رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والرابع عشر
عند مدخل المطعم سحبت سيرين يدها بسرعة عن وجه كارم وقد بدا الارتباك واضحا في عينيها ومن ثم قالت بصوت خافت متعجل
كنت طفلة صغيرة آنذاك لا أعرف ما كنت أفعله.
كانت لا تزال في عمر لا يتجاوز بضع سنوات بريئة لا تدرك الفواصل بين عالم الفتيان والفتيات في ذلك الزمن كان كارم أقصر منها قامة وأكثر امتلاء يحمل ملامح الطفولة الغضة التي جعلتها تتعامل معه كأخ لا أكثر وكلما أعدت فاطمة شيئا شهيا كانت سيرين تضع له نصيبا منه في صحن صغير وتبتسم وهي تراه يلتهمه بشغف.
أما الآن فقد تغير كل شيء صار أطول منها برأس يحمل ملامح رجل مكتمل المهابة يكسوه وقار ملكي يجعل أي امرأة تتردد قبل أن تلمس وجهه.
حين أبعدت سيرين نفسها عنه بخفة حازمة بدا في عينيه حزن عميق لم يخفه قائلا بصوت منخفض يحمل مرارة السنين
لا ينبغي أن تكوني حذرة إلى هذا الحد معي سيرين... لست مضطرة لأن تبتعدي هكذا.
تذكر أيام الطفولة حين كان يرتجف من البرد في ليالي سان القاسية وهي تأتيه بقطعة خبز دافئة أو بطانية صغيرة كانت له دفء العالم كله وسبب بقائه حيا لولاها لضاع
في صقيع تلك المدينة المنسية.
لكن سيرين هزت رأسها بابتسامة شاحبة يغلفها نضج موجع
علينا أن نتعلم الاتزان يا كارم فالبراءة الزائدة قد تضحك الناس علينا... بل وتؤذينا.
كانت تتحدث وكأنها تعاتب نفسها أكثر مما تحاوره وفي داخلها ينهشها الندم على زواج من رجل لم يحبها زواج قادها إليه اندفاع الطفلة التي لم تفهم ما هو الحب بعد.
أما هو فابتلع غصته في صمت ثقيل فكم ندم الآن على أنه تركها حين غادر مقاطعة سان لو أنه عاد قبل زواجها ربما قد تغير كل شيء وربما لم تكن تلك المسافة الباردة لتفصل بينهما اليوم.
اقترب كارم منها بخطوة بطيئة صوته متردد لكنه يحمل رجاء خافتا
سيرين... هل يمكننا أن...
لكن قبل أن يتم كلماته اخترق لحظتهما صوت آخر جاء من بعيد بارد كالسيف مألوف كالوجع
عزيزتي...
التفتت سيرين نحو مصدر الصوت فتجمدت بأرضها كان ظافر يقف عند مدخل المطعم إلى جواره ماهر الذي يرمقها بنظرة حادة كالنصل كأنما يقرأ خفايا الموقف كله في لحظة واحدة.
تقدم ظافر بخطوات واثقة هادئة تخفي اضطرابا لا يراه أحد وبرغم عماه مد يده نحوها بثبات عجيب كأنه يهتدي إليها بحس خفي لا يخطئ وما إن لامست أنامله
يدها حتى قبض عليها بقوة تنافي رقته المعتادة ومن ثم قال بصوت دافئ يحمل نبرة العتاب المصطنع
تأخرت كثيرا يا عزيزتي في شراء البيروجي أقلقت قلبي عليك حبيبتي.
كان يتحدث بنغمة واثقة كأنه لا يدرك وجود كارم بجوارها لكنه يتعمد التجاهل بذكاء يشبه الانتقام الصامت مد يده الأخرى يلتقط عن كفها الثاني هامسا بابتسامة باردة غلفها باهتمام صادق
يداك مثل الجليد... هل أدفئهما لك
غلت الدماء في عروق سيرين وشعرت بالحرج يلتهم وجهها أمام كارم بينما تحاول سحب يديها من قبضته دون جدوى فظل صوتها مكتوما بالخجل وحركتها مترددة كأنها تسير على جمر.
لكن ظافر لم يتركها بل شدها نحوه بحركة مباغتة ارتجفت أنفاسها وهي تسمع همسه القريب منها
عزيزتي... جسدك بارد جدا سأدفئك عندما نعود إلى المنزل.
غمر الصمت المكان وبدت الكلمات البسيطة كأنها خناجر ناعمة تنغرس بين الثلاثة دون أن تسفك قطرة دم واحدة.
لو كانا وحدهما لما ترددت سيرين في صب لعناتها عليه غير أنها اكتفت تحت وطأة الموقف بقرص خصر ظافر بيدها الحرة قرصة حادة أخرجتها من خجلها إلى غضب مكبوت وهمست عبر أسنانها المطبقة
صديقي هنا فاحترم نفسك.
تحمل ظافر
الألم في صمت وكأن الوخزة لم تمسه ثم قال بصوت بارد يخلو من أي دفء
أي صديق
كان صوته كالسكين قاطعا يخفي وراء هدوئه ثورة لا يراد لها أن ترى.
في تلك اللحظة أدرك كارم الحقيقة المذهلة
ظافر أعمى لكنه فهم أيضا أن هذا الرجل لم يفقد قدرته على السيطرة أو الكذب بدا له أن كل ما سمعه من إشاعات لم يكن سوى نصف الحقيقة.
تقدم كارم خطوة وقال بثبات ينطوي على تحد صامت
سيد ظافر أنا كارم نشأت مع سيرين منذ الصغر وعندما لم تكن إلى جوارها في تلك السنوات الماضية كانت تعيش معي أظنك تعلم هذا... قبل أن تفقد ذاكرتك.
ساد بين الرجلين توتر كثيف كأن الهواء نفسه أصبح ثقيلا لا يتنفس.
بينما ظلت سيرين تشعر أن الخطر يتكاثف حولها وأنها عالقة بين نيران رجلين لا يرى أحدهما ولا يريد الآخر أن يرى وقبل أن تنبس بكلمة قطع ظافر الصمت بابتسامة مبهمة قائلا بنبرة هادئة تحمل سخرية خفية
عادة ما أتذكر كل ما ترويه لي زوجتي يا سيد كارم.
ثم مال نحو سيرين وقال بلطف ظاهري يخفي عتابا مرا
عزيزتي لم لم تخبريني من قبل أن لك صديقا كهذا
كانت كلماته كالحرير... لكن بين خيوطها شوك حاد لا يرى كان يحاول التلميح إلى أنها لا
تهتم بأمر كارم وأن ذكره غير ذا قيمة.
