ضربت كف يده وهي تبتعد عنه واجمة.....
"تصدّق إنك غلس وكدّاب... ادخل يلا قبل ما الأكل يبرد....بابا تلاقيه طالع على السلم..."
صاحت شروق من المطبخ...
"شهلي يا أبرار... كل ده بتفتحي الباب؟!"
ضغطت أبرار على شفتيها بغيظ تشكو له بافتراء....
"واخد بالك... من أول يوم ممرمطاني طبيخ وغسيل ومسح لحد ما حيلي اتهد..."
ربت ياسين على كتفها قائلاً بمهاودة...
"معلش يا حبيبي... إنتي قدها وقدود..."
حدجته بعينين لائمتين....
"هو ده اللي ربنا قدرك عليه؟!"
قال باستنكار...
"أروح أمسك فيها يعني؟!...طوّلي بالك... هنحتاجها الفترة الجاية..."
سألته عابسة.... "في إيه... إن شاء الله؟"
أوضح بغمزة شقية....
"ما هي اللي هتمهّد لنا الموضوع عند أبوكي..."
وصلا إلى سفرة الطعام وكانت شروق قد أتت للتوّ عليهما وعندما رأته قالت بودّ...
"حمد لله على السلامة يا ياسين..."
ردّ بكياسة....
"الله يسلمِك يا أم ملك..."
ثم أردف مشيرًا إلى الأصناف المنوّعة ذات الروائح الشهية....
"إيه دا كله... مين عمل السفرة الجامدة دي؟"
أشارت شروق إلى أبرار بفخر متخذةً وضع الحماة التي تتباهى بابنتها أمام زوجها المستقبلي....
"أكيد أبرار... أنا بس وقفت ساعدتها..."
ارتفع حاجب أبرار بصدمة فهي كانت تؤدي دور مساعد الطاهي على مدار الساعات
الفائتة.....
عقّب ياسين وهو ينظر إلى أبرار باستهجان..
"بجد؟!.... أبرار شاطرة أوي كده دي بتعمل الملوخية ساقطة..."
امتعضت أبرار وهي تقول بمزاح ثقيل...
"ما هو من كتر الاجتهاد... نجحت وطلعت الأولى..."
"خفة دمّك دي هتخلّيني أقطع شراييني..."
قالها ياسين ثم سحب مقعدًا وشرع في الأكل دون انتظار أحد....
فيما سمعوا طرقات على الباب فقالت شروق وهي تشير إلى ابنتها....
"افتحي يا ملك... دا أكيد صالح..."
وبالفعل أتى صالح عليهم ولاحظ وجود ياسين فسأل بتلقائية....
"جيت يا ياسين؟"
أجابه ياسين وهو يستمتع بمذاق الأكل الشهي والدسم كذلك....
"وباكل كمان... بسم الله..."
ابتسم صالح وهو يسحب مقعدًا ويجلس على رأس الطاولة قائلاً لزوجته بعد أن جاورته...
"تسلم إيدِك..."
قالت برقة.... "بألف هنا... يا شيخ..."
ثم أشارت إلى ابنتها كي تجلس بالقرب
منها...
"يلا يا لوكا... تعالي جمبي..."
كذلك جلست أبرار بجوار ياسين ثم أتت الجدة وجلست على الناحية الأخرى بجوار صالح وهي تقول بمحبة....
"ريحة الأكل واصلاني من جوّه... تسلم إيدِك
يا شروق..."
ابتسمت لها شروق وهي تقرّب منها الطعام أكثر....
"بألف هنا يا خالتي..."
ثم وضعت طبق السلطة والخبز أمام زوجها قائلة باهتمام أنثوي....
"السلطة والعيش... عارفاك بتحبهم مع الأكل..."
داعبها صالح بنظرة خاصة معقّبًا بهمس
عذب...
"مطلعش هما بس اللي بحبهم مع الأكل..."
غزا الاحمرار وجنتيها وهي تبعد عينيها عنه بقلب يخفق بجنون....
تنحنح صالح بخشونة وهو يصوّب نظراته نحو ابن أخيه....
"الشغل ماشي كويس يا ياسين؟..."
أجابه ياسين بهدوء...
"اطمّن يا عمي... كأنك موجود..."
سأله صالح متذكّرًا...
"ميار عملت إيه في الحسابات اللي اتكلمنا فيها؟... "
أجابه ياسين بعملية...
"قعدنا النهاردة سوا... وعملنا اللازم... اطمن."
رفعت أبرار عينيها النارية على ياسين فتبادل معها النظرات ببراءة مبعدًا التهمة عنه...
قال صالح بعد لحظة صمت...
"البنت دي ممتازة... مشكلتها بالنسبة لي إنها مش محجّبة..."
تدخلت والدته قائلة....
"ربنا يهديها يا صالح... مش هنتحكّم في
حد يا بني..."
أوضح صالح حديثه قائلاً...
"مش قصدي يا أمي... بس لولا النقطة دي كنت طلبت إيدها لياسين..."
توقف الطعام في حلق أبرار فجأة فسعلت وهي تضع يدها على فمها....
فقالت الجدة بارتياع بينما ناولتها شروق كوب الماء...
"اسم الله عليكي يا حبيبتي... اشربي..."
بطرف عينيها نظرت إلى ياسين بارتباك وهي تأخذ رشفة من الماء....
ظهر التوتر في عيني شروق وهي تدعو سرًّا أن يمرّ الأمر بسلام دون أن يلاحظ صالح تلك النظرات المرتبكة بينهما وردّات الفعل التي يصعب عليهما كبحها....
أخذ ياسين كوب الماء منها وهو يسألها برفق
"إنتي كويسة؟"
أومأت برأسها وهي تهرب من نظراته فالجميع مصوّب أعينهم عليهما....
عاد صالح يفتح الحديث بإلحاح غريب...
"إيه رأيك يا ياسين... ميار كويسة مش كده؟"
أكّد ياسين برصانة...
"أكيد كويسة... بس يعني مش هي دي اللي في دماغي..."
ارتفع نبضها بقوة وهي تقلّب في طبقها بارتباك.....
"يعني في حد معيّن؟!"
تساءل صالح.....فأكد دون تقهقر....
"أكيد..."
ظهرت الفرحة في عيني صالح وهو
يستفسر منه......
"وعلى كده نويت؟"
ردّ ياسين عليه بجدية وهو يوزّع النظرات على الجميع وهي آخرهم وأكثرهم.....
"ناوي... بس لسه همهّد الموضوع... ادعيلي."
أظهر صالح زهْوه بمحبة الأب...
"مش محتاج دعواتي... إنت ابن حلال وجدع وأي عيلة تتمنى تناسب ياسين الشافعي."
سأله ياسين ببعض الدهشة....
"إنت شايف كده يا عمي؟"
أكّد صالح بنبرة جادّة دون أدنى شك...
"أنا مش شايف غير كده... توكّل على الله وادخل البيت من بابه... وأنا معاك مش هسيبك....
المهم تكون بنت محترمة ومحتشمة وأهلها يفهموا في الأصول..."
ازداد وجهها توهجًا وهي تحني رأسها خجلًا تكاد تخفيه في الطبق علّ الحديث ينتهي.
ظهر الارتياح على وجه ياسين وهو يقول بابتسامة واسعة وعيناه تذهب إليها
مجددًا...
"لا اطمن من الناحية دي... مفيش على أخلاقها غبار.... بالعكس... دي تشرف أي
حد....ومكسب كبير ليا هي وأهلها..."
نهضت أبرار فجأة فنظر لها الجميع متعجبًا وأكثرهم صالح الذي قال....
"كمّلي أكلك يا أبرار..."
قالت بخفوت.... "شبعت يا بابا..."
ثم غادرت نحو المطبخ فوقف ياسين مثلها فاحتقن وجه شروق بالغيظ من تصرّفاتهما المكشوفة.....
"رايح فين يا ياسين؟"
ردّ ياسين بكياسة وهو ينظر إلى شروق...
"الحمد لله شبعت... تسلم إيدِك يا أم ملك..."
ثم غادر ياسين نحو الردهة التي تؤدي إلى المطبخ والحمّام.....
"مالهم؟"
سأل صالح شروق عابسًا فقالت بابتسامة صغيرة....
"معرفش... تلاقيهم شبعوا... كل من الملوخية إنت...ما حطّتش إيدك فيها..."
"مالك يا أبراري..."
سألها ياسين وهو يقف أمامها في المطبخ.
فاتسعت عيناها وهي تنظر خلفه برهبة...
"إنت إيه اللي جابك ورايا؟!... بابا هيشوفنا..."
زمّ ياسين شفتيه قائلًا بجزع....
"أنا كان فاضلي شوية وأقع من لساني وأقوله إني بحب بنتك.... وعايز أتجوزها..."
وضعت يدها على خدها بهلع....
"احييه... يعني اللي حسيته من نظراتك صح؟!.... "
هتف ياسين بتشنج....
"وفيها إيه؟!..... ما إحنا لازم نقوله..."
عقبت بارتياع...
"بس مش دلوقتي... أنا خايفة..."
نظر إليها ياسين بحدة....
"خايفة من إيه؟!... إحنا بنعمل حاجة غلط
إحنا بنحب بعض وعايزين نتجوز... إيه اللي مخليكي مرعوبة أوي كده؟!... "
قالت أبرار بتوتر وهي تنظر خلفه مجددًا...
"خايفة بابا يفتكر إننا خنّا ثقته... شروق كمان قالت إن بابا ممكن ياخد باله من تصرفاتنا..."
اغتاظ ياسين من ذكر تلك المرأة مجددًا
فقال بعصبية....
"تاني شروق؟!.... هي إيه حكايتها معايا بالظبط؟!... "
قالت أبرار على مضض...
"كلامها صح..."
انفعل ياسين أكثر وهو يعبس....
"وحتى لو بتتكلم صح... هي بتوترك ليه زيادة... وبتبعدك عني؟!... "
قالت بقنوط....
"هي بتنصحني..."
لوّح بيده بحنق شديد...
"خليها توفر نصايحها لنفسها... وتركز في حياتها وتسيبني أنا وانتي في حالنا..."
قالت أبرار بتهدّج...
"اسمع يا ياسين..."
فقاطعها ياسين بنبرة محتدة....
"إنتي اللي تسمعي... إحنا مش بنعمل حاجة غلط. أنا هفاتح أبوكي في موضوعنا... ومش هستعين بالست شروق عشان ما تخربهاش... هكلمه أنا بنفسي وهشوف رده هيبقى إزاي..."
اعترضت أبرار قائلة...
"بس مش دلوقتي... اصبر شوية..."
تململ ياسين قائلًا بشق الأنفس....
"لحد إمتى يا أبرار؟!...أنا زهقت... وعايز اللي بينا يبقى رسمي قدام الكل... ومحدش ليه حاجة عندنا..."
قالت بمهاودة....
"كمان كام يوم... بالله عليك..."
ثم تذكرت أمرًا هامًا فقالت بنظرة نارية يشوبها الغيرة...
"وياريت تخف كلام مع اللي اسمها ميار..."
هتف ياسين بصدق...
"ده شغل... شغل وبس. شوية ثقة فيا عنيا مش شايفة غيرك أصلًا..."
سألته بشك...
"وبالنسبة لقلبك؟..."
تبرم ياسين وهو يرمقها بعينين لائمتين...
"وكمان بتسألي؟!...مفهوش غيرك يا حلوفة..."
ضربته في صدره...
"ما تقولش حلوفة بس..."
تنهد ياسين بتعب قائلًا بمزاح...
"أحلى حلوفة شافتها عنيا... وأبوها ناوي يكمل عليا..."
ابتسمت أبرار بظفر أنثوي قائلة...
"مفيش حاجة بالساهل..."
تمعن في النظر إلى سعة عينيها السوداوين البراقتين ثم إلى غمازتيها الجميلتين وعقب متنهدًا بحرارة...
"معاكي كل حاجة صعبة يا أبرار... بس اطمني أنا نفسي طويل... ووراكي للآخر..."
.................................................................
وضعت الطعام على الطبلية ثم نادت على خالتها وهي تفترش الأرض جالسة...
"الأكل اتحط ياخالتي....."
اقتربت خالتها وجلست وهي تئن من مفاصل ركبتها ثم بدأت تأكل بملامح مقتضبة
فسألتها عزة وهي تمضغ الطعام...
"مالك ياخالتي...الأكل مش عاجبك ولا إيه..."
رمقتها خالتها شزرًا دون تعليق فقالت عزة بتشنج....
"مالك ياخالتي ساكتة ليه....."
ضربت خالتها على سطح الطبلية بقبضتها
وهي تقول باهتياج....
"انتي فعلاً موافقة على الشبكة السودة دي
سلامة.... سلامة يا مايلة...."
احتقن وجه عزة بالغضب وهي تصيح
بجزع....
"يوووه بقى ياخالتي... هنعيدوا تاني دا أنا
ما صدقت اتلحلح وطلبني للجواز...."
سألتها خالتها بحرقة....
"وبعد ما تجوزيه هتعيشي فين؟...
وتصرفي منين....."
أجابتها عزة بجسارة....
"هعيش معاه في الأوضة اللي فوق السطوح ولو حكمت أشتغل وأساعده.... هعملها المهم نبقى مع بعض....."
صرّت خالتها على أسنانها بقوة وهي تصيح بلوعة....
"يا بت انتي غاوية فقر.... ما تفكك من الواد ده وبصي لنفسك... إيه ناوية تدفني نفسك بالحيا...."
صاحت عزة بانفعال....
"بقولك بحبه.... بحبه ياخالتي...."
تبرمت خالتها وهي تقول بجفاء....
"وهو الحب بياكل عيش اليومين دول... ياما ناس كتير مشيت ورا الحب وتبهدلت وقالت يارتني... وانتي مش ناقصة بهدلة في الدنيا.."
عقبت عزة بنظرة حزينة يغلبها قلة الحيلة...
"أديكي قولتي مش ناقصة... يعني كده كده متبهدلة وطالع عيني في الدنيا..... أنا راضية بالبهدلة بس أبقى معاه..... أبقى مرات سلامة بس..."
سخرت منها خالتها بقرف....
"يعني هتبقي مرات وزير الوزرا... ده حرامي.."
نهضت عزة من مكانها وهي تقول باحتجاج غاضب....
"متقوليش كده ياخالتي.. والله هزعل منك...
سلامة جدع وغلبان... ومش ذنبه إنه طلع ملقاش حد معاه....."
ثم أخذت (القُلّة) من على إطار الشباك وارتشفت الماء البارد منها.....
سمعت خالتها تقول بنصح....
"هو ملوش ذنب.... بس انتي إيه ذنبك تربطي نفسك بيه العمر كله....."
مسحت فمها من قطرات الماء بظهر يدها وهي تصرخ بغضب....
"يووووه....ما قولتلك بحبه الحانها....."
لوّحت لها خالتها بضيق وهي تتابع أكلها على مضض.....
"اعملي اللي تعمليه بس مترجعيش تقولي يارتني....."
سألتها عزة بخوف وهي تقترب منها...
"هتسبيني أتجوز ياخالتي لوحدي...."
ضربتها في ذراعها وهي تقول بتوبيخ الأم...
"وأنا أقدر يا مايلة.... حتى لو العريس مش على هوايا... مفيش أم تسيب بنتها لوحدها مهما حصل...."
قبلتها عزة وهي تقول بعينين لامعتين بالدموع....
"أمي التانية والله....ربنا يخليكي ليا ياخالتي.."
أوقفتها خالتها بنظرة حازمة.....
"بس خلي في علمك أنا مش هتنازل عن
شبكة وأوضة نوم لوكس.... اه انتي برضو
مش هتدخلي فاضية... انتي مجهزة نفسك زيك زي أي واحدة...."
تلونت ابتسامة عزة باستهزاء قاتم وهي تعلق بتهكم....
"ونَبي ياخالتي اللي يسمعك يقول جايبة ياما هنا ياما هناك.... ده كلها طقم حلل على طقم كاسات ملونة....وشنطة صغيرة فيها قمصان نوم وبجامات من ٢٠١٦....."
قالت خالتها بفخر كبير....
"ومالُه ياختي... جهاز ولا مش جهاز ده... ده غير الخلاط والمكوة اللي هجبهم ليكي....."
قبلتها عزة مجددًا بسعادة عارمة....
"ربنا يخليكي ليا ياخالتي....."
ابتسمت خالتها بحنو وهي تقرص خدها قائلة ببعض الحزم....
"متخدنيش في دوكة يا عزة.... لو عايزاني أوافق... وأقف معاكي في الجوازة دي خليه يجيب الشبكة وأوضة نوم جديدة...."
عبست عزة قائلة بقلق....
"وافرضي مش معاه ياخالتي...."
انقلبت ملامح خالتها مائة وثمانين درجة
وهي تقول بضجر....
"يبقا ما يلزمناش يروح لخالتك..... إيه عايزاه ياخدك بلوشي مش كفاية هتقعدي في أوضة فوق السطوح....."
صاحت عزة باهتياج وهي تشير إلى الغرفة الجالسين فيها....
"على أساس إن إحنا قاعدين في شقة على البحر.... ما إحنا قاعدين في أوضة فوق السطوح ياخالتي...."
قالت خالتها بغرور...
"آه... بس تمليك ورث عن جدك الله يرحمه... مش إيجار....."
قالت عزة بحمائية....
"بُكره سلامة يجيبلي التمليك...وشقة كمان مفيش حاجة بعيدة عن ربنا...."
قالت خالتها بنظرة متمنية وهي تخبرها بعقلانية....
"ونعمة بالله محدش يكره.... بس الرك على السعي... وربنا بيدي على قد الصبر والسعي.... وبُكره نشوف سلامة بتاعك ده هييجي من
ورا إيه.."
ربتت عزة على صدرها بعينين متوسلتين إليها....
"الخير كله ياخالتي.... حنّني انتي بس قلبك عليه..."
ازداد تمسك خالتها برأيها بصلابة....
"قلبي مش هيحن يا بنت أختي... غير لما ينفذ اللي قولتلك عليه.... ودي الأصول ومحدش يتعداها...."
تعاظم غضب عزة وهي تقول بشراسة....
"ماشي ياخالتي بس لو جاب شبكة هتبقى دبلة أو خاتم... انتي عارفة جرام الدهب غالي إزاي... "
اغتاظت منها خالتها بشدة وهي تصيح بتوبيخ....
"وترضيها على نفسك يا مايلة....تجوزي بحتة واحدة...."
أومأت عزة برأسها مؤكدة بحمائية...
"آه أرضيها... أمال عايزاه يكسيني بالدهب
ما كل واحد على قد ظروفه... ودي ظروف سلامة...."
ضاقت عينا خالتها بطمع قائلة بمراوغة...
"وانتي إيش عرفك.... يمكن معاه يجيب أكتر من حتة..... يمكن شايل قرشين على جنب هنا ولا هنا...."
رمقتها عزة بحنق شديد....
"وافرضي معاه... مش لسه في أوضة نوم هيجبها.... ومصاريف تانية...."
لوت خالتها شفتيها بلؤم قائلة.....
"صحيح فيه مصاريف تانية... الفرح والفستان والكوافير...."
نهضت عزة من مكانها صارخة بجنون معترضة....
"لا ياخالتي انتي كده عايزة تطفشيه...."
رمقتها خالتها بنظرة نارية صارخة مثلها بحرقة....
"وانتي عايزة تدخلي سُكيتي كده... إيه عاملة عملة لازم يتعملك فرح معتبر وتزفي من هنا لحد بيته... أمال إيه....."
"يالهووي عليا....."
صرخت عزة بجنون وهي تدلف إلى الحمام تلطم وجهها بالماء والصابون بعصبية مغمغمة بعدة كلمات لم تسمعها خالتها ثم خرجت وهي تجفف وجهها ثم وضعت العباءة السوداء
عليها والطرحة فوق رأسها.....
سألتها خالتها بملامح واجمة....
"رايحة فين يا بت كده....."
فتحت عزة الباب تنوي الخروج وهي تقول باختناق...
"رايحة أقعد على البحر....كلامك طبق على نفسي....."
اشتد إصرار خالتها أكثر وهي تقول من خلف الباب الذي أغلقته وراءها....
"هو ده الكلام اللي عندي يا عزة... وبلغيه بكده لو هو يعني لسه عند كلامه...."
................................................................
جلست على الصخور تراقب بعينيها الأمواج الثائرة…كقلبها الحافل بقرب الحبيب والمرتجف من سرعة حدوث المستحيل.
فالمستحيل حين يأتي بسهولة غريبة لم نألفها من قبل يتلبسنا شعور حائر بين الفرح والوجل.
ونسأل أنفسنا هل يحق لنا أن نغرق في السعادة أم نخشى القادم ونتأهب له
بخوف دفين؟....
"خير يا عزة... مالك..."
أتى صوته الرجولي ليقطع ضجيج أفكارها المتأججة بمشاعر عديدة لترفع عينيها إليه بملامح خجولة ونظرة مرتبكة وقلبها يرجف بين أضلعها بوله...
"عايزة أتكلم معاك يا سي سلامة..."
قالتها عزة ثم عادت بعينيها إلى زرقة المياه بارتباك ملحوظ...
فاقترب سلامة وجلس بالقرب منها على الصخور
تذكره تلك الجلسة بالدكتورة لكن شتّان بين الشعورين ما يُقدم على فعله الآن بجنون وما كان يطمع إليه بجنون أكبر ليصل إليها...
كلاهما جنون لكن هناك شعور نابع من قلبه وشعور آخر أشبه بالانتحار كي ينساها...
وهل حقًا سينساها بـ عزة أو بغيرها؟
إن لم يجد الحب سيجد الراحة وهو في الأخير يبحث عن الراحة وليس الحب لذلك المهمة سهلة... والنسيان سيأتي عاجلًا أم آجلًا !...
"اتكلمي يا عزة... في إيه..."
قالها بنفاد صبر وهو يرجع خصلات شعره الناعمة عن وجهه بضيق...
بللت عزة شفتيها بحياء ثم قالت....
"انت فعلًا عايز تتجوزني يا سي سلامة..."
أكد بنظرة عابسة....
"أيوه... أمال بهزر يعني..."
رفعت عزة عينيها محاولة قراءة ردة فعله وهي تسأل...
"أنا افتكرتك عملت كده... عشان ابن الجوهري واللي عمله في السوق قدام الناس..."
ظهرت أمارات الإزعاج على وجهه وهو يقول بصلابة...
"اللي حصل في السوق مالوش دعوة بجوازي منك..."
اطرقت عزة برأسها متنهدة وهي تقول بحيرة حقيقية...
"ماهو برضه أنا مستغربة ليه عايز تتجوزني دلوقتي... معلش ما تاخذنيش يعني بس أنا كنت قدامك من زمان..."
أجابها سلامة بصوت رصين...
"النصيب لما بيريد يا عزة... إنتي مش موافقة عليّا ولا إيه..."
رفعت وجهها إليه بسرعة قائلة بعفوية...
"معقول... انت تترفض برضه يا سي سلامة..."
أظلمت عينا سلامة والتوى فكه في ابتسامة قاتمة معقبًا....
"إنتي طيبة أوي يا عزة... أمال مين اللي يترفض..."
قالت بمشاعر فياضة....
"أي حد غيرك... إنت جدع وشهم وابن حلال..."
ظهر الاستهزاء على محيّاه معبقًا بسخط...
"ابن حلال؟!...غالية أوي الكلمة دي يا عزة...
ما يعرفش قيمتها غير اللي زيّي..."
امتقع وجهها بالحزن عليه وهي تقول
بصوتٍ حنون....
"ما تشغلش بالك بكلام الناس... الناس بتتكلم على أي حد... حتى لو شيخ ومش بيسيب سجادة الصلاة هيقولوا عليه فيه وعليه..."
هز سلامة رأسه بلا إهتمام قائلًا....
"مش مهم الناس... أنا اتعودت على كلامهم... المهم إنتي... موافقة عليا ولا لا..."
اندفعت الدماء في عروقها بعاطفة فياضة وهي تصرح دون تفكير....
"هو أنا أطول يا سي سلامة أكون مراتك... ده الحلم اللي حلمت بيه سنين وليالي..."
ابتسم سلامة بسمة صغيرة لم تصل إلى عينيه وهو يسمع اعترافها الحار... حرارة لم تتمكن من إذابة الجليد حول قلبه...
توقفت عزة وهي تعض على لسانها بحرج شديد....
"أنا بهلفط بالكلام... سامحني..."
هز سلامة رأسه والابتسامة الباهته لم تفارق محيّاه...
"بالعكس... ده الكلام اللي عايز أسمعه منك.."
ثم أخرج زفرة ثقيلة من صدره وهو يمسك صخرة صغيرة ويرميها في البحر الهائج...
"لو كنت خدت بالي منك قبل كده... يمكن
ما كناش وصلنا لهنا..."
سألته عزة بعينين حائرتين....
"مش فاهمة... تقصد إيه..."
قال بنزق....
"يعني جيت متأخر..."
ابتسمت عزة وقلبها يرفرف بسعادة....
"لا متأخر ولا حاجة... كل حاجة بتيجي في وقتها... الجواز والخلفة وكمان النصيب... والحب... كل حاجة ليها وقتها..."
نظر سلامة إليها عن كثب باحثًا عن شيء
في ملامحها العادية... ليست جميلة مثلها
لا تمتلك عينين تلمعان بالطموح والتحدي لا تتحدث مثلها ولا تملك الجرأة مثلها بل إنها تتوتر إن طال النظر إليها...
تخفض رأسها في كثير من الأحيان وتفتقر حتى لعطرٍ يدل عليها...ليست مثلها... ليست مثلها...
رد سلامة بعد لحظة صمت يندفع قبل أن يتراجع باحباط....
"وانتي وقتها يا عزة... لو موافقة نتوكل على الله وأكتب عليكي الخميس الجاي..."
أسبلت عزة جفونها وهي تقول بخجل...
"أنا موافقة ومش معترضة والله... بس...
بس خالتي..."
سألها عابسًا...
"مالها خالتك... رفضاني؟"
هزت رأسها نفيًا وهي تقول بصعوبة...
"لا هي عارفة إني عايزاك... الحكاية كلها
إنها محبكاها حبتين..."
تأفف سلامة بنفاد صبر قائلًا...
"من ناحية إيه؟... ادخلي في المفيد يا عزة بلاش تنقطيني بالكلام..."
عضت على شفتيها قليلًا وهي تنظر إليه ثم قالت بقنوط....
"عايزاك تجيبلي شبكة... يعني خاتم أو دبلة... وأوضة نوم... ونعمل فرح..."
لم تعطه عزة فرصة الرد وهي تستأنف حديثها قائلة بمؤازرة....
"بس ما تشيلش هم... أنا شايلة من وراها مبلغ حلو يجيب حتة دهب... المشكلة بس في بقية الحاجات... بس أنا هتصرف وهحاول أشوف أوضة نوم كده... لو حتى مستعملة نص عمر يعني... وانت تقولها إنك جايبها جديدة..."
تشبها في الحب... في التضحية والتعلق به... ماذا يريد أكثر من ذلك؟...
"هي دي كل المشكلة؟!..."
سألها سلامة بهدوء فأكدت عزة بقلة حيلة..
"بصراحة آه...بس محلولة يا سي سلامة..."
أراحها سلامة بنظرة مطمئنة وابتسامة
ودودة...
"هي فعلًا محلولة يا عزة... اطمني... وخلي فلوسك معاكي... الجيب عمران والحمد لله..."
سألته عزة بدهشة...
"مش فاهمة..."
أوضح سلامة ما ينوي فعله قريبًا بصوتٍ أجش...
"يعني هجبلك شبكتك... دبلة أو خاتم على حسب اللي إنتي عايزاه... وهشتري أوضة نوم جديدة وكمان هظبط الاوضة بتاعتي عشان تليق بيكي...والفرح... سيبيه بظروفه هدبر فلوسه إن شاء الله..."
هتفت عزة بعجلة وقلبها يرقص فرحًا...
"لو معاك فلوس الشبكة وأوضة النوم...
يبقى مش مهم الفرح... أنا هضغط على خالتي وهخليها تشيل الموضوع ده من دماغها... أنا مش عايزة أفراح..."
رفض سلامة وهو ينظر إليها بجدية...
"بس أنا عايز... دي ليلة في العمر... هو أنا هتجوز كل شوية؟! اطمني إنتي... كل حاجة هتتدبر...ادعيلي إنتي بس..."
نظرت للأعلى والفرحة تفيض من أعماقها منتشرة على وجهها المتوهج وعينيها المبتسمتين....
"ربنا يوسّع رزقك يا سي سلامة... ويسعد قلبك..."
"يسعده معاكي... معاكي إنتي بس..."
قالها سلامة متمنيًا وعينيه لا تحيدان عنها... باحثًا عن شيء يوهم نفسه أنه وجده... وانتهى الأمر !...
...............................................................
خرجت نغم من بوابة المشفى بعد أن تعافت من إصابتها تمامًا.
كانت ترتدي طقمًا عصريًا أسود أنيقًا وتترك شعرها حرًا طليقًا على ظهرها ينعكس لونه الأشقر والبني مع أشعة الشمس الناصعة فوق رأسها... تخفي معظم ملامحها بنظارة سوداء.
رأت قائد الحرس يقف هناك عند سيارتها الفارهة في انتظارها.....توقفت نغم تبحث بعينيها عنه لعلها تراه يراقبها ولو من بعيد لكنها لم تجده....
منذ آخر مرة رأته والحديث الذي دار بينهما كان النقطة الفاصلة في علاقتهما...
لم تكن نادمة على ابتعاده عنها لكن قلبها يحاربها بضراوة بذكريات جميلة جمعت بينهما وحب يصعب نسيانه بعدة كلمات !...
أخذت نفسًا طويلًا مرتجفًا إلى رئتيها وهي تتحرك مجددًا نحو السيارة بخطوات خيلاء أنيقة يقرع حذاؤها الأسود العالي الأرض بها.
فتح لها حسام الباب يدعوها للدخول وقبل
أن تفعل وجدت يدًا تعترض طريقها فارتجف قلبها وهي ترفع عينيها بلهفة نحوه....
لكن اللهفة سقطت عن محياها وحل مكانها الصدمة والقرف وهي ترفع حاجبها بضيق..
"جاسر؟!... إيه اللي جابك هنا؟!"
بابتسامة سمجة قال جاسر...
"حمد الله على سلامتك الأول..."
أجابت على مضض...
"الله يسلمك... خير؟"
هتف جاسر بتملق مقرف في نظرها...
"كنت جاي أزورك... رفضتي تشوفيني أكتر من مرة وإنتي في المستشفى ورغم كده قولت يمكن المرة دي يحنّ قلبك عليا..."
ثم أعطاها باقة جميلة من الورد قائلًا
بابتسامة واسعة سمجة....
"اتفضلي يا نغومة..."
"نغومة؟!..."
قالتها بشفاه مرتفعة للأعلى باشمئزاز وهي تأخذ الباقة ناظرة إليها دون ترحيب.
عاد جاسر يسألها...
"صحيح ليه كنتي بترفضي زياراتي ليكي؟"
رفضت نغم الرد عليه متجنبة النظر إليه فاسترسل جاسر بعطف...
"أنا كنت هموت من القلق عليكي... معقول جيداء يطلع وراها كل ده ده إنتي ربنا نجاكي منها..."
بلعت ريقها شاعرة بالمرارة في حلقها وغامت عينيها بالحزن.....
بينما تابع جاسر بغيرة وهو يفتش بعينيه
بلؤم....
"صحيح... أنا مش شايف أيوب يعني...إنتي رفدتيه ولا إيه؟... "
وعلى سيرة حبيبها راح قلبها يخفق بجنون وهي ترفع عينيها العابستين إليه...
فاستأنف جاسر بتهكم....
"بجد مكنش لايق خالص على الشركة والمكان اللي حطتيه فيه... ده غير إنه معندوش موهبة...."
عند تلك النقطة علّقت ساخرة....
"أيوب عبد العظيم... معندوش موهبة؟!"
أكد جاسر وهو يعدل ياقة قميصه بزهو قائلًا باعتداد...
"طبعًا... إنتي عارفاني فنان وليا نظرة. والمجال بتاعنا ده مش معتمد بس على الموهبة... في حاجات تانية مهمة."
سألته بنظرة مزدرية..... "زي إيه؟"
أردف جاسر بحرارة وهو يظن أنه نجح في لفت انتباهها....
"زي الوسامة اللباقة اللغات اللي بيملكها والأسلوب اللي المفروض يتعامل بيه عشان يكسب مساحة أكبر ومعرفة ناس أحسن ومهمين..."
ظهرت أمارات الملل والانزعاج على وجه نغم وهي تقول...
"هبقى أوصله النصايح دي لو شوفته... مع إني متأكدة إنه مش محتاجهم..."
برقت عينا جاسر بتشفٍ....
"لو شوفتيه؟!... يعني مبقاش شغال معاكي..."
قالت باقتضاب وصدرها يحترق كمرجل
ناري...
"لأ مبقاش شغال معايا... هيبدأ يشتغل لوحده... يمكن ينافسك قريب."
ضحك جاسر هازئًا وهو ينفخ صدره بالهواء قائلًا بعجرفة...
"ينافسني؟!... هو ينفع السمك الصغير ينافس الحيتان الكبيرة؟... مش معقولة يا نغم... أيوب في منه كتير أوي... حاولوا ياخدوا مكان جاسر العبيدي بس مقدروش..."
امتعض وجهها وهي تعقب برصانة...
"ومين قالك إنه عايز ياخد مكانك؟...ليه متقولش إنه هيعمل مكان باسمه... أعلى وأحسن من مكانك... "
تهكم جاسر...
"واثقة فيه أوي..."
شعرت بالغصة تشطر حلقها نصفين وهي تذكّر نفسها أن سبب شقاء قلبها وعذابها تلك الثقة التي لم تكن في محلها....
أطلقت تنهيدة طويلة وهي تقول بعد لحظة صمت....
"مش حتة ثقة... أنا بتكلم من اللي شوفته قدامي... والمسابقة اللي كسبها أكبر دليل."
امتقع وجه جاسر وهو يقول بخبث...
"اللي نسبتيها لنفسك... ولشركة الموجي...
آه فكرتيني... كانت حركة في الجون."
ثم ضحك جاسر بملء شدقيه فامتعضت نغم وهي تنظر إليه شزرًا فيما تابع هو...
"مش قادر أتخيل نفسي يا عيني وهو واقف مصدوم وبيتفرج عليكي وانتي بتتكرمي... كان شكله بايخ أوي.... "
جزّت نغم على أسنانها بغضب وهي تصيح بنفاد صبر....
"جااااااسر... "
توقف جاسر عن الضحك ناظرًا إليها ببرود مستفز لأعصابها فقالت بوجوم....
"ياريت لو خلصت كلامك... تبعد شوية وتخليني أركب العربية.... "
قال بتملق...
"بس إحنا لسه في بينا كلام كتير..."
سألته عابسة.... "عن إيه؟... "
نظر إلى حسام ثم قال بخفوت....
"مش هينفع هنا... خلينا نحدد معاد في التليفون ونتقابل... إيه رأيك؟"
"تمام... عن إذنك.... "
قالتها وهي تفتح باب السيارة أكثر وألقت الباقة في الداخل بإهمال ثم جلست بعنف يماثلها وهي تشير إلى حسام أن يتعجل في الانطلاق بالسيارة فقد أصبح الجو كاتمًا لأنفاسها بوجود هذا السمج....
بينما من بعيد خلف إطار سيارة سوداء
بوجه مظلم محتقن بالغيظ كان يتابع بعينين تكادان تنفثان نارًا وهو يرصد كل ما يحدث بينهما... حديثهما ضحكات هذا الأرعن باقة الورد التي أخذتها منه وظلت بين ذراعيها طوال فترة حديثهما....
ضرب أيوب على عجلة القيادة مزمجرًا
كأسد جريح وهو يشعر أنه على وشك الخروج وقتله هذا الأحمق.... وصفعها هي عدة مرات قبل أن يأخذها ليخبئها عن العالم بأسره حتى تبقى له وحده....
عادت تضج ندبة قلبه بالألم الشديد فكيف ينسى حديثها ونظرات عينيها القاسية
كيف سينسى جفاء قلبها وكأنها لم تحمل الحب له يومًا؟.....
يجب أن ينساها ويكتفي بهذا القدر من العذاب فإن أتى إلى هنا فقط كي يطمئن عليها للمرة الأخيرة.....
يجب أن يضع حدًا لتلك القصة ويبدأ في السير قدمًا....
ربما هي امرأة عابرة في حياته تقابل بها فقط حتى يتخلص من عقدة الماضي وحين تعافى وعاد إليه شغفه وأحلامه تركته وانتهى دورها من حياته....
ربما امرأة عابرة... ربما...
..........................................................
نزعت نغم نظارتها بعنف وهي تجلس على الأريكة ناظرةً إلى والدها الذي أعاد السؤال للمرة الثالثة...
"ردي عليا يا نغم... إيه اللي حصل بينكم
خلاه يقولي كده؟!... "
رمقته بعينين متسائلتين...
"هو قالك إيه بظبط؟..."
تنهد والدها وهو يخبرها بصبر...
"قال إنه مبقاش ينفع يكمل في الشغل معانا وإنه هيفتح مشروعه ويبدأ يشتغل لحسابه..."
هزت كتفيها بلا اكتراث قائلة...
"طيب حضرتك بتسألني عن إيه بقى؟
ما السؤال مفسر نفسه..."
قال والدها بصوت رزين...
"أنا عارف إن أيوب ناوي يشتغل مع نفسه ويعمل براند باسمه...وأنا أول واحد شجعته على ده..."
ثم عبست نظراته قائلاً بشك موجّه إليها...
"بس أنا كنت متفق معاه يفضي نفسه يومين في الأسبوع للشركة... لإننا منقدرش نستغنى عنه وهو وافق... إيه اللي غير رأيه دلوقتي؟"
ضغطت على أسنانها وهي تكبح حنقها قائلة ببرود...
"معرفش إيه اللي غير رأيه... تقدر تسأله..."
بنظرة نافذة جادة عاد والدها يسألها...
"إنتي عندك الإجابة... إيه اللي حصل بينكم؟"
استشاطت نغم غضبًا وهي مجبورة على
الرد...
"مفيش حاجة حصلت بينا... ما اتفقناش
فكل واحد راح لحاله..."
لم تلن نظرات والدها وهو يقول بصلابة..
"وده إيه علاقته بالشغل في الشركة؟!
إنتي مش عارفة هو مهم إزاي؟"
أجابته نغم بتشنج...
"بلاش تكبّر المواضيع يا بابا...الشركة هتمشي بيه أو من غيره..."
صاح والدها بغضب مكتوم...
"هترجع تقع تاني يا نغم... وأنا مبقتش قادر على إدارتها لوحدي... محتاج شاب موهوب زيه معايا... قوليلي إيه اللي حصل بينكم... يمكن نلاقي للمشكلة دي حل..."
نهضت نغم من مكانها وهي تقول باهتياج...
"مفيش حلول يا بابا... ده إنسان كداب
خان ثقتي وثقتك... وكان شغال لحساب شكري العزبي طول الفترة دي... كان بيمثل عليا الحب والجواز بتفق منه... "
أطال والدها النظر إليها والشك يملأ قلبه تجاه حديثها فقال بنفور...
"أيوب ميعملش كده... أكيد اللي وصلك كده
حد عايز يوقع بينكم..."
فغرت نغم فمها بصدمة وهي تحدق فيه فقد ظنت أن والدها بعد تلك الحقيقة الصادمة سيقف في صفها ويدعمها لكن على العكس... إنه يبحث له عن ذريعة !...
قالت بانفعال...
"أنا سمعت اتفاقهم وشوفته بعنيا... هكدّب عنيا وأصدقه؟! أنا مش مصدقة إني اتخدعت بالسهولة دي فيه..."
حدثها والدها بلين...
"اهدي يا نغم واسمعيني... أيوب حكالي على اتفاقه مع شكري العزبي... بس مذكرش الاتفاق كان على إيه بالظبط...
" كل اللي قاله ليا إنه هيوهم شكري إنه شغال لحسابه عشان يبعده عنك وفي نفس الوقت يدور ورا انتحار آسر العزبي...
"ووقتها قالي إنه شاكك في جيداء وكان بيبلغني أول بأول... وده خلاني أثق فيه
أكتر خصوصًا لما جه وطلب إيدك مني..."
حديث والدها لم يزدها إلا غضبًا ونفورًا فعقّبت بازدراء...
"ده عشان ممثل شاطر... كان عايز يكسب ثقتك وثقتي في نفس الوقت..."
تأفف كمال بضيق شديد وهو يقول بدفاع أبوي...
"إنتي ظالماه يا نغم... غضبك عميكي اهدي وفكري بالعقل... لولاه مكنتيش قدامي دلوقتي... أيوب عمل كتير عشانك..."
تلألأت الدموع في عينيها وهي تشير إلى نفسها بسخرية....
"وأنا كنت فاكرة زيك كده... بس طلع بيعمل ده كله عشان نفسه... مش أكتر..."
أطرق والدها برأسه إلى الأرض بقلة حيلة
لا يجد الرد المناسب أمام دموعها المنهمرة...
مسحت دموعها بعنف وهي تقول بصوت بارد أقرب للصقيع....
"أرجوك يا بابا أقفل الموضوع ده... وماتقلقش على الشركة... أنا هعمل كل اللي في استطاعتي عشان تفضل زي ما هي..."
نظر إليها والدها قليلًا ثم أجابها...
"أنا هقفل الموضوع لأنها حياتك وإنتي حرة فيها... وأنا عودتك على كده... لكن مصير الشركة مش في إيدك لوحدك..."
ارتفع حاجبها بتساؤل...
"بمعنى؟..."
وقع والدها قراره الأخير بحزم شديد...
"بمعنى إن أيوب هيرجع... يمكن مش بشكل كامل بس هيرجع عشان أنا محتاجه في الشركة... ومتقلقيش مش هيكون في تعامل مباشر بينكم لأني ناوي أرجع الشركة من تاني..."
سألته بقلق...
"بس إنت يا بابا لسه تعبان و..."
قاطعها بصوت هادئ...
"أنا بقيت أحسن... طالما الكابوس ده انتهى بقيت مطمئن ومرتاح أكتر عليكي... وناوي أرجع أمارس حياتي بشكل طبيعي..."
ظهر الاستهجان على محياها وهي تقول
بتبرم...
"وطالما حضرتك راجع... إيه لازمة رجوع أيوب للشغل؟..."
تحدث والدها بصرامة...
"لازم تعرفي إن أيوب مش محتاج للشغل معانا... هو بدأ يأسس مشروعه... أنا اللي محتاجه.. ولو يومين في الأسبوع هيكفوا..."
اعترضت بوجه محتقن بالغيظ...
"يا بابا..."
بتر والدها حديثها بقوة...
"دي شركتي يا نغم... وأنا اللي أقرر مين يفضل ومين يمشي..."
نظرت إلى والدها بصدمة وامتلأت عيناها بالرماد كعاصفتين هوجاء وهي تقول بتهدج
"لو أيوب رجع الشركة... يبقى أنا مستقيلة
منها.."
رد والدها عليها ببرود أشعل صدرها أكثر...
"طلبك مرفوض... لأنك مش موظفة عادية إنتي صاحبة الشركة من بعدي... وليكي الأولوية...لكن طول ما أنا موجود تسمعي وتنفذي..."
لم تجد فائدة من الجدال معه فقررت الانسحاب وهي تخبره بحرقة...
"إعمل اللي يريحك... بس اعرف إن وجود أيوب في الشركة هيوجعني... وهيفكرني بغبائي طول الوقت..."
ثم انسحبت تذرف الدموع بعيدًا عنه حيث غرفتها ملاذها الوحيد...
تنهد والدها بوجع وهو ينظر إلى المكان الذي خرجت منه بغضب ليقول بعدها بيقين....
"يمكن يصلح الخلاف بينكم... وترجعوا..."
رفع والدها الهاتف إلى أذنه يجري مكالمة بعد أن ضغط على اسم أيوب عبد العظيم...
وكنت اظنها حكاية عابرة فإذا بي أكتشف أنها الحكاية كلها... أولها ومنتهاها !....
............................................................
نفض رماد سيجارته في المنفضة وصدره يهيج كمرجل ناري ونظراته تقسو بشكلٍ مخيف بعد أن سمع عبر الهاتف آخر الأخبار التي أُطلِع عليها...
فقد اعترفت جيداء بعد ضغط التحقيقات أنها هي من ارتكبت الجريمة وأجبرت أسر على كتابة الرسالة لتضلّل النيابة....
"نفذ اللي أمرتك بيه... مش عايزها تشوف يوم عادل في السجن... على ما تاخد الحكم النهائي... سامع؟!"
ثم أغلق الهاتف وأجرى اتصالًا بـ أيوب لكنه تجاهل مكالمته كعادته منذ فترة قصيرة وقبل القبض على جيداء ومعرفة الحقيقة وهو يتعمّد تجاهل التواصل معه....
زفر شكري بغضب شديد فقد كان يريد أن يعرف الحقيقة قبل أن تصل إليها الشرطة
لربما أخذ بثأر ابنه الوحيد وأشفى غليله
لكن أيوب حرمه من تلك اللذة... وترك الأمر للقضاء....
"يعني في الآخر طلعت اللي عملتها واحدة ابنك كان متجوزها عُرفي... نِمس أسر ده طالع لأبوه..."
رفع شكري عينيه إلى شقيقته عبلة والتي دلفت للتو إلى مكتبه تحمل في عينيها السخرية والتشفي....
"أنا مش فايقلك يا عبلة... عايزة إيه..."
جلست على المقعد واضعة ساقًا فوق الأخرى وهي تقول بعجرفة ولؤم....
"هعوز إيه...جاية أطمن عليك بعد ما عرفت الخبر المنيل ده... معقول اللي سمعته ده..."
تجهم شكري مجيبًا عليها....
"مش معقول ليه؟!....كل الأدلة كانت بتقول
إن ابني مات مقتول مش منتحر..."
ضاقت عيناها بخبث وهي تقول....
"بس إحنا كنا فاكرين إنها نغم... نغم الموجي... وطلعت صاحبتها... مش يمكن تكون دي لعبة عليك.... وهي اللي عملتها وخلّت صاحبتها تشيلها..."
امتقع وجه شكري وهو يقول بمقت....
"عدي كان صاحب أسر وبيعرف عنه حاجات أنا ما عرفهاش وهو حكالي على كل حاجة...
دا غير اللي قاله في التحقيقات..."
ثم أخرج زفرة طويلة محترقة من صدره وهو يضيف بحسرة....
"الغبية اتخلصت من اللي في بطنها وبعدين قتلته... كان ممكن تجيلي قبل ما تنفّذ كلامه... كنت أجبرته يتجوزها... وربي أنا حفيدي ويفضل في حضني..."
لمعت عينا عبلة بالسعادة فكل تلك الثروة
الهائلة ستعود إليها قريبًا فهي الوريثة
الوحيدة له....
ادّعت الأسى قائلة بمسكنة...
"ربنا يصبرك يا شكري... خبطتين في الراس توجع... برضه ابنك قبلها ودلوقتي حفيدك اللي ما شافش النور... عشان كان بين اتنين مش حاسين بالنعمة اللي في إيديهم..."
رمقها شكري باشمئزاز قائلاً....
"للأسف ناس كتير ما تستحقش الأمومة ولا الأبوة..."
زمت فمها بغضب متجاهلة الإهانة وهي
تسأله باهتمام....
"وعلى كده ناوي تعمل إيه..."
لمعت عيناه بالخبث وهو يبتسم متذكرًا شيئًا هامًا....
"ما تشغليش بالك باللي هعمله... إنتي ناوية تعملي إيه..."
سألته متعجبة....
"في إيه..."
ارتفع حاجباه معًا مدّعيًا الدهشة وهو يقول..
"إيه ده... معقول إنتي ما عندكيش خبر..."
صوّبت كل تركيزها عليه بأعصاب مشدودة وهي تشعر أن القادم لن يعجبها...
"خبر إيه يا شكري... ما تكلم على طول..."
زادت ابتسامة شكري مكرًا وهو يقول...
"أصلي سمعت من كام يوم إن صالح الشافعي اتجوز..."
اتسعت عينا عبلة بصدمة كبيرة وشحب وجهها فجأة وهي تسأله بصوت مختنق من خبر أصابها في مقتلها....
فبعد كل تلك السنوات... يتزوج بعد أن رفضها مرارًا وتكرارًا... يتزوج بعد زوجته...
التي ظنّت أنه دفن قلبه ورغباته كرجل معها... يتزوج الآن بهذه البساطة...
تاركًا إياها هي... هي...
"إنت بتقول إيه... إنت اتجننت..."
رد شكري عليها بغلاظة.....
"ده اللي أنا سمعته بالصدفة من حد معرفة بينا... إنه اتجوز... هو ما عملش فرح بس طبعًا كان فيه إشهار وشهود... قالوا إنه اتجوز واحدة جارتهم..."
نهضت عبلة من مكانها وصورة تلك المرأة تقفز إلى عقلها... جلوسها بجواره في المشفى... حديثه الهادئ معها... نظرات عينيه عليها...
تلك الساحرة المشعوذة... كيف فعلتها وفازت به...
"جارتهم؟!... معقول هي؟!..."
سألها شكري بذهول...
"هو إنتي شوفتيها ولا إيه..."
لم ترد عليه فقد تحركت خارجة من المكتب بملامح محتقنة بالغضب والغيرة ونظرة سوداوية تحمل الكثير مما ستُقدِم عليه
قريبًا...
"عبلة... إنتي رايحة فين..."
تأفف شكري ببغض وهو يعود إلى هاتفه واتصالاته الهامة قائلاً بكراهية....
"في داهية... أهو تحلي عن دماغي شوية وتِرازي حد غيري... جتكم الهم..."...