رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثالث عشر 313 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والثالث عشر 

ما إن فرغت فاطمة من كلماتها القاسية حتى غادر ظافر المطبخ دون أن ينطق حرفا.
كان وجهه متصلبا كحجر في مهب الريح لا يظهر عليه سوى أثر الغليان المكتوم في داخله.
وفي طريقه إلى الخارج اصطدم بذراعه بخزانة خشبية فتهاوت القنينات الزجاجية فوق الأرض في دوي خافت تبعثر معه صبره وتحطمت إحداها على كفه مباشرة فاندفع الدم في خطوط رفيعة على جلده.
تلمس ذراعه التي تورمت من شدة الاصطدام لكنه لم يعبأ بالألم وكأن الجرح الخارجي لم يكن سوى ظل بسيط لما يعتمل في داخله.
لقد حفظ مواضع كل الأشياء في المنزل خلال الأيام الماضية حفظها كضرير يمسك بخريطة من الذاكرة غير أن أحدا ما قد غير أماكنها وكأن القدر نفسه قرر أن يعانده في كل خطوة.
تعثر ببعض الطاولات واصطدم بكرسي ثم تابع سيره مترنحا نحو الباب حتى خرج أخيرا إلى الهواء البارد.
هناك أخرج هاتفه واتصل ب ماهر وبصوت متماسك رغم ارتجاف أنفاسه قال
ماهر تعال فورا... قد السيارة بدلا مني.
جلس ظافر على مقعد قريب والريح تعبث بمعطفه للمرة الأولى أدرك بمرارة عميقة الفرق بين أن يرى المرء طريقه بعينيه وأن يتحسس خطواته في الظلام فلو

لم يكن أعمى لانطلق في اللحظة نفسها للبحث عن سيرين لكن العجز كان يقيده كما لو أن يدا خفية تمسك بمعصميه فلم يكن أمامه إلا الانتظار... انتظار ماهر وانتظار ما تخبئه له الساعات القادمة.
بما أن ماهر كان يسكن على مقربة من منزل ظافر فقد وصل إليه خلال دقائق معدودة وما إن أبصره واقفا وسط الثلج حتى خيل إليه أن سيرين قد طردته خارج البيت فأسرع نحوه دون أن يحمل مظلة والثلج يتساقط على كتفيه بغزارة.
قال ماهر بقلق صادق
ما الأمر يا سيد ظافر
لكن ظافر لم يجب سوى بإشارة مقتضبة وصوت حازم متعب
خذني إلى المدينة حالا وابحث عن محل يبيع فطائر البيروجي.
لم يشأ أن يشرح شيئا فاكتفى ماهر بالإيماء وانطلق يقود السيارة في صمت يقطعه صوت المحرك فقط.
كان في المدينة محل واحد يعرف بتلك الفطائر الشهية وقد ازدحم الناس أمامه كأنهم ينتظرون نصيبهم من الدفء وسط برد الشتاء القارس.
في تلك اللحظة كانت سيرين قد وصلت إلى هناك أيضا.. أخذت رقم انتظار وجلست في زاوية صغيرة تتأمل الثلج المتساقط على النافذة وبعد دقائق وقف أمامها رجل طويل القامة يرتدي معطفا أسود يلمع تحت الضوء.
سيرين.
رفعت رأسها متفاجئة وإذا بها ترى وجه كارم المألوف بابتسامته الهادئة
ونظراته التي لا تخطئها الذاكرة.
قالت سيرين بدهشة ممزوجة بابتسامة صغيرة
كارم ماذا تفعل هنا
ابتسم كارم بخفة وهو يقول
ألست أنت من طلب من فاطمة أن تتصل بي وتخبرني أن فطائر هذا المكان لا تقاوم
اتسعت عيناها دهشة ثم فهمت الأمر على الفور فاطمة لم تكن ترغب في تناول الفطائر حقا بل كانت تخطط لجمعها بكارم في صدفة مدبرة.
أخفت سيرين ريبتها بابتسامتها وقالت في بساطة مصطنعة
آه صحيح... يبدو أن ذاكرتي بدأت تخونني لقد نسيت الأمر تماما.
ثم أشارت إلى الطابور الطويل قائلة
لننتظر قليلا وسأشتري لك بعضها لاحقا.
ابتسم كارم بلطف وقال
كما تشائين.
لم يكن كارم يعلم ما تحيكه فاطمة من خيوط خفية لكنه آثر أن ينساب مع الموجة في هدوء.
كان المكان يعج بالناس فلم يجد الاثنان مأوى إلا الوقوف عند الرصيف والبرد يلسع أطرافهما.
فركت سيرين يديها لتستعيد دفئها وقالت مبتسمة بخفوت
أتدري كنت آتي إلى هذا المحل وأنا صغيرة لم أتخيل أنه سيظل مزدحما بعد كل هذه السنين.
نظر إليها كارم طويلا كأنه يرى في تلك اللحظة شيئا لم يتغير فيها رغم مرور الزمن.
نزع كارم قفازاته الجلدية ببطء ثم أمسك يدي سيرين وسحبهما إلى داخل معطفه الدافئ.
تجمدت ملامحها للحظة وقد
باغتها دفء فعله وجرأته غير المتوقعة فحاولت أن تنتزع يديها بخفة لكن قبضته كانت حانية قوية كأنها تصر على إبقائهما حيث هما.
ابتسم كارم بخفوت يشي بحنين قديم وقال بصوت مفعم بالذكريات
هل تذكرين كانت يداك دائما باردتين هكذا في الشتاء... وكنت تضعينهما على وجهي لتدفئيهما.
قالها ثم رفع راحتيها برفق ووضعهما على وجنتيه وكأنه يحاول أن يعيد لحظة مضت منذ زمن.
في تلك الأثناء كان ماهر قد وصل إلى المطعم بعد بحث قصير يقود ظافر بصمت متوتر وما إن توقفت السيارة حتى لمح من بعيد كارم وسيرين يتبادلان الحديث تحت تساقط الثلج في مشهد بدا أكثر دفئا مما يحتمله قلب سيده.
قال ظافر وهو يصغي إلى السكون خارج السيارة
هل وصلنا
أجابه ماهر على مضض
نعم نحن هنا.
غمغم ظافر وهو يتحسس موضع مقبض الباب المجاور له استعدادا للترجل
خذني إليها.
ظل ماهر صامتا للحظة تتعثر الكلمات على طرف لسانه ثم قال بصوت خافت يشوبه التردد
سيرين... مع كارم الآن.
كان ماهر يناديها مؤخرا بالسيدة نصران لكن لسانه خانه هذه المرة.
تجمد وجه ظافر لكنه لم ينطق فقط همس بعد برهة
وماذا يفعلان
أدار ماهر نظره نحو الرصيف حيث يراهما واقفين متقاربين كأن بينهما ما يتجاوز الحديث
ومن ثم قال ببرود يخفي انقباضا داخليا
يتصرفان... كزوجين.


تعليقات