رواية مرايا لا تعكس الحقيقه الفصل الثاني بقلم أمل عبدالرازق
ــ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… عاملة إيه يا سمكتي؟
ابتسمت له بفرح صادق، وفتحت ذراعيها وضمته إليها:
ــ الحمد لله بخير يا حبيبي… حمدًا لله على سلامتك يا غالي عليّا.
رد وهو يقترب منها ويخفض صوته:
ــ الله يسلمك يا حبيبتي. طبعًا صاحبتك لسه هنا، أنا شوفت الرسالة اللي بعتّيهالي على الواتس.
ــ أيوه، قولت أبعتلك رسالة أقولك فيها إنها لسه جاية… وجيب معاك علبة جاتوه تاخدها وهي ماشية، أصل أنس بيحبها. وبعدين عيب نقف على الباب كده… ادخل سلّم عليها.
تنفّس بضيقٍ حاول إخفاءه:
ــ أنا مش برتاح ليها يا أسماء… إنتِ ليه بتعملي معايا كده؟ بتحطّيني تحت الأمر الواقع. أوعي يا أسماء دخليني… خلّيني أخلّص المهمة دي وأسلم عليهم. وكمان عايزاها تقعد في وشي في الشغل!… على العموم براحتك.
اقتربت منه بخطوات مُلطفة للصوت:
ــ بلاش تحرجني مع صاحبتي… ادخل بس، وهنكمّل كلامنا بعدين.
___________
دخل إبراهيم وسلم على أنس، ثم التفت إلى أميرة بابتسامة مجاملة:
ــ عاملة إيه يا مدام أميرة؟ إن شاء الله أمورك كلها تمام.
بادلتْه نظرة لزجة ودلالًا غير مُريح:
ــ طول ما انت موجود وبخير… أنا بخير يا إبراهيم.
شعر بضيقٍ يتسلّل إلى صدره. حدّث نفسه بضيق: يعني على الأقل كانت تقول يا أبو تسنيم… مش اسمي كده صريح!
ابتسم ابتسامة باهتة
ثم نادى زوجته:
ــ تعالي يا أسماء… جهزيلي اللبس.
أجابته بثقةٍ معتادة:
ــ كل حاجة جاهزة… وجهّزتلك الحمّام الملحق بالأوضة كمان. بس يلا بسرعة عشان نتغدى كلنا سوا.
توتّرت ملامحه لأن ردّها لم يمنحه المساحة التي أرادها:
ــ طب معلش… تعالي طلّعيلي لبس معيّن في بالي. مش هعرف أوصله… إنتِ اللي بترتّبي الدولاب.
ارتفعت عينيها نحوه وهي تحمل صينية:
ــ يا حبيبي… إنت شايف إني مشغولة وبجهّز السفرة. ياريت تلبس اللي أنا جهّزتهولك دلوقتي.
كانت أميرة تتابعهما من بعيد، فقطعت الصمت بلهجة صارمة:
ــ سيبي اللي في إيدك… وشوفي جوزِك عايز إيه قبل أي حاجة. ميصحش كده يا أسماء.
ابتسمت أسماء للحظات، رغم نفَس الضيق الذي حاولت دفنه:
ــ خلاص… انتو الاتنين اتفقتوا عليّا. حاضر.
ثم التفتت لسميرة:
ــ كمّلي رص السفرة يا سميرة لحد ما أرجع.
_________
ما إن دخلت الأوضة مع زوجها حتى أغلق الباب خلفه بنفَسٍ مكتوم.
اقترب منها وقال بنبرة غضبٍ لم يحاول تخفيفها:
ــ إنتِ إيه اللي عملتيه برا ده يا هانم؟
نظرت له بذهول:
ــ في إيه بس يا إبراهيم؟ مالك متضايق كده؟ أنا عملت إيه؟
اقترب خطوة أخرى، صوته ينخفض لكنه يشتعل:
ــ بقولك عايزك تجهزيلي لبسي… ما أنا عارف إنك بتجهزيه قبل ما أجي وبحب كل حاجة من إيدك. معنى كده إني كنت عايز أكلمك بيني وبينك… إيه؟ البعيدة مش بتفهم خالص؟!
والله من لحظة ما دخلت وشوفت صاحبتك وأنا قلبي مقبوض… وكل ما بتيجي هنا بخاف. أنا مش مشغّلها معايا يا أسماء… واللي عندِك اعمليه.
رفعت كفيها في وجه غضبه:
ــ بسم الله… في إيه يا إبراهيم؟ ما انت كنت كويس! ليه متعصب كده؟ محصلش حاجة لكل ده. حقك عليّ… أنا والله مكنتش واخدة بالي.
وبنبرة خافتة:
ــ وبعدين أنا أصلًا بعمل اللي قولتلي عليه… ومبظهرش قدام أميرة اهتمامي بيك… عشان محدش يبص لحياتنا.
يا إبراهيم… دي صاحبتي! بتحبّنا وفرحانة بينا… أنا مش عارفة أرضيك إزاي.
هزّ رأسه بضيقٍ أكبر:
ــ يا أسماء… المثل بيقول: حذر من عدوك مرة… ومن حبيبك ألف.
إنتِ بتحكيلها كل حاجة عننا!
لم تستطع التماسك أكثر… انهمرت دموعها دون إرادة:
ــ إنت عارف إن أهلي كلهم في السعودية… وأنا اتجوزتك وفضلت هنا. مفيش حد بيسأل فيّا غير أميرة. ليه عايز تبعدها عني؟ هي عملتلك إيه؟
مش كفاية إني أصلا ببقى تعبانة… ومبخرجش… عايزني أنفصل عن الحياة كلها ولا أتعامل مع بني آدمين؟
تغيّر وجهه للحظة، ثم اقترب وضمّها إليه بحنان ممزوج بالقلق:
ــ يا أسماء يا حبيبتي… أنا مش عايز من الدنيا غيرك. يا عبيطة… أنا بحبك وبخاف عليكِ.
إنتِ أمي وأختي وحبيبتي وبنتي ومراتي.
وبعدين الدكتور قال إن جلسات العلاج الطبيعي هتساعدك… وهتبقي أحسن.
متعيطيش… دموعك غالية عليا يا سمسم.
مسحت دموعها سريعًا:
ــ ما هو برضو مش طبيعي كل ما أميرة تيجي… تتغيّر ١٨٠ درجة. ومبتاكلش معانا… وبتحبس نفسك في الأوضة. هي بنفسها قالتلي إنك بتتضايق من وجودها… وأنا بدافع عنك.
تنهد بعمق، كأنه سلّم سرًا كان يخفيه:
ــ بصراحة… سمعت عن أميرة كلام مش كويس.
وحدّ بيبعتلي رسايل من رقم غريب يقولّي إنها خاينة… وعايزة تخرب بيتنا، وتبعدني عنك.
وأنا هتصرف إزاي؟
صدقيتي نظراتها مريبة.
فزعت أسماء واستعاذت بالله:
ــ أعوذ بالله! مين الإنسان المعقّد اللي بيبعتلك كلام زي ده؟ أكيد حد بيكرهها… يمكن طليقها.
اعمل بلوك للرقم وخلاص… دا اسمه ظنّ سيئ.
وأنا ضامنة أميرة برقبتي.
يلا خد شاور واطلع نتغدى… لو بتحبني فرّح قلبي وتعالى.
أجاب بنبرة متأرجحة بين الحذر والاستسلام:
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله. ربنا ينور بصيرتك يا أسماء.
ولو أميرة وحشة… ربنا يكشفها. ولو كويسة… ربنا يسامحني على ظني.
بس بالله عليكِ… متحكيلهاش تفاصيل حياتنا.
الحسد بيدخل الراجل القبر، والجمل القدر
إحنا كويسين… حافظي على بيتك.
ضحكت قليلًا وهي تمسح على صدره:
ــ حاضر يا سي إبراهيم… شُفت أنا شاطرة إزاي؟
بس يلا… خلّص بسرعة عشان الأكل هيبرد.
وقبل أن تخرج، تمتم بغضبٍ مكتوم:
ــ لو طلعت لقيت أنس شايل بنتي وبيبوسها… هخليه يشيل أمه ويمشي. اللهم بلّغت.
ضحكت على جملته الآخيرة:
ــ حتى أنس مضايقك؟ يا راجل دِ لسه طفلة!… يلا أنا هطلع أشوف اللي ورايا… ومينفعش أسيب أميرة لوحدها كتير.
_________
في الخارج…
وقفت سميرة فجأة خلف أميرة وهي ملتصقة بالباب تحاول التقاط ما يدور في الداخل:
ــ بتعملي إيه عند الباب يا ست أميرة؟
تجمدت أميرة للحظة، لكن سرعان ما أمسكت ذراع سميرة بقوة وسحبتها للمطبخ:
ــ هكون بعمل إيه يعني؟
وبصوت مهدد:
ــ ولو عقلك المريض صوّرلك أي حاجة غلط… حاولي تفتحي بوقِك بكلمة، وهقطع رجلك من هنا.
أسماء بتحبني… وهتسمع كلام صاحبتها… مش الشغّالة. فاهمة ولا لأ؟
خفضت سميرة رأسها بخوف:
ــ فاهمة… بالله عليكِ متقطعيش عيشي… أنا بربي يتامى.
أطلقت أميرة ابتسامة باردة:
ــ خلاص… هسامحك المرة دِ.
___________
خرجت أسماء تبحث عن ضيفتها، فوقفت على باب المطبخ ورأتها تساعد سميرة في ترتيب الأطباق.
اقتربت منها بخجل بسيط:
ــ بتعملي إيه بس يا أميرة؟ أنا آسفة يا حبيبتي اتأخرت عليكي.
إنتِ تقعدي معزّزة مكرّمة… والأكل ييجي لحد عندك.
رفعت أميرة حاجبيها بابتسامة فيها خبث لطيف:
ــ لا يا ستي… مش البيت بيتي ولا إيه؟ ولا أنا غريبة بقى والمفروض أقعد على الكرسي وما اتحركش.
ضحكت أسماء ببساطتها اللذيذة:
ــ ربنا يبارك فيكِ يا مرمر… طبعا البيت بيتِك.
أما سميرة فتمتمت بينها وبين نفسها:
ربنا يحفظك يا ست أسماء… شكل خرابة البيوت دي ناويالكِ على الشر… والله ما أعرف بتحبيها على إيه. ربنا يستر من اللي جاي.
التفتت أميرة نحوها فجأة:
ــ هتفضلي تكلمي نفسك كتير يا سمّورة؟ ولا هننجز في شغلنا؟
ضحكت أسماء ببراءة:
ــ إيه ده؟ انتي كمان بتدلّعي سميرة؟
فعلا… سميرة تدخل القلب بسرعة.
قهقهت أميرة بخفّة مصطنعة:
ــ يا نهاري! مش عارفه اوصفلك دخلت قلبي إزاي… ومن غير استئذان كمان!
ابتسمت سميرة ابتسامة صفراء:
ــ القلوب عند بعضها يا ست أميرة… نفس مقدار المحبة ليكِ في قلبي.
______________
جهزت أسماء وأميرة السفرة وسخّنوا الأكل بعد ما كان برد، وكل شيء صار جاهزًا. خرج إبراهيم من الحمام بعد أن استحم، صلّى، ثم خرج عابس الملامح، كأنه يُجاهد نفسه ليجلس على السفرة. جلست أسماء جواره، وبجانبها تسنيم في كرسي الأطفال، بينما كان أنس يلعب معها ويطعمها وهو سعيد. في الجهة المقابلة جلست أميرة، وإلى جوارها سميرة.
قالت أميرة وهي تنظر إلى سميرة بنبرة مستنكرة:
ــ وهي سميرة بتقعد تتغدى معاكم عادي كدا يا أسماء؟ مش المفروض دي الشغّالة وتاكل اللي يفيض منكوا؟
رفعت أسماء حاجبيها دهشة، وردّت بهدوء وعتاب:
ــ أعوذ بالله يا أميرة! تعرفيني عني أنا ولا إبراهيم نعمل كدا! إحنا كلنا واحد في البيت ده. وسميرة زيي زيّك، دِ كتر خيرها بتسيب ولادها لوحدهم عشان تساعدني. ربنا خلقنا بني آدمين شبه بعض مش طبقات… الناس هي اللي عملت الفروق مش ربنا. إحنا لما بنروح نعمل عمرة بنلاقي كل الرجالة لابسين الإحرام شبه بعض لا تقدري تميزي غني عن فقير، ولما هنموت الكفن واحد، مش هناخد غير عملنا معانا.
وبعدين سميرة مش شغّالة، سميرة بتساعدني وربنا يجعله في ميزان حسناتها.
تأثرت سميرة بكلماتها، وانهمرت الدموع من عينيها وهي تقول بصوت مخنوق:
ــ والله يا ست أسماء… أنا محستش إني إنسانة ليا قيمة غير عندك. كنت بشتغل عند واحدة قدّ بنتي، وكانت بتعاملني وحش… حتى بواقي الأكل كانت تمنعها عني. تقولّي دا أكل أسيادك واللي يفيض للكلاب… ليكِ مرتب بتاخديه آخر الشهر، ابقي كلي في بيتكم.
الناس بتشوفنا متسوولين، مع إننا بنتعب ونسعى بالحلال. الله يرحمه جوزي… كان بيشتغل وعمره ما حوجنا لحد.
__________
في تلك اللحظة، وفي مكان آخر…
جلس فريد وصبحي في أحد المقاهي. كان الجو مشحونًا.
قال فريد بسخرية مُرة:
ــ تعالى يا وش الغم والفقر.
رمقه صبحي بحدة وهو يمد يده:
ــ الأمانة معايا… إيدك على الفلوس الأول.
ــ خايف مني؟ الفلوس موجودة… بس ورّيني الصور الأول.
أخرج صبحي الفلاشة وقال:
ــ جبتها على فلاشه… الموبايل غالي مش هسيبه ليك.
أخذ فريد الفلاشة وهو يتمتم بغضب:
ــ معايا لابتوب … وكنت متوقع قلة أمانتك. مش هتاخد ولا جنيه غير لما أطمن.
تنهد صبحي بضيق:
ــ خلّصني… عايز الفلوس أصلّح بيها مع مراتي. زهقت من الإيجار.
نظر فريد إليه بمرارة:
ــ كان لازمته إيه تخرب بيتي وبيتك؟ شوفت صاحبي خارج مع مراتي… متصور معاها.
استفدت إيه؟! حسبنا الله ونعم الوكيل.
ــ اللي حصل حصل… هات الفلوس.
قذفها فريد أمامه ببرود:
ــ غور من وشي.
__________
كان إبراهيم يجلس مصغيًا لكلام سميرة، متأثرًا جدًا.
قال بصدق عميق:
ــ الله يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته. وأنا عند وعدي من يوم ما شفناكِ… فاكرة؟ قولتلك لو كنتي مخلصة لمراتي وحافظتي على أسرار بيتنا، أنا ملزم بيكِ وببناتك طول ما فيّا نفس. دا خير من ربنا… والرزق اختبار، اللي معاه يخدم اللي مش معاه، وما نقص مالٌ من صدقة.
ابتسمت أسماء بخجل وفخر:
ــ ربنا يبارك فيك يا إبراهيم… ويحفظك ويرزقك من حيث لا تحتسب. الرحمة بقت قليلة بين الناس… وإحنا اتخلقنا نساعد بعض.
مسحت سميرة دموعها وقالت بإيمان:
ــ ربنا يحفظكم يا ست أسماء… ويبعد عنكم شيطايبن الإنس والصحاب الغدارين… قولي آمين يا أميرة هانم.
رمقتها أميرة بنظرة حادة مشتعلة، وردّت وهي تضغط أسنانها:
ــ اللهم آمين… فعلا أسماء طيّبة وتستاهل كل خير. وربنا رزقها راجل جدع زي إبراهيم.
تغيّرت ملامح أسماء من نظرة أميرة، وشعرت بوخزة غريبة في قلبها. نظرت إلى إبراهيم فوجدته غارقًا في مراقبة أنس وهو يلعب مع تسنيم، لا يلتفت لأميرة مطلقًا. اقتربت منه وهمست:
ــ لاقيت شغل لأميرة يا حبيبي؟
ابتسم لها ابتسامة يعرف بها غيرتها:
ــ أيوه… وممكن تيجي بكرة نشوف هتعرف تتشغل إيه.
قفزت أميرة من الفرح:
ــ بجد؟ أنا مش مصدّقة! شكرا يا إبراهيم مش عارفه من غيرك كنت هعمل إيه … أخيرًا لقيت شغل محترم!
انقبض صدر أسماء من ردّها؛ لم تقل حتى "كتر خيرك". نادت عليها بنبرة خفيفة:
ــ اهدي يا أميرة… نشوف الوظيفة الأول. يا خوفي يا إبراهيم تطلع في الكافيه اللي في الشركة.
هزّ رأسه بثقة:
ــ كافيه إيه… دي صاحبتِك. لازم أديها وظيفة محترمة. هخليها السكرتيرة بتاعتي.
اتسعت عينا أسماء دهشة:
ــ طب… كويس. بس الصبح قولتلي مفيش أماكن عندك.
ــ نصيبها كدا… السكرتيرة اللي عندي هتمشي عشان فرحها.
قهقهت أميرة بسعادة:
ــ الحمد لله… ربنا عارف إني طيبة وغلبانة! وكمان السكرتيرة بتاعتك دا انا أمي دعيالي. شكرا يا أسماء… إنتي أحلى صاحبة بالدنيا.
أمسكتها أسماء من يدها وربتت عليها بلطف:
ــ الشكر لله يا حبيبتي… مفيش بين الأخوات شكر. وإبراهيم زي أخوكِ وأكيد أنتِ عارفه كدا… وربنا يكتب لك الخير.
____________
كان الصباح ساكنًا في بيتٍ اعتاد الدفء، إلا أن التوتر كان أوضح من أي صوت.
اقترب منها بخطوات خفيفة، وعلى وجهه ابتسامة محاولٍ إخفاء قلقه:
— افرحي بقى يا سِتّي… صاحبتِك هتشتغل أهي. قوليلي، مالِك ساكتة من امبارح؟ فيكِ إيه يا قمر؟
رفعت أسماء وجهها نحوه ببطء، ونبرة الحزن لم تفارقها:
— من ساعة ما عرفت إنك هتشغّلها… وقلبي مقبوض. نظراتها ونبرة صوتها مش عادية، وسميرة من الصبح بتكلّمني في نفس الموضوع.
جلس جوارها يهدّئ روعها، كعادته حين يشعر باضطراب قلبها:
— متخافيش… بس خلي بالك منها زي ما أنا واخد بالي. الشغل شغل، ومحدّش ليه أمان. وكله هيبقى تمام.
مسحت على جبينها المتوتر وقالت بنبرة أعمق مما بدت عليه:
— أنا بحبها… والله بحبها، بس في حاجة جوايا مش مريحاني. المهم… خليك واخد بالك من نفسك، ومتتعصبش عليها.
ضحك بخفة وهو ينهض ليغادر:
— حاضر يا فندم. ارتاحي… وأنا مش هتأخر، ونخرج نتغدى برّه إن شاء الله. خدي بالك من نفسك ورنّي على سميرة قوليلها النهارده أجازة عشان تقعد مع عيالها.
________
في الشركة
عبرت أميرة الباب بخطوات كلها حماس، ورفعت صوتها بتحية واثقة:
— صباح الخير يا مستر.
رفع رأسه عن الأوراق وردّ بهدوئه المعتاد:
— صباح النور… واضح إنك ملتزمة.
— حضرتك لسه ما تعرفنيش… بس صدقني، أنا شاطرة جدًا وهعجبك في الشغل، أوعدك.
أشار لها أن تنتظر قليلًا:
— خلّيت وفاء تفضل أسبوعين تفهّمك الشغل. ركزي معاها عشان الضغط كبير، وهي خلاص هتمشي.
تجمّدت للحظة، ثم مالت بجسدها قليلًا وهي تحاول التخفيف من رسميته:
— مالك بتتكلم رسمي كدا؟ فكّها شوية… أنا بحب الضحك، مش كدا.
ردّ عليها بنبرة صارمة لم تعتَدها منه:
— ضحك إيه يا مدام؟ إحنا في الشغل… والكلام يبقى باحترام. وبعدين… أنتِ وعدت أسماء إنك هتبقي قدّ الشغل.
تبدلت ملامحها بضيق واضح، ثم قالت بصوت منخفض لكنها متعمده:
— مش قصدي والله… أنا بس عايزاك تاخد عليّا. وبلاش كلمة مدام دي… دي بتفكرني بحاجات وحشة. ناديني باسمي بس.
لم يعلق، بل أشار نحو الباب:
— من فضلك روّحي لوفاء… عندها شغل كتير.
ظهرت وفاء في تلك اللحظة، تتحدث بجدية كعادتها:
— يلا… عشان أفهّمك هتعملي إيه، المستر متعطّل.
__________
مرّ أسبوعين، وأميرة أصبحت موظفة رسمية في الشركة. كانت مجتهدة للغاية، وفي كل صباحٍ وهي في طريقها إلى العمل كانت تمرّ على أسماء لتترك عندها أنس، وكأنها تؤكّد ما تقوله دائمًا بأنها "مقطوعة من شجرة". كانت أسماء تحب أنس وتفرح به، لكن الحقيقة أنّ أميرة كانت تتخذ أنس ذريعة كي تصل إلى بيت أسماء مبكّرًا… تمامًا في الوقت الذي يخرج فيه إبراهيم ليأخذها معه إلى الشركة بسيارته.
وكانت صاحبة الاقتراح من البداية هي أسماء نفسها، يوم أن أخبرتها أميرة أنها لا تستطيع تحمّل أجرة المواصلات.
وقف إبراهيم عند باب الغرفة، وصوته يحمل مزاحًا ممزوجًا بقلقٍ خفي:
ــ أسماء يا حبيبتي، كل دا نوم؟ اصحي يا سمكتي… فيكِ إيه يا نور عيني؟
فتحت عينيها وهي تشعر بوخز الألم في كل مفصل من جسدها، وقالت بفزعٍ وارتباك:
ــ أنا آسفة يا إبراهيم… راحت عليا نومة.
اقترب منها وهو يحدق في ملامحها المتعبة:
ــ إنتِ خدتي مُنَوِّم، مش كدا؟
شيلتي إيه تقيل يا أسماء؟ واضح جدًا إنك بتتألمي.
أنا عارف إنك مش هتجيبيها لبر… ولازم تتعبي نفسك.
ــ أنا كويسة يا إبراهيم… كنت مش عارفة أنام عادي… وخدت حباية واحدة.
ومش هقررها تاني. هقوم أجهّزلك الفطار بسرعة.
هزّ رأسه رفضًا:
ــ سميرة جت وعملت الفطار… وفطرت.
كنت عايز أسيبك تكمّلي نومك بس معرفتش أمشي غير لما أطمن عليكِ.
ارتاحي يا أسماء… وأول ما أرجع هاخدك ونروح نكشف عليكِ.
رفعت نظرها وقالت بصوت خافت:
ــ هي أميرة جت ولا لسه؟
ــ أيوه… وابنها برّه. كانت عايزة تدخل تطّمن عليكِ.
ــ خليها تدخل… عشان أنا مش قادرة أتحرك من مكاني.
ضاق صدره ورفع يده بحيرة:
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله… عملتي إيه في نفسك يا أسماء؟
قوليلي وريحّي قلبي.
أنا مش هسيبك… مش هروح الشغل النهارده.
تعالي… لما أساعدك تلبسي وآخدك للدكتور.
دخلت أميرة بعد أن سمعت آخر جملة، وصوتها يحمل اعتذارًا مصطنعًا:
ــ أنا آسفة… دخلت عليكم فجأة، بس الباب كان مفتوح وسمعت كل حاجة.
سيب أسماء تنام وترتاح يا مستر إبراهيم.
وأنا بستأذن من حضرتك… أفضل معاها وآخد أجازة.
حضرتك أساسي في الشركة، إنما أنا… ممكن أي حد يقوم بشغلي.
رفعت أسماء يدها قليلاً تعترض:
ــ لا… إنت ولا هي.
يلا روحوا الشغل… أنا كويسة.
وهنام وهكون بخير.
وطالما سميرة هنا… متقلّقش عليّا.
استسلم إبراهيم بعد إصرارها، وغادر مع أميرة إلى العمل.
بعد خروجهما، اقتربت سميرة وهي تنظر لأسماء بقلق حقيقي:
ــ واضح جدًا إن حضرتك تعبانة. لازم تكشفي… وإلا هتتعبي أكتر.
وليه مقولتيش للأستاذ إبراهيم إن أنس هو اللي اتعصب عليكِ ووقعك على الأرض؟
دا انتِ وقعتي على ضهرك جامد… دا انا ضهري وجعني مكانك! دا غير انك عندك مشكلة فيها.
تنهدت أسماء وهي تضع يدها على موضع الألم:
ــ إن شاء الله هبقى كويسة…
أنس طفل… عنده ٩ سنين.
مش فاهم حاجة… ونفسيته متأثرة باللي حصل بين أبوه وأمه.
شوفتي امبارح لما كان بيشتم على أبوه؟ ولما قولتله عيب… زقني.
فقدت توازني… ووقعت.
ربنا يهديه…
روحي إنتِ اعمليله فطار… وأنا هنام شوية.
_____________
في سيارة إبراهيم…
نظرت أميرة إليه وهي تحاول اصطناع الاهتمام:
ــ متزعلش نفسك يا مستر… إن شاء الله أسماء هتكون بخير.
متقلقش عليها.
ردّ بهدوء ثابت:
ــ إن شاء الله.
سكتت لحظات… ثم قالت بنبرة محمّلة بنوايا أخرى:
ــ إنت… مفكرتش تتجوز واحدة تانية؟
تخلفلك أخ أو أخت لتسنيم…
وتريحك… وتسعى إنها تفرّحك؟
انت لسه صغير وألف واحده تتمناك
كلنا عارفين إن أسماء مش هتعرف تخلف تاني…
صحتها مش كويسة… وجسمها شايلها بالعافية.
التفت إليها فجأة، بعينين امتلأتا غضبًا:
ــ إنتي إزاي تقولي كلام زي دا؟
إزاي تفكري فيه أصلًا؟
بدل ما تدعي لصاحبتك… وتطلبي لها الشفا!
عايزاني أتجوز عليها؟
لأ… فعلًا ونِعم الصديقة إنتِ يا ست أميرة!
تلعثمت محاولة تدارك نفسها:
ــ إنت فهمتني غلط…
أنا بسألك بحسن نية…
شايفة إنك مُخلِص ليها بالرغم إنها دايمًا تعبانة…
ومش قصدي إنك تتجوز عليها…
قاطعها غاضبًا:
ــ من فضلك يا مدام أميرة…
متتكلميش معايا دلوقتي.
انا مش قابل منك كلام.
__________
في الشركة…
رنّ هاتف أميرة… وصلت لها رسائل واتساب من رقم مجهول.
فتحتها… فظهر أمامها ما أرعبها، صور لها مع صبحي.
وكانت الرسالة:
تخيلي لما صاحبتك وجوزها اللي هو مدير شغلك يشوفوا الصور دي… ويعرفوا إنك واحدة خاينة.
مش صعب عليا أجيب أرقامهم يا مدام أميرة.قبل ما بعتلهم الرسايل دِ… هستنى منك رد واحد بس:
بالموافقة… أو الرفض… على أي طلب هطلبه منك.
رسالة من مجهول ناوي يفضحك.
تجمدت ملامحها، وخفق قلبها بعنف. وبدأت تهمس لنفسها بصوت يكاد يُسمَع:
ــ لازم أستغل تعب أسماء…
وأوقعك النهارده يا إبراهيم…
لازم تيجي بيتي بأي طريقة…
ولازم ألاقيلك غلطة… أمسكها عليك وأهددك بيها.
مش طبيعي راجل يكون مخلص لمراته بالشكل دا…
لازم… لازم أفكر بسرعة.
قبل ما المجنون اللي بعتلي الصور يخرب كل خططي، مش هينفع اخسر!
مش هسيبك… مش هتكون غير ليا يا إبراهيم والنهارده.
تجمّدت ملامح إبراهيم للحظة وهو يراقبها تتلعثم، كأن كلماتها خرجت من عالمٍ آخر.
ــ إنتي بتقولي إيه يا أميرة؟؟!
