رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والخامس عشر
ضغطت سيرين على خصر ظافر بحدّةٍ وهي تهمس بنبرةٍ مقتضبة لا تخلو من الغضب:
ــ “لن يظنّ أحد أنك أبكم إن صمتَّ قليلًا!”
لكن ظافر بدا كتمثالٍ لا يعبأ بالألم وردّ بصوتٍ هادئٍ يقطر سخرية:
ــ “أعتذر يا سيد كارم، لكنني وزوجتي خططنا هذا المساء لمشاهدة (نتفليكس) والاسترخاء لذا لن نتمكّن من دعوتك إلى العشاء هذه المرة.”
تجمّد وجه كارم الوسيم وكأن الدم انسحب منه دفعةً واحدة… كان يعرف تمامًا أن ظافر يقصد استفزازه غير أنه لم يستطع كبح غليانه… فظافر رغم عماه يوجّه سهامه بثقة رجلٍ يُتقن إصابة القلب دون أن يرى الهدف.
أما ماهر الذي كان يتابع الموقف من بعيد فقد تبدّد قلقه شيئًا فشيئًا… في البدء خشي أن يكون ظافر ضحية سخرية أو شفقة لكن المشهد سرعان ما كشف له أن سيده حتى وهو أعمى ما زال الرجل الذي لا يُستهان به.
تجمّع بعض المارة حولهم يرمقونهم بفضولٍ مكتوم تتقاذفهم النظرات بين الحيرة والإعجاب فقد ظنّ البعض أن سيرين وكارم حبيبان لكن الحقيقة سرعان ما اتضحت حين أمسك ظافر بيد سيرين بثباتٍ واضحٍ لا يترك مجالًا للشك.
وبينما كانوا يشترون الفطائر وسط تلك الأنظار المتسائلة ناولت سيرين كارم علبةً صغيرة وقالت بابتسامةٍ لطيفة تخفي اضطرابها:
ــ “ها هي الفطائر تفضل… سأعود الآن.”
أجابها كارم بابتسامةٍ جامدةٍ تحمل ما تبقّى من كبريائه:
ــ “بالطبع إلى اللقاء يا سيرين.”
وقف يراقبها وهي تبتعد بصحبة ظافر حتى تلاشت خطواتهما بين الزحام.
بينما عاد ماهر إلى سيارته في صمت… جلست سيرين بجانب ظافر داخل سيارتها… كان بخار الفطائر يتصاعد خفيفًا في الجوّ البارد لكن رغم ذلك ساد بينهما صمتٌ أثقل من البرد نفسه كأن الدفء هجر المكان كله.
لم تُدِر سيرين المحرك فورًا بل مالت بجسدها مبتعدة عن ظافر الذي كانت يده تمتد نحوها مرارًا كما لو أنه عاجز عن كبح رغبته في الاقتراب منها.
سألته ببرودٍ متعمّد:
“ماذا تفعل يا ظافر؟”
لم يجبها بل ظلّ صامتًا كأن الكلمات قد هجرت فمه وحين دفعت يده بعيدًا اشتعل الغضب في عينيها وقالت بنبرة حادة:
“لماذا؟ أتبحث عني فجأة؟ من قال لك إنني مستعدة لمشاهدة «نتفليكس» وقضاء سهرة لطيفة معك الليلة؟”
ظلّ ساكنًا يحاول بكل ما أوتي من جهد أن يتمسّك برباطة جأشه وكأن الصمت هو السور الأخير الذي يحمي ما تبقّى من كبريائه.
صرخت في وجهه:
“قل شيئًا! أين ذهب كل ما كنت تملكه من كلمات؟! ألم تكن تلعي منذ قليل بحديثك السمج دون توقف؟!”
وفجأة امتدت ذراعاه إليها بعنفٍ لم تتوقّعه وجذبها إلى صدره يحتضنها بقوةٍ تكاد تخنق أنفاسها ثم تمتم بصوتٍ متهدّج:
“سيرين… أنا غاضب ولا أريد أن أقول شيئًا الآن.”
اتسعت عيناها دهشة ورفعت رأسها لتواجه نظراته الغاضبة… لم تفهم سبب لاحتجاجه هو من بحث عنها دون مبرر وهو من تلفّظ بتلك العبارات المربكة أمام كارم ومع ذلك يبدو وكأنه هو المظلوم.
سألته بحدة:
“ولماذا أنت غاضب؟”
تردّد لحظة ثم قال بمرارةٍ مكتومة:
“سؤال واضح… لا يحتاج إلى إجابة.”
كانت تلك أول مرة يقترب منها بهذا الشكل منذ أن استيقظ في المستشفى فلم تدرك سيرين كم كانت قربها هذا يعيد إليه ذكرى الأيام الماضية التي تلاشت بينهما كحلمٍ انقضى.
كان ظافر ينام في غرفة صغيرة بمفرده كل ليلة، وكل ما كان يفكر فيه هو قوامها الجميل وملامحها تحضر في ذهنه كطيفٍ يعانده. والآن وهي بجانبه في هذا الحيز الضيق داخل السيارة، تنبعث رائحتها المألوفة فتوقظ في داخله كل ما حاول كبته.
شدّها إليه أكثر وكأنّ قربها حياة… شعرت بحرارته تتصاعد ولاحظت التغيرات التي يمر بها جسده فاحمرّ وجهها وهي تقول بانفعالٍ خافت:
“أنت وقح!”
كان يعلم أن جسده يتفاعل معها لذا لم يحاول التبرير فانتزعت نفسها من بين ذراعيه وارتبكت أنفاسها… أما هو فبقي متماسكًا رغم اضطراب جسده ومدّ يده إليها من جديد ومن ثم قال بصوتٍ خافتٍ أجشّ:
“أنا رجل، ومن الطبيعي أن يحدث هذا.”
لم تجبه بل أدارَت المفتاح وانطلقت بالسيارة صامتة تترك خلفها ضجيج مشاعرٍ متشابكة تتناوب بين الغضب والارتباك وبينهما شيء لم تستطع أن تُسمّيه.
حين عادوا إلى المنزل لاحظت فاطمة ما في ملامحهما من ضيقٍ وكدر فارتسمت على وجهها ابتسامة خافتة تدل على أن خطتها قد أتت أُكُلها ومن ثم قالت بنبرةٍ متصنّعة تخفي وراءها خبثًا واضحًا:
“سيد ظافر، ألم أقل لك ألا تبحث عن سيرين؟ لماذا أصريت على الذهاب إليها وإزعاجها حتى اضطرت المسكينة إلى إعادتك بنفسها إلى هنا.”
بادرتها سيرين بهدوءٍ ظاهر:
“تجاهليه يا فاطمة، دعينا نتناول بعض الفطائر الآن.”
أجابت فاطمة وهي ترفع حاجبيها في لطفٍ مصطنع:
“بكل سرور.”
ومضتا معًا نحو المطبخ فيما بقي ظافر واقفًا في مكانه كان يُدرك جيّدًا أن وراء كلمات فاطمة تلك قلبًا يضمر له العداء.
جلس على الأريكة يمرر يده فوق وجهه كمن يحاول كبح طوفانًا من الأفكار إذ لا تزال كلمات ماهر التي قالها له في السيارة تتردّد في رأسه تصفعه في كل لحظة.
الآن فقط صار يعرف الحقيقة التي تهزّ كيانه:
سيرين… أن كل تلميحات كارم كان يعنيها والأسوأ من ذلك أنها أنجبت توأمًا منه!