رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثمائة والواحد والعشرون
حين وضعت سيرين يدها على صدر ظافر شعر كأنها أخرجتها لتوّها من قلب الجليد… كانت باردة حدّ الألم حتى إنّ جسده تجمّد لوهلة غير أنّه على غير المتوقع لم يشعر بالبرد بل أحسّ بحرارة الدم تتدفّق في عروقه بقوةٍ غريبة كأنّ دفئها المفقود سرى إليه دفعةً واحدة.
لم تجد سيرين موضعًا آخر تضع فيه يدها الثانية فتاهت أصابعها على وجهه دون قصد لتتفاجأ بحرارته المرتفعة.. تمتمت بصوتٍ واهن يكاد لا يُسمع فكانت كمن يهزي:
“أنت مصابٌ بالحمى يا ظافر…”
كان الهواء حولهما قارسًا يلسع الجلد كالإبر لكن وجه ظافر بدا وكأنه يتوهّج من فرط السخونة… ظنّت أن الحمى تمكّنت منه بينما هو كان يغالب اضطرابًا آخر لا يمتّ للبرد بصلة.
ابتلع ريقه في صمتٍ وقال بصوتٍ خافتٍ متماسكٍ بالكاد:
“كنتُ جادًا فيما قلتُه لكِ الليلة الماضية…”
لم تلتقط أذنها كلماته فقد خيّم الطنين على سمعها منذ لحظات… رأت شفتيه تتحركان فقط فأجابت بلامبالاةٍ مُتعبة:
“أجل…”
شدّ من قبضته عليها وأسرع الخطى حتى وصلا إلى المنزل… كان الثلج يغطيهما من الرأس حتى القدمين حتى إنّ فاطمة فزعت لرؤيتهما على تلك الحال فأسرعت بمنشفةٍ وقد بدا القلق على وجهها.
“لماذا تأخرتم هكذا؟!” قالتها بصوتٍ مفعمٍ بالقلق.
أخذ ظافر المنشفة منها وشكرها ثم بدأ يمسح عن كتفي سيرين الثلج المتراكم.. كانت ترتجف بشدة، عاجزة عن الحركة، تحاول أن تُخفي ارتجافها بابتسامةٍ مطمئنة.
ولأنها لم تُرِد أن تُثير قلق فاطمة أخفت عنها حقيقة تدهور سمعها وقالت بخفةٍ مصطنعة:
“لقد تأخر الوقت يا فاطمة كان الطريق صعبًا قليلًا وتعطلت السيارة في منتصفه… اذهبي الآن واستريحي لا تقلقي.”
ابتسمت فاطمة ابتسامةً صغيرة وقالت برقة:
“حسنًا، لكن خذي حمامًا دافئًا حالًا، هذا البرد لا يُؤمَن جانبه.”
ثم غادرت نحو المطبخ ولم يهدأ لها بال حتى أعدّت كوبًا من شاي الزنجبيل الساخن لسيرين وهي تهمس لنفسها بقلقٍ أموميٍّ حنون:
“لا بدّ أن تدفأ تلك المسكينة قبل أن يلتهمها البرد…”
أعاد ظافرُ سيرينَ إلى غرفتها وأسند جسدها برفقٍ على الأريكة ثم اتجه نحو الخزانة يبحث بين طيّات الأقمشة عن ما يناسبها من ملابسٍ نظيفة ومن ثم قال بنبرةٍ هادئة وهو يتفقد ما بيده:
“سأُعدّ لكِ الحمّام الآن… انزعي ملابسكِ وبعد أن تنتهي من الاستحمام يمكنكِ ارتداء هذه.”
راقبت سيرين حركة شفتيه وعينيه لتفهم مقصده فظنت أنه يطلب منها أن تبدّل ملابسها، فأومأت بخفوت وقالت:
“حسنًا… لكن عليك أن تغيّر ملابسك أنت أيضًا.”
ارتسم على شفتيه شبه ابتسامةٍ خفيفة وردّ بصوتٍ خفيض يحمل في نبرته شيئًا من الدفء والغموض ثم التقط رداء الاستحمام واتجه إلى حمّام غرفتها دون أن يبدّل ملابسه بعد.
لم تسمع سيرين صوت الماء ولا حركته فقد كانت منشغلة بتبديل ثيابها بحذرٍ وتيبّس ثم التحفت ببطانيةٍ سميكة وجلست تتكوّر على الأريكة.
كان الدفء يتسلّل إليها شيئًا فشيئًا يُذيب عنها برودة الثلج والليل ومع مرور الوقت أثقل النعاس جفنيها فأغمضت عينيها في سكونٍ تام كأنما وجد جسدها أخيرًا مأمنه من قسوة البرد.
خرج ظافر من الحمّام وبخار الماء ما زال يلتف حوله كضبابٍ خفيف ومنشفةٌ بيضاء مشدودة حول خصره.
تقدّم بخطواتٍ هادئة نحو الأريكة حيث كانت سيرين تغفو في سباتٍ خفيف ثم مال عليها وحملها بين ذراعيه برفق.
فجأةً أحسّت بأنها ترتفع عن الأريكة ففتحت عينيها مذعورة ولمست بذراعها جلده الدافئ المبتل فانتفضت مستيقظة وقالت بتوتّر:
“ماذا تفعل؟! أنزلني حالًا!”
ردّ بصوتٍ هادئٍ لكنه حازم:
“الماء جاهز… سآخذك لتستحمّي الآن.”
لم تلتقط كل كلماته كانت أذناها لا تزالان ترفضان التقاط الأصوات بوضوح… صاحت باضطراب:
“أنزلني وارحل من هنا!”
لكنه تجاهل احتجاجها وضمّها بقوّة أكبر ودخل بها إلى الحمّام… وقف لحظةً يتأملها وقال في نفسه بدهشة:
“لماذا لم تخلع ملابسها بعد؟”
بدت عليها ملامح الارتباك والخجل، فاقترب منها بخطوةٍ مترددة يهمّ بمساعدتها غير أنها رفعت يدها بسرعةٍ لتوقفه وهي تقول بصرامةٍ مرتعشة:
“لا تجرؤ يا ظافر!”
ابتسم ابتسامةً خفيفة وقال بنبرةٍ مازحة:
“ألم تكوني أنتِ من قلتِ إنكِ تريدين ذلك؟”
رفع يده ليزيح شيئًا عن كتفها وفجأةً لامس بأصابعه سماعةً صغيرة خلف أذنها فتجمّد في مكانه. تساءل بدهشة:
“ما هذا الذي ترتدينه؟”
أحسّت سيرين بالغضب يشتعل فيها فصفعته بعنف وهي تصيح:
“قلتُ لك إنني لا أسمع شيئًا الآن! فلا تعبث بي!”
ارتدّ ظافر إلى الخلف مذهولًا والدهشة تعلو وجهه… لم تمضِ لحظات حتى دوّى طرقٌ سريع على الباب تلاه صوت فاطمة القلق:
“ما الذي يحدث يا سيرين؟”
ارتبك ظافر فأمسك بردائه وارتداه على عجل ثم فتح الباب ليجد فاطمة تقف هناك، تنظر إليه بنظرةٍ باردةٍ قاسية قائلة:
“ماذا فعلت بها؟!”
لكنها لم تُكمل جملتها إذ تمايل جسدها فجأة وبدت عليها علامات الدوار فسقطت تقريبًا لولا أن صاحت سيرين فالتقطها ظافر:
“فاطمة!”
أسرعت سيرين تلتقط ملابسها وترتديها على عجل ثم خرجت من الحمّام لتُسندها.
وبعد نصف ساعة حضر ماهر وسط الثلج يحمل طبيبًا معه… انشغل الجميع بفحص فاطمة بينما جلست سيرين في الخارج تتناول بعض الحبوب تحاول استعادة دفء جسدها… شيئًا فشيئًا بدأ السمع يعود إليها كأن الضباب الذي كان يغلّف عالمها أخذ يتلاشى.
حينها فقط أدرك ظافر فداحة خطئه… لم تكن سيرين تتجاهله أو ترفضه تكبّرًا بل لأنها ببساطة لم تكن تسمع شيئًا.